العودة   منتديات أنا شيعـي العالمية منتديات أنا شيعي العالمية منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام

منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام المنتدى مخصص بسيرة أهل البيت عليهم السلام وصحابتهم الطيبين

إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 11  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 03:52 PM


الإمام علي (ع) وروح المبادرة


من صفات العظماء والقادة والزعماء امتلاكهم لروح المبادرة في فعل الخير، والمسارعة لاغتنام الفرص، والمسابقة إلى الخيرات والأعمال الصالحة.

فالمبادرة سر من أسرار النجاح والتفوق، وعنوان للتقدم والرقي في مدارج الكمال، وخطوة نحو تحقيق الإنجاز على مختلف الصُعُد والمستويات. وكما أن المبادرة ضرورية في صناعة النجاح للأفراد؛ كذلك هي مهمة لصناعة النجاح للمجتمعات الإنسانية.

ولأهمية صفة المبادرة في تقدم الأفراد والمجتمعات أشار القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى هذه الصفة، بألفاظ مختلفة كالمسارعة والمسابقة، قال تعالى: {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}(1) ويقول تعالى: { فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ }(2) فعلى الإنسان ـ كما المجتمع ـ أن يبادر إلى فعل الخير، واغتنام الفرص، والمسارعة في إتيان الأعمال الصالحة.

والمبادرة صفة من الصفات البارزة في شخصية الإمام علي (ع)، فقد كان المبادر إلى كل خير.

فهو أول من أسلم ...

وأول من أعلن نصرته لرسول الله (ص)...

وأول من ضرب بالسيف في سبيل الله تعالى ...

وأول من كان يعلن استعداده للتضحية عندما يطلب الرسول الأعظم (ص)، ذلك من أصحابه...

وأول من جاهد وهاجر بعد رسول الله ...

وكان الإمام علي (ع) كثيراً ما يوصي أصحابه بالمبادرة في فعل الخير، إذ يقول (( بادروا بالأعمال عُمُراً ناكساً، ومرضاً حابساً، أو موتاً خالساً ))(3) وقال (ع) أيضاُ: (( بادروا آجالكم بأعمالكم، فإنكم مرتهنون بما أسلفتم، ومدينون بما قدمتم )) (4) وقال (ع) أيضاً: (( بادروا بعمل الخير قبل أن تشتغلوا عنه بغيره )) (5) فعلى الإنسان أن يكون مبادراً قبل أن يفقد القدرة على فعل المبادرة بفعل الأمراض أو الشيخوخة أو الأشغال المختلفة أو العوائق التي تعيق قدرته على القيام بمبادرات في طريق الخير والصلاح.

وكي يتحلى الفرد يروح المبادرة عليه أن يثق بنفسه، ويكون شجاعاً في اتخاذ القرار، ويغتنم الوقت من دون أي تأخير، وإلا فإن ( التواني إضاعة ) (6) كما قال الإمام علي (ع)، كما أن التأخير قد يمنع الإنسان من الإقدام على فعل الخير، ولذلك قال الإمام الباقر(ع): ((من هَمَّ بشيء من الخير فليعجله، فإن كل شيء فيه تأخير، فإن للشيطان فيه نظرة)) (7) فمن أراد النجاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، فعليه بالمبادرة والمسارعة في فعل الخيرات.

وكما أن المبادرة مهمة في حياة الفرد ومستقبله، كذلك هي ضرورية جداً في حياة المجتمعات ومستقبلها، وكما يتفاوت الأفراد في مدى الاستعداد للمبادرة كذلك هي المجتمعات البشرية، فنجد أن مجتمعاً ما تكثر فيه المبادرات الخيرية في مختلف المجالات، في حين تفتقر بعض المجتمعات إلى روح المبادرة.

وكلما تحلى المجتمع بصفة المبادرة كلما كان أكثر تقدماً وتطوراً، أما المجتمع الذي يفتقد روح المبادرة فتراه متخلفاً وفي القائمة الأخيرة في قياس التقدم والتطور.

إن مجتمعنا اليوم أحوج ما يكون إلى تعميق صفة المبادرة فيه، وتشجيع الناس على امتلاك روح المبادرة، فكل مجتمع يعاني من نواقص ونقاط ضعف في بنيته الاجتماعية، ولا يمكن معالجة ذلك إلا بقيام المجتمع بمبادرات إيجابية لمعالجة ذلك؛ بل ولصنع التقدم الاجتماعي، وتنمية المجتمع في مختلف أبعاده ومفاصله الرئيسة.

أما الاكتفاء بالكلام دون العمل، وبالنقد دون الفعل، وباجترار المشاكل دور السعي إلى حلها، فهذا ما يوبخ عليه القرآن الكريم من يتحلى بهذه الصفات، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (8)

والإمام علي في أكثر من موقع يوبخ أصحابه الذين يكثرون من الكلام في المجالس ولكنهم لا يفعلون شيئاً لتغيير الواقع، يقول (ع): (( كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، تقولون في المجالس كًيْت وكًيْت، فإذا جاء القتال قلتم حٍيْدٍيْ حَيَاد !! )) (9)

وفي موضع آخر بوبخ الإمام علي (ع) أصحابه الذين لا يبادرون إلى الجهاد، ويتسلحون بالأعذار لتبرير تقاعسهم عن روح المبادرة، يقول (ع): ((فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى، يُغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تَغزون، ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارَّةُ القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القُر أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً ًمن الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون؛ فإذا أنتم والله من السيف أفر )) (10) .

وهكذا ما ترك مجتمع من المجتمعات روح المبادرة في أي شيء من شؤون الحياة إلا كان متأخراً ومهزوماً ومتخلفاً. واليوم إذا ما أردنا أن نتقدم بمجتمعنا، وأن ننهض بأمتنا، فعلينا كأفراد وكمجتمع أن نبادر إلى فعل الخيرات؛ وإلا فإن الكلام وحده لا يصنع التقدم، والتضجر والتذمر من الواقع لا يغير فيه شيئاً، بينما المسارعة والمبادرة إلى فعل الخيرات هو طريق التقدم، وعنوان النجاح.

فلنقتدِ بإمامنا الإمام علي (ع) في التحلي بصفة المبادرة في فعل الخير، وعندها سنتقدم كأفراد، وسيتقدم المجتمع أيضاً.


ــــــــــــــ

الهوامش:

1 ـ سورة آل عمران: الآية 114.

2 ـ سورة البقرة: الآية 148.

3 ـ نهج البلاغة، ص 56، خطبة رقم 230.

4 ـ نهج البلاغة، ص 419، خطبة رقم 190

5 ـ بحار الأنوار، ج68، ص 215، رقم 15.

6 ـ ميزان الحكمة، ج6، ص2705، رقم 17676.

7 ـ الوسائل، ج1، ص113، رقم282.

8 ـ سورة الصف: الآيتان 2 و3.

9 - نهج البلاغة، ص128، رقم الخطبة 29.

10 ـ نهج البلاغة، ص 124، رقم الخطبة 27.


توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 12  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 03:53 PM


الإمام علي كما عرفه المفكرون


تنشأ الحضارات وتبني الأمجاد، لتدور دورتها الكاملة وفقا لقانون البدايات والنهايات، فلكل شيء بداية ونهاية تبدأ فتية وتستمر إلى ان تصل لشيخوخة الحضارة، ومن ثما موت الحضارة ولا يبقى منها إلا أطلال بالية، هنا وهناك تذكر بالماضي العريق المضمحل، فهي بدأت لتنتهي لأنها مادية شأنها شأن المادة تتكون من جزيئات وذرات ثم تنتهي ،هل يعني ذلك ان قانون البدايات والنهايات مهيمن على كل الحضارات، وما هو الموروث الحضاري الذي لا ينتهي ؟؟

لم تأت حضارة شاملة في التاريخ ككل كالحضارة الإسلامية، تلك الحضارة التي لها بداية وليس لها نهاية (( فالدين عند الله الإسلام )) وما عند الله باق لا ينتهي، فبدايته منذ ان خلق الله الأرض ومن عليها ومنذ ان أراد ان يجعل فيها خليفة، واستمرت البدايات مع ركب الأنبياء عليهم السلام ،لتصل لخاتم الأنبياء الذي أكمل الله الإسلام به وبعلي عليه السلام، فهما من شجرة واحدة (( ياعلي أنا وأنت من شجرة واحدة أنا أصلها وأنت فرعها والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن من أغصانها أدخله الله تعالى الجنة )1

ولقد سبر المفكرون أغوار التاريخ الإسلامي، بحثا عن النموذج الأسمى الذي يمثل الإسلام بكل أبعاده، فلم يجدوا إلا علي ولو بحثوا وبحثوا ليطول بهم الزمن، فلن يجدوا غير علي الذي يمثل الإسلام بكل صوره، فالحضارة الإسلامية تجسدت فيه فهو أمة وحضارة في رجل، وكيف لا وهو الوصي والولي بأمر من الله (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ))2 أنستكثر على أمير المؤمنين هذه المنزلة وقد شهدت بفضله الأمم بكل انتماءاتها وطوائفها، فالإمام عليه السلام يعتبر مدرسة فكرية وعلمية وأخلاقية كان لها الفضل فيما أضفته بظلالها الورافه على الحضارات الإنسانية .

