بعد استلام الإمام الحسن(عليه السلام) لمنصب الإمامة ، كانت أنباء جيش الشام تذاع في الكوفة والبصرة وسائر البلاد، مع شيء من المبالغة، وكان الجميع يعلم أنّ حرباً وشيكة تنتظرهم.
تعرض الامام الحسن عليه السلام الى مؤآمرات احيكت له من قبل معاوية وازلامه ، وكان معاوية استعمل الطرق الملتوية وبذل الاموال لشراء ذمم قادة الامام الحسن (ع) كأمثال عبيد الله بن العباس ، وكانوا اصحاب النفوس الضعيفة و منهم رؤساء القبائل كتبوا إلى معاوية بالسمع والطاعة له في السير، واستحثوه على المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الامام الحسن(ع) إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به .
وروي فريق من المؤرخين : ان معاوية ارسل الى الحسن صحفة بيضاء مختوماً على اسفلها بختمه ، وكتب إليه :
<< أن اشترط في هـذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت ، فهو لك >>(1)
وهنا وجد الإمام نفسه أمام طريقين لا ثالث لهما، فإما القتال والتضحية بأولئك الأوفياء المخلصين ، وإما الرضوخ لشروط الصلح ، والصبر على الألم ، وأخيراً آثر الصلح الذي كان من بنوده :
المادة الأولى : تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنة نبيه (ص) وبسيرة الخلفاء الصالحين .(2)
المادة الثانية : أن يكون الأمر من بعده (3) للإمام الحسن(ع) فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين عليه السلام (4) ، وليس لمعاوية أن يعهد بعده لأحد .(5)
المادة الثالثة : أن يترك سب أمير المؤمنين(ع) والقنوت عليه بالصلاة (6) ، وأن لا يذكره إلاّ بخير.(7)
المادة الرابعة : استثناء ما في بيت مال الكوفة ، وهوخمسة الآف ألف فلا يشمله تسليم الأمر . وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسين كلّ عام ألفي ألف درهم ، وأن يفضل بني هاشم في العطاء والصِّلات على بني عبد شمس ، وأن يرفق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل و أولاد من قتل معه بصفّين ألف ألف درهم ، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد .(8)
المادة الخامسة : << على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وأن يؤمّنَ الأسود والأحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم ، وان لا يتبع أحداً بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق باحنة >> .(9)
<< وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا ، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه ، وأن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم ، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ، ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ، ويوصل إلى كلّ ذي حـقٍّ حـقّه ، وعـلى ما أصاب أصحاب عليّ حيث كانوا ... >> .(10)
<< وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من أهل بيت رسول الله ، غائلةً ، سراً ولا جهراً ، ولا يخيف أحد منهم ، في أُفقٍ من الآفاق >> .(11)
الخـتـــام :
قال ابن قتيبة : << ثم كتب عبد الله بن عامر "" يعني رسول معاوية إلى الحسن (ع) "" إلى معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه ، فكتب معاوية جميع ذلك بخطّـه ، وختمه بختمه ، وبذل عليه العهود المؤكّـدة ، والأيمان المغـلَّظة ، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام ، ووجّه به إلى عبد الله بن عامر ، فأوصله إلى الحسن عليه السلام
>>(12)
وذكر غيره نصّ الصيغة التي كتبها معاوية في ختام المعاهدة فيما واثق الله عليه من الوفاء بها ، بما لفظه بحرفه .
<< وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك ، عـهد الله وميثاقه ، وما أخذ الله على أحـد من خلفه بالوفاء ، وبما أعطى الله من نفسه >> .(13)
وكان ذلك في النصف من جمادي الأُولى سنة 41 – على أصح الروايات -
ومن الحق ان نعترف للحسن بن علي عليهما السلام على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصّل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ضروفه من زمانه ، بالقابلية السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظروف غير هـذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها ، لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من الساسيين المحنّكين وحكّام المسلمين الّلامعين .(14)
ومن تصريحات معاوية بعد الصلح فيما يمت إلى معاهدته مع الحسن (ع) قوله فيما يرويه عنه كثير منهم ابن كثير .(15)
<< رضينا بها ملكاً >> وقوله في التمهيد لهذه المعاهدة قبل الصلح فيما كان يراسل به الحسن (ع) : << ولك أن لا يستولي عليك بالإساءة ولا تقضي دونك الأمور ولا تعـصي في أمر >> .(16)
ويكفينا من تصريحات الحسن (ع) ما قاله أكثر من مرّة في سبيل إفهام شيعته حيثيات صلحه مع معاوية : << ما تدرون ما فعلت والله للذي فعلت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس >> . وما قاله مرّى اُخرى << إلا أن أدفع عنكم القتل >>(17) . وما قاله في خطابة – بعد الصلح - << أيّها الناس إنّ الله هداكم بأولنا ، وحقن دماءكم بآخرنا ، وقد سالمت معاوية ، وإنْ أدري لعلهُ فتنةٌ ومتاعٌ إِلى حينٍ >> .(18)
والحديث الذي يهمنا هو اثبات نفاق معاوية بن ابي سفيان ، حيث قال رسول الله (ص وآله) لعلي بن ابي طالب (ع) : << يا علي فلا يحبك إلاّ مؤمن تقي ، ولا يبغضك إلاّ منافق كافر >> .
