ذكر الاصمعي وكان من علماء وعرفاء عصره ، وقال : كنت ذات يوم ماراً قرب قرية ، فما شعرت الاّ ورجل اسود وثب من وراء الشجر مجرداً سيفه وشهره بوجهي وقال : اخلع ثيابك وناولني كل ما لديك ، والاّ قتلتك وثكلت بك اهلك وعيالك.. قلت : يا رجل ، وهل تعرف من أنا حتى تكلمني بهذه اللهجة ؟!..
قال : نحن معشر اللصوص ، لا معنى عندنا للمعرفة ، لانًّ قلوبنا خالية من الرأفة والشفقة .
قلت : انا ابن سبيل ، ولا شيء عندي ، الاّ هذه الثياب التي تستر بدني .
قال : لا افهم معنىً لكلامك هذا .. انا بحاجة إلى نفقة ومال ورزق .
قلت : يا أخ العرب ، ان النفقة والمال والرزق الذي تطلبه ليس عندي ، ولكني ادلك على كنز فيه أثمن وافضل من ثيابي هذه .
وقال : وما هذا الكنز ، واين هو؟..
قلت : ألم تقرأ في القرآن قوله تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون }.سورة الذاريات: 22
لاحظت فجاة ان الاعرابي الامي الاسود الكالح الصعلوك ، قد ارتعدت فرائصه عند سماعه لهذه الاية ، فسقط سيفه ورمحه من يده ونظر إلى السماء وقال : الهي!.. انت جعلت رزقي في السماء ،وتركتني حائراً على الارض ، اجوب الصحاري، واقطع الطرق ، واسرق مال الناس.. اللهم !.. اعطني رزقي .
وما ان نطق بهذا الكلام عن اخلاص وصفاء نية ، حتى رأيت طبقاً فيه طعام ورغيفين من الخبز ظهرا أمامه في الهواء .. فاخذهما الأعرابي وجلس على الأرض يأكل ، ولما شبع قال : الحمد لك يا ربي .
ثم تحدثنا بعض الوقت ، وارشدته ونصحته، فبكى وابدى ندومه وتوبته.. افترقنا فذهبت انا في طريقي وهو الى شأنه ..وبعد سنتين رأيته اثناء الطواف حول الكعبة فسالته : أنت فلان ؟.. قال نعم ، ولكني والحمد لله تبت منذ تلك الساعة وندمت على ما سلف مني .. جزاك الله خيراً لقاء ارشادي الى الطريق القويم .
سألته : كيف اصبحت الآن ؟ ..
قال : الحمد لله ، مذ تبت وذلك الرزق يأتي من السماء بعد صلاة العشاء، فآكل الطعام واخفي الأواني في شق جبل .
قلت : لماذا لا تتصرف بها ؟ ..
قال : ليس من المروءة ان تاكل من مائدة الكرام وتأخذ أوانيهم .
قلت : لماذا لا تعطيها للفقراء ؟..
قال : لا أتصرف فيها بلا أذنه .
قال الاصمعي : استحسنت حاله وعلو مقامه ، فاردت تقبيل يديه ورجليه .
لكنه قال : لاتفعل هذا يا شيخ ، ولكن اذا اردت التقرب الى ربّك ، فاقرأ لي شيئاً من ما قرأته علىَّ يومذاك .
قلت : { فورب السماء والأرض انه لحق مثل ما انكم تنطقون } . سورة الذاريات: 23
قال : واي جاهل هذا الذي ينكر كلام الله حتى يحتاج الى القسم . إقرأ!.. اقرا نفسي لهذه الاية الفدى ما اجملها من آية !..
قرأت له تلك الآية فرأيته تأوه وأسلم نفسه الى بارئها ..فحملوه وغسلوه وكفنوه ، ثم صلوا على جنازته ودفنوه .
وبعد اسبوع من وفاته مرَّ علي َّ طيفه في عالم الرؤيا ، وهو مبتهج وعليه ثياب جميلة ، فقلت له : كيف بلغت هذا المقام يا صديقي ؟..
قال : لأني صدقت كلام الله ، وسمعته بصفاء ، وتلقيته باخلاص ويقين .
قال الشاعر :
اتق الله بحمدك قاصداً او بعض جهدك
ايها العبد إلى كم تشتري الغي برشدك
كم وكم عاهدت مولاك فلم توفي بعهدك
اعِط مولاك لما تطا لب من طاعة ربك . ديوان أبي العتاهية: 148
كان عالماً زاهداً من اكابر عصره ، وكان في مبدأ أمره يشرب الخمور ، ويرتكب في سكره انواع الفجور ، ثم نقل من كلام نفسه انه قال: كنت منهمكاً في شرب الخمر ، ثم ولدت لي بنتٌ فشغفتت بها ؛ ولمكا دبت على الارض ازداد في قلبي حبّها وألفتني والفتها ، وكنت اذا وضعت مسكراً بين يدي جاءت اليَّ وجاذبتني فاهرقته على ثوبي .. فلما تمت لها سنتان ماتت فحزنت عليها.