لندع العقاد ليحدثنا عما يجول بفكره عن الإمام علي عليه السلام قائلا (( في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ، ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما إتجه إليه الخطاب البليغ في سير الأبطال والعظماء ، وتثير في أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقع العبرة والتأمل ))3

نعم ففي كل ناحية من النفوس هناك علي عليه السلام وفي كل علم تجد علي ولم يشأ العقاد ان يفارق فكره علياً عليه السلام ليعاود التحليق في سماء علي وآنا له الإحاطة بكل أبعادها قائلا (( وخلاصة ذلك كله ، أن ثقافة الإمام هي ثقافة العلم المفرد ، والقمة العالية بين الجماهير ، في كل مقام وإنها هي ثقافة الفارس المجاهد في سبيل الله ، يداول بين القلم والسيف ، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه ، لأنه بالبأس زاهد في الدنيا ، مقبل على الله ، وبالتقوى زاهد في الدنيا ، مقبل على الله ، فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه ، وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا ، بحثه ونجواه ))4

ولم يتفرد العقاد في التحليق في سماء علي فالإمام سماء يحلق فيها المفكرون بكل طوائفهم فالإمام ليس حكرا على المسلمين فقط فالمفكرون المسيحيون كان لهم نصيب من فكر علي عليه السلام فها هو المفكر والأديب الكبير ميخائيل نعيمة يحدثنا عن الإمام علي عليه السلام قائلاً ((ورأيي أنه من بعد النبي سيد العرب على الإطلاق ( يقصد بذلك أمير المؤمنين عليه السلام ) بلاغة وحكمة وتفهما للدين وتحمسا للحق ، وتساميا عن الدنايا فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلا دانت له اللغة مثلما دانت لأبن أبي طالب ، سواء في عظاته الدينية ، وخطبه الحماسية ، ورسائله التوجيهية أو تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين لحين ، مشحونة بالحكم الزمنية والروحية ، متوهجة ببوارق الأيمان الحي ، ومدركة من الجمال في البيان حد الأعجاز إن عليا لمن عمالقة الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان ))5

وللأديب الكبير جبران خليل جبران حديثا عن كنه روح الإمام علي يقول (( في عقيدتي إن إبن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل ، فتاهوا بين مناهج بلاغته ، وظلمات ماضيهم )) 6

هذا على المستوى العربي الإسلامي والمسيحي ، أما على المستوى غير العربي فسيرة الإمام علي عليه السلام شغلت المفكرون بسحرها فحتى العلماء الغربيين ابو إلا المشاركة في التحليق في سماء علي عليه السلام فهذا الفيلسوف الانجليزي كارليل يقول في علي عليه السلام مقولته الرائعة (( أما علي ، فلا يسعنا إلا ان نحبه ونتعشقه ، فإنه فتى شريف القدر ، عالي النفس ، يفيض وجدانه رحمة وبرا ، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة ، وكان أشجع من ليث ، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة ولطف ورأفة وحنان ))6 وكيف من عرفك لا يحبك يا أمير المؤمنين فهذا العالم عشق الإمام وعبر عن حبه الداخلي له بمجرد ان غاص في فكره الوقاد ، وقد شارك كارليل الباحث الفرنسي البارون كاراديفو بقوله في فروسية وجهادية علي عليه السلام قائلا (( وحارب علي بطلا مغوارا إلى جانب النبي وقام بمآثر معجزات ، ففي موقعة بدر كان علي وهو في العشرين من عمره ، يشطر الفارس القريشي ، شطرين بضربة واحدة من سيفه وفي أحد تسلح بسيف النبي ذي الفقار ، فكان يشق المغافر بضربات سيفه ، ويخرق الدروع ))7

لم يغفل الفلاسفة والمفكرون عن الأجزاء الدقيقة من حياة علي عليه السلام فقد درسوه من عدة أبعاد ولكن في اعتقادي أنهم لن يصلوا لكل الأبعاد فمعرفتهم بعلي عليه السلام معرفة يقصر مداها عن إدراك علم علي وما قالوه هو قطرة في محيط علي عليه السلام فلا يعرف علي إلا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .


--------------------------------------------------------------------------------

(1) المناقب لابن المغازلي

(2) المائدة 55

(3) العقاد

(4) نفس المصدر

(5) جرداق

(6) العقاد

(7) مفكرو الإسلام للبارون كاراديفو




توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 13  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 03:55 PM


الإمام علي والنصارى: وحدة العدل وسعة الأفق... لبناء المجتمعات الإنسانية


*- كيف تعامل الإمام علي (عليه السلام) مع معارضية والطوائف الأخرى..؟؟

*- كيف كان الإمام ينظر إلى خصومه في سوح الحرب؟؟

هل لابد من ضرورة إلى ديباجة أو مدخل؟؟

إذا كانت فلتكن إلى عليّ…ولتكن ركعتان …واحدة:ـ لليد التي امتدت لترعى ذلك الرجل النصراني الكبير بعد ان أنهكنهُ الأيام وسلبته أجمل لحظات الشباب ورونقها ليٌسجل في ديوان بيت المال ويمنح مايسد به رمق العيش..فما دام علي وأبناء علي في الوجود فالعدل والقسط موجود

والثانية:ـ لابتسامة الاحتجاج التي ارتسمت على شفتيّ علي المطعمتين بالصلاة وقداسة الزهد وجوهر التقوى …ابتسامة ارهقتها أماني العراقيين وشغب العرب وعناد المسلمين.

علي بن ابي طالب(عليه السلام)…رجل لم يعرفهُ العرب والمسلمين سوى مولدهِ..وكيف يعاشر السيف،ويعقد مابين حقل ورمح…رجل كان بريئاً من شهوة السلطة الاان يقيم حقاً او يدفع باطلاً..رجل كانت الظروف اكبر من امانيه..كان حريصاً على عدم سفك الدماء..كان ملجماً بالورع والتقوى..ولذلك انتصر خصمهُ في حلبة السياسة التي لاتعرف الرحمة وتعتبر ان الغاية تبرر الوسيلة.

علي بن ابي طالب(عليه السلام)…رجلٌ جمع الكون بكُلْيماتٍ..لإنهُ موقن بان عظمة الله تعالى في معرفتهِ…رجلٌ لم يحاسب أي إنسان بسبب تفكيرهِ أو عقيدتهِ…رجلٌ كان يبكي على أعداءهِ وهو يراهم صرعى مجندلين على الرمضاء وهو يقول:ـ انهم مسلمون؟

رجلٌ تستلم زمام الحكم (وكانت دولتهِ تشمل أكثر من خمسين دولة بجغرافية اليوم، ثلثي الكرة الأرضية كانا تحت سلطته..حيث لم تكن هناك منظمات حقوق الإنسان حتى يتخوف الحاكم من هجوم كاسح لمنظمات حقوق الإنسان عليه. لم تكن توجد دولة أخرى تخيف وتنافس ويلجأ إليها المعارضون لو ضغط عليهم، في هذا الجو وبتلك المقدرة والقوة أصدر الإمام مجموعة من القرارات في خلال فترة زمنية معينة

وبعد أن أصدر أمير المؤمنين (ع) هذه القرارات وبينما كان جالساً في المسجد وإذا به يسمع ضوضاء خارج المسجد، فسأل ما الخبر فقيل له: إن هنالك جمعاً خارجون في يتظاهرون ضد الإمام علي بن أبي طالب (ع). يحتجّون ويعترضون على منعك صلاة التراويح ما الموقف الآن؟

حاكم مطلق، ثلثا الكرة الأرضية تحت سلطته، في أوج قوته ولا توجد منظمات حقوق الإنسان أو أبواق إعلامية أو أي شيء من هذا القبيل هل يعتقل؟ هل يضرب؟ هل يفرق المظاهرة بالقوة؟ الإمام أجاب بكل بساطة: حسناً فليفعلوا ما يحلو لهم.

إذا كان الواجب أن أنهاهم عن المنكر - إلى هذا الحد - من الواجب على الإنسان أن ينهى عن المنكر لكن ما وراء ذلك؟ هل يعجبهم؟ فليفعلوا ما يريدون.

إذاً هذه القيمة من القيم، محرم من المحرمات من جهة ومن جهة ثانية أصالة الحرية الموجودة في الإسلام وقانون الأهم والمهم وملاحظة سائر تبعات القضية، إن الإمام (ع) فسح لهم المجال. إنه كواجب شرعي يجب إبلاغهم بأن ذلك ممنوع ومحرم، لكن لو رفضوا الامثال فلا سجن ولا تعذيب لا تفريق للمظاهرة لا ملاحقة لا قطع للعطاء من بيت المال، بل العكس اتركهم على حريتهم.النماذج على ذلك ليست بقليلة في حياة الرسول الأعظم (ص) وفي حياة أمير المؤمنين (ع).

نموذج آخر: الأشعث بن قيس هذا الرجل الذي ساهم في التخطيط لاغتيال الإمام علي (ع) وبنته جعدة هي التي سمّت الإمام الحسن (ع) وابنه محمد هو الذي شارك في قتل الإمام الحسين (ع) فأية عائلة هذه؟

الأشعث بن قيس - بنى في داره مأذنة، والإمام علي (ع) كان شخصياً يرتقي مأذنة مسجد الكوفة ويؤذن، وهذا مستحب - لأن الأذان هو رمز ارتباط الخلق بالخالق، فالأفضل أن يكون القمة في الكمالات البشرية والروحانية هو ذلك الذي يحمل هذه الرسالة - نحن نتصور أن المؤذن ذو مرتبة دانية، ولكن الأمر بالعكس، فالأمير شخصياً كان يؤذن والأشعث بن قيس بنى في بيته مأذنة وكان يرتقي هذه المأذنة بمجرد أن يعتلي الأمير المأذنة ويبدأ بالهجوم اللاذع والسباب البذيء لأمير المؤمنين، فكيف كان تعامل أمير المؤمنين وهو الحاكم لبلاد المسلمين؟ حيث كان الأشعث يقول في إحدى عباراته: أيها الرجل إنك لكاذب فاجر، وفي مواطن أخرى كان يقول له: إنك لكاذب كافر وهذه تعد أسوأ مسبة في عرف المسلمين خاصة بالنسبة لحاكم المسلمين الأعلى.

