يرى العلماء أن الحياة لا تستقيم إلا إذا استقر التوازن بين البيئة الخارجية للكائن الحي وبيئته الداخلية أو تركيبه الداخلي، وأي خلل ينتاب هذا التوازن يكون على حساب الكائن الأضعف أو الأصغر. ومن هنا كان لا بد أن يستجيب الكائن الحي لمطالب البيئة التي تحيط به، حتى لا يصيبه الهلاك أو الدمار والتلف والأذى. هذه العلاقة القائمة بين الكائنات وما حولها يقوم عليها جهاز مختص وينظمها، يعرف بالجهاز العصبي الذي يتولى أمر نقل الرسائل المختلفة بين الطرفين، بما يعرف بالأحاسيس والإشارات العصبية، ويقف على قمة الهرم العصبي في موقع القيادة منه جهاز عصبي مركزي هو المخ والنخاع الشوكي يتخذان من الأعصاب جهازا للاستقبال والإرسال فإذا فشل الجهاز العصبي في هذه المهمة الحيوية الحياتية أصيب الكائن الحي بالعزلة. وهذا ما يعرف باسم فقدان الوعي والإدراك. والإنسان إذ يقف على قمة الهرم في تركيب الكائنات الحية تنتابه حالات من فقدان الوعي بصورة أو بأخرى، لسبب أو لآخر. ففي الإنسان شبكة عصبية واسعة، تقوم على تنظيم شؤونه، أساسها الوحدات العصبية الصغيرة التي يطلقون عليها اسم (النيرون)، تعرف في اللغة العربية باسم العصبة أو العصبون، وتتركب الوحدة من خلية عصبية لها زوائد، تربطها بجاراتها من الخلايا العصبية الأخرى، كما أن لها محورا عصبيا يسمونه الأكسون أو المحور، وهو زائدة طويلة، كأنه سلك كهربائي ينقل للخلية الإشارات العصبية والإحساس، ومن مجموع هذه المحاور العصبية للخلايا ذات الاهتمام المشترك يقوم العصب. إن جهاز الإنسان العصبي يتكون من آلاف الملايين من هذه الوحدات العصبية، وقد يتجاوز تعدادها عشرة آلاف مليون، تتركز في الجهاز العصبي المركزي داخل الجمجمة والسلسلة الفقارية، وقد تعجز هذه الوحدات العصبية عن أداء واجبها بسبب تلف أو عطب يصيبها، أو خلل يعتري وظيفتها لشح يطرأ على ترويتها الدموية، أو اختلال ينال من تركيب الدم ومحتواه، أو الاضطراب في ردود الفعل العصبية، وهي منهج عمل المخ والجهاز العصبي، فيصاب بشكل أو بآخر بعطل من الأعطال التي تعرف بفقدان الوعي.
فقدان الوعي له أشكال شتى فقدان الوعي طويل المدى، ويعرف بالغيبوبة، وهذا الفقدان ربما كان أخطر الدرجات، لأنه يعبر عن تلف عضوي للجهاز العصبي أو عطل وظيفي فيه، وهذان أمران لا بد فيهما من استشارة طبية، وإشراف طبيب مختص، وربما احتاج الأمر إلى الرعاية الطبية داخل مستشفى أو مصح. ومن فقدان الوعي فقدان جزئي يسميه البعض الذهول، وهو صورة للضعف في الاستجابة العصبية والأحاسيس، مما يحتاج إلى رفع درجة التنبيه، حتى تكتمل الدائرة العصبية، ويتولد رد الفعل لدى المصاب الذي يكون في درجة من الوعي والإدراك والإحساس أدنى بكثير من المستوى العادي للإنسان الطبيعي، أما الإغماء الذي نحن بصدده فهو أخف درجات اللاوعي أو فقدان الوعي، ويميزونه عن الدرجات الأخرى بأنه غياب وعي مؤقت، قصير المدى، ويكون بسبب أحد عوامل ثلاثة: أولها: شح التروية الدموية للجهاز العصبي المركزي وبخاصة مراكز الوعي. وثانيها: اضطراب في تركيبات الدم الكيميائية الحيوية. وثالثها: خلل يعتري نشاط الجهاز العصبي. ولعل أول الأسباب هو الأهم والأكثر شيوعا في تبرير الإغماء، حيث أن النسيج العصبي يتميز بنهم كبير إلى الأكسجين، وأي شح فيه يصيبه بعطل مؤقت، فإذا طال الشح فربما أصابه بعطب يصل إلى حد الموت.