فلما كان ليلة النصف من شعبان وكانت ليلة الجمعة بت ثملاً من الخمر ،ولم اُصلِّ فيها العشاء الآخرة ، فرأيت في ما يراى النائم كأن القيامة قامت ، ونفخ في الصور، وبعثرت القبور ، وحشرت الخلائق وانا معهم، فسمعت حنيناً من ورائي فالتفت فاذا انا بتنين كبير اعظم ما يكون، أسود ارزق قد فتح فاه مسرعاً نحوي ؛ فمررت في طريقي بشيخ نقي الثوب طيب الرائحة فسلمت عليه ، فردَّ السلام فقلت : ايها الشيخ !.. اجرني من هذا التنين اجارك الله .. فبكى الشيخ وقال لي : انا ضعيف وهذا اقوى منّي ، وما اقدر عليه ، ولكن مُر واسرع لعلَّ الله يفتح لك ما يُنجيك منه .
فوليت هارباً على وجهي ؛ فصعدت على شرف من شرف القيامة ، فأشرفت على اطباق النيران ؛ فنظرت إلى هولها ، وكدت اهوى فيها من فزع التنين .. فصاح بي صائح : ارجع فلست من اهلها .. فاطمأننت إلى قوله ورجعت ، فرجع التنين في طلبي.. فأتيت الشيخ ، فقلت : يا شيخ !.. سألتك أن تجيرني من هذا التنين فما فعلت .. فبكى الشيخ وقال: انا ضعيف ، ولكن سِر إلى هذا الجبل فان فيه ودائع المسلمين ؛ فان كان لك وديعة فستنصرك. قال : فنظرت إلى جبل مستدير من فضة وفيها كوى وستور معلقة عليها من ذهب شهلاء بالياقوت مكوكبة بالدر ، على كل مصراع ستر من الحرير .
فلما نظرت إلى الجبل وليت هارباً والتنين من ورائي ، حتى اذا قربت منه صاح بعض الملائكة : فارفعوا الستور ، وافتحوا المصاريع ، ففتحت فاشرف عليَّ اطفال بوجوه كالاقمار ، وقرب التنين مني فتحيرت في امري، فصاح بعض الأطفال : ويحكم اسرعوا كلكم فقد قرب منه عدوه ؛ فاسرعوا فوجاً بعد فوج .. واذا بابنتي التي ماتت قد اشرفت عليَّ معهم ، فلما رأتني بكت وقالت : ابي والله !.. ثم وثبت في كفّة من نور حتى مثلت بين يدي ، ومدت يدها اليسرى إلى يدي اليمنى فتعلقت بها ، ومدت يدها اليمنى الى التنين ؛ فولى هارباً ، ثم اجلستني وقعدت في حجري وقالت يا ابة :
{ ألم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله } .
فبكيت وقلت : يا ابنتي !.. وانتم تعرفون القرآن ؟.. فقالت : نعم ، نحن اعرف به منكم.. قلت : فاخبريني عن التنين الذي اراد ان يهلكني . قالت : ذلك عملك السوء .. قلت : وما تصنعون في هذا الجبل ؟.. قالت : نحن اطفال المسلمين قد اسكّنا فيه إلى ان تقوم الساعة ، ننتظركم تقدمون علينا نتشفع لكم .
قال مالك : فانتبهت من النوم فزعاً واصبحت ففارقت المسكر وتبت إلى الله تعالى .
يُنسب الى الامام علي عليه السلام انه قال :
ذنوبي ثقالٌ فما حيلتي اذا كنت في البعث حمّالها
ترى الناس سكارى بلا خمرة ولكن ترى العين ما هالها
نسيت المعاد فيا ويلها وأعطيت للنفس آمالها ديوان الإمام علي (ع): ص108
24- الفتاة المخدوعة
كانت تعيش في احدى مدن غرب ايران اختان ؛ احداهما اغواها الشيطان فانتهجت سبيل البغاء ، وقضت معظم شبابها في هذا الطريق ، أما اختها فقد تزوجت وصار لها اطفال وحياة زوجية هانئة ؛ فكانت تنظر الى اختها المخدوعة بغرور وتكبر وازدراء .
وبعدما انقضت أيام الشباب وعجزت الاُخت المخدوعة ، واغلقت بوجهها اسباب المعيشة ، اضطرت في احدى ليالي الشتاء الباردة ، وبعد ما ارهقها الجوع والاملاق إلى ان تطرق باب اختها وتطلب منها العون .. ولما فتحت الاُخت الباب ورأتها اغلقت الباب بوجهها بانزجار وقالت لها :
اذهبي يا عاهرة .
عادت الاُخت المخدوعة ادراجها بقلب كئيب ، وتوجهت إلى دارها وهي مريضة ولاتملك من النقود ما تشتري به الطعام ، او مستلزمات التدفئة ، وتكرر مع نفسها عبارة : اذهبي يا عاهرة ، واستشعرت الندم ، واخذت تبكي وتلوم ذاتها ..وفي نهاية المطاف قضى عليها البرد والجوع والمرض.
وبعد موتها شوهدت في المنام ، فسُئلت عن حالها ، فقالت : حسن ، فانا في تلك الليلة حين يئست من كل شيء ، وحتى ان اختي طردتني بكل قسوة ، توجهت إلى ربي نادمة وتائبة عن كل ذنوبي ، واستغفرته حق الاستغفار وبقيت ابتهل اليه ، وبعد لحظات جاءوا بي الى هذه الحديقة .
لاينبغي اليأس من رحمة الله .
ينسب إلى الامام علي عليه السلام انه قال:
أيا من ليس لي منه مجير بعفوك من عقابك استجير
أنا العبد المقر بكل ذنب وأنت السيد الصمد الغفور
فان عذبتني فالذنب مني وان تغفر فانت به جدير ديوان الإمام علي (ع): ص69