والمأذنة في ذلك الوقت بمنزلة الإعلام المسموع في هذا اليوم. وهي تعني الأداة التي توصل صوتك إلى أكبر عدد ممكن من الناس، فكيف تعامل معه أمير المؤمنين (ع)؟ هنا نجد شيئين قيمة الحرية وقيمة ثانية، لا للتعدي.. إذ لا يحق لك أن تجرح شعور الآخرين، مع قطع النظر عن كونه حاكماً بل عن كونه أمير المؤمنين، أنت حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين. بالنتيجة فكما أن لهذا حق، فذلك له الحق أيضاً، وأنا لا يحق لي أن أهاجم كل واحد أو أسب كل واحد، هذه قيمة من القيم لكن كيف تعامل الأمير مع هذا الأمر؟

رجح جانب الحرية على هذا الجانب، الأصحاب يضغطون عليه إذ أنهم لا يتحملون ذلك إنه حاكمهم المحبوب أميرهم وإمامهم، وذلك عبّر عنه الرسول (ص): (يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وغيرها من العبارات المختلفة. قيل له هذا يسب جهاراً وفي وضح النهار ولأيام طويلة، فضغطوا على الأمير لكي يعتقله فرفض الأمير، ضغطوا لكي يمنعه رفض، ضغطوا لكي يهدم مأذنته رفض الإمام وقال: أو ليس قد بناها في داره؟

إذن الحرية قيمة من القيم، الأكثرية قيمة من القيم، العدل والإحسان قيمة من القيم، المحرمات والواجبات كلها قيم مختلفة، هذه القيم ينبغي أن تلاحظ بشكل مجموعي ثم نفرز المحصلة النهائية.

قد تكون القضية في بعض المواطن لصالح الأكثرية أو لصالح الحرية كالأمثلة التي ذكرتها لكم عندما يحدث التعارض حسب قانون الأهم والمهم. وقد يكون أحياناً الأمر لصالح ذلك الجانب الآخر مثل قيمة العدل كنموذج).

عليّ بن ابي طالب(عليه السلام)…رجلٌ مر على خرِبة فقيل لهُ:ـ هذه كنيسة؟..قال:ـ بلى هي كنيسة فقيل لهُ:ـ لكم أُشركَ بالله هاهنا؟فانبرى بأفقه الواسع قائلاً:ـ ولكم عُبدَ الله هاهنا…انتم تنظرون من منظاركم انتم،لا بمنظار اهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل لاجل هذه النظرة تعشقت النصارى بِحُبِ عليّ وابناءُ عليّ وتغزلت بهم وصدحت حناجرُ شعراؤها هاتفة:ـ

يقولون:ـما بال النصارى تُحِبُّهم

واهل النُهى مِن أعرُبٍ وأعاجمِ

فقلت لهم:ـ إني لأحسبُ حبهمُ

سرى في قلوب الخلق حتى البهائمِ



بقراط بن أشوط(الوامق الارميني)

بقراط بن أشوط،الوامق الارميني،النصراني،كبير بطارقة أرمينية في القرن الثالث الهجري،كان عالما بفنون الحرب وشؤونها،وقائداً فذاً في ميادينها،عاش في زمن طاغية بني العباس(المتوكل)الذي منفك يطارد شيعة ومحبيّ أهل البيت(عليهم السلام) يُسمل عيونهم ويقطع أيديهم وأرجلهم ويلصبهم على جذوع النخل،حتى وصل بهِ الأمر إلى هدم قبر الإمام الحسين(عليه السلام)ويضيق الخناق على الإمام علي الهادي(عليه السلام)في أمور يفصلها أصحاب السير والمقاتل فليراجع من احب الاطلاع والزيادة تعشق بقراط بن أشوط بسيرة مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)وانشد فيه الأشعار ضاع منها الكثير سوى ما نقلهُ شيخنا(عبد الحسين الأميني النجفي)في موسوعتهِ الرائعة(الغدير) يصف ابن شهرآشوب بقراط بن أشوط في كتابه(معالم العلماء)بأنهُ:ـ(من مقتصدي المادحين لأهل البيت)واعتقد كما يعتقد الكثيرين من الباحثين ان أحداث أرمينية والاضطرابات التي حصلت كانت نتيجة اعتقال بقراط بن أشوط سنة 237هـ وتسيرهِ مع ولده نعمة إلى المتوكل العباسي كما يذكر ابن الأثير في كامله واليعقوبي في تاريخه يقول بقراط بن أشوط في قصيدته:ـ

أليس بخُمًّ قد أقام محمَّد عليّاً

بإحضار الملا في المواسمِ

فقال لهم:ـمن كنتُ مولاهُ منكُم

فمولاكُمُ بعدي عليّ بنُ فاطمِ

قال:ـإلهي كنْ وليّ وليّهِ وعادِ

أعاديه على رغـــــــــم راغمِ



زينبا بن أسحق الرسعني الموصلي النصراني

بعض المؤرخين يذكر أسمهُ كذا(زبيتا)و(زينبا)وزينب بنت اسحاق..يذكرهُ شيخنا المرحوم(عبد الحسين الاميني النجفي)(طيب الله ثراه الطاهر)في غديره:ـ(ذكر له البيهقي في المحاسن والمساوئ،والزمخشري في ربيع الابرار،وابو حيّان في تفسيره البحر المحيط،وابو العباس القسطلاني في المواهب اللدنية،وأبو عبد الله الزرقاني المالكي في شرح المواهب،والمقري المالكي في نفح الطيب،والشيخ محمد الصبّان في أسعاف الراغبين(ص117) نقلاُ عن إمامهم أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي قولهُ:ـ

عديٌّ وتيمٌ لا أحاول ذِكرَها

بسوءٍ ولكنّي مُحِبٌّ لهاشمِ

وما تعتريني في عليٌّ ورهطِهِ

إذا ذكروا في الله لومة لائمِ

يقولون:ـما بال النصارى تُحِبُّهم

واهل النُهى مِن أعرُبٍ وأعاجمِ

فقلت لهم:ـ إني لأحسبُ حبهمُ

سرى في قلوب الخلق حتى البهائمِ



أبي يعقوب النصراني

ومن النصارى أيضاً أبي يعقوب النصراني الذي يذكره الشيخ عماد الدين الطبري في الجزء الثاني من كتابه(بشارة المصطفى)ويذكر مقطع من قصيدته نقتطف منها هذا البيت:ـ

إني بحبهم أرجو النجاة غدا

والفوزَ معْ زمرةٍ من احسنِ الزُمَرِ



عبد المسيح الإنطاكي المصري

وهو من متأخري النصارى الذين مدحوا الإمام عليّ(عليه السلام)فقد نظم قصيدته العصماء التي بلغت حسبما ذكرهُ شيخنا المرحوم عبد الحسين الاميني النجفي(طيب الله ثراه(5595) نذكر منها قولهُ:

كذا النصارى بحبّ المرتضى شُغِفَت

ألبابُها وشَدت فيهِ أغانيها

فلست تسمع منها غير مدحته الــ

ـغرّاءِ ماذَكَرتهُ في نواديها

فارجع لقُسّانها بين الكنائس مع

رُهبانِها وهي في الاديار تأويِها

إلى آخر القصيدة الجميلة الرائعة واخيرا وليس آخر فقد تحركت قريحة الأستاذ(بولس سلامة)لينظم حبهُ للإمام علي(عليه السلام) شعرا وملحمة اسماها(عيد الغدير)وهي مؤلفة من(3085)بيتاً.ولولا التطول لذكرنا المزيد من شعراء النصارى الذين مدحوا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة وتغزلوا بمولانا الإمام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام).




توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 14  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 03:56 PM




توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 15  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 03:56 PM