الاتفاق شريعة المتعاقدين والاتفاق ليس جديد او لأول مرة يحدث بين الامام الحسن (ع) وبين اللقيط معاوية بن هند آكلة الاكباد ، فسبقه " صلح الحديبية " بين رسول الله (ص وآله) وبين مشركي قريش ، وبعده الاتفاقية بين علي بن ابي طالب (ع) وبين معاوية ، والاتفاقيات كانت هي حقن للدماء واخذ الفرصة للمستفيد منها لتصحيح خططه او افكاره ... وكان الطرف النبوي في الاتفاقيات الثلاث ملتزم بروح وحذافير البنود ، بينما نرى الطرف الآخر غير ملتزم وكان يعتمد على المكر والخداع ، كان في الاتفاقيتين الاولى والثانية فيها فترة زمنية حتى ظهر الطرف الاموي خذله للمعاهدة ، بينما معاهدة الصلح الأخيرة لم يتريث معاوية وإنما خرج الى النخيلة في الكوفة وخطب كما في رواية المدائني :
<< يا أهل الكوفة ، أتروني قتلتكم على الصلاة والزكاة والحجّ وقد علمت انكم تصلون وتُزكّون وتحجّون ؟ ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وأليَّ رقابكم ، وقد أتاني الله ذلك وأنتم كارهون ! ، ألا أنّ كل دم أُصيب في هـذه الفتنة مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين !! ، ولا يصلح الناس إلا ثلاث إخرج العطاء عـند محلّة ، وإقفال الجنود لوقتها ، وغـزو العدو في داره ، فإن لم تغزوهم غـزوكم >> ...
وروي أبو الفرج الأصفهاني عن حبيب بن ابي ان ابي ثابت مسنداً ، انه ذكر في هـذه الخطبة علياً فنال منه ، ثم ّ نال من الحسن . (19)
وزاد أبو إسحاق السبيعي (20) فيما رواه من خطبة معاوية قوله : << ألا وأنّ كلّ شيء أعطيت الحسن بن علي تحت قدميّ هاتين لا أفي به !!! >> .
قال أبو إسحاق : << وكان والله غـدّاراً >> (21)
ومن صفات المنافق : إذا أوعد أخلف ، وإذا تكلمة كذب ، وإذا ءأتمنة خان وهذا الطليق ابن الطليق لم يثمر معه المعروف لان بفتح مكة المكرمة كانت حياتهم بيد رسول الله (ص وآله) قال لهم ماذا تنظرون إني صانع فيكم ؟ قالوا : اخٌ كريم وابن اخٍ كريم ، فقال (ص وآله) اذهبوا انتم الطلقاء .. يذكرني هـذا الموقف بمثل : << خير تعمل شر تلقى >> وينطبق هـذا المثل على هؤلاء الفاسقون أولاد الزنا ، لانهم كانوا في الجاهلية يفـتخرون بهـذا العمل ، وهـذا يثبت على انه يريد اغتصاب الامر من أهله الشرعيين .. بإستعمال شعار << الغاية تبرر الوسيلة >> حتى لو كانت تُهْـدر دماء وتهتك اعراض وتسبي النساء والاطفال مثل ما صنعوا بأبي الاحرار ( الامام الحسين بن علي الشهيد ) ، حتى الشاة اذا ذبحت تذبح باحترام فكيف ابن بنت رسول الله صلوات الله عليكم أهل البيت ، يكفينا ان ننظر الى قبر معاوية الحقير حتى اتباعه يستنكفون من قبره ...
والذي اجبر الامام الحسن على هكذا صلح ، هو خذلان الناصر من تآمر عليه وعلى جنوده ، واكثرهم دخلوا في معسكره لغايات كثيرة .
لقد قسّم المؤرّخون جيش الإمام الحسن (عليه السلام) إلى الأقسام التالية :
الأوّل : الشيعة المخلصون الذين اتّبعوه (عليه السلام) لأداء واجبهم الديني وإنجاز مهمّتهم الإنسانية ، وهم قلّة .
الثاني : الخوارج الذين كانوا يريدون محاربة معاوية والحسن (عليه السلام) ، فالآن وقد سنحت الظروف فليحاربوا معاوية حتّى يأتي دور الحسن(عليه السلام) .
الثالث : أصحاب الفتن والمطامع ، الذين يبتغون من الحرب مَغنماً لدنياهم .
الرابع : شكّاكون لم يعرفوا حقيقة الأمر من هذه الحرب ، فجاؤوا يلتمسون الحُجّة لأيٍّ تكون يكونون معه .