أشكال من الإغماء 1- الإغماء الشائع: بعضهم يحلو له أن يسميه الإغماء الحميد، على عكس الخبيث، حيث يحمل لصاحبه مخاطر ضئيلة، وسببه رد فعل عصبي يؤدي إلى توسع في أوعية الدم الطرفية، مما يدفع إلى تجمع قدر كبير من الدم في الأطراف على حساب رصيد المخ، ومن ثم إلى عجز عن تلبية حاجة النسيج العصبي إلى الأكسجين، ولهذا لا غرابة أن نعلم أنه غالبا ما يحدث هذا الإغماء والمصاب قائم على قدميه، وقلما أو ربما يستحيل حدوثه وصاحبه مستلق على ظهرة. إن هذا الشكل من الإغماء يصاحب سماع أخبار سيئة، أو رؤية مناظر ذات انطباع كريه مؤلم لدى المصاب، ترتبط بتجاربه وتربيته وثقافته وعاداته، كما يحدث عند رؤية الدم مثلا أو رؤية قتيل أو مصاب أو عملية جراحية أو وخز إبرة. وأحيانا يكون الجو الحار سببا في توسع البساط الدموي في الأطراف، فيتدفق الدم إلى جلد الساقين والذراعين والبدن، فيما يقل بالرأس وغيرها. عند ذلك يشعر المصاب بالغثيان والدوار، ويتصبب منه العرق البارد، ويحس بضعف عام، وربما أصيب بالقيء أو بالرغبة بالتقيؤ على الأقل. والناظر إلى المصاب يراه شاحب الوجه، مصفر الجلد، وقد تصبب منه العرق، وتصدر عنه حركات لا إرادية، وتتسع حدقة عينيه ويصبح نبضه سريعا ضعيفا. بعدها ينتهي الأمر بسقوط المصاب على الأرض فاقدا الوعي، وقد يثير السقوط شعورا انفعاليا لكنه في الواقع يصبح هو العلاج التلقائي للإغماء الشائع، لأن الدم يعود إلى التدفق بوفرة في أنسجة المخ، ويعود المصاب إلى وعيه بعد فترة وعلى الرغم من أن الإغماء الشائع لا يحدث للإنسان وهو مستلق على ظهره، إلا أن هناك حالات استثنائية قد يكون الأمر بعكس ذلك، وهذا ما يحدث مع المرأة الحامل التي قد تغيب عن الوعي وهي مستلقية بينما تفيق وهي واقفة، وكذلك شأن المتبرع بالدم الذي يشعر أحيانا بالدوار والإغماء وهو مستلق على ظهره عند التبرع، غير أن هذا أمر يعود إلى رد فعل نفسي، وليس لخلل وظيفي، لأن الإغماء يداهم المتبرع قبل أن يستنزف منه الدم أو وربما قبل أن تنغرز الإبرة في وريده أصلا. إن إسعاف المصاب في مثل هذا الإغماء لا يتطلب أكثر من مجرد رقاده على ظهره، وخفض الرأس عن مستوى القدمين مع بعض كلمات من التشجيع فقط. 2- إغماء الجيب السباتي: في الشريان السباتي الذي يعبر الرقبة ليغذي الرأس يقع جيب يسمى الجيب السباتي، في موضع قبل تفرعه إلى الشريان السباتي الخارجي والشريان السباتي الداخلي. ويتزود هذا الجيب بمستقبلات عصبية في جداره، حساسة لضغط الدم داخل الشريان، فإذا ما زادت حساسية المستقبلات العصبية أو إذا ما داهم تصلب الشرايين جدار الشريان والجيب فإن أي مساس بهذا الجيب يولد ردة فعل عصبية تؤدي إلى الإغماء بسبب هبوط مفاجئ في ضغط الدم. إن هذا الأمر قد يحدث مع حركة تدليك خفيفة لدى بعضهم أو قد تحدث لكبار السن الحريصين على ارتداء القمصان ذات الياقات الضيقة المنشأة إذا ما أرادوا تحريك رؤوسهم عند التفاتة مفاجئة. ومن هنا كانت النصيحة لكبار السن أن لا يرتدوا الياقات الضيقة المنشأة. إن هواة الرياضة وبخاصة المصارعة المعروفة باسم الكاراتيه، بالإضافة إلى رجال العصابات أو الجنود الفدائيين يعرفون أن ضرب الخصم على الرقبة بجانب اليد يؤدي إلى طرحه فيغمى عليه، وهذا هو إغماء الجيب السباتي. 3- إغماء الوقوف المفاجئ: من المألوف أن يشكو البعض من الدوار عند النهوض المفاجئ من السرير، بل ربما يصل إلى حد الإغماء، وهذا أمر يتكرر حدوثه مع الذين يتعاطون عقاقير علاج ضغط الدم المرتفع، أو فقر الدم، أو مرض القلب، إذ تظهر عليهم أعراض مماثلة لأعراض الإغماء الشائع.
4- إغماء مرضى القلب: مرضى القلب معرضون للإغماء لأسباب شتى، سواء بسبب خثرة في صمامات القلب أو ثقب في حاجز القلب.
5-إغماء مرضى الصدر: مرضى الصدر عرضة للإغماء أيضا، ذلك لاحتمال عجز الدم عن تروية المخ وتزويده بالقدر الكافي من الأوكسجين.
6-إغماء البوال: قد يصاب إنسان ما بدوار وغثيان عقب التبول ليلا، مما يدعو البعض للاعتقاد بأنه نوع من إغماء الوقوف، لكنه إغماء سببه تفريغ المثانة، وحدوث ردة فعل عصبية، كما أن هذا الشعور ينتاب المريض إذا أفرغت مثانته أو أفرغ سائل من صدره أو بطنه.
7- الإغماء المزيف: بعض الناس قد يستجدي عطف الآخرين أو يلجأ إلى الهروب من موقف محرج باصطناع الإغماء، لكن التفريق بين الإغماء الحقيقي والمزيف سهل جدا، حيث لا صفرة في الوجه، ولا شحوب ولا عرق يتصبب من الجلد، كما أن المصاب لا يفيق من إغمائه بوقوعه أرضا، ويقاوم فتح عينه عند الكشف عليه، بل يداوم على التظاهر بفقدان الوعي ما دام هناك حضور من الناس