تعتبر هذه الفترة ((أي بعد استشهاد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم))) من الفترات الحرجة التي مرت بها الأمة الإسلامية ووضعت الإسلام ككل عند مفترق طريقين لا ثالث لهما .
فإما ان تسلك الأمة الإسلامية طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي وضعه بأمر الله عز وجل في حياته (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو اتباع علي (u) وأهل بيته كما أوضحه النبي الكريم والقرآن العظيم .
أو إتباع الخط الثاني الذي رسمته السقيفة والذي لا يعبر إلا عن أراده وضعيه لا تستند إلى أي إشارة إلهية أو نبوية مسبقة وانما هو تعبير عن آراء مجموعة تطلب الدنيا والرئاسة ولو على حساب مستقبل الرسالة المقدسة هذا من جهة . ومن جهة ثانية فإن الملاحظ في هذه الفترة ابتعاد الناس عن أهل البيت (عليهم السلام) بل ان الغالب من المسلمين كان مع السقيفة ورأي السقيفة على اختلاف الدوافع لذلك , فمنهم ((أي المسلمين)) من كان يؤمن بأحقية أهل البيت (عليهم السلام) [وهم يمثلون الأغلبية من المسلمين] إلا ان الخوف وطلب العافية حال دون الاعتراف أو المساندة لهذا الحق , ومنهم من لم يؤمن بالرسالة أصلاً فهو يبحث عن المصلحة الشخصية لا غير ومنهم ومنهم ,…. إلى الكثير من الأسباب التي منعت الناس عن أهل البيت (عليهم السلام) وكادت تودي بمستقبل الرسالة لولا رحمة الله سبحانه وتـعالـى .
وفي خضم هذه الأحداث المعقدة كان من اللازم اتخاذ موقف مناسب من شأنه ان يقوم هذه المسيرة أو يسجل الحجة على الأقل في أذهان المسلمين بدل السير في ركب الانحراف والظلم نحو الهاوية .
الإمام أمير المؤمنين (u)
من المرجح في ذلك الوقت ان الأنظار كانت موّجه نحو مولانا أمير المؤمنين (u) في مجال توجيه الأمة ورفض الظلم وفضحه أمام الناس إلا ان هذا التوجه لم يكن تاماً لعدة أسباب نذكر منها :
الوضع الخاص الذي كان يعيشه أمير المؤمنين (u) في تلك الفترة ويمكن القول ان هذا الوضع كان نتيجة النظرة المسبقة من قبل أهل السقيفة للإمام (u) فأهل السقيفة يعلمون ان المعارض الرئيسي لخطهم هو الإمام (u) وبالتالي فإن التخطيط لتحجيم دور هذه الشخصية ومحاولة الحد من نشاطه كان أمراً موضوعاً ومفروغاً منه بل ان القرار بقتله كان صريحاً ان لم يبايع كما في هذا النقل التاريخي لابن قتيبة {…. فأخرجوا علياً فامضوا به إلى ابي بكر , فقالوا له : بايع , فقال : إن انا لم أفعل فما... قالوا : إذاً والله الذي لا آله إلا هو نضرب عنقك ………
وقال أبو عمر وأحمد القرطبي وهو من أكابر علماء السنة : الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر , فأما علي والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة (عليها السلام) حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة (عليها السلام) فقال له : إن أبَوا فقاتلهم ………
ومن هنا أصبح واضحاً ضيق الدائرة التي كان من الممكن للإمام (u) التحرك فيها مع وجود ذلك الترصد ووجود النية المسبقة للقضاء عليه (سلام الله عليه)وهو المأمور آنفاً من الله ورسوله بالحفاظ على نفسه التي تمثل الإسلام الحقيقي ومستقبل الشريعة المقدسة .
