قوله: يا عَلِيُّ! أوصيكَ في نَفْسِكَ بِخِصالٍ فَاحْفَظْهَا، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْهُ... إلى أنْ قالَ:
وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْلِ [237] وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْلِ وَعَلَيْكَ بِصَلاةِ اللَّيْل"( وسائل
الشيعة، المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب بقية الصلوات المندوبة،ح1) يتبيّن من صدر
هذا الحديث وذيله ما لصلاة الليل من أهمية. "وعـَنِ الخِصالِ بِإسْنادِهِ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ
عليه السَّلام قالَ: قالَ النَّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لِجَبْرَئيلَ: عِظْنِي، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ
عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وأحْبِبْ ما شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفارِقُهُ، وَاعْمَلْ ما شِئْتَ فَإنَّكَ
مُلاقِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفِ المُؤْمِنِ قيامُهُ بِاللَّيْلِ وَعِزُّهُ كَفُّهُ عَنْ أَعْراضِ النّ َاسِ"(وسائل
الشيعة،المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب الصلوات المندوبة، ح3) . إن تخصيص
الموعظة المقدسة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بهذا الأمر ليدل أيضاً على أهميته
البالغة. ولو كان جبرائيل الأمين يرى أهمية أكبر لأجر آخر لكان قدّمه في هذا المقام: وفي
المجالس بإسْنادِه عَنْ ابْنِ عَبّاس قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم في
حَدِيثٍ:"فَمَنْ رُزِقَ صَلاةَ اللَّيْلِ مِنْ عَبْدِ أوْ أمَةٍ قامَ للهِ مُخْلِصاً فَتَوضَّـأ وضُوءاً سابِغاً
وصَلّى لله عَزّ وجلّ بِنِيَّةٍ صادِقة وقَلْبٍ سَليم [ وَبَدَنٍ خاشِعٍ ] وَعَيْنٍ دامِعَة جَعَلَ اللهُ
تَعَالَى خَلْفَهُ سَبْعَةَ صُفُوفٍ مِنَ المَلائِكَةِ فِي كُلِّ صَفِّ ما لا يُحْصَى عَدَدَهُمْ إلاّ اللهُ أحَدُ
طَرَفَيْ كُلِّ صَفٍّ بِالمَشْرِقِ وَالآخَرُ بِالمَغْرِبِ، فَإذا فَرَغَ، كَتَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِعَدَدِهِمْ
دَرَجاتٍ"( المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب بقية الصلوات المندوبة، ح 29 و ح 31
و ح 30) وَعَنِ العِلَل بِإسْنادِه إلى أَنسٍ قالَ:"سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله
وسلم يَقُولُ: الرَّكْعَتانِ في جَوْفِ اللَّيْل أحَبُّ إليّ مِنَ الدُّنْيا وَما فِيها"( المجلد الخامس،
الباب 39، من أبواب بقية الصلوات المندوبة، ح 29 و ح 31 و ح 30 ) وثمة أحاديث
كثيرة أشير فيها إلى صلاة الليل هي شرف المؤمن، وزينة الآخرة، مثلما أن المال والبنين
زينة الحياة الدنيا. وَعَنِ العِلَلِ بِإسْنادِه إِلى جَابِرِ بْنْ عَبْدِ اللهِ الأنْصارِيِّ قالَ:"سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلم يقولُ: مَا اتَّخَذَ اللهُ إبْراهيمَ خَليلاً إِلاّ لإطْعامِ
الطَّعامِ وَالصَّلاةِ بِاللَّيْلِ وَالنّاسُ نِيامٌ"( المجلد الخامس، الباب 39، من أبواب بقية الصلوات
المندوبة، ح 29 و ح 31 و ح 30). [238] ولو لم تكن لصلاة الليل سوى تلك
الفضيلة لأهلها لكفتها، ولكنهم ليسوا بأمثالي. إننا لا نعلم شيئاً عن عظمة رداء الخَلّة وما
يعني مقام اتخاذ الله تعالى العبد حبيباً وخليلاً. فكل العقول تعجز عن تصور ذلك. فلو
أنهم أكرموا الخليل بكل ما في الجنة من نعم، فإنه لا يلتفت إليها ( ما دام مع خليله ).
وأنت أيضاً إذا كان لك محبوب عزيز، أو كان لك صديق حميم ودخل عليك، فإنك تترك
كل نعمة ورفاه، وتستغني عن ذلك بجمال المحبوب ولقاء الصديق، بالرغم من أن هذا المثل
بعيد عن المقام بعد المشرقين. وَعَنْ عَلِيٍّ بْنِ إبْرَاهيمَ بِإسْنادِهِ عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام
قالَ:"ما مِنْ عَمَلِ حَسَنٍ يَعْمَلَه العَبْدُ إلاّ وَلَهُ ثَوابٌ فِي القُرْآنِ إلاّ صَلاةَ اللَّيْلِ فَإنَّ الله لَمْ
يُبّيِّنْ ثَوابَها لِعَظِيم خَطَرِهَا عِنْدَهُ فـَقال"تَتَجافى جُنوبُهُ م عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون * فـَلا تـَعْلـَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ
جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلونَ"( وسائل الشيعة، المجلد الخامس، الباب 40، من أبواب بقية
الصلوات المندوبة، ح13) ترى ما قرة العين هذه التي يدخرها الله ويخفيها حتى لا يعلم
أحد عنها شيئاً، وما يمكن أن تكون؟ فلو كانت من قبيل"أنهار جارية"و"قصور
عالية"ومن نِعم الجنة المختلفة، لذكرها الله، مثلما بيّن ما للأعمال الأخرى وأطلع الملائكة
عليها. ولكن يبدو أنها ليست من ذلك السنخ، وأنها أعظم من أن ينوّه بها لأحد،
وخصوصاً لأحد من أهل هذه الدنيا. إنه لا تقارن نِعم ذلك العالم بالنعم هنا، ولا تظنن
أن الفردوس والجنان تشبه بساتين الدنيا، أو ربما أوسع وأبهى. هناك دار كرامة الله ودار
ضيافته. فكل هذه الدنيا لا شيء إزاء شعرة وا حدة من الحور العين في الجنة. بل ليست
شيئاً إزاء خيط من خيوط الحلل الفردوسية التي أعدّت لأهل الجنة. ومع كل هذا
الوصف، لم يجعلها الله ثواب من يؤدي صلاة الليل، وإنما ذكرها من باب التعظيم له.
ولكن هيهات! نحن الضعفاء في الإيمان لسنا من أصحاب اليقين، وإلاّ لما كنا نستمر في
غفلتنا، ونعانق النوم حتى الصباح. لو أن يقظة الليل تكشف للإنسان حقيقة الصلاة
وسرّها، لأنس بذكر الله والتفكر في الله، ولجعل الليالي مركوبه للعروج إلى قربه تعالى، ولما
كان ثمّة ثواب له إلا جمال [239] الحق الجميل وحده. الويل لنا نحن الغافلين الذين لا
نستيقظ من النوم حتى آخر العمر. نبقى في سُكر الطبيعة غارقين، بل نزداد كل يوم سكراً
وغفلة، ولا نفهم شيئاً سوى الحالة الحيوانية من مأكل ومشرب ومنكح، ومهما فعلنا، وإن
كان من سنخ العبادات، فإنما نفعله في سبيل البطن والفرج. أتحسب أن صلاة خليل
الرحمن كانت مثل صلاتنا؟ الخليل لم يطلب حاجة حتى من جبرئيل، ونحن نطلب
حاجاتنا من الشيطان نفسه ظناً منا بأنه يقضي الحاجات! ولكن علينا أن لا نيأس. فلعلك
بعد مدة من سهر الليالي والاستئناس بذلك والاعتياد عليه، يلبسك الله بلطفه الخفي خلعة
الرحمة. كما أن عليك ألاّ تغفل عن سرّ العبادة بصورة عامة، ولا تقصر همك على
التجويد في القراءة وتصحيح الظاهر فقط. ولئن لم تـقدر أن تكون خالصاً لله تعالى،
فاسعَ، على الأقل، من أجل قرة العين التي يخفيها الله عزَّ وجلَّ، وتذكر الفقير، العاصي،
الحيواني السيرة الذي اكتفى من كل المراتب، بالحيوانية. وإذا وجدت في نفسك الرغبة،
فقل بخلوص نية: "اللهمّ ارزقني التَّجافِيَ عَنْ دارِ الغُرُورِ، وَالإنابة إلى دارِ الخلودِ،
وَالإسْتِعْدَادِ للموت قبل خُلُولِ الفوت"("مفاتيح الجنان"أعمال ليلة السابع والعشرين من
شهر رمضان) فصل في بيان التقوى اعلم أن التق وى من"الوقاية"بمعنى المحافظة.
وهي في العرف وفي مصطلح الأخبار والأحاديث تعني:"وقاية النفس من عصيان أوامر
الله ونواهيه وما يمنع رضاه"وكثيراً ما عرفت بأنها"حفـظ النفس حفظـاً تاماً عن
الوقوع في المحظورات بترك الشبهات"فقد قيـل:"وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبَهاتِ وَقَعَ فِي
المُحَرَّماتِ وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُ"(أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب فضل العلم،
باب إختلاف الحديث، ح9 ) "فـَمـَنْ رَتَعَ حَوْلَ الحِمى أوشِكَ أَنْ يَقَعَ فيهِ"( وسائل
الشيعة، المجلد 18، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب وجوب التوقف
والاحتياط في القضاء و الفتوى،ح39 ). [240] لا بُدَّ أن نعرف أن التقوى، وإن لم
تكن من مدراج الكمال والمقامات، ولكنّه لا يمكن بدونها بلوغ أي مقام، وذلك لأن
النفس ما دامت ملوثة بالمحرمات، لا تكون داخلة في الإنسانية، ولا سالكة طريقها، وما
دامت تميل إلى المشتهيات و اللذائذ النفسية وتستطيب حلاوتها، لن تصل إلى أول مقامات
الكمال الإنساني، وما دام حب الدنيا والتعلق بها في القلب، فلا يمكن أن يصل إلى مقام
المتوسطين والزاهدين، وما دام حب الذات باقياً في دخيلة ذاته. لن ينال مقام المخلصين و
المحبين، وما دامت الكثرة المُلكيّة والملكوتية ظاهرة في قلبه، لن ينال مقام المنجذبين، وما
دامت كثرة الأسماء متجلية في باطنه، لن يصل إلى الفناء الكلي، وما دام القلب يلتفت إلى
المقامات، لن يبلغ مقام كمال الفناء، وما دام هناك تلوين، لن يصل إلى مقام التمكين ولن
تتجلى في سرّه الذاتُ في مقام الاسم الذاتي تجلياً أزلياً وأبدياً. فتقوى العامة إذاً تكون من
المحرمات، وتقوى الخاصة تكون من المشتهيات، وتقوى الزاهدين من حب الدنيا،
والمخلصين من حب الذات، والمنجذبين من كثرة ظهور الأفعال، والفانيـن من كثرة
الأسمـاء، والواصلين من التوجه إلى الفنـاء، والمتمكنن من التلوينات {فَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ}(هود/ 112) . ولكل من هذه المراتب شرح وتفصيل لا يحصل لأمثالنا منه
سوى الحيرة والضياع في المصطلحات، والتلفع في حجب المفاهيم، إذ لكل معركة
رجال. والآن نعود إلى بيان نبذة من التقوى المذكورة في بدأ الأمر، لأهميتها للناس
بصورة عامة: فصل في بيان تقوى العامة اعلم أيها العزيز أنه مثلما يكون لهذا الجسد
صحة ومرض، وعلاج ومعالج، فإن للنفس الإنسانية أيضاً صحة ومرضاً، وسقماً
وسلامة، وعلاجاً ومعالجاً. إن صحة النفس وسلامتها هي الاعتدال في طريق
الإنسانية، ومرضها وسقمها هو الاعوجاج والانحراف عن طريق الإنسانية، وإن
الأمراض النفسية أشد فتكاً آلاف [241] المرات من الأمراض الجسمية. وذلك لأن
هذه الأمراض إنّما تصل إلى غايتها بحلول الموت. فما أن يحل الموت، وتفارق الروح
البدن، حتى تزول جميع الأمراض الجسيمة والاختلافات المادية، ولا يبقى أثر للآلام أو
الأسقام في الجسد. ولكنه إذا كان ذا أمراض روحية وأسقام نفسية - لا سمح الله - فإنه
ما أن تفارق الروح البدن، وتتوجه إلى ملكوتها الخاص، حتى تظهر آلامها وأسقامها.
إن مَثَل التوجه إلى الدنيا والتعلق بها، كمثل المخدر الذي يسلب الإنسان شعوره بنفسه.
فعندما يزول ارتباط الروح بدنيا البدن، يرجع إليها الشعور بذاتها، ومن ثَمّ الإحساس
بالآلام والأسقام التي كانت في باطنها، فتظهر مهاجمة لها بعد أن كانت مختفية كالنار تحت
الرماد. وتلك الآلام والأسقام إما أن تكون ملازمة لها (للروح) ولا تزول عنها أبداً، وإما
أن تكون قابلة للزوال. وفي هذه الحال يقتضيها أن تبقى آلاف السنين تحت الضغط
والعناء والنار والاحتراق قبل أن تزول، إذ أن آخر الدواء الكي. قال رسول الله تعالى:{
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ }( التوبة/35
). إن الأنبياء هم بمنزلة الأطباء المشفقين، الذين جاءوا بكل لطف ومحبة لمعالجة
المرضى، بأنواع العلاج المناسب لحالهم، وقاموا بهدايتهم إلى طريق الرشاد."إننا أطبّاء
وتلاميذ الحق"وإن الأعمال الروحية القلبية والظاهرية والبدنية هي بمثابة الدواء للمرض
كما أن التقوى، في كل مرتبة من مراتبها، بمثابة الوقاية من الأمور المضرة للأمراض.
ومن دون الحميّة لا يمكن أن ينفع العلاج، ولا أن يتبدل المرض إلى صحة. قد يغلب
الدواء والطبيعة على المرض في الأمراض الجسيمة حتى مع عدم الحمية جزئياً. وذلك لأن
الطبيعة هي نفسها حافظة للصحة ودواء لها. ولكن الأمر في الأمراض النفسية صعب،
وذلك لأن الطبيعة قد تغلبت على النفس منذ البداية، فتوجهت هذه نحو الفساد والانتكاس
{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ }(يوسف/ 52 )، وعليه، فإن من [242] يتهاون في
الحمية، تصرعه الأمراض، وتجد مناطق للنفوذ إليه، حتى تقضي على صحته قضاء مبرماً.