لعلّ أبرز ما يميّز عظماء الخلق الحقيقيين ويجعل منهم منارات في معابر التاريخ المظلمة، على اختلاف الموضوعات التي يخوضون عبابها والأحوال التي تسم مجتمعاتهم، هو التماسك في شخصية كل منهم تماسكاً يشبه ما بين عناصر الكون من تماسك، والتكامل في سيرته بين الروح الكلية التي يلازمها وما حوله من واقع الناس وأحوال الزمان والمكان، مما يكسب هذه الشخصية صفة الشمول، والتنّوع في الوحدة، موازية بذلك ما في الكون من شمولية، وما فيه من وحدة لا تنقضها التنوعات الجزئية، وكأن صاحب هذه الشخصية يرى الكون كله في جملة كيانه، ويعمل تلقائياً على أن يعكس ذاته على مجتمع الناس.
نظرة واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي وأحواله، تكفيه لأن يثق بأن للكون نواميس ثابتة بها قام وبها يستمر.
ألقى ابن أبى طالب هذه النظرة على الكون، فوعى وعياً عميقاً ما في أجزائه من تكافؤ وتكامل، وأدرك أن الموجودات المجزّأة في ظاهرها، متفاعلة متكاملة مُوحدة في جوهرها، وأن ما تباعد منها في الزمن الآني مضموم في وحدة طرفاها الأزل والأبد، وأن عناصر الكون جميعاً مترابطة متساندة، وأن حقوقاً افترضت لبعضها على بعض؛ فهزّه ما رأى وما وعى، ومشى في كيانه، فتحركت شفتاه بما جاش في أعماقه وقال: (ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض!).
أما وجوه الحق الذي يشير إليه، فهي ما رآه في نواميس الكون من صدق وعدل وثبات.
وأدرك ابن أبي طالب في أعماق ذاته أن المقايسة تصح بين السماء والأرض اللتين قامتا بالحق، والمجتمع الآدمي الذي لا بد له من أن يكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة وثابتة، وأن البشر لا بد لهم من أن يكونوا متعاونين متكافئين، وأن التعاون والتكافؤ فُرضا عليهم لكي يبقوا ويستمروا، فإذا به يطلق هذا الدستور الاجتماعي الذي ينبثق من دستور الكون الكبير، يقول: (... ثم جعل حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يُستوجب بعضها إلا ببعض).
هذا القول منبثق من إحساس عليّ بالتعادلية التي تكشف عنها حركة الكون الكبير بعناصره جميعاً، والتي لا بدّ من أن تكون في حركة المجتمع الآدمي ليبقى ويستمر، فحقوق العباد في منطق عليّ يكافئ بعضها بعضاً، أو تكون الفوضى ويكون الفساد فالزوال.
عناصر الكون لا تأخذ إلا بمقدار ما تعطي؛ فالزهرة إذا أخذت من أمها الأرض ما يحييها وينميها ويعطيها عبيراً ولوناً، فلسوف تأخذ الأرض من لونها وعطرها بمقدار ما أعطتها، حتى إذا تكامل انعقادها وبلغت نهاية عمرها أسلمت للأرض ساقها وأوراقها فاستعادت الأرض ما كانت قد منحتها إياه.
والبحر لا يستعيد إلى غمره إلا ما سبق له أن نشره في الفضاء من غيوم، وأسقطه على البرّ من أمطار.
وكذلك الإنسان في حياته الخاصة، فهو لا يحظى بنعمة إلا مقابل نعمة يخسرها. وعن هذا التوازن بين أحوال الإنسان الخاصة والناموس الكوني، يقول الإمام علي قولاً أشبه بالقانون الرياضي الذي لا يقبل تعديلاً أو تأويلاً: (لا تُنال نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل المرء يوماً من عمره إلا بفراق آخر ونَفَسُ المرء خطاه إلى أجله).
أما في الحياة العامة، أو الحياة الاجتماعية، فليس في شؤون الإنسان شأن واحد يشذ عن هذا القانون الذي انتزعه الإمام علي من قانون الكون السرمدي؛ فحقك على مجتمعك أن يقوِّم هذا المجتمع ما تعطيه إياه، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيته، أما إذا حصلت من المكافأة على أقل مما أعطيت، فإن نصيبك عند ذاك ذاهب إلى سواك، وأما إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيت، فإن نصيب غيرك ذاهب إليك، وإن سواك من الخلق يجوع بما أكلت، وإنك بذلك غاصب ظالم، ووجود المظلوم والظالم في المجتمع مفسدة له ومنقصة في موازين العدالة الاجتماعية.
من هذا المنطلق عالج الإمام الأعظم علي بن أبي طالب أحوال الجماعة في مكانه وزمانه، فعالج منه أحوال كل الجماعات في كل زمان ومكان.
أدرك علي أن اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم، اللبنة التي إن لم تكن هي الأساس فلن يكون هنالك بناء، هي توفير أسباب العيش للجماعة موزعة توزيعاً عادلاً لا غبن فيه. ومن مبادئه التي تكشف عن هذا الجانب الأهم في معنى العدالة الاجتماعية، المبدأ - الأساس نفسه الذي رآه أحد آباء الإنسانية الكبار الشاعر الفيلسوف جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، أي بعد عصر الإمام بحوالي ألف ومائتي سنة، ليكون المرتكز في بناء المجتمع العادل، والمبدأ - الأساس نفسه الذي اكتشفه فلاسفة الاجتماع بأوروبا في أواسط القرن التاسع عشر، عندما أعلنوا أن كل ما يصيبه المرء من نعمة فائضة عن حاجته، لا يكون إلا مما اقتطع من حق أهل العوز، وأخذه منهم اغتصاباً.
هذا المبدأ – الأساس، حدّده الإمام علي ورسمه بأقوال تنبثق من نظر واحد، وتتلاقى في مفهوم واحد لمعنى (اللبنة الأولى) التي يُبنى عليها المجتمع العادل، ومنها:
(ما رأيت نعمة موفورة - أي زائدة عن الحاجة - إلا وإلى جانبها حق مضّيع).
(ما مُتّع غني إلا بما جاع به فقير).
(امنع من الاحتكار).
(إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة).
(الفقر في الوطن غربة).
على هذا الأساس يرى الإمام أن يُبدأ بناء المجتمع العادل السليم، وعلى أساس الرعاية الصادقة – الأمينة لهذا المبدأ، تعمل السلطة في نهج علي.
وصاحب السلطان في هذا النهج، هو ذاك الذي انتزع له الإمام علي صورة عن نفسه هو؛ إذ قال: (لو فُقِدتْ شاةٌ في الحجاز أو اليمامة، لشعرت بأنني مسؤول عنها إلى يوم القيامة).
لقد كان إحساس علي بمسؤولية السلطان، وبمعناه، إحساس الأنبياء والفلاسفة وكبار الشعراء الذين يحيون مثلاً سامية وأحلاماً وأشواقاً لا يعرفها سواهم. ومن وحي هذا الإحساس العميق تمثل جهد السلطان الذي عليه أن يعمل كل شيء لخير الجماعة، حتى إذا فعل، قال له هذا القول الذي ينزع به عن أسمى المشاعر وأنبل المسالك: (إذا فعلت كل شيء، فكن كمن لم يفعل شيئاً).
ومما أثبته الإمام في سيرته وأقواله جميعاً، أن الولاية لا تكون إلاّ من الجماعة وفي سبيل الجماعة، وأن من ولي أمر الناس محكوم بمبدأ عام هو العمل لصالح الذين ولّوه أمرهم، والمسلك الذي يؤكد لهم أنه أحدهم، وأنه منهم ولهم لا عليهم. قال الإمام يخاطب الناس بعدما اسُتخلف:
(إنما أنا واحد منكم، لي ما لكم وعلي ما عليكم، والحق لا يبطله شيء. إني، والله، ما أحثكم على طاعة إلا أسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا أتناهى قبلكم عنها).
وفي نهجه أن الشورى أولى؛ يقول (من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ)، وأن للجماعة ملء الحق في أن يطالبوا الوالي بـ(ألا يحتجز دونهم سراً ولا يطوي دونهم أمراً) كما يقول. ومما توجه به إلى الولاة، حيث هم من المكان والزمان، قوله الصريح هذا: (إلزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة).
وفي هذا النهج الذي يجعل الجماعة وحدها مصدر السلطة، ويجعل العمل لخير الجماعة غاية هذه السلطة، إرساء لما نسميه اليوم حكم الشعب، أو الديموقراطية.
إذاً، فالمنع من الاحتكار والاستئثار والاستغلال، والحؤول دون حصول النعمة الفائضة عن الحاجة هنا والحرمان هناك، والمساواة المطلقة في ************الحقوق والواجبات، وإباحة الحرية في التعبير والاختيار في كل ميدان، وترسيخ العلاقة السليمة بين الحاكم والمحكوم على أساس هذه المبادئ، ثم تحصين ذلك كله بالخلقية السليمة وبالمحبة والرحمة، هي أبرز النقاط التي يتألف منها نهج الإمام علي، في بناء المجتمع العادل الفاضل.
الإمام علي، عملاق العقل والقلب والضمير، الذي اخترق بعبقريته حدود كل مكان، وكل زمان، والذي وصفه الفيلسوف اللبناني شبلي الشميّل بقوله: (الإمام علي، عظيم العظماء، نسخة مفردة لم ير الشرق لها ولا الغرب صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً.. ).
ليكن فخرنا في غدنا كما هو فخرنا في ماضينا، والنظر إلى الماضي شيء من النظر إلى المستقبل.
ما أجدر أبناء هذا الزمان، في كل أقاليم الأرض، هؤلاء الذين يمعنون في التعبد لصنم – وحش هو المال، وينحرون كل القيم تمجيداً له وتعظيماً، ويقدّمون له الضحايا من بؤساء الأرض أفراداً وشعوباً... ما أجدر هؤلاء بأن يَعشوا إلى النهج السليم العظيم المتمثل بسيرة عملاق العقل والضمير وملجأ المحبة والرحمة والحنان، الإمام الأعظم علي بن أبي طالب، وبكل ما فعله وقاله ودوَّنه، وأن يعوه ويطأطئوا رؤوسهم لصاحبه العظيم.
لقد كان علي بخصائصه جميعاً، وسوف يبقى، في كل عقل قويم، وقلب كريم، ووجدان سليم، ففي كل إنسان حقيقي وسويّ شيء من علي***** لا لقوم ولا لدين هو للناس أجمعين..
الهوامش:
(*)الكلمة التي ألقاها الأديب الكاتب جورج جرداق في (مهرجان الإمام علي بن أبي طالب(ع))، والذي أقيم برعاية (مركز الفردوس للثقافة والإعلام) في السيدة زينب(ع).








توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 16  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 03:58 PM


الإمام علي (ع) وميكافيللي
تشدّد هذه الدراسة على المقارنة بين عملين شهيرين لكل من الإمام علي بن أبي طالب (ع) في عهده لمالك الأشتر، وميكافيللي في كتابه الأمير.

وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة بين العملين، فإنهما يتوفران على نقاط مشتركة جمّة تتيح ترشيحها، بشكل لائق، لمقارنة شاملة. لقد كان الغرض الذي حدا بالإمام علي (ع) إلى كتابة عهده هو الغرض نفسه الذي دعا ميكافيللي لكتابة الأمير: والغرض هو إبداع دليل سياسي لأمير جديد، دليل لعله يكون ذا نفع للقارئ الواعي (1).

وعلى أية حال، فإن الاختلاف الأساسي في المقترب جعل المقارنة أكثر فائدة، لا سيما حين أنتج المقتربان المختلفان، في بعض الأحيان، مواقف متشابهة تجاه قضية معينة، مثل قضية الجيش والمستشارين.