فاطمة (عليها السلام)
وبعد ان عرفنا الظروف التي أحاطت بمولانا أمير المؤمنين (u) وحجمت من دوره بالقيام بانتفاضة شاملة تفضح ذلك الانحراف وتين حقيقته اصبح من اللازم وجود شخصية اخرى لها ما لأمير المؤمنين من مميزات خاصة تؤهلها للقيام بمثل هذا الدور العظيم وتمنح الرسالة المقدسة فرصة اخرى للعمل والاستمرار .
وهـذه الشخصيـة هي مولاتنا الزهراء (عليها السلام ) فأن ما تحمله هذه الصديقة من عصمة ومميزات خاصة ولمكانتها في نفوس المسلمين على اعتبار انها ابنة نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسلالته , كل ذلك كان له الاثر البالغ بترتب هذه المسؤولية عـلى عاتـق الصديقة الطاهـرة (عليها السلام) وإطلاعها بها .
وأصبحت الزهراء (عليها السلام) تلك الذخيرة التي آن أوانها في تلك الظروف القاسية لترسم للأمة الإسلامية المنار الصحيح وتسجل الحجة بأذهان المجتمع (( لكي لا يكون للناس على الله حجة)) ولتعيد للناس تلك الروح الثورية التي زرعهـا فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي كادت ان تنطفئ لولا رحمة الله عز وجل التي مَنّ بها على هذه الأمة المرحومة بتلك النهضة الفاطمية المباركة .
حماية أمير المؤمنين (u)
وكان أولى المحطات لهذه النهضة الفاطمية هي حماية أمير المؤمنين (u) من القتل ومحاولة الكبح من حدة ذلك العداء الذي كانت تكنّه السقيفة للإمام (u) خصوصاً بعد إعلان المعارضة للسقيفة ورفض البيعة ويشهد لذلك ما جاء في كتاب [اثبات الوصية للمسعودي] :
ثم أنهم تواثبوا على أمير المؤمنين (u) وهو جالس على فراشه واجتمعوا عليه حتى أخرجوه سحباً من داره ....... يجرونه إلى المسجد فحالت فاطمة (عليها السلام) بينهم وبين بعلها , وقالت والله لا أدعكم تجرون ابن عمي ظلماً ويلكم ما أسرع ما خنتم الله ورسوله فينا أهل البيت وقد أوصاكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإتباعنا ومودتنا والتمسك بنا فقال الله تعالى : {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى }قال فتركه أكثر القوم لأجلها .
وفي رواية أخرى : ثم قام عمر فمشى مع جماعة حتى أَتـَوا باب فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها( يا أبتِ يا رسول الله , ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة) فلما سمع القوم صوتها وبكائها , انصرفوا باكين وكادت قلوبهم تتصدع وأكبادهم تتفطر …… إلى غير ذلك من الروايات .
ورغم انهم نجحوا في أخذ أمير المؤمنين (u) ليبايع قهراً إلا أنه من المؤكد ان الزهراء (عليها السلام) نجحت ايضاً في صرف نظرهم عن قتله وإيذائه وجعلتهم أمام خوف الانقلاب ضدهم وانعكاس النتائج عليهم ويشهد لذلك ما جاء في رواية ابن قتيبة حين قال عمر لأبي بكر : ألا تأمر فيه أمرك . فقال أبو بكر : لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة الى جنبه .
وقول أبي بكر : والله لولا ذلك وما أخاف من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة بعد ما سمعت ورأيت من فاطمة .