إذاً، فالإنسان الراغب في صحة النفس، والمترفق بحاله، إذا تنبه أن وسيلة الخلاص من
العذاب تنحصر في أمرين: الأول: الإتيان بما يصلح النفس ويجعلها سليمة. والآخر، هو
الامتناع عن كل ما يضرها ويؤلمها. ومن المعلوم أن ضرر المحرمات أكثر تأثيراً في النفس
من أي شيءٍ آخر، ولهذا كانت محرّمة، كما أن الواجبات لها أكبر الأثر في مصلحة
الأمور، ولهذا كانت واجبة وأفضل من أي شيء، ومقدمة على كل هدف، وممهدة
للتطور إلى ما هو أحسن. إن الطريق الوحيد إلى المقامات والمدارج الإنسانية يمر عبر
هاتين المرحلتين، بحيث أن من يواظب عليهما يكون من الناجين السعداء، وأهمهما هي
التقوى من المحرمات، وأن أهل السلوك يحسبون هذه المرحلة مقدمة على المرحلة
الأولى، إذ يتضح من الرجوع إلى الأخبار والروايات وخطب"نهج البلاغة"أن
المعصومين عليهم السلام كانوا يعتنون كثيرا بهذه المرحلة. إذاً، أيها العزيز! بعد أن
عرفت بأن المرحلة مهمة جداً. ثابر عليها بدقة، فإذا أنت خطوت الخطوة الأولى
وكانت صحيحة، وبنيت هذا الأساس قوياً، كان هناك أمل بوصولك إلى مقامات
أخرى، وإلاّ امتنع الوصول، وصعبت النجاة. كان شيخنا العارف الجليل يقول: إن
المثابرة على تلاوة آخر آيات سورة الحشر المباركة، من الآية الشريفة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }(الحشر/ 18 ). إلى آخر السورة المباركة، مع
تدبر معانيها، في تعقيبات الصلوات، وخصوصاً في أواخر الليل حيث يكون القلب فارغ
البال، مؤثرة جداً في إصلاح النفس، وفي الوقاية من شر النفس والشيطان. وكان يوصي
بدوام حال الوضوء، قائلاً: إن الوضوء مثل"بزّة جندي". وعلى كل حال، عليك أن
تطلب من القادر ذي الجلال، من الله المتعال جلّ جلالة، مع التضرع والبكاء والالتماس
كي [243] يوفقك في هذه المرحلة ويعينك في الحصول على خصلة التقوى. واعلم، أن
بدايات الأمر صعبة وشاقة، ولكن بعد فترة من الاستمرار والمثابرة تتحول المشقة إلى
راحة، والعسر إلى يُسر، بل تتبدل إلى لذة روحية، خصوصاً، وأن أصحاب هذه اللذة
لا يستبدلونها بجميع اللذائذ. ويمكن، إن شاء الله، وبعد المواظبة الشديدة والتقوى
التامة، أن تنتقل من هذا المقام إلى مقام تقوى الخاصة. وهي التقوى التي تتلذذ الروح
بها. إذ أنك بعد أن تذوق طعم اللذة الروحية تترك شيئاً فشيئاً اللذائذ الجسدية
وتتجنبها. وعندئذٍ يسهل عليك المسير حتى لا تعود تقيم وزناً للذات الجسدية الزائلة،
بل تنفر منها، وتقبّح زخارف الدنيا في عينيك، وتنظر في باطنك فتجد أن كل لذة من
لذّات هذا العالم قد أوجدت في النفس أثراً وأبقت في القلوب لطخة سوداء تبعث على
شدة الإنس بهذه الدنيا والتعلق بها. وهذه هي نفسها تكون سبب الإخلاد إلى
الأرض. وعند سكرات الموت تتبدل إلى صعوبة ومشقة ومعاناة. والواقع أن صعوبة
سكرات الموت وحالة النزع الأخير القاسية ناجمة عن هذه اللذات وحب الدنيا، كما
سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا أدرك الإنسان هذا المعنى سقطت لذات العالم من عينه
كلياً، ونفر من الدنيا وما فيها من مباهج وزخارف. وهذا هو التقدم الثاني إلى المقام
الثالث من التقوى. وبذلك يصبح سبيل السلوك إلى الله سهلاً ميسوراً، وطريق
الإنسانية نيّراً واسعاً، وتصبح خطوته شيئاً فشيئاً خطوة الحق، ورياضته رياضة الحق،
ويتهرب من النفس وآثارها وأطوارها. إذ يجد في ذاته عشق للحق، فلا يعود يقنع
بوعود الجنة والحور العين والقصور، بل يكون مطلوبة ومقصوده أمراً آخر، وينفر من
الأنانية حب الذات. فيتقي حب النفس ويتقي ذاته وأنانيته. وهذا مقام على قدر كبير
من الشموخ والرفعة، وهو أول مراتب هبوب نسيم الولاية، فيدرجه الحق المتعال في
كنف لط فه ويعينه ويجعله موضع ألطافه الخاصة. أما ما يحدث للسالك بعد ذلك
فخارج عن قدرة القلم. والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطـناً، والصلاة والسلام على
محمد وآله الطاهرين. [245] الحَديث الثَالِث عشرَ "التوكل" [246] بالسَّنَدِ المُتَّصل
إلى الشَّيْخِ الجَلِيلِ ثِقَةِ الإِسْلاَمِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ غَيْر وَاحِدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أسْبَاطٍ، عَنْ أَحْمَدِ بْنِ عُمَرَ الحَلاّل، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الأَوَّلِ عليه السَّلام قالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فَقَاَل"التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ دَرَجَاتٌ مِنْهَا أَنْ تَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي
أُمُورِكَ كُلِّهَا فَمَا فَعَلَ بِكَ كُنْتَ عَنْهُ رَ اضِياً تَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَأْلُوكَ خَيْرَاً وَفَضْلاً وَتَعْلَمُ أَنَّ
الحُكْمَ فِي ذلِكَ لَهُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ بِتَفْويضِ ذلِكَ إِلَيْهِ وَثِقْ بِهِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا"( أصول
الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب التفويض إلى الله والتوكل عليه، ح
5). [247] الشرح: "الحلاّل"بتشديد اللام: بائع الحِلّ، وهو دهن السمسم. وأبو
الحسن الأول هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام. ويكنى أيضاً بأبي الحسن
المطلق. وأبو الحسن الثاني هو الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، وأبو الحسن
الثالث هو الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام. و"التوكل"كما في اللغة، هو إظهار
العجز والاعتماد على طرف آخر: واتكلت على فلان في أمر اعتمدته. وأصله:
اوتكلت. و"حسبه"أي مُحْسِبُه وكافيه. و"يألوك": من ألا، يألو، ألواً. ويعني التقصير.
وقد قال بعضهم: إذا عدّى هذا الفعل إ لى مفعولين تضمن معنى المنع، وهذا حسن،
لأن المعنى يكون أسلس، وإن لم تكن ثَمَّة حاجة إلى ذلك، فمعنى التقصير وحده يكفي،
كما يستفاد خلاف ذلك من"الصحاح"الذي جاء فيه:"ألا، يألو: أي قصّر. وفلان لا
يألوك نصحاً". فيتبيّن من ذلك أن المعنى واحد حتى مع المفعولين.
و"التوكل"غير"التفويض"، وكلاهما غير"الرضا"وغير"الوثوق"كما سيأتي بيانه. وسوف
نشرح في ما يلي ما يحتاج من الحديث الشريف إلى شرح. فصل في بيان معنى التوكل
ودرجاته اعلم إن للتوكل معاني متقاربة، ولكن بتعبيرات مختلفة، بحسب المسالك
المختلفة، كما يقول صاحب"منازل السائرين": {التَّوَكُّلُ كِلَهُ الأمْرِ كُلهِ إِلَى مَالِكِهِ
[248] وَالتَّعْوِيلُ عَلَى وِكَالَتِهِ}("منازل السائرين" - التوكل). ويقـول بعض أصحاب
العرفان:"التـَّوَكُّلُ طَرْحُ البَدَنِ فِي العُبُودِيَّةِ وَتَعَـلُّقُ القَلْبِ بِالرُّبُوبِيَّـةِ". وقال
آخرون:"ا لتـَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ انْقِطَاعُ العَبْدِ فِي جَمِيعِ مَا يَأْمُلُهُ مِنَ المَخْلُوقِينَ". وهكذا
تجد هذه المعاني متقاربة، ولا حاجة للبحث في المفهوم. وكل ما يتطلب القول هو أن
للتوكل درجات مختلفة بحسب اختلاف مقامات العباد. ولما كانت معرفة درجات
التوكل مبنية على العلم بدرجة معرفة العباد بربوبية الحق جلّ جلاله، كان لا بُدَّ من
الإشارة إلى ذلك. فاعلم، أن أحد أصول معارف السالكين ومقاماتهم، التي لا تكون إلاّ
به، هو العلم بربوبية الحق تعالى، ومالكيته وكيفية تصرف الذات المقدسة في الأمور. إننا
لا ندخل هذا البحث من الناحية العلمية، لأن ذلك يتطلب التحقيق في"الجبر
والتفويض"وذلك ما لا يتناسب مع هذه السطور. وإنما نقتصر على ذكر درجات الناس
في معرفة ذلك. وعليه، نقول أن الناس في معرفة الربوبية مختلفون متباينون إلى حدّ
كبير: فالموحّدون عموماً يعرفون أن الحق تعالى هو خالق م بادئ الأمور، وكلّيات
الجواهر، وعناصر الأشياء، ويرون بأنّ تصرفه محدود، ولا يقولون بإحاطته بالربوبية.
فهؤلاء تراهم تارة يقولون: مقدِّر الأمور حق؟ وهو المتصرف في كل شيء، فما في كائن
يكون إلاّ بإرادته المقدسة. ولكنهم ليسوا أصحاب هذا المقام، لا علماً، ولا إيماناً، ولا
شهوداً، ولا وجداناً. إن هذا الفريق من الناس - والظاهر أننا منهم - ليس لهم علم
كامل بربوبية الله بل يكون توحيدهم ناقصاً، حيث حجبت عنهم ربوبية الحق وسلطنته
لعللٍ وأسباب ظاهرة، وليس لهم مقام التوكل وهو ما يدور كلامنا عليه إلاّ لفظاً
وادعاءً. لهذا، فإنهم في الأمور الدنيوية، لا يعتمدون على الحق سبحانه، بأيّ شكل من
الأشكال، ولا يتشبثون إلا بالأسباب الظاهرية والمؤثرات الكونية. وإذا ما اتفق أحياناً
أن توجهوا إلى الحق تعالى وطلبوا منه حاجة، أو رجوا منه رجـاء، فذلك من [249]
باب التقليد، أو من باب الاحتياط، ل أنه لا يرون في ذلك ضرراً عليهم، بل ربما
يحتملون فيه الفائدة. وفي هذه الحال توجد رائحة التوكل. ولكنهم إذا رأوا الأسباب
الظاهرة ملائمة ومطابقة لأهوائهم، غفلوا كليا عن الله تعالى وعن تصريفه للأمور. إن
المقولة القائلة بأن التوكل لا يتنافى مع العمل والتكسب، صحيحة، بل هي مطابقة
للبرهان وللنقل، ولكن الاحتجاب عن ربوبية الحق وتصريفه للأمور واعتبار الأسباب
مستقلة، يتنافى والتوكل. إن هؤلاء الذين لا يتمسكون حتى بأدنى درجات التوكل في
أعمالهم الدنيوية، يتحدثون فيما يتعلق بالأمور الأخروية عن التوكل بزهو ومباهاة، وإذا
ما ظهر منهم أيّ تهاون وضعف وكسل في العلم أو في تهذيب النفس والعبادات
والطاعـات، وبادروا إلى إظهار اعتمادهم وتوكلهم على الحق تعالى وفضله. وكأنهم
يريدون بمجرد تلفظهم بأن"الله عظيم"و"إننا متوكلون على فضل الله"أن ينالوا
الدرجات الأخروية! فإنهم يقولون في الشؤون ال دنيوية: إن السعي والعمل لا يتنافيان
مع التوكل على الله، وفي الأمور الأخروية يرون السعي والعمل ينافيان الاعتماد
والتوكل عليه. وما هذا إلاّ من مكائد النفس والشيطان. فهؤلاء ليسوا متوكلين على
الله، لا في الأمور الدنيوية ولا في الأمور الأخروية، ول هم يعتمدون عليه في أي أمر من
الأمور. ولكنهم، لاهتمامهم بالأمور الدنيوية، تشبثون بالأسباب، دون الاعتماد على
الحق تعالى وتصريفه للشؤون في العالم. وعلى العكس من ذلك، فهم، لعدم اهتمامهم
بأمور الآخرة، وعدم إيمانهم إيماناً صادقاً بيوم المعاد وتفاصيله، ويصطنعون لذلك
الأعذار. فمرة يقولون:"الله عظيم"ومرة يظهرون الاعتماد على الله وعلى شفاعة
الشفعاء، مع أن هذا كله ليس سوى لقلقة لسان لا أساس لها من الحقيقة في شيء. وثمّة
فريق آخر من الناس اقتنعوا، إما بالبرهان وإما بالنقل، وصدّقوا بأن الحق تعالى هو مقدِّر
الأمور، ومسبّب الأسباب، وا لمؤثر في الوجود، ولا حدود لقدرته وتصرّفه. هؤلاء
يتوكلون على الله سبحانه عن طريق العقل، أي أن أركان التوكل تامة عندهم، بحسب
الأدلة العقلية والنقلية ولهذا فهم يرون أنفسهم من المتوكلين، ويقيمون الدليل أيضاً
على لزوم التوكل، لأنهم أثبتوا أركان التوكل، والتي هي أمور: [250] أن الحق تعالى
عالمٌ بحاجات العباد. أنه قادر على تلبية تلك الحاجات. أنه ليس في ذاته المقدسة بخل.