يمكن أن يعزى الاختلاف بين مقترب الإمام علي (ع) الأخلاقي وتعاليم ميكافيللي المتجردة عن الأخلاق إلى الحقبة والظروف اللتين عاش فيهما الإمام علي (ع) وميكافيللي، زيادة على اختلاف طبيعة وشخصية كل منهما، كان الإمام علي(ع) حاكم دولة دينية حيث كان الأمير فيها مجرد ممثل (خليفة) لله، ولا يستطيع أن يعارض حدود إرادته، وقد أُنتخب الإمام علي (ع) لهذا المركز لا لشيء سوى إمكاناته في المحافظة على هذا الدور، ومن جهة أخرى، كان ميكافيللي نتاج نظام اجتماعي وسياسي أفضى به إلى الاقتناع بأن الدين هو العقبة الكأداء التي تحول دون الازدهار السياسي في إيطاليا، وأن السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة سيكون بعودة تامة إلى السياسة الوثنية (2).

عن القسوة

* (ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم) الإمام علي (ع) عهد لمالك الأِشتر

** (يجب على الأمير ألا يأبه بتهمة القسوة ما دام يبقي رعيته متحدة وموالية) ميكافيللي، الأمير

عندما يشار إلى الحكام أن يكونوا حازمين كيما يوفّوا واجبات الحكومة، فإنهم يكونون عرضة لتجاوز حدود العزم والسقوط في القسوة، حيث تترك الإصلاحات وتساق التسويغات لذلك، وبناء على ذلك، يصبح الظلم ناتجا ثانويا للعبة السلطة، ويصل الحال بالمشاركين إلى أن يشددوا على كيفية قيام هذا الظلم بما يفي بالحاجة، وأي ظلم يستحسن كعزم، أو يستنكر كقسوة، كان مقترب ميكافيللي لهذا المأزق مقتربا عمليا بدلا من كونه أخلاقيا، لأن ميكافيللي لم يكترث بالانتهاكات الأخلاقية إذا ما كانت النتيجة نجاحا على المستوى العملي.

فالرغبة في الرحمة غالبا ما تعترضها ضرورة القسوة، ومن هنا يجب على الأمير، طبقا لميكافيللي، أن يتبع الضرورة وليس الرغبة، إذا أراد أن يتجنب دماره، وفي الحقيقة أنه من خلال فعل حالات قليلة جدا، يمكنه أن يكون أكثر رحمة بحق.. لأنه بذلك، يمنع حدوث اضطرابات متى ما أرتكب القتل والسلب، ذلك أن هذه الاضطرابات تسيء إلى مجتمع كامل، في حين تؤثر الإعدامات القليلة في بضعة أفراد فقط (3). تبدو هذه الصياغة مقنعة تماما ما دام المرء ليس من بين البضعة أفراد!

ومن جهة أخرى، ينظر الإمام علي (ع) إلى القضية من زاوية مقابلة، فالأفراد يحظون بالأهمية نفسها بما أنهم أمة مشتركة، وهو لا يعذر مالك الأشتر في الإخلال بحقوقهم، يقول: ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق (4). بهذه العبارة يعيد الإمام علي (ع) تأسيس مبدأ في الفكر السياسي الإسلامي، وهو مسؤولية الحاكم تجاه غير المسلمين (5). يعتقد ميكافيللي بأن القسوة يمكن أن تستخدم بشكل جيد أو سيئ (6)، وهو يؤكد أن القسوة يمكن أن تستخدم بشكل جيد عندما تنجز أفعال القسوة على نحو فوري وبوقت قصير، ولذا فإن الناس يشعرون بحدتها وسرعان ما يتغلبون على مرارتها بفضل المنافع الثانوية، ويجادل ميكافيللي في أنه هو الذي طبّق مثل هذه الأنواع من القسوة، يمكنه أن يسلم من عواقبها وحتى أن يجد بعض الشفاعة، في عيون الله والإنسان (7)! ومن جهة أخرى، تستخدم القسوة بشكل سيئ عندما تصبح عادة، ومن ثم ينمو شعور لدى الناس بعدم الثقة، وذلك لأنهم لم يتحصلوا على أي شيء آخر غير المزيد من القسوة، ومن اللافت للنظر، أن ميكافيللي لا يذكر أبدا ما إذا كان استخدام القسوة- سواء أكان بشكل جيد أم بشكل سيئ - يعتمد على استخدامها ضد أولئك الذين يستحقونها أم لا، ويدعّم ميكافيللي القسوة العملية التي تحقق النتائج المرغوب فيها، فضلا عن قضية تسويغ هذا النوع من القسوة.

يتبنى الإمام علي (ع) استخدام القسوة بشكل مناقض- فهو لا يجد ذريعة لأفعال القسوة - وفي رأيه، يقوم الظلم بـ(تعجيل نقمته (8) نقمة الله، وجر الدولة إلى دمارها)، وطبقا للإمام علي (ع)، ليس من المهم سواء أأعادت جريمة مكانة الدولة أم لا، وأي شخص يرتكب جريمة (وبضمنهم الحكام) يجب أن يعاقب، وحتى في حالة الموت الخطأ، لابد للأمير من أن يعوّض عائلة المتوفى، وبخلاف ميكافيللي، يؤمن الإمام علي (ع) بأنه لن تكون هناك شفاعة مجدية أمام الله لسفك الدماء من دون سبب مشروع، فقد كتب الإمام علي: والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة (9). ولقد كانت أوامر الإمام علي لمالك الأشتر في غاية الوضوح يقول: (إياك والدماء وسفكها بغير حِلِّها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، ولا أحرى لزوال نعمةٍ وانقطاع مدةٍ، من سفك الدماء بغير حقها، فلا تقوّين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة (10)، فأن في الوكزة فما فوقها مقتلة، ولا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم).

إن سمة الجانب العملي التي حفزت ميكافيللي على عقلنة القسوة استقامت على بضعة أسس: أولا، هيمنة أخلاقية الدولة على جميع أشكال الاعتبارات الأخلاقية الأخرى، وفي نظام تكون فيه الدولة هي السلطة الأساسية، تنسحق أخلاقية الفرد تحت وطأة مجال جبار، وفي مثل هذه الحالة، لا تعنى أخلاقية الدولة بمصالح الفرد الخاصة عندما تكون مصالح المجموع رهن الخطر، ثانيا، إن دور ميكافيللي في الاستشارة جعله عاجزا عن فرض القوانين، ولقد كان قادرا، فقط، على أن يقول: ذلك ما يجب فعله بدلا من القول: أفعل هذا! ثالثا، إن المصادر التاريخية التي بنى ميكافيللي عليها نتائجه كانت مجهزة لمثل هذه الخلاصة، تبدو هذه النتيجة محتومة بالنسبة لأولئك الذين يعوّلون على تحليل التاريخ لينسجم مع خطة المستقبل، ذلك لأن الحوادث التاريخية تميل إلى الوضوح بذاتها، وتتعلق المسألة بما إذا كان بإمكان المرء أن يكرر هذه الحوادث أم لا، وإذا استطاع ذلك، ستدور المسألة حول إمكانية المرء الإفضاء إلى الخلاصة نفسها، وقد انصرف ميكافيللي نفسه إلى هذه القضية في كتابه الأمير، وخلص إلى ما يلي: وكما قلت يحدث هنا، أن يستخدم اثنان مناهج مختلفة ربما تفضي بهما إلى النتيجة نفسها، وقد يتبع اثنان المنهج نفسه فينجح أحدهما ويفشل الآخر، ويعزو ميكافيللي التنوع إلى تكيف الأفعال للحقب والظروف أو عدم تكيفها.

وعلى العكس، دشّن الإمام علي شيئا جديدا، فالتاريخ يستشف ولا يحاكى، باستثناء تاريخ إرادة السلام والخير، لقد ابتدع الإمام علي حكومته الخاصة لتكون حكومة عادلة وديمقراطية بحق، فالسلطة منوطة بالناس، بينما الحاكم مجرد وسيط، يقول: إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وأنني اليوم لأشكو حيف رعيتي كأنني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة (11). وبهذا القول لا يشير الإمام علي إلى حكم دهماوي من طرف الناس، بل يشير إلى مأزق طبيعي يواجهه قائد جديد يتبنى الديمقراطية بعد عقود من الاستبداد، إن رعايا الإمام علي لم يعرفوا كيفية ممارسة الديمقراطية، لذلك غالبا ما أساؤوا استخدام علاقة القائد- المقود، ولقد تكلم الإمام علي أيضا بسلطة القائد، ولذلك كان أول من قال: على تلك الطريقة أريد منك أن تصرف الأمور، فلتفعل ذلك! كان ذلك العلاج المرّ الذي كان مالك الأشتر وأقرانه يرغبون من خلال القبول بالمنصب، في تناوله كوصفة من دون أن يتناولوا معه شيئا يجعله أقل وطأة من الإيمان المطلق ببراعة الوصف.

إن عاملا في حكومة الإمام علي لابد أن يخوض غمار حرب مستمرة ضد طبيعته الشخصية، فمن المأمول من العامل أن يبدي تسامحا عندما يكون الانتقام مطلبا معتادا، وأن يبتسم عندما يمتلئ غضبا، وليس مسموحا له ارتكاب الأخطاء، مع أنه يقبل بحقيقة أن الآخرين يرتكبون الأخطاء (12)، يجب على العامل، بوصفه موظفا رسميا، القبول بموقعه ضمن التراتبية، حيث يكون الله في قمة الهرم، ويجب عليه محاكاة الله في أفعال الرحمة والتسامح، ومع ذلك فإن الإمام علي يحذره: إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته (13). ومن جهة أخرى، يُنصح الموظف الرسمي- بحسب ميكافيللي - أن يظهر وأن يُظهر فقط، أنه يتمتع بخصائص فاضلة، فما يتعين فعله، في الواقع، كان أمرا آخر، كان عليه أن يتصرف طبقا لمبادئ البيئة السياسية، وأن يتعلم أن يكون خيّرا فقط عندما يكون ذلك مجمّلا لسلطته السياسية، تماما مثل تبرعات التجار كما سيدعو الإمام علي ذلك.