المظلومية وتوجيه المشاعر
ذكـر الشيخ عباس القمي (رحمه الله) فـي كتاب {بيت الأحزان} رواية يمكن ما قامت به الزهراء (عليها السلام) في هذا الباب من أظهار لمظلومية أهل البيت وتوجيه مشاعر المجتمع نحو قضيتهم وهذا نص الرواية {{ .... فلحقت فاطمة (عليها السلام) إلى المسجد لتخلصه فلم تتمكن من ذلك فعدلت إلى قبر أبيها فأشارت اليه بحرقة ونحيب وهي تقول :
نفسي على زفراتها محبوسة يا ليتها خرجت مع الزفراتِ
لا خير بعدك في الحياة وإنما أبكي مخافة أن تطول حياتي
ثم قالت : وأسفاه عليك يا أبتاه واثكل حبيبك أبو الحسن المؤتمن وأبو سبطيك الحسن والحسين ومن ربيته صغيراً وواخيته كبيراً واجلّ أحبائك لـديك .....ثم انها أنّتَ وقالت : وا محمداه وا حبيباه وا أبـاه وا أبا القاسماه وا أحمداه وا قلة ناصراه وا غوثاه وا طول كربتاه وا حزناه وا أسواء صباحاه , وخرت مغشية عليها فضج الناس بالبكاء والنحيب وصار المسجد مأتماً.
نعم صار المسجد مأتماً وإمتلئت القلوب حسرة لأهل هذا البيت المظلومين المقهورين مما فسح المجال الواسع أمام الأمة لتقيم حقيقي لذلك الوضع المعّاش وإعطاء كل ذي حق حقه ورفض الظلم والانصياع له ولو بأقـل الدرجات , وهذا كله ما كان ليتم إلا بتلك الوقفة الشجـاعة التـي وقفتها الصدّيقة المباركـة(سلام الله عليها) .
منزلة أمير المؤمنين (u)
في الاحتجاج / روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه (عليهم السلام) أنه لما أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة (عليها السلام) فدكاً وبلغها ذلك لاثت خمارها على رأسها واشتملت بجلبابها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشر من المهاجرين والأنصار وغيرهم , فنيطت دونها ملاءة فجلست ثم أنّتَ أنّه أجهش القوم لها بالبكاء فارتج المجلس ثم أمهلت هنيئه حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت الكلام بحمد لله والثناء عليه والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعاد القوم في بكائهم فلما امسكوا عادت في كلامها فقالت(صلوات الله عليها):
الحمد لله على ما انعم وله الشكر على ما الهم ..... حتى قالت في وصف أمير المؤمنين (u) وبيان حقه : فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي وبعد ان مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفيء حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهيبها بسيفه مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله سيداً في أولياء الله مشمراً ناصحاً مجداً كادحاً وانتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون أمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزال وتفرّون عند القتال ..... وفي رواية أخرى حينما أخذوا أمير المؤمنين إلى المسجد قالت ..... وأثكل حبيبك أبو الحسن المؤتمن وأبو السبطين الحسن والحسين ومن ربيته صغيراً وواخيته كبيراً واجل احبائك لديك واحب اصحابك اليك اولهم سبقاً إلى الإسلام ومهاجره اليك يا خير الأنام .....
جهل أصحاب السقيفة
حينما اغتصبت السقيفة ((فدك)) وهي أرض وهبهـا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) في حياتـه استثمرت الزهـراء (عليها السلام) هذه القضية لبيان جهل وعنجهية السقيفة وابتعادهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والشريعة المقدسة وابتعادهم عن منهج العقل والعلم وكانت هذه القضية بيناً صريحاً لكل منصف على عدم استحقاق هذه الجهة [أي السقيفة] لقيادة الأمة وإدارة شؤنها كما جاء في هذه الرواية
فجاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر فقالت : لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ؟ وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله تعالى ؟ فقال :هاتِ على ذلك بشهود فجاءت بأم أيمن فقالت : لا اشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت أنشدك بالله : الست تعلم ان رسول الله قال : إن أم أيمن امرأة من أهل الجنة ؟ فقال: بلى , قالت : فاشهد ان الله عز وجل أوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) {فأت ذا القربى حقه} فجعل فدك لفاطمة بأمر الله وجاء علي (u) فشهد بمثل ذلك وكتب لها كتاباً ودفعه اليها فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب ؟ فقال أبو بكر : أن فاطمة (عليها السلام) إدّعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فكتبته فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه وقال هذا فيء للمسلمين وقال : مالك بن أوس الحدثان وعائشة وحفصه يشهدون علـى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه قال : إنـا معاشر الأنبياء لا نورث , ما تركناه صدقه فإن علياً (u) يجر إلى نفسه وأم أيمن فهي امرأة صالحة لو كان معها غيرها لنظرنا فيه .