أنه رحيم بالعباد و رءوف بهم. وإذاً، يجب التوكل على عالم قدير كريم رحيم بالعباد،
قائم بمصالحهم، لا يفوّت عليهم شيئاً فيها، حتى وإن لم يميزوا هم بين ما ينفعهم وما
يضرهم. هؤلاء وإن كانوا من المتوكلين عملياً، إلاّ أنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان. فهم لهذا
مضطربون في اتخاذ أمر من أمورهم، وعقولهم مغلوبة في الصراع مع قلوبهم، لأنها
بالأسباب متعلقة، وعن تصرف الحق سبحانه في الأشياء محجوبة. أما الطائفة الثالثة، ف
هم الذين توصّلوا بقلوبهم إلى معرفة تصرّف الحق تعالى في الكائنات، فآمنت تلك
القلوب بأن مقدّر الأمور، والسلطان ومالك الأشياء، هو الحق تعالى، وكتبوا بقلم
العقل على ألواح القلوب أركان التوكل. هؤلاء هم أصحاب مقام التوكل. غير أن
هؤلاء أيضاً يختلفون من حيث مراتب الإيمان ودرجاته اختلافاً كبيراً، قبل أن يصلوا إلى
درجة الاطمئنان الكامل. وعند ذاك تظهر في قلوبهم درجة التوكل الكاملة، ولا تتعلق
بالأسباب، بل تتشبث بمقام الربوبية، فتطمئن إليه وتعتمد عليه، كما وصف العارفُ
المتقدم، التوكلَ قائلاً إنـه:"طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية". وكل ما
قلناه يعود إلى ما إذا كان القلب في مقام الكثرة الأفعالية، وإلاّ فإنه يتجاوز مقام التوكل
ويخرج عن المقصود. إذاً، فقد اتضح أن للتوكل درجات. ولعل الدرجة التي تعرض لها
الحديث الشريف هي توكل الطائفة الثانية. إذ أنه جعل العلم من م بادئه، وربما أشار
أيضاً إلى درجات أخرى ذات اعتبارات مختلفة. إذ أن للتوكل درجات أخرى في
تقسيمات مختلفة، مثلما هي الحال في درجات سلوك أصحاب العرفان والرياضات،
حيث يصلون من مقام الكثرة إلى مقام الوحدة تدريجاً، فلا يحصل فناء أفعالي مطلق،
دفعة واحدة، بل يشاهد أولاً في مقامه، ومن ثم في سائر الكائنات. فكذلك يحصل
التوكل والرضا والتسليم وسائر المقامات بالتدرّج أيضاً. [251] وربما يبدأ أول الأمر
بالتوكل على الأسباب الغائبة والخفية، ومن ثم يصل إلى مقام المطلق تدريجاً، سواء
أكانت له أسباب ظاهرة جليّة، أم أسباب باطنة خفيّة، وسواء أكان ذلك في أعماله هو
أم في أعمال أقربائه ومقرّبيه. ولذلك جاء في الحديث:"إِنَّ مِنْ دَرَجَاتِ التَوكّلِ أَن تَتَوَكَّلَ
عَلَى اللهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أُمُورك". فصل في بيان الفرق بين"التوكل"و"الرضا" اعلم أن
مقام"الرضا"غير مقام"التوكل"، وهو أسمى منه وأرفع. وذلك لأن المتوكل يطلب الخير
والصلاح لنفسه، فيوكل الحق تعالى، بصفته فاعل الخير، للحصول على الخير
والصلاح. أما الشخص"الراضي"فيكون قد أفنى إرادته في إرادة الله، فلا يختار لنفسه
شيئاً. ولقد سئل أهل السلوك: "مَا تُرِيدُ؟". فـَقـَالَ:"أُرِيدُ أَنْ لا أُرِيدَ". فمطلوبه
هو مقام الرضا. أما ما جاء في الحديث الشريف:"فـَمـَا فَعَلَ بِكَ كُنْتَ عَنْهُ رَاضِياً"فإنه
لا يعني مقام الرضا، ولذلك جاء بعد ذلك قوله:"تـَعـْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَأْلُوكَ خَيراً وَفَضلاً"،
وكأنه صلّى الله عليه وآله وسلم أراد أن يوجد في السامع مقام التوكل، وذلك بوضع
المقدمات، فقال أولاً:"تعلم أنه لا يألوك خيراً وفضلاً"ثم قال:"تعلم أن الحكم في ذلك
له"طبيعي أن من يعلم أن الله تعالى قادر على كل شيء، وأنه لا يفوّت على نفسه خيره
وفضله، فإن مقام التوكل يحصل له، وذلك لأن ركني التوكل الأساسيين قد ذكرهما،
بينما الركنين أو الثلاثة الأخرى لوضوحهما. إذاً، تكون نتيجة المقدمات المذكورة
المطوية والمعلومة هي أن ما يفعله الحق تعالى يبعث على الرضا والسرور. إذ أن فيه الخير
والصلاح، وبذلك يحصل مقام التوكل. ولذلك فرّع عليه السلام في الحديث الشريف
قوله:"فتوكل على الله". فصل في بيان الفرق بين"التفويض"و"التوكل"و"الثقة" ثم اعلم
أن"التفويض"أيضاً غير التوكل، وأن"الثقة"غيرهما. ولذلك فقد أشير إليهما في مقامات
السالكين بصورة منفصلة. [252] يقول الخواجة عبد الله الأنصاري:"التَّفْويضُ ألْطَفُ
إشَارةُ وَأَوْسَعُ مَعْنىً مِنَ التَّوَكُّلِ ثُمَّ قَالَ: التَّوَكُّلُ شُعْبَةٌ مِنْهُ". وذلك لأن التفويض هو أن
لا يرى العبد في نفسه حولا ولا قوة، ولا يجد أن له التصرف في شيء، ويرى الحق تعالى
هو المتصرف في كل الأمور. أما في التوكل فليس الأمر كذلك، لأن المتوكل يجعل الحق
سبحانه قائماً مقامه في التصرف واجتلاب الخير والصلاح. وأما أن التفويض أوسع، لأن
التوكل فرع منه، لأن التوكل يكون في المصالح والتفويض يكون في الأمور كافة. ولأن
التوكل لا يكون إلاّ بعد وقوع سبب يستوجبه، أي عند وجود أمر يتوكل فيه العبد على
الله، مثل توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الله في أن يحفظهم من
المشركين، حينما قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}(آل عمران/173). وأما التفويض فيكون قبل وقوع السبب،
كما جاء في الدعاء المروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:"اللـَّهــُمَّ إِنِّي
أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيكَ"( كتاب من لا
يحضره الفقيه، ح 1351) وقد يكون بعد وقوع السبب، مثل تمثيل مؤمن آل فرعون. إن
ما ذكرناه يكون حاصل ترجمة شرح العارف المعروف"عبد الرزاق الكاشاني"للتوكل
والتفويض مأخوذاً من كلام العارف الكامل"الخواجة عبد الله"مع شيء من الاختصار
وفي كلام الخواجة ما يدل على ذلك. ولكن في اعتبار التوكل شعبة من التفويض
يستدعي النظر. كما أن في جعل التفويض من التوكل مسامحة واضحة. وكذلك ليس ثَمّة
دليل على أن التوكل يقع بعد وقوع السبب. إذ في كِلتا الحالتين قبل وبعد وقوع السبب
يصحّ معنى التوكل. أما الحديث الشريف الذي يقول:"فـَتـَوَكَّل عَلَى اللهِ بِتَفْوِيضِ
ذلِكَ إِلَيْهِ"فيمكن القول بأنه لا توكل إلاّ مع رؤية تصرفه بنفسـه، ولهذا يتخذ لنفسه
وكيلا في أمر من أمور الخاصة به. إلاّ أن الرسول الأكرم أراد أن يرفع ذلك من مقام
التوكل إلى مقام التفويض، وليفهمه أن الحق تعالى لا يقوم مقامك في [253] التصرف، بل
هو المتصرف في ملكه ومملكته. وقد نبّه على ذلك الخواجة نفسه في"منازل السائلين"بشأن
الدرجة الثالثة من درجات التوكل. وأما"الثقة"فهي غير"التوكل"و"التفويض"، كما
يقول الخواجة:"الثـِقـَةُ سَوَادُ عَيْنِ التَوَكُّلِ، وَنُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ، وَسُوَيْداءُ قَلْبِ
التَّسْلِيمِ". أي أن المقامات الثلاثة لا تحصل من دون"ثقة"، بل إن روح تلك المقامات
هي الثقة بالله تعالى. فما لم يثق العبد بالحق تعالى، لا يمكن أن ينالها. فتبين السرّ في قول
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بعد التوكل والتفويض،"ثـِقْ بِهِ فِيْهَا وفِي غَيْرِهَا".
[255] الحديث الرَابع عشَر "الخوف والرَّجـــــــاء" [256] بِسَنَدِي
المُتَّصِلِ إلى مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، ثِقَةِ الإِسْلاَم وَعِمَادِ المُسْلِمِينَ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ
أَحْمَدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ المُغَيرَةِ أَوْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ عليه السَّلام قالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا كَانَ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ؟ قالَ:"كَانَ
فِيهَا الأَعَاجِيبُ وَكَانَ أَعْجَبَ مَا كَانَ فِيهَا أَنْ قَالَ لابْنِهِ: خَفِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خيفةً لَوْ
جِئْتَهُ بِبِرِّ الثِّقَلَيْنِ لَعَذَّبَكَ، وَارْجُ اللَّهَ رَجاءً لَوْ جِئْتَهُ بِذُنُوبِ الثِّقَلَيْنِ لَرَحِمَكَ. ثُمَّ قَالَ أبو
عَبْدِ اللَّهِ - عَليه السّلام - كان أبِي يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلاّ وَفِي قَلْبِه نُورَانِ
نُورُ خَيفَةٍ وَ نُورُ رَجَاءً، لَوْ وُزِنَ هذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هذَا وَلَوْ وُزِنَ هذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى هذَا"(
أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف والرجاء، ح 1). [257]
يقول"الجوهري"في الصحاح:"أعاجيب"كأنهم أرادوا جمع"أُعْجُوبَة"مثل أحدوثة
وأحاديث. وقال: إن"الأعْجُوبة"هي ما يكون حسنة أو قبحه مثيراً للتعجب. ويكون
المقصود في هذا الحديث هو المعنى الأول وكأنّ اللفظ في الأصل مختص بما يثير حسنه
العجب، وإن استعملت تطفلاً في الأعم. "والبِّرُّ"خلاف"العقوق"و"فـُلان يَبِرّ
خَالقَه"يعني أنه يطيعه، كما يقوله الجوهري. و"الثقلان"هما الجن والإنس. ويدل هذا (
الحديث الشريف ) على أن كلاً من الخوف والرجاء يجب أن يصل إلى مرتبة الكمال، ولا
يجوز اليأس من رحمة الله تعالى أبداً، ولا الأمان من مكره مطلقاً. فهناك الكثير من
الأحاديث التي تؤكد ذلك، كما ينص القرآن الكريم على ذلك أيضاً. ثم يجب ألاّ يرجح
أحدهما على الآخر. وسوف نقوم، بشرح ذلك وبيان المواضيع الأخرى من الحديث - إن
شاء الله - ضمن فصول عديدة. فصل في بيان الإنسان العارف اعلم، أن للإِنسان العارف
بالحقائق والمطلع على النسبة بين الممكن والواجب جلّ وعلا نظرتين: الأولى: نظرته إلى
نقصه الذاتي وإلى نقص جميع الممكنات وانحطاط الكائنات فهو يدرك في هذه النظرة، عيناً
أو علماً، أن الممكن غارق بكلّيته في الذل والنقص وفي بحر ظلام الإِمكان والفقر
والاحتياج أزلاً وأبداً، [258] وأنه لا يملك بذاته شيئاً إطلاقاً،وهو محض لا شيء، ومجرد
ضعة، ونقص مطلق، بل إن هذه التعبيرات نفسها لا تصدق عليه حقيقة وإنما هي من ضيق
أفق التعبير والكلام، وإلاّ فإن النقص والحاجة من سمات الشيئية، وليس لجميع الممكنات
والخلائق كافة، شيئية بذواتها. وهو في هذه النظرة، لو تقدم إلى أعتاب الربوبية بكل
العبادات والطاعات والعلوم والمعارف، فلن يكون أمامه سوى أن يطأطأ رأسه خَجَلاً وذلاً
وخوفاً، فما هذه العبادة والطاعة؟ ممن؟ ولمن؟ إن كل المحامد تعود إليه تعالى، وليس
للممكن أي تصرف فيه، بل إن تصرف الممكن يبعث على نقص في إظهار محامد الله
والثناء عليه. وهذا ما سألوي عنه عنان القلم، ففي هذا المقام يقول عزَّ وجلّ:{ مَا أَصَابَكَ
مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ...}(النساء/ 79 ). كما يقول في
المقام الأول {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }(النساء/ 78 ). يقول الشاعر في هذا المقام: قال
مُرشدنا: أن قلم الصانع لم يخطأ.......... . ( فإن الأخطاء منّا ). بُوركت نظرته السديدة
الساترة للعيوب...... وهي: ( قُلْ كُلّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ). إن قول المرشد ( الشطر الأول )
راجع إلى المقام الثاني ( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمـِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ ). وأما ( الشطر الثاني من الشعر ) فيعود إلى المقام الأول ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ )
وفي هذا المقام يستولي على الإنسان الخوف والحزن والخجل والخزي. والنظرة الأخرى
نظرته إلى الكمال الواجب، وبسط رحمته، وسعة لطفه تعالى وعنايته. فهو يرى أنه سبحانه