عن الاستشارة

* (ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر) الإمام علي، عهد لمالك الأشتر

** (وهكذا عندما لا يكون بوسع الأمير أن يتخذ من الكرم فضيلة له من دون أن يحفَّ نفسه بالخطر، يجب عليه إذا كان حكيما أن لا يحفل بقلب بخيل) ميكافيللي، الأمير

إذا كان اتخاذ القرارات السياسية من دون التماس نصيحة يعني الدكتاتورية، فإن ارتكاز هذه القرارات على نصيحة خاطئة أو مضلّلة يؤدي إلى عواقب وخيمة، وعلى ذلك، فإن مهمة اختيار مستشارين هي المهمة الأصعب والأكثر ثقلا من بين المهمات الأخرى، وليس بكاف نشدان الرجل الأكثر حكمة من دون الاهتمام بما ستفضي إليه حكمته، وكلاهما، الإمام علي وميكافيللي، أوليا عناية خاصة بهذه المجموعة، مجموعة المستشارين، كل بحسب أغراضه.

لقد نبّه الإمام علي (ع) مالكا على أنه هو، وحده، المسؤول عن مآل القرارات، على الرغم من أنه يشارك في اتخاذ القرار مع مستشاريه، ولذلك عليه أن يكون بالغ الحيطة مع الذين يكونون موضع ثقته، يقول: (والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله).

يبدو أن خطر الإطراء متفق عليه من طرف الإمام علي وميكافيللي، فحوى الرسالة هو أن الإطراء يسبب الفساد الذي يسبب، تبعا لذلك، سقوط الإنسان: (لا أود أن أغفل مسألة بالغة الأهمية تتعلق بخطر داهم على الأمراء تجنبه، ما لم يكونوا حصيفين وحكماء في اختيار وزرائهم، وأعني بذلك المتملقين الذين تعج بهم البلاطات، فهناك طريقة واحدة فقط للاحتراس من الإطراء، وهذه الطريقة هي أن تشيع انك لن تغتاض من الكلام الصريح (14).

وعلى أية حال، يبدو مقترح ميكافيللي في كيفية معالجة إطراء محتمل، يبدو مقترحا سلطويا إلى حد ما بخلاف مقترح الإمام علي، ففي حين يحث ميكافيللي الأمير على الإصغاء إلى الناصحين، يقترح أن على الأمير أن لا يسمح لناصحيه بالكلام ما لم يُطلب إليهم ذلك، لأنه إذا ما تكلم أي شخص بجرأة أمام الأمير، فأنه يفقد احترامه (15)، وبدلا من ذلك، يجادل ميكافيللي في أنه يجب أن يُسمح، فقط، لأولئك الذين عرفوا بالحكمة والتعقّل أن يصرحوا بآرائهم، لأن الرجال مختلفون تماما من حيث قدرتهم على تحليل المواقف النقدية، فثمة رجال يفهمون الأشياء بحسب فهمهم الخاص، وثمة رجال يحتاجون إلى توضيح كيما يفهموا، وثمة رجال لن يفهموا الأشياء على الإطلاق (16)! وينصح ميكافيللي الأمير بأن ينتخب النمط الأول من الوزراء، مع أنه يحذر ويتنبّه إلى التهديدات المحتملة من مثل هؤلاء الرجال، وذلك لأن لهم مطامحهم المختلفة لذلك، ورغم ذلك، فإن المرمى الوحيد للأمير هو أن يحافظ على حكمه، وبناء على ذلك، يجب عليه أن يضع هذه المطامح قيد المراقبة دائما.

ومن جهة أخرى، يعالج الإمام علي المشورة السيئة في عملية الترشيح، فهو يقول: إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام (17)، ينصح الإمام علي بحكومة جديدة كليا، حكومة متنزّهة عن خطايا الماضي وعاداته، حالما ينتخب الأمير المستشارين الملائمين، يمكنه أن يعتمد عليهم في تحقيق ما يرغب فيه، لأنهم لن يخدعوه أو يسيئوا استعمال الثقة التي حباهم إياها، كان ذلك ما فعله في بداية حكومته، فقد عزل كل أولئك الذين ولّوا لأي سبب غير الجدارة والمآثر، وولّى الآخرين الذين سيكونون - بحسب رأيه - مؤهلين لمناصبهم، وأبقاهم، مع ذلك، قيد مراقبته الدقيقة.

قدم ميكافيللي منهجا لن يخفق (18) - بحسب تعبيره - في تقييم المستشارين، أي في إلقاء نظرة دقيقة على أولويات الوزير، فإذا ما كان يفكر بنفسه أكثر من تفكيره بسيده، فلابد من تجنبه وعدم الثقة به، ذلك أنه بتفكيره بمنفعته الخاصة، سوف ينتهك أساس واجبه، وحالما يضمن الأمير أن مستشاره يتمتع بعناصر الولاء والثقة، عندئذ عليه أن يعزز هذا الولاء، ويحصن العلاقة بتحقيق جميع رغبات المستشار، يجب عليه أن يمنحه كل الأوسمة والثروة التي يحتاجها، ولذلك ومن جهة، لا يمكن لأحد أن يستميله بأية وعود، وإنه من جهة أخرى، سيخسر خسارة بالغة إذا ما قهر سيده منافس ما.

للإمام علي الرأي نفسه في تأسيس العلاقة بين الأمير ومستشاريه، وعلى أية حال، فإن منهجه يختلف قليلا، فبعد التأكد من أن المستشار ليس بخيلا، أو جبانا أو جشعا، وأنه لم يقم بمهام الظالم في الماضي، عندئذ يتحول إلى خصيصتين بالغتي الأهمية تؤهلان، من وجهة نظره، الرجل للمنصب، وهاتان الخصيصتان هما مخافة الله وقول الحق(19)، فمخافة الله تضمن الولاء، وقول الحقيقة تولد النصيحة الصادقة، لذلك، على الأمير أن يظهر انشغاله بشأن الطريقة التي يتصرف بها أولئك الرجال، ويجب أن لا يعامل المحسن والمسيء سواء بسواء، لأن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة (20). أخيرا، اعتقد كلٌ من الإمام علي وميكافيللي بأن المستشارين لا يمكن أن يكونوا خيّرين بالنسبة لأمير أحمق، أو كما يعبر ميكافيللي، على نحو فظ، إن أميرا بلا حكمة يتوفر عليها بنفسه، لا يمكن أن ينصح بشكل حسن (21)، وبناء على ذلك، يجب عليه أن يتوفر على الخصائص الجيدة التي تمكنه من أن يميز بين النصيحة الخيرة والنصيحة السيئة، وأن يتبع النصيحة الخيرة وينبذ النصيحة الضارة، ويخلص ميكافيللي إلى أنه إذا ما وضع نفسه بيدي وزيره، فسيكون عرضة لأن يجرد من دولته.

عن الجيش

* (فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك) الإمام علي، عهده لمالك الأشتر

** (حتى أنهم سيكونون أفضل حينما يرون أنفسهم منقادين لأمير منهم، أمير يشرفهم ويرعاهم) ميكافيللي، الأمير

زعم ميكافيللي أن الحرب لا يمكن تجنبها أبدا، وإنما يمكن فقط، تأجيلها لأغراضه (الأمير) الخاصة ، وبناء على ذلك، تشكلت الجيوش، واكتسبت شرعيتها بوحي من هذا الزعم الذي مفاده أن لا دولة يمكنها أن تكون محصنة ضد خطر العدوان، أو تهديده، ومن هنا، كانت الأولوية الرئيسة للحكومات هي أن تتكفل بأمن وجودها، وأن تستعد للدخول الحتمي في الحرب في الوقت المناسب، لقد وصف الإمام علي الجنود بأنهم حصون الرعية التي يجب أن تلقى عناية كافية من الأمير، ويواصل الإمام علي الكلام على الجنود (وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج)(23).

لا تعرف الجيوش، فقط، بكونها عبأ، وبكونها تعتمد على الدولة كليا، وإنما هي، أيضا، ذات خطورة محتملة، وعلى ذلك، من المهم بالنسبة للأمير أن يضعها قيد المراقبة، وأن يضمن ولاءها، وبحسب رأي الإمام علي، يمكن أن يتحقق هذا عبر تعيين الرجال المناسبين لهذه المسؤولية، الرجال العطوفين والشفوقين والقويمين.

(وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو) (24).

ومرة أخرى، يلفت انتباهنا إلى أن الترشيح الناجح هو الخطوة الأولى لضمان ولاء الرجال، في حين إن الرعاية الدائمة لهم يمكنها، وحدها، أن تصون وحدتهم وولاءهم، وفي هذا القسم من العهد، أدى الإمام علي دور عالم نفساني عسكري حديث، فهو يجادل بحق، في أن الجنود الذين يزحفون إلى الحرب يجب أن لا يركزوا على أي شيء آخر غير إيقاع الهزيمة بالعدو، ولذلك، فمن واجب الأمير أن يعين القادة البارعين الذين يرعون المحاربين، يقول الإمام علي: (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما) (25)، ومن المهم جدا التأكد من أن أسرهم يحظون بالرعاية، وعلاوة على ذلك، يحث الإمام علي مالكا الأشتر على إن يطري جنوده وضباطه مرارا وتكرارا لكل ما يقدمونه من خدمات، يقول الإمام علي: (فأفسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر الحسن لأفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل، إن شاء الله) (26)، وأخيرا، يحذر الإمام علي مالكا الأشتر من المعاملة المتحيزة بإزاء رجاله اعتمادا على موقع أحدهم في المجتمع: (ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما) (27).