وها انت ترى عزيزي كيف ان السقيفة ابتعدت عن منهج العقل والتقييم المنصف فأم أيمن امرأة صالحة لو كان معها غيرها لنظرنا فيه وفاطمة لا تقبل شهادتها وعلي (u) يُتـّهم بأنه يجر إلى نفسه .
فأي ابتعاد عن الله ورسوله هذا بعد ان بين الله ورسوله فضل فاطمة وعلي (عليهما السلام) .
وقد أعطت الزهراء (عليها السلام) هذا الأمر حقه كما جاء في هذه الرواية في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام الأمة
قالت (سلام الله عليها) :
...... أ أغلب على ارثي ؟ , أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : {وورث سليمان داوود} وقال فيما أختص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : { فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب} وقال تعالى :{وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} .... وزعمتم أن لا حظوة لـي ولا أرث من أبي ولا رحم بيننا , أفخصّـكم الله تعالى بآيةٍ اخرج منها أبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان أو لست أنا وأبي من أهل ملةٍ واحدة ؟ أم انتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وأبن عمي؟ ..... ثم رمت (سلم الله عليها) بطرفـها نحو الأنصار فقالت : يا معشر النقيبة واعضاد الملة وحضنة الإسلام ما هذه الغميزة في حقي والسنَةَ عن ظـلامتـي أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبي يقول { المرء يحفظ في ولدي } سرعان ما أحدثتم وعجلان ما إهالة ولكم طاقة بمـا أحـاول وقـوة علـى مـا أطلب وأزاول ...........
البكاء المقدس
مـن المعروف ان الزهراء (عليها السلام) بعد استشهاد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عاشت حزينة باكية خصوصاً بعد انتهاء أحداث السقيفة والمبايعة الظالمة فقد كانت (عليها السلام) تذهب إلى القبر الشريف ومعها الحسن والحسين (عليهما السلام) وتبكي هناك .
ومع هذا البكاء كانت (سلام الله عليها) تعلن عن مظلوميتها وما حل بها كما جاء في هذه الأبيات المشهورة
قد كنت ذات حماً في ظل أحمدٍ لا أخشى من ضيم وكان حماً ليا
ومن الممكن القول إن إحدى نتائج هذا البكاء هـو الاستمرار لما قامت الزهراء (عليها السلام) من ثورة محاولة لإشعال نفوس المسلمين بالحمية والغضب لله عز وجل وأشعاراً للأمة الإسلامية بذلك الخطر المحدق بها والذي كان أول ضحايـاها ابنة نبي الأمة وأبن عمه (صلوات الله عليهم وعلى آلهم) ,
ومما يؤكد أهمية ذلك البكاء وقدسية مساعدة أمير المؤمنين (u) الزهراء على هذا البكاء حتى أنه بنى بنياناً خاصاً سمي ببيت الأحزان كما نقل ذلك التاريخ , واستمر ذلك البكاء ليلاً ونهاراً وبشكل مسموع من قبل الناس حتى إن البعض أزعجه هذا الأمر فأضطر إلى ان يتفق مع أمير المؤمنين (u) في ان يكون بكاؤها (سلام الله عليها) اما في الليل أو في النهار .
كل هذه الأمور تؤكد وبوضوح أهمية ما كانت تقوم به هذه الصدّيقة الشهيدة وان المسألة اكبر من ان تكون عاطفة عابرة أو حزناً اعتيادياً وانما هي خطوة عظيمة خطتها مولاتنا المقدسة بدموعها الزاكية .