الخامس : أصحاب العصبية ، الذين اتّبعوا رؤساء القبائل ، على استفزازهم لهم على حساب القبيلة ، والنوازع الشخصية .
وقد أعرب الإمام الحسن (عليه السلام) عن هذه العلّة التي تثبّط عزيمة أهل الكوفة عن الخروج معه ، قائلاً : « وكنتم تتوجّهون معنا ودينُكم أَمام دنياكم ، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أَمام دينكم ، وكنّا لكم وكنتم لنا ، وقد صرتم اليوم علينا ، ثمّ أصبحتم تصدّون قتيلين ، قتيلاً بصفّين تبكون عليهم ، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم ، فأمّا الباكي فخاذل ، وأمّا الطالب فثائر » (22)
فكيف يحارب وهكذا جيش معه فالاجدر ان يحفظ القلة المتبقية من المخلصين من شيعته ، وقد كشف زيف معاوية امام المسلمين بنقض بنود الاتفاقية وطبق عكس كل مادة من مواد الاتفاقية لهـذا السبب نرى الرسائل ارسلت الى الحسين للبيعة للنهضة من شدة الضغط الاموي عليهم ويتمثل هـذا الضغط بالقتل والتنكيل والجوع وتسليط الظالمين من ولاة بني أمية ... لعنة الله والملائكة عليهم .. وختاماً نسأل من الله القبول والتوفيق لشيعة علي بن ابي طالب عليه السلام ولنصرة الدين والمذهب ... انه سميعٌ مجيب ..
نتمنى لي و لكم السداد والتوفيق
(1) الطبري ج6 ص93 وابن الاثير ج3 ص162 .
(2) (فتح الباري شرح صحيح البخاري ـ رواه عنه ابن عقيل في النصايح الكافية ص156 الطبعة الاولى .. والبحار ج10 ص 115 ) .
(3) ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص194 ، وابن كثير ج8 ص 41 ، والاصابة ج2 ص12 و 13 ، وابن قتيبة ص150 ودائرة المعارف الاسلامية لفريد وجدي ج3 ص443 الطبعة الثانية ) .
(4) ( عمدة الطالب لابن المهنا ص52 ) .
(5) ( المدائني ـ فيما يرويه عنه في شرح النهج ج4 ص8 ، والبحار ج10 ص 115 ، والفصول المهمة لابن الصباغ ) وغيرهم .
(6) ( أعيان الشيعة ج4 ص43 ) .
(7) (الاصفهاني في مقاتل الطالبيين ص26 ، شرح النهج ج4 ص15 ، وقال غيرهما : " ان الحسن طلب الى معاوية أن لا يشتم عليّاً ، فلم يجيبه إلى الكفّ عن شتمه ، وأجابه على أن لا يُشتم عليّاً وهو يسمع " قال ابن الاثير : ثم لم يفِ به ايضاً ) .
(8) ( تجد هـذه النصوص متفرقة في الإمامة والسياسة (ص 200) والطبري (ج6 ص92) وعلل الشرائع لابن بابويه (ص81) وابن كثير (ج8 ص13) وغيرهم . و(دارابجرد) ولاية بفارس على حدود الأهـواز . وجرد أو جراد : هي البلد أو المدينة بالفارسية القديمة والروسيّة الحديثة ، فتكون داراب جرد بمعنى (مدينة داراب) .
(9) ( مقاتل الطالبين ص26 ، ابن أبي الحديد ج4 ص15 ، البحار ج10 ص101 و 115 ، الدينوري ص200 ، ونقلنا كلّ فقرة من مصدرها حرفيّاً ) .
(10) ( يتّفق على نقل كل فقرة أو فقرتين أو أكثر ، من هـذه الفقرات التي تتضمن الأمان لأصحاب علي (ع) وشيعته ، كلّ من الطبري ج6 ص97 ، وأبن الأثير ج3 ص166 ، وأبي الفرج في المقاتل ص26 ، وشرح النهج ج4 ص15 ، والبحار ج10 ص115 ، وعلل الشرائع ص81 والنصائح الكافية ص156) .
(11) ( البحار ج10 ص155 ، والنصائح الكافية : ص156 – ط. ل.) .
(12) ( الإمامة والسياسة ص200 ) .
(13) (البحار ج10 ص155) .
(14) صلح الحسن (ع) للشيخ راضي آل ياسين ص279 .
(15) ابن كثير في تاريخه ج6 ص220 .
(16) (ابن ابي الحديد ج4 ص13) .
(17) (الدينوري ص203) .
(18) (اليعقوبي ج2 ص192) .
(19) شرح النهج : ج4 ص16 .
(20) هو عمر بن عبد الله الهمداني التابعي ، الذي يُقال عـنه أنّه صلّى اربعين سنة صلاة الغـداة بوضوء العتمة ، وكان يختم القرآن في كلّ ليلة ، ولم يكن في زمانه أبعد منه ولا أوثق في الحديث .
(21) شرح النهج : ج4 ص16 .
(22) بحار الأنوار : 44/21 .