وبالنسبة لميكافيللي، فإن القوات المسلحة هي أحد أساسين رئيسين للدول كلها، جديدها أو قديمها، أو التي تمزج بين الأثنين، هذان الأساسان هما: القوانين الجيدة good والأسلحة الجيدة (28)، وإذا أخذنا مقترب ميكافيللي بعين الاعتبار، فإن كلمة جيدة good تستخدم بأية حال، بمعنى عملي practical، أو إجرائي functioning بمعنى أخلاقي moral أو عادل just، وهكذا تساعد الأسلحة القوية القوانين (سواء أكانت عادلة أم ظالمة) على أن تصبح مطاعة وسارية المفعول، يحدد ميكافيللي الأنواع المختلفة من الجيوش التي وجدت في عصره، ويفكر فيها بوضوح: (المرتزقة والحلفاء خطرون ولا جدوى منهم، والقائد الذي يبني دولته على جيوش المرتزقة لن يكون مطمئنا أبدا، وجند من هذا النوع مفككون، وطموحون وغير منضبطين وخونة، وهم لا يخافون الله، وليس لهم ولاء للرجال) (29).

لقد حدد ميكافيللي السبب الذي جعله يعتقد بخطورة المرتزقة، إنه يتعلق بالظروف التي جندوا واستخدموا في ظلها، فهم أرسلوا ليقاتلوا أعداء أناس آخرين من دون سبب يخصهم، وفائدة يغامرون من أجلها، وعلاوة على ذلك، فهم غالبا ما يكونون مدفوعين بفعل العوز، وهكذا ليس لديهم حافز يجعلهم يرغبون في الموت من أجل من أستأجرهم، والخطر أسوأ بالنسبة لقادتهم:

(إن قادة المرتزقة أما أن يكونوا رجالا ممتازين أولا، فإن كانوا ممتازين، فلا يمكنك عندئذ أن تمحضهم ثقتك، ذلك لأن لهم دائما مطامحهم الخاصة بالسلطة، ولذلك أما أن يهاجموك، يهاجموا سيدهم، أو أن يضطهدوا الآخرين إلى ما وراء أغراضك، وإذا ما كان القائد رجلا عاجزا، فلتتيقن، على العموم من أنك ستتحطم على يديه) (30).

يواصل ميكافيللي، بعد ذلك، القول عبر تقديم نماذج تاريخية ليبرهن على صحة رأيه، فعلى وجه التقريب، خسر القرطاجيون دولتهم لصالح المرتزقة، والميلانيون الذين استأجروا فرانسسكو سيفورزا الذي- بعد أن تغلب على العدو - انقلب ضد أسياده، غالبا ما يثبت ميكافيللي نتيجة المحاجة لصالحه حتى إذا كان التاريخ- وسيلته في الإقناع - ينقلب ضده، وفيما لو رد شخص ما وقال إن الفينسيين والفلورنسيين كان لهم نجاح مع هذه الأنواع من الجيوش، فإن ميكافيللي يجيب: (فيما يتعلق بالفلورنسيين، فإنهم كانوا محظوظين جدا) (31)، وعلى نحو مشابه، لا يمكن تزكية جيوش الحلفاء، لأنهم كما أوحى ميكافيللي، قد يكونون جيدين أو سيئين بحد ذاتهم، لكنهم دائما مضرين بالنسبة لمن يستخدمهم، فلأن خسرت معهم تكون محطما، ولأن ربحت، تصبح أسيرهم (32)، ومرة أخرى، لا يدع ميكافيللي خيارا أو احتمالا لنتيجة جيدة، فهو يحصر، بحذق، المحاجة في احتمالين فقط، وكلا الاحتمالين ينذر بالكارثة، وبخلاف المرتزقة، فإن زمر الحلفاء، كما يحذر ميكافيللي، خطرة إلى أقصى حد (33)، فهم متحدين وموالون لسيدهم الأصلي وليس لمن يستخدمهم، والتجربة المحزنة لليونانيين مع الأتراك تبين بشكل جيد، ما كان يعنيه ميكافيللي.

وعندما يواصل ميكافيللي حديثه الموسع عن جميع أنواع الجيوش، يبدو أنه يستنفد جميع أنواع الاحتمالات مبينا خطورتها، ومستثنيا نوعا واحدا من هذه الاحتمالات يفضله لتحقيق غايته، وكيما يبين أهمية أن يمتلك المرء جيشا خاصا به، يذكر بحذق بالغ، بهذه الحكاية المؤثرة، بقوة من الكتاب المقدس:

عندما تطوع داوود في حضرة شاوول للانطلاق إلى قتال جوليات، فإن المتحدي الفلسطيني، شاوول، ومن أجل أن يشجع داوود، زوده بأسلحته الخاصة، ولكن عندما حاول داوود أن يختبر هذه الأسلحة رفض ارتدائها... وفضّل مواجهة العدو بسكينه ومقلاعه (34)، يخلص ميكافيللي إلى أن لا جيوش يمكن أن تكون مأمونة ومؤثرة وموالية مثل جيوش المرء الخاصة، وإذا ما ارتبت في ذلك، تأمّل التاريخ، وإذا ما بقيت في شك من ذلك، فهذه كلمات الله! وفي هذا السياق، فإن رسالة ميكافيللي والإمام علي هي إن إخلاص الجيش وولاءه- اللذين يجب أن يكونا مكفولين قبل القوة - أمر ذو أهمية قصوى، وذلك لأن الإخلاص والولاء إنما هما سمتا الأمان للجيش، في حين أن القوة وحدها إنما هي سمة خطرة، وكما أن جيشا ضعيفا يؤدي بالأمير إلى فقدان دولته لصالح الأعداء، فإن جيشا قويا، ولكن غير موالِ، قد ينقلب ضده حالما تسنح الفرصة.

عن المعاهدات

* (وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وأرع ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم وتشتت أرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود) الإمام علي، عهده لمالك اللأشتر

** (ومن هنا، ليس فإمكان أمير حكيم، ولا يجب أن يحفظ عهده عندما لا يكون حفظ العهد لصالحه، أو عندما لا تعود الأسباب التي دفعته إلى ذلك نافذة المفعول) ميكافيللي، الأمير

إن الفصل الثامن عشر من كتاب الأمير هو فصل سيء الصيت إلى أبعد حد، إذ يعالج فيه ميكافيللي الطريقة التي يجب أن يعامل فيها الأمراء عهودهم، وفي هذا الفصل أيضا، يمكن العثور، في خلاصة الفصل، على العبارة التي تخطر أولا على كل ذهن حالما يذكر اسم ميكافيللي، وهي (الغاية تسوّغ الوسيلة) وأخيرا وفي هذا الفصل أيضا، يتحدث ميكافيللي عن الثعلب والأسد، حيث ألقى مسؤولية الخدعة على الضحية التي تتيح للمخادع تنفيذ ما يرمي إليه، وفي الفقرة الثانية من هذا الفصل، يشير ميكافيللي إلى (طريقتين في القتال، الأولى بالقوانين، والثانية بالأسلحة)، وهو يشير إلى الأولى على أنها (طريقة الرجال)، وإلى الثانية إلى أنها (أسلوب الحيوانات) ومن ثم، ينصح ميكافيللي بأن (على الأمير أن يعرف كيف يمثل دور الحيوان إضافة إلى دور الرجل)، ويواصل القول في تصنيف أفعال الحيوانات بوصفها (أفعال الثعلب والأسد) فقد كتب يقول: (إن الأسد لا يمكنه أن يدافع عن نفسه أمام الشراك، والثعلب عاجز أمام الذئاب، ولذلك على المرء أن يكون ثعلبا في تجنب المكائد، وأسدا في قتال الذئاب).

إن موقف ميكافيللي بإزاء المعاهدات واضح تماما، ففي رأيه، إن الأمير يحث على حفظ وعوده ما دام يستفيد من حفظ تلك الوعود، وحالما تكون تلك الوعود عبأ عليه، (فلا يمكنه أو لا يجب أن يحفظ عهده) (35).

وطبقا لميكافيللي، لا يجب على الأمير حفظ عهده عندما تصبح الأسباب التي تجبره على الإيفاء به غير نافذة المفعول، يطبق ميكافيللي هنا، (القاعدة الذهبية)، بطريقة معكوسة.

(إذا كان الرجال جيدين، فلن يكون هذا مبدأ جيدا، ولكن ما داموا شريرين ولن يحتفظوا بإخلاصهم لك، فلست ملزما بالاحتفاظ بالإخلاص لهم) (36). بهذه النظرة الكلبية للطبيعة البشرية يسوغ ميكافيللي الخيانة والغدر مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل من يرغب في تبني نصيحته يجب أن يتعلم صنعة أخرى، وهي (أن يعرف كيف يخفي هذه الطبيعة جيدا، وكيف يدّعي ويرائي) (37)، ويجادل ميكافيللي، أن تكون هناك خيانة، فهذا شيء، وأن تبدو كذلك شيء آخر.

كانت نظرة الإمام علي إلى المعاهدات مستمدة من التعاليم الإسلامية، فالقرآن يقول: (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، والتزاما بهذا الناموس، يأمر الإمام علي مالكا الأشتر بأن لا يطرح اقتراح السلم الذي قد يبديه العدو نفسه، لقد دار في حسبان الإمام علي- وكذلك الأمير بالنسبة لميكافيللي فيما بعد - أن العدو قد يبدي السلم بقصد انتهاكه، ومع ذلك، لم يجعل الإمام علي من هذا الأمر ذريعة لعامله قصد نقض وعوده، وبدلا من ذلك، فهو يقترح أن على مالك الأشتر أن يتحسس علامات نقض الوعد من طرف عدوه الذي سوف يجعله في حل من التزامه بمعاهدة محترمة.