قد بسط هذه النِعم والرحمات المتنوعة، التي لا يمكن الإحاطة بها ولا حصرها وتحديدها،
من دون استعداد وتهيأ مسبق لها. وإنه قد فتح أبواب لطفه وعفوه على العباد دون
استحقاق. فنعمه مبتدءة لا يسبقها سؤال. كما أشار إلى ذلك حضرة الإمام زين العابدين
وسيد الساجدين كثيراً في أدعية الصحيفة وغيرها، فيقوى رجاؤه برحمة الحق تعالى ويزداد
أمله، بالكريم [259] الذي لا يسبغ كرمه إلاّ من باب الرحمة واللطف، وبمالك الملوك
الذي يفيض علينا بنعمه من دون سؤال أو استعداد. تلك النعم التي تعجز العقول عن
إدراك بعضها وتقصر. والمالك الذي لا تنقص من ملكه الواسع معصية العاصين، ولا
تزيده طاعة المطيعين، بل إن هداية ذاته المقدسة لنا إلى طرق الطاعات، ومنعه إيّانا عن
العصيان، إنما هو من عناياته الكريمة ونعمه وآلائه، لأجل وصولنا إلى مقامات الكمال
ومدارجه الرفيعة، وللتنزه عن النقص والقبح والتشوه. فإذا جثونا عند أعتاب رحمته
وعنايته، لوجب أن نقول: اللهم إنك إذ ألبستنا لباس الوجود، ووهبتنا كل أسباب الحياة
والرفاه بما يفوق إدراك المدركين، وأريتنا طرق الهداية، وأسبغت علينا من نعمك، إنما كان
ذلك لمصلحتنا لننعم بأفضالك ونعمك. وها نحن وفدنا إلى دار كرامتك، وعلى أعتاب
سلطنتك، مثقلين بذنوب الثقلين، مع أن ذنوب المذنبين لم تنقص من خزائن رحمتك، ولم
تخلّ خطاياهم بمملكتك. فماذا أنت صانع بقبضة تراب لا تساوي شيئاً عند أعتاب عظمتك
سوى أن تشملها برحمتك وعنايتك؟ أيمكن أن نأمل غير الرحمة من لطفك؟ فعلى الإنسان،
إذاً، أن يتردد بين هاتين النظرتين. فلا هو يغمض عينيه عمّا فيه من نقص وقصور في القيام
بالعبودية، ولا هو ينسى سعة رحمة الحق جلّ جلاله وعنايته وشموليتهما. فصل في بيان
مراتب الخوف ودرجاته اعلم أيها العزيز، أن للخوف والرجاء مراتب ودرجات حسب
حالات العباد ومراتب معرفتهم. فخوف العامة يكون من العذاب وخوف الخاصة يكون
من العتاب، وخوف أخص الخاصة يكون من الاحتجاب. ولكننا لسنا الآن بصدد شرح
ذلك، وإنما سنشير إلى الموضوع السابق ببيان آخر. فاعلم أن ليس أحد من المخلوقات
بقادرٍ على عبادة الحق تعالى حق عبادته. لأن العبادة هي الثناء على مقام ذات الله المقدسة،
وثناء كل شخص فرغ [260] معرفته بمن يُثني عليه. ولمّا كانت يد أرجاء العباد، في
الحقيقة قصيرة، عن عِزَّ جلال معرفة ذاته المتعال، فهم إذاً ليسوا قادرين بالثناء على جماله
وجلاله. وقد اعترف بذلك أشرف الخلائق وأعرف الكائنات بمقام الربوبية: "مَا عَبَدْنَاكَ
حَقَّ عِبَادَتِكَ وَمَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ"("سفينة البحار"ج 2 ص 180 وما بعدها) حيث
الجملة الثانية هي بمثابة التعليل للجملة الأولى، إذ قال: "أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى
نَفْسِكَ"("سفينة البحار" ج 2 ص 181 وما بعدها ). إذاً، فالقصور الذاتي من حق
الممكن، والعلو الذاتي خاص بذات كبرياء الله جلّ جلاله. ولمّا كان العباد قاصرين عن
الثناء على الله تعالى وعن عبادة ذاته المقدسة. ومن دون معرفة الحق سبحانه وعبوديته لا
يمكن لأحد من عباده أن يبلغ المقامات الكمالية والمدارج الأخروية، كما هو ثابت ومبرهن
عليه عند علماء الآخرة في محله، ولكن العامة غافلون عن ذلك، ويحسبون المدارج الأخروية
جزافاً أو شبيهة بالجزاف - تعالى الله عن ذلك عـُلواً كبيراً - لمّا كان كذلك فقد فتح الله
تعالى بلطفه الشامل ورحمته الواسعة باباً من الرحمة والرعاية بالعباد عن طريق تعليمات
الوحي الغيبية والإلهام، وبوساطة الملائكة والأنبياء. ذلكم هو باب العبادة والمعرفة. فعلّم
العباد طرق عبادته، وفتح لهم سبيلاً إلى المعارف لكي يخففوا من نقائصهم قدر الإمكان،
ويسعوا لنيل الكمالات الممكنة، ويهتدوا بأشعة نور العبودية للوصول إلى عالم كرامة الحق،
وإلى الروح والريحان وجنات النعيم، بل إلى رضوان الله الأكبر. إذاً، ففتح باب العبادة
والعبودية من النِعم الكبرى التي تدين لها الكائنات كافة، دون أن تستطيع الوفاء بحق
الشكر، بل إن كل شكر هو فتح باب كرامة لا تقدر على شكره أيضاً. فإذا علم الإنسان
مشربه هذا، واطّلع قلبه عليه، اعترف بتقصيره. وحتى لو أنه تقدم إلى أعتاب الله جلّ
جلاله بعبادة الجن والإِنس والملائكة المقربين، لكان مع ذلك خائفاً ومقصراً. وكذلك إن
عباد الله العارفين وأولياءه المختصين به الذين فتح لهم باباً من سرّ القَدر، واستنارت قلوبهم
بنور [261] المعرفة، لارتجفت قلوبهم من الخوف، ونفوسهم من الخشية، بحيث لو اتجهت
إليهم الكمالات كلها، وأعطوا مفاتيح المعارف كلها، وأُترعت قلوبهم بالتجلّيات، لما قلّ
من خوفهم قدر ذرة، ولا من خشيتهم قدر شعرة، كما يقول أحدهم: الناس تخاف النهاية
وأنا أخاف البداية. سُبْحَان الله وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، أعوذ بالله تعالى. يعلم الله يجب
أن يتقطع قلب الإنسان من هذا الكلام، ويذوب خوفاً، ويهيم على وجهه في البراري فإلى
أيّ حدّ يكون الإنسان غافلاً؟ ثم أنه سبق منا في شرح أحد الأحاديث السابقة وقلنا بأننا
في كل عبادتنا وطاعتنا إنّما نريد مصالحنا الخاصة، ودافِعُنا إليها هو حبّ النفس. وما الزهد
في الدنيا في الحقيقة إلاّ من أجل الآخرة. وهو أشبه بالزهد في الدنيا من أجل الدنيا عند
الأحرار. فلو ذهبنا بعبادة الثقلين إلى محضر قدسه الربوبي، لما كان استحقاقنا سوى البعد
عن ساحته المقدسة. لقد دعانا الحق تبارك وتعالى إلى مقام قربه وأُنسه. قال:"وَخَلَقْتُكَ
لأَجْلِي"وجعل غاية الخلق معرفته، وهدانا إلى طرق المعارف والعبودية، ولكننا مع هذا لم
نشغل أنفسنا إلاّ بتعمير البطن والفرج، ولا همَّ لنا سوى الأنانية وحب الذات. فيا أيها
الإِنسان المسكين، الذي لم تجنِ من عبادتك ومناسكك إلاّ البعد عن ساحة الله المقدسة،
والاستحقاق للعتاب والعقاب، علامَ اعتمادك؟ ولماذا لا يقلقك ولا يزعجك الخوف من
شدة بأس الحق؟ أعندك متكأ تتكئ عليه؟ أتثق بعملك وتطمئن إليه؟ إذا كان الأمر كذلك
فالويل لك من معرفتك بحالك وحال مالك الملوك! وإذا كان اعتمادك على فضل الحق
وسعة رحمته وشمول عناية ذاته المقدس، لكان ذلك في محلّه جدّاً. لقد اعتمدت على أمر
وثيق، ولجأت إلى أوثق ملجأ. إلهي، وربي! إن أيدينا عن كل شيء قاصرة، ونحن عارفون
بأننا ناقصون وتافهون، ولا نملك ما يليق بأعتاب قدسك. كلنا نقص وعيب. ظاهرنا
وباطننا ملوث بالمهالك والموبقات. فمن نحن حتى نرجو القدرة على الثناء عليك، فيما
يعترف الولي من أوليائك قائلاً:"أَفَبِلِسَانِي الكالّ هذَا أَشْكُرُكَ!"مقراً بعجزه وقصوره،
فكيف بنا نحن أهل المعصية المحجوبين عن ساحة كبريائك؟ ما عسانا نقول سوى [262]
أن نحرك ألسنتنا قائلين: إن رجائنا موكول إلى رحمتك، وأن أملنا وثقتنا بفضلك ومغفرتك
وجودك وكرمك، كما على ألسنة أوليائك. في الكافي، بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه
السلام قال:"قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم: قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:{لاَ يَتَّكِلُ
العَامِلُونَ لِي عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَها لِثَوابِي، فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَهَدُوا وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ -
أعمارَهُمْ - في عِبَادَتِي كَانُوا مُقَصِّرِينَ غَيْرَ بالِغَينَ فِي عِبَادَتِهِمْ كُنْهَ عِبَادَتِي فِيمَا يَطْلُبُونَ
عِنْدِي مِنْ كَرَامَتِي وَالنَّعِيمِ فِي جَنّاتِي وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ العُلَى فِي جِوارِي، وَلكِنْ بِرَحْمَتِي
فَلْيَثِقُوا، وَفَضْلِي فَلْيَرْجُوا، وَإِلَى حُسْنِ الظَّنِ بِي فَلْيَطْمَئِنُّوا، فَإِنَّ رَحْمَتِي عِنْدَ ذلِكَ
تُدْرِكُهُمْ، وَمِنّي يُبْلِّغُهُمْ رِضْوانِي، وَمَغْفِرَتِي تُلْبِسُهُمْ عَفْوي، فَإِنِّي أَنَا الله الرّحْمنُ الرَّحيمُ،
وَبِذلِكَ تَسَمّيْتُ}( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب حسن الظن
بالله، ح 1 ) . ومن أسباب الخوف أيضاً التفكر في شدة بأس الله تعالى، وفي دقة سلوك
طريق الآخرة، والأخطار التي تحيط بالإنسان في حياته وعند موته، وشاقّ البرزخ، ويوم
القيامة، ومناقشــات الحساب والميزان، مع ملاحظة الآيات والأخبار التي تنبئ عمّا وعد
الله تعالى عباده، مما يُحيـى كامل الأمل والرجاء. لقد جاء في الأحاديث، أن الحق تعالى
يبسط يوم القيامة بساط رحمته بصورة يطمع حتى الشيطان بالمغفرة منه. وأن الحق سبحانه
لم ينظر إلى هذا العالم منذ تكوينه وخلقه، نظرة لطف كما ورد في الرواية وأنه سبحانه
وتعالى لم يبعث إلى هذا العالم رحمته إلاَّ بمقدار ذرة بالنسبـة إلى العوالم الأخرى، هذه
الذرة قد بعثت على إحاطة النِعم الإلهية، وألطافه ورحمته وغفرانه، بالجميع من جميع
جوانبهم، وأن الظاهر من النعم والباطن منها تعتبر مائدة نِعم الله تبارك وتعالى وعطاياه التي
لا يقدر العالم برمّته على الإِحاطة بجزء منها، فكيف إذاً بنعمه سبحانه في عالم هو عالم
كرامته، ودار ضيافته، وموضع رحمته، حيث يبسط رحيميته ورحمانيته؟ فيحقّ للشيطان أن
يطمع في نيل رحمة الله، ويرجو عطيته! إذاً، فأكمل حسن ظنك بالله وثق بفضله {إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}(الزمر/ 53 ) . فالله يغرق الجميع في بحر جوده وكرمه، والله لا
يخلف وعده، وإن كان الخلف في الوعيد مكن، كثيراً ما يقع [263] فعلاً. فليستبشر
قلبك برحمته التامة. ولولا شمولك برحمته الواسعة لما كنت قد خلقت، فكل مخلوق مرحوم:
{وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ}( مقتبس من آية 156 في سورة الأعراف ). فصل في الفرق
بين الرجاء والغرور ولكن أيها العزيز كن على حذر، لئلا تخلط بين الرجاء والغرور. فقد
تكون مغتراً وتحسب نفسك من أهل الرجاء. إن من السهل التمييز بين الحالين في مباديهما.
أنظر إلى هذه الحال التي فيك والتي تظن نفسك بها بأنّك من أهل الرجاء. فهي إمّا أن
تكون ناشئة من التهاون في أوامر الحق سبحانه والتقليل منها، وإمّا أن تكون ناجمة عن
الاعتقاد بسعة رحمة الله وعظمة ذاته المقدسة. وإذا عسر عليك التمييز بينهما أيضاً، أمكنك
التمييز من خلال الآثار. فإذا كان الإحساس بعظمة الله في القلب، وكان قلب المؤمن محاطاً
برحمة ذاته المقدسة وعطاياه، لقام القلب بواجب العبودية والطاعة. لأن تعظيم العظيم المُنعم
وعبادته من الأمور الفطرية التي لا خلاف فيها. وإذا لم تكن في أداء واجبات العبودية، وفي
بذل الجُهد والجدّ في الطاعة والعبادة، معتمداً على أعمالك، ولم تحسب لها حساباً، وكنت
آملاً رحمة الله وفضله وعطائه، ووجدت نفسك مستحقاً للّوم والذم والسخط والغضب
بسبب أعمالك، ولم تعتمد إلاّ على رحمة الجواد المطلق، فأنت من أهل الرجاء. فاشكر الله
تبارك وتعالى، واطلب من ذاته المقدسة أن يثبّت ذلك في قلبك، ويمنحك أعلى منه مقاماً.
أما إذا كنت - لا سمح الله - متهاوناً في أوامر الحق تعالى ومستحقراً ومستهيناً لتعاليمه،
فاعلم أنه الغرور الحاصل في قلبك وأنه من مكائد الشيطان، ومن نفسك الأمّارة بالسوء.
فلو آمنت بسعة الله ورحمته وعظمته. لظهر أثر ذلك فيك. إن [264] المدعي الذي
يخالف عمله دعواه يكذب نفسه بنفسه. والشواهد على هذا في الأحاديث المعتبرة كثيراً.
ففي الكافي بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ عليه السّلام
قالَ:"قُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ يَعْمَلُونَ بِالمَعَاصِي وَيَقولُونَ نَرْجُو فَلاَ يَزَالونَ كَذلِكَ حَتّى يَأْتِيَهُمُ
المَوْتُ. فقَالَ: هؤُلاَءِ قَوْمٌ يَتَرَجَّحُونَ فِي الأَمَانِي. كَذَّبُوا لَيْسُوا بِرَاجِينَ، إِنَّ مَنْ رَجَا شَيْئاً
طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر،
باب الخوف والرجاء ح 5 و ح 11 ) . وبهذا المضمون رواية أخرى في كتاب الكافي
الشريف: وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الحُسَيْنِ بْنِ أَبِي سَارَةَ قَالَ:"سَمِعْتُ أَبَا عَبْداللَّهِ عليه السّلام
يَقُولُ: لاَ يَكُونُ المُؤْمِنُ مُؤْمِناً َحَتّى يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً وَلاَ يَكُونَ خَائِفاً رَاجِياً حَتّى يَكُونَ
عَامِلاً لِمَا يَخَافُ وَيَرْجُو"(أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الخوف
والرجاء ح 5 و ح 11) . قال بعضهم: إنّ مَثَلَ من لا يعمل وينتظر رحمة ربه ويرجو
رضوانه مَثَلُ من يرجو المسبِّب دون أن يُعِدَّ الأسباب، وَمَثَلُ الفلاّح الذي ينتظر الزرع من
دون أن يبذر الأرض أو يهتم بها وبإروائها أو يقضي على موانع الزرع. إن مثل هذا
الانتظار لا يسمى بالرجاء، بل هو بله وحماقة. وإن مَثَلُ من لم يُصلح أخلاقه أو لم يبتعد
عن المعاضي فينهض بأعمال راجياً تزكية نفسه، مَثَلُ من يودع البذر في أراضي سبخة،
ومن الواضح أن هذا الزرع لا يثمر النتيجة المتوخاة. فالرجاء المستحسن والمحبوب هو تهيأة
كافة الأسباب التي يمتلكها الإنسان كما أمر الله بها واستغلالها حسب القدرة التي زوده بها
الحق المتعال بعنايته الكاملة، وحسب هدايته - عز وجل - إياه إلى طرق الصلاح والفساد،
ثم ينتظر ويرجو الحق المتعال أن يتمّ عنايته السابقة تجاه الأسباب التي وفّرها من قبل،
ويحقق الأسباب التي لا تدخل تحت إرادته واختياره من بعد، ويزيل الموانع والمفاسد. فإذا
نظف العبد قلبه من أشواك الأخلاق الفاسدة وأحجار الموبقات [265] وسباختها، وبذر
فيها بذور الأعمال، وسقاها بماء العلم الصافي النافع والإيمان الخالص، وخلصها من
المفسدات والموانع مثل العجب والرياء وأمثالها التي تعد بمثابة الأعشاب الضارة العائقة لنمو
الزرع، ثم انتظر ربه المتعالي ورجاه أن يثبّته على الحق، ويجعل عاقبة أمره إلى خير، كان هذا
الرجاء مستحسناً. كما يقول الحق المتعالي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ}(البقرة/ 218 ). فصل في سبب تعادل الخوف
والرجاء ورد في نهاية هذا الحديث الشريف - الحديث الرابع عشر - أنه لا بد من تعادل
الخوف والرجاء وعدم تفوق أحدهما على الآخر، كما ورد هذا المضمون في مرسلة ابن
أبي عمير عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً. إن الإنسان عندما يدرك منتهى قصوره في
النهوض بالعبودية، ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة، يتولد فيه الخوف بأعلى درجة،
وعندما يجد ذنوبه ويفكر في أناس كانت عاقبة أمرهم الموت من دون إيمان وعمل صالح،
رغم حسن أحوالهم في بدء الأمر ولكنهم انتهوا إلى سوء العاقبة، يشتدّ فيه الخوف. ففي
الحديث الشريف في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: قال:"المُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبِ
قَدْ مَضَى لاَ يَدْرِي مَا صَنَعَ اللَّهُ فِيهِ وَعُمْرٍ قَدْ بَقِيَ لاَ يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ مِنَ المَهَالِكِ
فَهُوَ لاَ يُصْبحُ إلاّ خَائِفاً وَلاَ يُصْلِحُهُ إلاّ الخَوْفُ"(أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب الخوف والرجاء، ح 12). ونقل الكافي في حديث آخر عن الإمام - عليه
السلام - خطبة عن رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلم - بهذا المضمون. وعلى أي حال
يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحق في منتهى العظمة والجلال،
وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين [266] النظرتين دائماً في حال متوازية بين
الخوف والرجاء. وحيث أن الأسماء الجلالية والجمالية تتجليان في قلب السالك متعادلة لا
يترجح كل من الخوف والرجاء على الآخر. وقال ( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف
والرجاء ص355) بعض أن الخوف في بعض الأحيان أنفع للإنسان مثل أيام الصحة
والعافية، حتى يجهد الإنسان نفسه في كسب الكمال والعمل الصالح. وفي بعض الأحيان
الرجاء أفضل مثل أيام ظهور علامات الموت، حتى يلاقي الإنسان الحق المتعالي مع حال
مفضلة أكثر عنده سبحانه -. ولكن هذا الكلام لا يتطابق مع الكلمات السابقة
والأحاديث المذكورة، لأن الرجاء المحبوب يدفع الإنسان أيضاً نحو العمل واكتساب الآخرة،
والخوف من الحق سبحانه محبوب لديه - عز وجل - ولا يتنافى مع الرجاء المؤكد. وقال
بعضهم ( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص 355) أن الخوف لا يعتبر من
الفضائل النفسية والكمالات العقلية في عالم الآخرة وإنما يعدّ من الأمور النافعة في دار الدنيا
التي هي دار العمل، حيث يحرص الإنسان على فعل العبادات وترك المعاصي وينتهي دوره
بعد الخروج من هذه الدنيا. في حين أن الرجاء لا ينقطع ويستمر حتى في عالم الآخرة. لأن
العبد كلما نال رحمة الله أكثر، ازداد طعمه نحو فضل الحق المتعالي أكثر، لأن خزائن رحمة
الحق الجليل لا تتناهى. فالخوف ينقطع بالموت ويبقى الرجاء حتى إلى ما بعد الموت. يقول
( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص 355 ) المحدث المحقق المجلسي - رحمه
الله تعالى-"والحق أن العبد ما دام في دار التكليف لا بد له من الخوف والرجاء وبعد
مشاهدة أمور الآخرة يغلب عليه أحدهما لا محالة بحسب ما يشاهده من أحوالها". يقول
الكاتب: إن ما قيل من غلبة الخوف والرجاء في عالم الآخرة، لا يتلاءم مع ما ذكر من
معنى الرجاء. وعلى فرض صحة الكلام المذكور فهو صحيح بالنسبة إلى المتوسطين حيث
يكون خوفهم ورجاؤهم عائدين إلى الثواب والعقاب. [267] وأما حال الخواصّ
والأولياء فيختلف المر عما ذكروا، لأن الخوف والرجاء الناجمان عن مشاهدة عظمة وجلال
وتجلّي أسماء اللطف والجمال، والحاصلان في القلب لا يزولان بمشاهدة أمور الآخرة. ولا
يترجح أحدهما على الآخر، بل إن آثار الجلال والعظمة وتجليات الجمال واللطف في عالم
الآخرة أكثر، فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحق من اللذائذ الروحانية، ولا يتنافى هذا
مع الآية الكريمة {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(يونس/62). كما
يتبين ذلك بالتمعن في الآية المباركة. وما نقل - قبل أسطر - من أن الخوف ليس بفضيلة
نفسية، ليس هو الخوف من الجلال والعظمة، لأن مثل هذا الخوف يكون كمالاً ومن
صفات الكاملين والمكملين. كما أن خوف غيرهم يكون أكثر. والحمد لله على جماله
وجلاله والصَلاة على محمّد وآله. [269] الحَديـث الخَامِــس عشَــر
"البــــلاء" [270] بِسَنَدِنَا المُتَّصِلِ إلى سُلْطانِ المُحَدِّثينَ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْنيِّ
- رضوان الله عليه - عَنْ عَليِّ بْنِ إبْراهيمَ، عَنْ أبيهِ، عَنْ ابْنِ مَحْبُوب، عَنْ سَماعَةَ، عَنْ
أبي عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام قالَ: إنَّ في كِتاب عَليٍّ عليه السَّلام:"إِنَّ أَشَدّ النّاسِ بَلاءً
النَّبِيُّونَ ثُمَّ الوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ وَإِنَّما يُبْتَلَى المُؤْمِنُ عَلى قَدرِ أَعْمالِهِ الحَسَنَةِ، فَمَنْ
صَحَّ دِينُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، اشْتَدَّ بَلاؤُه وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيا ثَواباً لِمُؤْمِنٍ وَلا
عُقُوبَةً لِكافِرٍ وَمَنْ سَخُفَ دينُهُ وَضَعُفَ عَقْلُهُ، قَلَّ بَلاؤهُ وَإِنَّ البَلاء أسْرَعُ إِلَى المُؤْمِنِ
التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلى قَرارِ الأْرْضِ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر،
باب شدّة ابتلاء المؤمن، ح29 ) . [271] الشرح: قال بعض بأن المقصود من الناس في
أمثال هذا الحديث الشريف، الكاملون من قبيل الأنبياء والأولياء والأوصياء، فإنهم الناس
حقاً. وأمّا عامة الناس فهم النسناس كما ورد في الأحاديث. ولكن لا مرجح لهذا الكلام،
بل المناسب في المقام إرادة عموم البشر وهو واضح تماماً. ويكون - هذا المعنى - مستفاداً
من الأحاديث الموجودة في هذا الباب من كتاب الكافي. وإذا عثرنا في حديث على
كلمة"الناس"وكان المقصود منها الكاملين، فليس ذلك مبرراً لإرادة هذا المعنى من هذه
اللفظة حيثما وردت. إن"البـَلاءَ"هو الاختبار و الامتحان، في الحسن و القبح. كما
صرح بذلك أهل اللغة. يقول الجوهري في الصحاح ( و البلاء الاختبار يكون بالخير
والشر، يقال أبلاه الله بلاءاً حسناً وابتلاه معروفاً ) ويقول الحق المَتعال {بَلاَءً
حَسَنًا}(الأنفال/ 17) وعلى أي حال إن كل ما يمتحن به الحق جل جلاله عباده يدعى
بلاءً أو ابتلاءً سواءً كان بالأمراض والأسقام والفقر والذل وإدبار الدنيا أو بما يقابل هذه
الأمور، كأن يُختبر بكثرة الجاه والاقتدار و المال والمنال و بالزعامة و العزّة و العظمة.
ولكن متى ما ذكر البلاء أو البلية أو الابتلاء بصورة مطلقة انصرف وانسبق إلى الذهن من
اللفظ، البلاء من القسم الأول. [272] و"أَمْـثَلْ"بمعنى أفضل وأشرف يقال: هذا أمثل
من هذا أي أفضل وأدنى إلى الخير. وأماثل الناس، خيارهم. فمعنى"ثـُمَّ الأَمْثَلْ
فَالأَمْثَلُ"هو أن من كان أفضل وأحسن - بعد الأئمة الأوصياء عليهم السلام - فبلاؤه أشدّ
من الآخرين. ومَنْ كان - من غير الفئة المذكورة - أفضل فبلاؤه أكثر من غيره من الناس.
فمراتب الابتلاء على قدر درجات الفضل - عند الله سبحانه -. ولا يوجد مثل هذا التعبير
- الأمثل فالأمثل - في الأدب الفارسي حتى أذكره. والـ"سـُخـْفَ"هو ضعف العقل
وخفته، كما ورد في الصحاح وغيره من الكتب اللغوية. والـ"قَرَارَ"هو المستقر والمكان،
كما يستفاد من معاجم اللغة. وفي - كتاب - قاموس اللغة:"القرار والقرارة ما قُرَّ فيه
والمطمئن من الأرض"ووجه الشبه - بين المؤمن التقي وقرار الأرض - هو أن الأرض محل
الأمطار و مستقرها، حيث تهطل قطرات السماء عليها وتستقر، وكذلك المؤمن حيث
تهجم عليه البلايـا، و تستقر عنده ولا تفارقه. ونحن إن شاء الله سنشرح ما يحتاج إليه
الحديث الشريف في غضون فصول عدّة. فصل في بيان معنى الامتحان وآثاره وكيفية
نسبته إلى الحق المقدس المتعالي اعلم أن النفوس البشرية منذ ظهورها و تعلقها بالأجساد،
وهبوطها إلى عالم المُلُك- عالم المادة - تكون على نحو القوّة - الأهلية والقابلية - تجاه
جميع العلوم والمعارف والملكات - الحالات الراسخة المتمركزة في الإنسان - الحسنة
والسيئة، بل تجاه جميع الإدراكات والفعليّات - الحاضرة التي هي ذات آثار - ثم تتدرج
بعناية الحق - جل جلاله - نحو الفعلية شيئاً فشيئاً، فتبدو أولاً الإدراكات الضعيفة الجزئية
مثل حاسة اللمس والحواس الظاهرية الأخرى الأخسّ فالأخسّ ثم تظهر ثانياً الإدراكات
الباطنية متدرجة أيضاً. ولكن الملكات لا تزال موجودة بالقوة، فإن لم تتأثر بعوامل تفجر
فيها الطاقات الخيرة وتركت لوحدها لانتصرت الخبائث [273] وتحققت الملكات
الفاسدة وانعطفت نحو القبائح والمساوئ، لأن الدواعي الداخلية الباطنية كالشهوة والغضب
وغيرها يسوقان الإنسان إلى الفجور والتعدي والظلم وبعد انقياده لهما يتحوّل في فترة
قصيرة إلى حيوان عجيب وشيطان غريب. ولما كانت عناية الحق تعالى ورحمته قد وسعت
بني الإنسان في الأزل، جعل لهم سبحانه حسب تقدير دقيق نوعين من المربي والمهذب،
بمثابة جناحين يطير بهما من حضيض الجهل والنقص والقباحة والشقاء إلى أوج العلم
والمعرفة والكمال والجمال والسعادة ويحرر نفسه من ضغط ضيق عالم الطبيعة إلى الفضاء
الرحب الملكوتي الأعلى. وهما: المربي الباطني المتجسد في العقل والقدرة على التمييز بين
الحسن والقبح. والمربي الخارجي المتمثل في الأنبياء والأدلاّء لطرق السعادة والشقاء. وكل
منهما لا يؤدي دوره بدون الآخر، إذ أن العقل البشري عاجز عن معرفة طرق السعادة
والشقاء واكتشاف الطريق إلى عالم الغيب، ونشأة الآخرة، كما أن هداية الأنبياء،
وإرشادهم لا تكون مؤثرة بدون إدراك العقل والقدرة على التمييز. فالحق - تبارك وتعالى
- منحنا هذين النوعين من الموجّه لكي نجعل الطاقات المكتنزة والاستعدادات الكامنة في
النفوس تتحرك من القوة إلى الفعلية و الظهور. وقد وهبنا الحق المتعالي هاتين النعمتين
الكبيرتين لنا امتحاناً واختباراً، لأن الإنسان يتميز أفراده بعضهم عن بعض، ويتم الفصل بين
السعيد والشقي والمطيع والعاصي والكامل والناقص كما قال ولي المؤمنين عليه
السلام:"وَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً"( نهج البلاغة. خطبة 16 (
الشيخ صبحي صالح ) ) وفي كتاب الكافي الشريف في باب التمحيص والامتحان عن ابن
أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام:"لاَ بُدَّ للنّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَيُمَيَّزُوا وَيُغَرْبَلُوا
وَيُسْتَخْرَج فِي الغِرْبالِ خـَلـْقٌ كَثيرُ"( أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب
التمحيص و الامتحان، ح2، ح3، ح4) وبـِإسْنادِهِ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِاللهِ
عليه السّلام:"يا مَنْصُورُ إِنَّ هذَا{ [274] الأمْر لا يَأْتيكُمْ إلاّ بَعْدَ إياسٍ وَلا وَاللهِ حَتّى
تُمَيَّزُوا وَلا وَاللهِ حَتّى تُمَحَّصُوا وَلا وَاللهِ حَتّى يَشْقَى مَنْ يَشْقَى وَيَسْعَدَ مَنْ يَسْعَدُ"(
أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب التمحيص و الامتحان، ح2، ح 3، ح4.
) وفي حديث آخر عن أبي الحسن عليه السلام قال:"يـُخـَلـَّصُونَ كَما يُخَلَّصُ
الذَّهَبُ"( أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب التمحيص و الامتحان، ح2،
ح3، ح4) وفي كتاب الكافي الشريف في باب الابتلاء والاختبار بسنده إلى الإمام الصادق
عليه السلام قال:"مـَا مـِنْ قَبْضٍ وَلا بَسْطٍ إلاَّ وَللهِ مَشِيئَةٌ وَقَضاءٌ وَابْتِلاءٌ"(أصول
الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة باب الابتلاء والاختبار، ح1، ح2) و في حديث آخر
عنه عليه السلام قال:"إنـَّهُ لَيْسَ شَيءٌ فيهِ قَبْضٌ أوْ بَسْطٌ مِمّا أمَرَ اللهُ أوْ نَهى عَنْهُ إلاّ
وَفِيهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ ابْتِلاءٌ وَقَضاءٌ"(أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب الابتلاء
والاختبار،ح 1، ح2) و"القـْبـْضُ"في اللغة الإمساك والمنع والأخذ، و"البَسْطُ"بمعنى
النشر والعطاء: فكل عطاء وتوسعة ومنع امتحان للإنسان، كما أن كل أمر ونهي وتكليف
يكون للامتحان أيضاً. فإن بعث الرسل ونشر الكتب السماوية لغربلة الناس، ولفصل
الأشقياء عن السعداء، والمطيعين من العاصيين. ومعنى امتحان الحق المتعالي للناس واختبارهم
هو الفصل الحقيقي الواقعي على صعيد الخارج - للناس بعضهم عن بعض، لا العلم
بالفصل، لأن علم الحق جل جلاله أزلي ومتعلق ومحيط بكل شيء قبل إيجاده. والحكماء قد
أسهبوا الحديث في معنى الابتلاء والامتحان، ولا يتناسب نقله في هذا الكتاب. فنتيجة
الاختبار بصورة مطلقة - ورغم أن الأمرين المذكورين من أهم نتائجه- هو فصل السعيد
عن الشقي على صعيد الخارج الواقعي. وتتم في هذا الامتحان والتمحيص حجة الله على
خلقه أيضاً، وتكون تعاسة وسعادة وهلاك وحياة كل شخص عن حُجّة وبينة، ولا يبقى
لأحد مجال للاعتراض، فمن سعى في طريق السعادة والحياة الأبدية، كان سعيه توفيقاً من
الله وهدايةً له، لأنه سبحانه قد وفر جميع أسباب هذا السبيل. ومن جدّ في طريق [275]
الشقاء ووجه وجّهه نحو الهلاك ومتابعة الهوى والشيطان مع توفر كل طرق الهداية وأسباب
السعادة، فقد اختار بنفسه الهلاك والتعاسة رغم نهوض الحجَة البالغة للحق تبارك وتعالى
على خلاف ما أرتآه {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }(البقرة/ 286 ). فصل
في بيان فلسفة شدّة ابتلاء الأنبياء والأوصياء والمؤمنين اعلم وقد سبق منا الحديث بأن
كل عمل يصدر من الإنسان، بل كل ما يقع منه في عالم مُلك الجسم، وكان مدرَكاً
للنفس، يترك أثراً لدى النفس، من دون فرق بين الأعمال الحسنة أو السيئة، ومن دون فرق
بين أن يكون العمل من نوع الأفراح أو نوع الأتراح. وقد عُبّر عن هذا الأثر في الأخبار
بنقطة بيضاء ونقطة سوداء فمثلاً: إن كل لذة مما يلتذ الإنسان به من المطعومات أو
المشروبات أو المنكوحات أو غيرها، يترك أثراً في النفس، ويحصل تعلقاً ومحبة في عمق
الروح تجاهه - الشيء الذي تمتع فيه - ويزداد توجه النفس إليه. وكلما توغل في اللذائذ
والمشتهيات أكثر، ازداد تعلق النفس وحبّهاً لهذا العالم أكثر. وغدا ركونه واعتماده على
هذا العالم أكبر، فتتربى النفس وترتاض على التعلق بالدنيا. وكلما كانت المتع في ذائقته
أحلى، كانت جذور محبّة الدنيا في قلبه أكثر. وكلما توفرت وسائل العيش والعشرة
والراحة بشكل أوفى، أصبحت دوحة التعلق بالدنيا أقوى وكلما أقبلت النفس على الدنيا
أكثر، كلما كانت غفلته عن الحق وعالم الآخرة أكثر. فإن نفس الإنسان إذا ركنت إلى
الدنيا كلياً وصار توجهها مادياً ودنيوياً، انصرف عن الحق المتعال ودار الكرامة نهائياً و
{أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ }(الأعراف/176 ). فالانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات
يصرف الإنسان إلى حب الدنيا من دون اختيار، وحب الدنيا يوجب النفور عن غيرها،
والإقبال على المُلُك - الماديات - يسبب الغفلة عن الملكوت - عالم الغيب -. وكذلك
العكس فلو أن الإنسان استاء من شيء وشعر ببشاعته، استدعت صورة ذلك الشيء
الكراهية والنفور، وكلما كانت تلك الصورة في النفس أقوى كان النفور والانزجار منها
أكثر. [276] فمثلاً: إذا دخل شخص على بلد وابتلى بأسقام وآلام فيه وعانا من ورائه
مشاكل داخلية وخارجية لكرهه وتنفّر منه وكلما كانت معاناته أكثر كان هروبه ونفوره
منه أكثر وإذا وجد مدينة أفضل منه لأقبل عليها وإن لم يستطع التحرك نحوها، لاشتاق
إليها وتوجّه قلبه نحوها. فالإنسان إذا عاش هموم الدنيا وآلامها وأسقامها ومشاكلها و
عنائها و شعر بأن أمواج الفتن و المحن تزحف نحوه، خفّ تعلقه بها - أي الدنيا - و قل
ركونه إليها و نفر قلبه منها. و إذا اعتقد بوجود عالم آخر، وفضاء رحب فارغ من جميع
أنواع الشقاء و التعاسة، ارتحل إليه. وإذا لم يتمكن من السفر بجسمه لذهب بروحه و بعث
بقلبه إلى ذلك العالم. وواضح جداً أن المفاسد الروحية و الخلقية والسلوكية بأسرها تنجم
عن حب الدنيا والغفلة عن الله سبحانه و عالم الآخرة، و إن حبّ الدنيا رأس كل خطيئة.
في حين أن الصلاح الروحي والخلقي والسلوكي ينبعث من التوجه نحو الحق، ودار الكرامة
- عالم الآخرة - ومن اللامبالاة بالدنيا وعدم الانبهار بزخارفها. إذاً، علمنا من هذا
التمهيد بأن لطف الحق تبارك و تعالى وعنايته كلما شملت لشخص أكثر، ووسعته رحمة
الذات المقدسة بصورة أوفى، كلما أبعد سبحانه عن هذا العالم وزخرفه أكثر، ودفع عنه
أمواج المحن والفتن أكثر، حتى تنقلع رغبته في الدنيا وزركشتها، ووجه وجَّهه حسب
مستوى إيمانه إلى عالم الآخرة وارتبطت روحه بذلك العالم. وإن لم تكن جدوى من
احتمال شدائد المحن إلاّ هذه الجهة - الانزجار والإعراض عن الدنيا والإقبال نحو الآخرة -
لوحدها، لكفى. وفي الأحاديث الشريفة إشارة إلى هذا المعنى: محمّدُ بْنِ يَعْقُوب بِإسْنادِهِ
عَنْ أبِي جَعْفَرٍ عليه السلام قالَ:"إنَّ الله تَعالَى لَيَتَعاهَدَ المؤمِنَ بالْبَلاءِ كَما يَتَعاهَدُ الرَّجُلُ
أهْلَهُ بِالهَدِيَّةَ مِنَ الغَيبَةِ وَيحْمِيهِ الدُّنْيا كَما يَحْمِي الطَّبيبُ الْمَريضَ"( أصول الكافي، المجلد
الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح17) [277] ونقل هذا المعنى في
حديث آخر. ولا يحسبن أحد إن محبة الحق وشدة عناية ذاته الأقدس، لبعض عباده جزاف
ومن دون جهة - والعياذ بالله - بل كل خطوة يخطوها مؤمن وعبد من عباده، غمرته
رحمة الحق المتعالي وأقبل على عبده قدر ذراع. إن مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ
إنسان قد حمل مصباحاً وسلك طريقاً مظلماً فكلما تقدم خطوة، أضاء أمامه واهتدى
للخطوة اللاحقة. فكلما رفع الإنسان قدماً نحو عالم الآخرة، اتضح السبيل أكثر، وغمرته
عنايات الحق بصورة أكبر، وتوفرت عوامل التوجه إلى عالم القرب - الآخرة - والانزعاج
عن عالم البعد - الدنيا -. والعنايات الأزلية للحق المتعالي إنما تسع الأنبياء والأولياء لعلمه
- سبحانه - الأزلي بطاعتهم أيام التكليف. كما أنكم لو علمتم أيام طفولة ولديكم بأن
أحدهما سيطيعكم ويسعى في تأمين رضاكم وثانيهما يبعث على سخطكم وامتعاضكم،
فمن المعلوم أن ألطافكم ستشمل المطيع أكثر من الثاني منذ الأيام الأولى. ومن فوائد شدّة
ابتلاء الخواص من العباد، أن هؤلاء من خلال المحن والمعاناة يذكرون الحق ويناجونه.
ويتضرّعون على أعتابه المقدسة في ساحة ذاته الأقدس ويعيشون مع ذكره وفكره. ومن
الطبيعي أن نوع بني الإنسان يتشبث حين الشدة بكل ما يرجو فيه النجاة، وعند الرخاء
والراحة يغفل عنه. ولما كان الخواص من العباد، لا يعرفون ملجأً إلا الحق، توجهوا نحوه،
وانقطعوا إلى مقامه المقدس، وإن الحق المتعال يوفر لهم سبب الانقطاع إليه من خلال عنايته
الخاصة بهم. ولا تستساغ هذه الفائدة - من الابتلاء - وحتى الفائدة السابقة، لدى الأنبياء
والأولياء الكُمَّـلين، لتنزّه مقامهم الشامخ عن ذلك، وعدم انعطاف قلوبهم تجاه الدنيا، ولا
تتبدل في الانقطاع إلى الحق من جراء تغيّر الأحوال. ويمكن أن يكون إيثار الأنبياء والأولياء
للفقر على الغنى، والابتلاء على الراحة، والمعاناة على غيرها نتيجة أنهم وقفوا من خلال
النور الباطني والمكاشفات [278] الروحانية على أن الحق المتعالي لا ينظر بعين اللطف إلى
هذا العالم ولا إلى زخارفه، ولا يكون للدنيا وما فيها موقع أمام ساحته المقدسة إلاّ الذل
والهوان. والأحاديث الشريفة شاهدة على ذلك. ففي الحديث أن جبرائيل قد نزل على
رسول الله صلّى الله عليه وأله وسلم ومعه مفاتيح خزائن الأرض وقال لو اخترتها لما هبط
من درجاتك الأخروية، شيء أبدا. ولكن رسول الله صلّى الله عليه وأله وسلم قد امتنع عن
القبول تواضعا للحق سبحانه، واختار الفقر. وفي الكافي الشريف في حديث بسنده عن
الإمام الصادق عليه السلام:"إنَّ الكَافِرَ لَيَهُونُ عَلَى اللهِ لَوْ سَأَلَهُ الدُّنْيَا بِمَا فيها أَعْطَاهُ
ذلِكَ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح
28 ) وذلك من جرّاء هوان الدنيا في عين الحق الكبير المتعالي. وفي حديث أن الحق جل
وعلا منذ أن خلق العالم المادي لم ينظر إليه نظرة لطف وعناية. ومن فوائد شدة ابتلاء
المؤمنين حسب ما أشير إليها في الأخبار، أن لهم درجات لا ينالونها إلاّ من وراء المصائب
والأسقام والآلام. ويحتمل أن تكون هذه الفوائد صورة - غيبية - للإعراض عن الدنيا
والإقبال على الحق المتعالي. ويمكن أن تكون صورة ملكوتية لهذه المحن حيث لا تبلغ إلا بعد
حصولها -البليّات - في عالم المُلك وابتلاء الإنسان بها، كما ورد في الحديث الشريف
المأثور في الكافي بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام قال:"إِنَّهُ لَيَكُونُ لِلْعَبْدِ مَنْزِلَةُ عِنْدَ
اللهِ فَمَا يَنالُها إِلاّ بِإِحْدَى الخَصْلَتَيْنِ إمّا بِذَهابِ مالِ أوْ بِبَلِيَّةٍ في جَسَدِهِ"( أصول الكافي،
المجلد الثاني، كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمـن،ح23 وح3 ). وفي رواية
شهادة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام أنه رأى جده رسول الله صلّى الله عليه وآله
وسلم في المنام وأخبره بـ {أَنَّ لَكَ دَرَجَةً فِي الجَنَّةِ لاَ تَنَالُهَا إِلاَّ بِالشَّهَادَةِ}( بحار الأنوار،
المجلد 67، ص250) ومن المعلوم أن الصورة الملكوتية للشهادة في سبيل الله لم تحصل إلا
بعد وقوع الشهادة في عالم الملك - عالمنا الحاضر- كما برهن على ذلك في العلوم
[279] العالية. وورد في الأخبار المذكورة أن لكل عمل في هذا العالم صورة في عالم
آخر. وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال:"إِنَّ عَظيمَ الأَجْرِ لَمَعَ عَظيمِ البلاءِ
وَما أحَبَّ اللهُ قَوْماً إِلاَّ ابْتَلاهُمْ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب
شدة ابتلاء المؤمن، ح23 وح3). فصل الأنبياء مبرؤون من العيوب الجسدية
يقول المحدث الكبير المجلسي - عليه الرحمة - ( في هذه الأحاديث - أحاديث ابتلاء الأنبياء
- الواردة من طرق الخاصة والعامة، دلالة واضحة على أن الأنبياء والأوصياء عليهم السلام
في الأمراض الحسية والبلايا الجسمية كغيرهم بل هم أولى بها من الغير تعظيماً لأجرهم
الذي يوجب التفاضل في الدرجات ولا يقدح ذلك في رتبتهم بل هو تثبيت لأمرهم وأنهم
بشر إذ لو لم يصبهم ما أصاب سائر البشر مع ما يظهر في أيديهم من خرق العادة لقيل
فيهم ما قالت النصارى في نبيهم ) انتهى ( بحار الأنوار، المجلد67، ص250). وقال المحقق
المدقق الطوسي والحكيم العظيم القدوسي - عطّر الله مرقده - في كتاب التجريد في بحث
ما يجب كونه فـي كل نبي (... وكلما ينفر عنه الخلق... )( بحار الأنوار، المجلد67،
ص250). وقال علامة علماء الإسلام - رضوان الله عليـه - في شـرح هذه الجمـلة
وأن يكون منزهاً عن الأمراض المنفّرة نحو الأُنبَة وسلس الريح والجذام والبرص لأن ذلك
كله مما ينفر عنه فيكون منافياً للغرض من البعثة)( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح23 وح3 ). يقول الكاتب: إن درجة النبوة و إن كانت
تابعة للكمالات النفسية و الدرجات الروحانية، و لا علاقة لها بالجسم. و أن النقائص
الجسمانية و أمراضها لا تسيء إلى [280] المقام الروحاني للأنبياء. و أن الأمراض المنفرة
لا تقلل شيئاً من علو شأنهم وعظمة رتبتهم، إن لم تؤكد كمالاتهم و تدعم درجاتهم،
كما أشير إليها. ولكن ما ألمح إليه المحققان لا يخلو عن وجه، لأن عوام الناس لا يفرقون
بين المقامات - الجسمية والروحية - ويحسبون أن النقص الجسماني نتيجة النقص
الروحاني أو ملازم له، ويعتبرون أن من عناية الحق سبحانه أن لا يصيب الأنبياء
أصحاب الشريعة والمبعوثين بالرسالة، بأمراض تسبب نفرة الطباع واستيحاش الناس.
فعدم ابتلائهم لا يكون نتيجة أن هذه المصائب والبلايا تحط من مقام النبوة، بل لأجل
فائدة هي إكمال التبليغ والإرشاد. وعليه لا مانع من ابتلاء بعض الأنبياء الذين لم يحظوا
بالشريعة، وابتلاء الأولياء الكبار والمؤمنين بمثل هذه المحن. كما أن النبي أيوب والمؤمن
حبيب النجار مبتليين. وقد وردت أحاديث كثيرة في ابتلاء النبي أيوب عليه السلام:
فمن ذلك ما روي عن تفسير علي بن إبراهيم، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله عليه
السلام في حديث طويل قال:"فَسَلَّطَهُ عَلى بَدَنِهِ ما خَلا عَقْلَهُ وَعَيْنَيْهِ فَنَفَخَ فِيهِ إبْلِيسُ
فَصارَ قُرْحَةً واحِدَةً مِنْ قَرْنِه إِلى قَدَمِهِ فَبَقِيَ في ذلِكَ دَهْرَاً طَويلاً يَحْمَدُ اللهَ وَيَشْكُرُهُ
حَتّى وَقَعَ في بَدَنِهِ الدُّودُ وَكانَتْ تَخْرُجُ مِنْ بَدَنِهِ فَيَرُدُّها وَيَقُولُ لَها ارْجِعي إلى مَوْضِعِكِ
الَّذي خَلَقَكِ اللهُ مِنْهُ وَنَتَنَ حَتّى أخْرَجَهُ أهْلُ القَرْيَةِ مِنَ القَرْيَةِ وَألْقوْهُ في المَزْبَلَةِ خارِجَ
القَرْيَةِ"( بحر الأنوار، ح12، ص 342 ) . وفي الكافي بإسْنَادِهِ عَنْ أبي بَصيرٍ، عَنْ أبـي
عَبْدِ الله عليـه السلام قالَ:"قُلْتُ لَهُ: فَإذا قَرَأْتَ القرآنَ فَاستَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطان
الرَّجيمِ * إنّه ليسَ لَهُ سُلْطانٌ على الّذين آمنوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فَقَال:"يا أَبَا
مُحَمَّدٍ يُسَلَّطُ وَاللهِ مِنَ المُؤْمِنِ عَلى بَدَنِهِ وَلا يُسَلَّطُ عَلى دِينِه، قَدْ سُلِّطَ عَلى أيُّوبَ فَشَوِّهَ
خَلْقَهُ وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلى دِينِه وَقَدْ يُسَلَّطْ مِنَ المُؤْمِنينَ عَلى أَبْدانِهِمْ وَلا يُسَلَّطُ عَلى دِينِهِم"(
روضة الكافي ص 288 ح 433) وبـِإسـْنادِهِ عَنْ نَاجيَةَ قَالَ:"قُلْتُ لأبي جَعْفَرٍ عليه
السلام: إنَّ المُغيرَةَ يَقُولُ: إنَّ المُؤْمِنَ لا يُبْتَلى بِالْجُذام وَلا باِلبَرَص وَلا بكَذا ولاَ بِكَذا،
فَقالَ: إنْ كانَ لَغافِلاً عَنْ [281] صاحِبِ ياسِينَ إنَّهُ كانَ مُكَنَّعاً - ثُمَّ رَدَّ أصابِعَهُ فَقالَ:
كَأنّي أنْظُرُ إلى تَكْنِيعِه، أتاهُمْ فَأَنْذَرهُمْ ثُمَّ عادَ إِلَيْهمْ مِنَ الغَدِ، فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ المُؤْمِنَ
يُبْتَلى بِكُلِّ بَلِيَّةٍ وَيَمُوتُ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ إِلا أنَّهُ لا يَقْتُلُ نَفْسَهُ"( أصول الكافي، المجلد الثاني،
كتاب الإيمان و الكفر، باب شدة ابتلاء المؤمن، ح12) إن"صاحب ياسين"هو حبيب
النجار و"التكنيع"مع النون كما هو في أكثر النسخ بمعنى التشنج والمُثلة كما في البحار.
قال المجلسي"كأنّه كان الجذام سبباً لتكنيع أصابعه"( بحار الأنوار، المجلد 67 ص 250)
وفي هذا الكلام تأمل. ويستفاد من هذه الأحاديث والروايات الأخرى أن الأنبياء والمؤمنين
قد يصابون بأمراض منفرة لأجل بعض المصالح. وتقابل هذه الأخبار، أحاديث أخرى تنفي
تشويه جسم النبي أيوب عليه السلام بسبب الأمراض، وانبعاث الرائحة الكريهة من جسده
المبارك. ولا جدوى في الجمع بين هذه الروايات وإطالة البحث فيها. وملخص الحديث أن
مثل هذه الأمراض لا تسيء إلى المؤمنين ولا تعدّ نقصاً لهم ولا للأنبياء عليهم السلام بل
تبعث على رفعة درجتهم وعلو شأنهم والله تعالى أعلم بالصوّاب. فصل في بيان أن الدنيا
ليست محلا لثواب الحق المتعالي و عقابه اعلم أن هذا العالم الدنيوي لما فيه من النقص
والقصور والضعف لا يكون دار كرامة ولا محلاً لثواب الحق سبحانه ولا محلاًّ لعذابه
وعقابه، لأن دار كرامة الحق عز وجل عالم تكون نعمه خالصة وغير مشوبة بالنقم، وراحته
غير مخلوطة بالشقاء والتعب، ومثل هذه النعم غير متوفرة في هذا العالم، لأنه دار التزاحم
والصراع. وإن كل نعمة من نعم هذا العالم محفوفة بأنواع من العذاب والآلام والمحن. بل
قال الحكماء أن لذّات هذا العالم هي دفع للآلام ونستطيع أن نقول [282] إن لذّاته
تبعث على الآلام لأن إثر كل لذّة، شقاء ونصب وألم، بل إن مادة هذا العالم تتمرّد على
قبول الرحمة الخالصة والنعمة المحضة غير المشوبة بالمكاره. وهكذا العذاب والشقاء والألم
والتعب في هذا العالم لا يكون خالصاً، بل يكون كل ألم وتعب محفوفاً بنعمة أو نعم، وكل
واحد من الآلام والأسقام والشقاء والمحن في هذا العالم لا يكون محضاً وغير مشوب بنعمة
ورحمة: فإن مادّة هذا العالم تتمرّد على قبول العذاب الخالص المطلق. إن دار عذاب الحق
سبحانه ودار عقابه، دار فيها العذاب المحض والعقاب الخالص، وأن آلامها وأسقامها لا
تضاهى بآلام وأسقام هذا العالم كأن يمس العذاب عضواً دون عضو، أو يكون عضو سالماً
وفي راحة والآخر في تعب وشقاء. وقد أشير إلى بعض ما ذكرنا في الحديث الشريف الذي
شرحناه عندما يقول:"وَذِلكَ - السبب في ابتلاء المؤمن بالبليات - أنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلِ
الدُّنْيا ثَواباً لِمُؤْمِنٍ وَلا عُقُوبَةً لِكافِرٍ"هنا - عالم الدنيا - دار تكليف، ومزرعة الآخرة،
وعالم الكسب. وهناك - عالم الآخرة - دار جزاء ومكافأة وثواب وعقاب. إن الذين
يتوقعون من الحق سبحانه أن ينتقم في هذا العالم من كل مرتكب معصية أو فاحشة أو جور
أو اعتداء، بأن يضع - عز وجل - حدّاً له، فيقطع يده ويقلع العاصي من الوجود إنهم
غافلون بأن مثل هذا العقاب خلاف النظم والسُّنَّة الإِلهية التي أقرّها الله سبحانه. إن هذه
الدار، دار امتحان وتفريق بين الشقي والسعيد والمطيع والعاصي، وعالم ظهور الفعاليات
وليس بدار تبيّن نتائج الأعمال والملكات. وإذا انتقم الحق المتعالي من ظالم نادراً، لأمكننا
القول بأن عناية الحق عز وجل شملته. وإذا ترك أهل الموبقات والظلم في ضلالهم وغيّهم،
كان ذلك استدراجاً. كما يقول الله سبحانه: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ،وَأُمْلِي
لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}(القلم/ 44-45 ). [283] ويقول: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}(آل
عمران/178). وفي مجمع البيان عن الصادق عليه السلام أنه قال:"إِذا أحْدَثَ الْعَبْدُ ذَنْباً
جُدِّدَ لَهُ نِعْمَةٌ فَيَدَعُ الاستغفارَ فَهُوَ الاستدراجُ"( مجمع البيان، المجلد الخامس، ص 340 )
. فصل أن شدة المعاناة الروحية توازي شدة الإدراك يظهر من نهاية الحديث الشريف
- المذكور في بداية الموضوع -"وَمَنْ سَخُفَ دينُه وَضَعُفَ عَقْلَهُ، قَلَّ بَلاؤُهُ"إن البليـّة
تعمّ الجسمانية والروحانية، فإن الأشخاص الضعاف في عقولهم وإدراكهم في أمان من
المعاناة الروحية والانزعاجات العقلية، على خلاف من يتمتع بالعقل الكامل والإدراك[A1]
الحذق، حيث تزداد معاناته ومصائبه. ومن المحتمل أن يعود إلى هذا المعنى كلام الرسول
صلّى الله عليه وأله وسلم القائل:"مـَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أوذيتُ"( الجامع الصغير، المجلد
الثاني، ص 144 ) لأن كل من يدرك جلال الربّ وعظمته أكثر، ويقف على المقام
المقدس للحق جل وعلا بشكل أعمق، يتألم ويتعذّب من جراء عصيان العباد وهتكهم
للحرمة أكثر. وأيضاً كل من كانت رحمته وعنايته وشفقته على عباد الله أكثر، تأذَّى من
اعوجاج العباد وشقائهم أكثر. وقطعاً كان خاتم النبيين صلّى الله عليه وأله وسلم في كل
هذه المقامات والمنازل الكمالية، أكمل من جميع النبيين والأولياء وبني الإنسان فتكون محنه
وآلامه أعمق. وأيضاً هناك توجيه آخر - لكلام الرسول صلّى الله عليه وأله وسلم - لا
يتناسب مع هذا المقام. والله العالم ولـَهُ الحمد. [285] الحَديث السَـادسِ عشـَر
"الصَّـبر" [286] بِأسَانِيدِنَا المُتَّصِلَةِ إِلى ثِقَةِ الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ، فَخْرِ الطَائِفَةِ الحَقَّةِ
وَمُقَدَّمِهِمْ مُحَمَّد بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيّ _ رضي الله عنه _ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعمانِ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْكانَ، عَنْ أَبِي
بَصِير قَالَ:"سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللهِ عليه السّلام يَقُولُ: إنَّ الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، إِنْ
نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا، وَإِنْ تَدَاكَّتْ عَلَيْهِ المَصَائِبُ لَمْ تَكْسِرْهُ، وَإِنْ أُسِرَ وَقُهِرَ، وَاسْتُبْدِلَ
بِاليُسْر عُسْراً، كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدّيقُ الأمينُ لَمْ يُضْرِرْ حُرِيَّتَهُ أَنِ استُعْبِدَ وَقَهُرَ، وَأُسِرَ
وَلَمْ تُضْرِرْهُ ظُلْمَةُ الجُبِّ وَوَحْشَتُهُ وَمَا نَالَهُ أنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ الجَبَّارَ العَاتِيَ لَهَ عَبْداً
بَعْدَ إِذْ كَانِ [ لَهُ ] مَالِكاً، فَأَرْسَلَهُ وَرَحِمَ بِهِ أُمَّةً وَكَذلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً فَاصْبِرُوا
وَوَطِّنُوا أنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر،
باب الصبر، ح 6 ). [287] الشرح: إن الـ"نَائِبَةُ"مفرد وجمعها نوائب وهي الحوادث
والكوارث النازلة. وفي الصحاح أنها المصيبة. و"دَكَّ"بمعنى دقّ. وفي الصحاح: ( وقد
دككت الشيء أدكَّه دكاً إذا ضربته وكسرته حتى سويته بالأرض. انتهى ). وتداكّت عليه
أي تداقت واستعملت أيضاً بمعنى الاجتماع والازدحام. كما نقل عن
كتاب"النهاية"حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام "ثـُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكُكُ
الإِبِلِ الهيم عَلَى حِيَاضِهَا"(نهاية ابن الأثير، المجلد الثاني، ص 128 ) أي ازدحمتم. ونقل
عن النهاية أيضاً أن أصل دكَّ بمعنى الكسر وأن استعماله في هذا الحديـث بالمعنـى الأول
- الاجتماع - أنسب لمكان"لم تكسره"وان كان المعنى الثاني - الكسر - أيضاً مناسباً.
وكلمة ( إن ) في"وَإِنْ أُسِرَ"وصلية وقوله"وَقَهَرَ وَاسْتَبْدَلَ"معطوفان على"أُسر". وقال
المجلسي رحمه الله أن في بعض النسخ"واستبدل بالعسر يسراً"- بتقديم العسر على اليسر -
وعليه تكون جملة (واستبدل ) معطوفة على"لـَمْ تَكْسِرْهُ"فيتبين بذلك منتهى الصبر.
وجملة"أَن اسْتُعْبِدَ"مبني على المفعول وفاعل لقوله"لم يضرر". وفي نسخة مرآة
العقول"استبعد"بتقديم الباء على العين المهملة. وفي كتاب وسائل
الشيعة"استعبد"بتقديم العين على الباء، ولكن المظنون أن نسخة مرآة العقول من سهو
الكاتب وان كان معناه - استبعد - لا يخلو عن الصحة. ولكن المناسب مع المقام ومع
الحديث الشريف هو ما ورد في نسخة وسائل الشيعة. [288] وقوله"وَمَا نَالَهُ"معطوف
على ظلمة الجـُبّ أي لم يضرره ما ناله من إخوته ومن ظلمة الجُبّ والوحشة
والبليّات. وقوله"أن مـَنَّ الله"الأظهر أنه بتقدير إلى - حرف الجر - ومتعلق بـ"لم
تضرر"( فالظرف متعلق بلم يُضرر في الموضعين - ما ناله وأن استعبد - على سبيل
التنازع )( بحار الأنوار، المجلد 71، ص70 ). وأورد المرحوم المجلسي احتمالات كثيرة
في ذلك - أن منّ الله ولم تُضرر - لا يخلو ذكرها عن التطويل ( بحار الأنوار، المجلد
71، ص70 ). والمقصود من قوله"عبداً بعد إذ كان مالكاً"أنه أطاعه. فصل في بيان
أن أسر الشهوة مصدرٌ لكل أسر اعلم أن الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة
والميول النفسية، كان رقُّه وعبوديته وذلته بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه،
ومعنى العبودية لشخص هو الخضوع التام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات
المقهور للنفس الأمارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلما توحي هذه السلطات بشيء أطاعها
الإنسان في منتهى الخضوع، ويغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة،
ويبلغ الأمر إلى مستوىً يفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها
على عبودية مالك الملوك الحقيقي، وفي هذا الحال تزول عن نفسه العزة والكرامة
والحرية ويحل محلّها الذل والهوان والعبودية، ويخضع لأهل الدنيا، وينحني قلبه أمامهما
وأمام ذوي الجاه والحشمة، ويتحمل لأجل البلوغ إلى شهواته النفسية الذل والمنّة،
ويستسيغ لأجل الترفيه عن البطن والفرج الهوان، ولا يتضايق من اقتراف ما فيه خلاف
الشرف والفتوة والحرية عندما يكون أسيراً لهوى النفس والشهوة. وينقلب إلى أداة
طيّعة أمام كل صالح وطالح، ويقبل امتنان كل وضيع عنده لمجرد احتمال نيل ما يبتغيه
حتى إذا كان ذلك الشخص أحط وأتفه إنسان، وذلك الاحتمال موهوماً، حيث
يزعمون أن الوهم في دائرة الأطماع حجة. [289] إن عبيد الدنيا وعبيد الرغبات
الذاتية، والذين رسن عبودية الميول النفسية في رقابهم، يعبدون كل من يعلمون أن لديه
الدنيا أو يحتملون أنه من ذوي الدنيا، ويخضعون له، وإذا تحدثوا عن التعفف وكبر
النفس كان حديثهم تدليساً محضاً، وأن أعمالهم أقوالهم تكذّب حديثهم عن عفة النفس
ومناعتها. وهذا الأسر والرق من الأمور التي تجعل الإنسان دائماً في المذلّة والعذاب
والنَصَب. ويجب على الإنسان ذي النبل والكرامة أن يلتجأ إلى كل وسيلة لتطهير نفسه
منها. ويتم التطهير من هذه القذارات، والتحرير من كل خفّة وهوان، بمعالجة النفس،
وهي لا تكون إلا بواسطة العلم والعمل الناجع. أما العمل فيكون بالرياضة الشرعية
وبمخالفة النفس فترة يتم فيها الوازع للنفس تجاه حبها المفرط للدنيا والشهوات والأهواء
حتى تتعوّد النفس على الخيرات والكمالات. وأما العلم فيتم بتلقين النفس وإبلاغ
القلب: بأن الناس الآخرين يضاهونه في الفقر والضعف والحاجة والعجز، وأنهم يشبهونه
أيضاً في الاحتياج إلى الغنيّ المطلق القادر على جميع الأمور الجزئية والكلية، وأنهم غير
قادرين على إنجاز حاجة أحد أبداً، وأنهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم، ويخشع
القلب أمامهم، وان القادر الذي منحهم العزة والشرف والمال والوجاهة، قادر على
المنح لكل أحد. ومن العار حقيقة على الإنسان أن يتذلّل وينحطّ في سبيل بطنه وشهوته،
ويتحمل الامتنان من مخلوق فقير ذليل لا حول له ولا علم ولا وعي. إذا أردت - أيها
الإنسان - أن تقبل المنّة فلتكن من الغني المطلق وخالق السماوات والأرض، فإنك إذا
وجهت وجهك إلى الذات المقدسة، وخشع في محضره قلبك تحرّرت من العالَمين - ما
سوى الله - وخلعت من رقبتك طوق العبودية."العـُبُوديَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُبُوبِيَّةُ "(
مصباح الشريعة، الباب المائة، في حقيقة العبودية). ونتيجةً لعبودية الحق والانتباه إلى
نقطة واحدة مركزية، وإفناء كل القوى [290] والسلطات - النفس وأهوائها - في
السلطة الإلهية المطلقة، تنجم حالة في القلب تقهر العوالم الأخرى ويستولي عليها، وتظهر
للروح حالة من الشموخ والعظمة تأبى الطاعة إلا أمام الرب سبحانه وأمام من تكون
طاعتهم طاعة ذات الحق المقدس، وإذا كان من جراء الظروف الطارئة محكوماً لأحد،
لما تزلزل قلبه منه ولحافظ على حرية نفسه واستقلالها، كما كان الشأن في النبي يوسف
ولقمان حيث لم تنعكس سلباً عبوديتهما الظاهرية على حرية وانطلاقة نفسيهما. كم من
أصحاب القدرة والسلطة الظاهرية لم يستنشقوا نسمة حرية النفس الشخصية والاعتداد
بها ويكونون أذلاء وعبيداً للنفس وأهوائها، ويتزلفون نحو المخلوق التافه؟. نقل عن
الإمام علي بن الحسين عليه السّلام أنه قال في حديث"إنّي لآنّفُ أنْ أطْـلُبَ الدُّنْيَا مِنْ
خَالِقِهَا فَكَيْفَ مِنْ مَخْلُوقٍ مِثْلِي"( علل الشرائع، المجلد الأول، باب 165، العلة التي من
أجلها سمي علي بن الحسين زين العابدين ). أيها العزيز إن لم تشعر بالنقص في طلب
الدنيا، فعلى الأقل لا تطلبها من إنسان ضعيف مثلك. وافهم بأنه لا حول للمخلوق في
أعمال دنياك. فلو فرضنا بأنك استطعت مع الذل والامتنان المتكرر أن تكسب رأي
الإنسان الذي تطلب منه إعمار دنياك فان رأيه وإرادته لا تكون فاعلة في مُلك الحق
سبحانه. إذ لا يوجد أحد يتصرف في مملكة مالك الملوك. فلا تتملق لتأمين حياتك
الدنيوية المعدودة، وشهواتك المحدودة، تجاه مخلوق معدم. ولا تغفل عن إلهك، وحافظ
على حريتك، وارفع أغلال العبودية والأسر عن رقبتك، وكن حراً في جميع حالاتك كما
ورد في الحديث الشريف"إن الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَميعِ أَحْوَالِهِ". واعلم أن الغِنى - غنى
النفس - وأن عدم الحاجة من حالات الروح، وغير مرتبطة بأمور خارجة عن الإنسان.
وإنني رأيت أناساً من أهل الثراء والمال والجاه يتفوهون بكلمات يندي لها الجبين ولا
يقولها المستجدي المتهتك. انه المسكين الذي ضُربت على روحه الذلة والمسكنة. [291]
إن شعب اليهود بالنسبة إلى عددهم يعدّون من أغنى الشعوب القاطنين على ظهر
الأرض كافة ولكنهم يعيشون طيلة حياتهم في الشقاء والتعاسة والشدة والهوان، وتبدو
على ملامحهم الحاجة والفقر والذل المسكنة، ولا يكون ذلك الأمن وراء الفقر النفسي
والذل الروحي. ورأينا في أصحاب الزهد وذوي الحياة البسيطة - الدراوشة - أشخاصاً
قلوبهم مفعمة بالغنى والكفاف، ويلقون نظرة اللامبالاة على الدنيا وكل ما فيها، ولا
يجدون أحداً أهلاً الاستنجاد به إلا الحق المقدس المتعالي . وأنت أيضاً تمعّن وابحث في
أحوال أهل الدنيا وذوي الرغبة في الرئاسة، كي ترى ذلهم وتزلفهم وخضوعهم أمام
الناس أكثر من الآخرين . إن أدعياء الإِرشاد والتوجيه، يتحملون الذل بعد الذل
ويبدون الخضوع اثر الخضوع في سبيل ترفيه بطونهم وفروجهم. إن خضوع الحالة
القلبية للمراد - المربِّي - الطالب للدنيا، تجاه المُريد - المُربَّى- أكثر من خضوع قلب
المُريد تجاه المُراد، رغم البون الشاسع بين نوعية الإرادتين. فإن إرادة المريد روحانية
وآلهية حتى إذا كان على خطأ واشتباه - من جهة متعلق الإرادة - في حين أن إرادة
المراد دنيوية وشيطانية. إن ما ذكرناه بأسره، هو الذل الدنيوي والمفاسد الدنيوية. فإذا
ارتفعت الحجب تتجلى الصورة الملكوتية للأسر في أغلال الشهـوات، وسلاسل
الرغبات النفسانية وأنها كيف تكون؟. ولعل هذه السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً والتي
أخبر عنها الله تعالى والتي تكون أصفادَاً وأغلالاً لنا في يوم الآخرة هي الصورة الملكوتية لهذا
الأسر والرق في ظل أوامر القوة الشهويّة والغضبية. يقول الله تعالى {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِرًا }(الكهف/ 49 ). ويقول {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } (البقرة/ 286
). فما يصل إلينا في ذلك العالم هو صور أعمالنا. فلذلك مزّق سلاسل الشهوة والأهواء
المتعرجة بعضها على بعض، وحطم أصفاد القلب، وأُخْرج من قيود الأسر، وكن حراً في
هذا العالم، حتى تكون حراً في ذلك العالم. ولولا ذلك [292] لوجدت الصورة الملكوتية
لهذا الأسر حاضرة في ذلك العالم، واعلم بأنها مؤلمة جداً. إن أولياء الله رغم تحررهم التام
من الأسر والرق، وبلوغهم الحرية المطلقة فإن قلوبهم كانت مضطربة وكانوا يجزعون
وينحبون بدرجة تثير دهشة العقول. فصل ( أسر الشهوة أساس البلاء ) إن أبحاث هذه
الأوراق وان كانت من الأمور الرائجة الشائعة ومن المكـررات، ولكن لا بأس في ذلك
فإن تذكير النفس وتكرار قول الحق، أمر مطلوب. ولهذا يستحب تكرار الأذكار
والأوراد والعبادات والمناسك. والسبب الرئيسي هو تعويد النفس وترويضها. فلا
تضجر عزيزي من التكرار. واعلم أنه ما دام الإنسان يرزح في قيود النفس والشهوات،
وما دامت سلاسل الشهوة والغضب الطويلة على رقبته لا يستطيع أن يبلغ المقامات
المعنوية والروحانية، ولا تظهر فيه السلطة الباطنية للنفس وإرادتها الثاقبة، ولا يحصل له
مقام استقلال النفس وعزّتها، الذي هو أرقى مقام لكمال الروح، بل إن هذا الأسر
والرق يقيّده ولا يسمح له بالتمرّد على النفس في جميع الأحوال. ولما قويت هيمنة
النفس الأمارة والشيطان في الباطن، وانقادت القوى جميعها لهما في العبودية والطاعة
وأبدت لهما الخضوع والتسليم التامّين، لما اقتصرتا على المعاصي بل دفعتا بالإنسان من
المعاصي الصغيرة رويداً رويداً إلى المعاصي الكبيرة، ومنها إلى ضعف في العقائد ثم إلى
الأفكار المظلمة ثم إلى الطريق المغلق للجحود ثم إلى بغض وعداوة الأنبياء والأولياء.
وحيث إن النفس مضطهدة وتعيش حالة الرق، لا تستطيع أن تخرج على رغباتها. وعليه
تكون عاقبة أمر الطاعة والتقيّد - للنفس الأمارة - وخيمة جداً، وستدفع بالإنسان إلى
أماكن خطيرة ومخيفة. إن الإنسان العاقل الروؤف بنفسه لا بد له من السعي واللجوء
إلى كل سبيل لإنقاذ نفسه من الأسر، والنهوض أمام النفس الأمارة والشيطان الباطني،
ما دامت الفرصة سانحة، وقواه الجسدية سالمة وما دام أنه على قيد الحياة وفي صحة
موفورة [293] وفتوّة موجودة، وأن قواه لم تتسخر كلياً، ثم يراقب حياته فترة من
الوقت، ويتأمل في أحوال نفسه وأحوال الماضين، ويتمعن في سوء عاقبة بعضهم. ويُفهم
نفسه أن هذه الأيام القليلة، تبلى، ويوقظ قلبه ويفهمه الحقيقة التالية المنقولة عن الرسول
الأكرم - صلّى الله عليه وسلم - حيث خاطبنا قائلاً:"الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ"( إحياء
العلوم للغزالي، المجلد الرابع، ص14. كنوز الحقائق ( المطبوع على هامش كتاب الجامع
الصغير ) ج1 ص133 ). فلو إننا لم نزرع في هذه الأيام المعدودة، ولم نعمل عملاً صالحاً،
لفاتتنا الفرصة، وإذا غشينا الموت، وحلّ العالم الأخر، لانقطعت أعمالنا جميعاً وذهبت آمالنا
نهائياً. وإذا جاء ملك الموت ونحن لا نزال عبيد الشهوات وأسارى قيود أهواء النفس
المتشعبة - والعياذ بالله - لكان من الممكن للشيطان أن يسرق إيماننا الذي هو غايته
القصوى وأن يحتال ويتراءى أمام قلبنا بصورة نخرج من الدنيا ونحن أعداء الحق المتعالي
والأنبياء والأولياء. والله سبحانه يعرف ماذا وراء هذا الحجاب من الشقاوات والظلمات
والوحشة؟. فيا أيتها النفس الدنيئة ويا أيها القلب الساهي استيقظا وأنهضا أمام هذا
العدو الذي ألجمكما منذ سنين وربطكما بأغلال الأسر وقادكما إلى كل جهة حيث
يريد، ودفع بكما إلى كل عمل قبيح وسلوك بشع وأجبركما عليه. وحطّما هذه القيود،
وكسَّرا هذه السلاسل، وكن أيها الإنسان حراً، وادفع عن نفسك الذل والهوان، وضع
في رقبتك طوق العبودية للحق - جلّ وجلاله - حتى تتحرر من كل عبودية وترقى إلى
السلطة الإلهية في العالمين. أيها العزيز على الرغم من أن هذا العالم ليس بدار الجزاء
والمكافأة وليس بمحل لظهور سلطة الحق المتعالي، وإنما هو سجن المؤمن، فلو تحررت من
أسر النفس، وأصبحت عبداً للحق المتعالي، وجعلت القلب موحداً، وأجليت مرآة
روحك من غبار النفاق والأثنينيّة، وأرسلت قلبك إلى النقطة المركزية للكمال المطلق،
لشاهدت بعينك آثار ذلك في هذا العالم، ولتوسع قلبك بقدر يغدو محلاً لظهور السلطنة
التامة الإلهية حيث تصير مساحتها أوسع من جميع العوالم"لاَ يَسعُني [294] أَرْضِي وَلاَ
سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِن"( غوالي اللئاليء، المجلد الرابع، ص7) ولشعرت
غنى واضحاً في النفس، حيث لم تعبأ بكل العوالم الغيبية والمادية، ولأصبحت إرادتك