عندما تعقد هدنة، يجب على المرء، دائما أن يقبل بالتسوية، وأن يقبل ببعض الشروط المريرة من جراء ضغط اللحظة الراهنة، وعندما يتلاشى الضغط، فإن مرارة مثل هذه تشتد، ويشعر كل طرف من طرفي الهدنة بالحافز للتخلص من هذه الالتزامات، ويرى الإمام علي أن ذلك هو السبب نفسه الذي يجعل من إنجاز الوعد فعلا نبيلا: (حط عهدك بالوفاء، وأرعَ ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي) (38).

على الرغم من أمثلة المطابقة أو الاختلاف التي كشفتها هذه الدراسة بين الإمام علي وميكافيللي، فإن كلا الرجلين متسقان إذا ما تناولناهما منفصلين، وأخضعناهما للفحص ضمن شروطهما السياسية والاجتماعية الخاصة، لقد كان الإمام علي وفيا لمقتربه الأخلاقي في الحياة والسياسة، ولم يحد ميكافيللي أبدا عن إيمانه الراسخ بأن على الأمير أن يطيع الضرورة قبل أي اعتبار آخر، فهما متفقان فقط عندما تكون الضرورة أخلاقية في ذاتها، ولكن عندما يكف ما هو ضروري عن أن يكون أخلاقيا، فإن الإمام علي يواصل مسلكه الأخلاقي، أما ميكافيللي فينحرف عنه.

وطبقا لتصنيف ميكافيللي للرجال، فإن الإمام علي ينضم إلى الفئة التي تضم موسى وسايروس وروميولوس وثيسيوس، كان الإمام علي محييا لدين، ومؤسسا لدولة، وقد نجح في تحقيق غايات الحكومة: أي العدالة وتدبير الخير العام، وعلى أية حال، يقف الإمام علي كتحد لنظرية ميكافيللي التي تقضي بأن من الضروري للأمير، إذا رغب في البقاء في السلطة، أن يتعلم كيف لا يكون خيّرا، وكيف يستخدم معرفته أو يحجم من استخدامها، عندما يحتاجها (39)، فالإمام علي لم يخسر حربا أبدا، ولم يخسر دولته رغم كونه خيّرا في مواقفها بأسرها.

ورث الإمام علي أمة كانت مزعزة، ومليئة بالعنف والنزاع، وتفتقر إلى الإيمان بالحكومة، فالأعمال الوحشية للحكومات السابقة قسمت الناس على طبقات، فكان هناك الظالمون والمظلومون، والنبلاء والدهماء، والموسرون والمحرومون، وقد بلغ هذا الوضع مبلغا دفع الإمام علي، بمرور الوقت، إلى أن يتولى القيادة، إذ كانت هناك حاجة لمعجزة من أجل إحياء الدولة وتفعيل الدين، إن حصافة الإمام علي، وطبيعته الفذة هما اللتان كملتا قطع الحطام، وأحيتا إيمان الناس بالدولة، وعلى الرغم من دهاء خصوم الأمام علي، والطبيعة العنيدة لشيعته، فقد احتفظ بدولة قوية وظافرة، حققت العدالة، وأسست الديمقراطية من دون أن يعرّض أخلاقيته للشبهة، أو أن ينتهك مبادئ الأخلاق.




--------------------------------------------------------------------------------

* باحث عراقي مقيم في جامعة سان فرانسيسكو الأمريكية والبحث جزء من أطروحة للماجستير (سياسة الأمل وسياسة الواقع) 1997، مقدمة لإحدى الجامعات الأمريكية.

** المترجم أكاديمي وناقد ومترجم عراقي مقيم في استراليا له تآليف وتراجم عديدة.

المصادر:

1- ميكافيليي- الأمير- الفصل 15.

2- ومع ذلك، كتب ميكافيللي في كتابه: The Discourses- عن أهمية الدين في إبقاء الناس متحدين وموالين للدولة، أنظر الخطابات، 1-21 : لذلك، فعلى حكّام الجمهورية أو المملكة أن يتمسكوا بالمبادئ الأساسية للدين التي يزاولونها، وإذا ما تم ذلك، سيكون من اليسير لهم أن يحافظوا على عقائدهم الدينية المشتركة، وبالنتيجة على خيرهم ووحدتهم، ويتعين عليهم أيضا أن يعززوا ويشجعوا أيّ شيء من المحتمل أن يساعد على تحقيق هذه الغاية، حتى لو كانوا مقتنعين بأن ذلك الشيء منطو على مغالطة تماما.

3- المصدر نفسه، ص 48.

4- الإمام علي، عهده لمالك الأشتر.

5- كان النبي محمد (ص) قد قدم في المدينة، مثل هذا المبدأ من خلال معاهدته مع يهود المدينة، حيث سمح لهم بمزاولة دينهم وموروثهم شريطة ألا يستخدموا سلطتهم وثروتهم في إعاقة الدين الجديد (الإسلام)، وسرعان ما هُجر هذا المبدأ بُعيد وفاته حينما اتخذ انتشار الإسلام شكل فتوحات، ولم ترق مثل هذه المحاولة للأقاليم المفتوحة حديثا حتى بزوغ عهد الإمام علي بعدما يقارب أربعة وعشرين عاما.

6- ميكافيللي - الأمير- الفصل 15، لم يفحص ميكافيللي المفارقة التي تكونها هذه العبارة، ومفهوم استخدام شيء ما استخداما حسنا، شيء هو في ذاته سيئ.

7- المصدر نفسه، الفصل 51.

8- الإمام علي- عهده لمالك الأشتر.

9- المصدر نفسه.

10- المصدر نفسه، وطبقا لقوانين الإسلام، تُنزل الدولة عقوبة جسدية بأولئك الذين يقترفون الجرائم، والعقوبة الشائعة التي من هذا النوع كانت جلد المذنب وهو عار أمام العامة.

11- صدر، رضا - شعار الإمام علي في الحياة - ص 19.

12- الإمام علي - عهده لمالك الأشتر.

13- المصدر نفسه.

14- ميكافيللي- الأمير - الفصل 23.

15- المصدر نفسه.

16- المصدر نفسه، الفصل 22.

17- الأمام علي- عهده لمالك الأشتر.

18- ميكافيللي- الأمير - الفصل 22.

19- أنظر: الإمام علي- عهده لمالك الأشتر.

20- المصدر نفسه.

21- ميكافيللي- الأمير - الفصل 23.

22- المصدر نفسه، الفصل 3.

23- الإمام علي، عهد لمالك الأشتر.

24- المصدر نفسه. 25- المصدر نفسه.

26- المصدر نفسه. 27- المصدر نفسه.

28- ميكافيللي، الأمير، الفصل 12.

29- المصدر نفسه، الفصل 12، يبدو استخدام كلمة الله هنا- إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار سياق مجادلة ميكافيللي - استخداما مثيرا للسخرية.

30- المصدر نفسه. 31- المصدر نفسه.

32- المصدر نفسه، الفصل 23.

33- المصدر نفسه. 34- المصدر نفسه.

35- المصدر نفسه، الفصل 18.

36- المصدر نفسه. 37- المصدر نفسه.

38- الإمام علي، عهده لمالك الأشتر.

39- ميكافيللي، الأمير، الفصل 15.





توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 17  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 03:59 PM


الإمام علي (ع) وميكافيللي
تشدّد هذه الدراسة على المقارنة بين عملين شهيرين لكل من الإمام علي بن أبي طالب (ع) في عهده لمالك الأشتر، وميكافيللي في كتابه الأمير.

وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة بين العملين، فإنهما يتوفران على نقاط مشتركة جمّة تتيح ترشيحها، بشكل لائق، لمقارنة شاملة. لقد كان الغرض الذي حدا بالإمام علي (ع) إلى كتابة عهده هو الغرض نفسه الذي دعا ميكافيللي لكتابة الأمير: والغرض هو إبداع دليل سياسي لأمير جديد، دليل لعله يكون ذا نفع للقارئ الواعي (1).

وعلى أية حال، فإن الاختلاف الأساسي في المقترب جعل المقارنة أكثر فائدة، لا سيما حين أنتج المقتربان المختلفان، في بعض الأحيان، مواقف متشابهة تجاه قضية معينة، مثل قضية الجيش والمستشارين.

يمكن أن يعزى الاختلاف بين مقترب الإمام علي (ع) الأخلاقي وتعاليم ميكافيللي المتجردة عن الأخلاق إلى الحقبة والظروف اللتين عاش فيهما الإمام علي (ع) وميكافيللي، زيادة على اختلاف طبيعة وشخصية كل منهما، كان الإمام علي(ع) حاكم دولة دينية حيث كان الأمير فيها مجرد ممثل (خليفة) لله، ولا يستطيع أن يعارض حدود إرادته، وقد أُنتخب الإمام علي (ع) لهذا المركز لا لشيء سوى إمكاناته في المحافظة على هذا الدور، ومن جهة أخرى، كان ميكافيللي نتاج نظام اجتماعي وسياسي أفضى به إلى الاقتناع بأن الدين هو العقبة الكأداء التي تحول دون الازدهار السياسي في إيطاليا، وأن السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة سيكون بعودة تامة إلى السياسة الوثنية (2).

عن القسوة

* (ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلم) الإمام علي (ع) عهد لمالك الأِشتر

** (يجب على الأمير ألا يأبه بتهمة القسوة ما دام يبقي رعيته متحدة وموالية) ميكافيللي، الأمير

عندما يشار إلى الحكام أن يكونوا حازمين كيما يوفّوا واجبات الحكومة، فإنهم يكونون عرضة لتجاوز حدود العزم والسقوط في القسوة، حيث تترك الإصلاحات وتساق التسويغات لذلك، وبناء على ذلك، يصبح الظلم ناتجا ثانويا للعبة السلطة، ويصل الحال بالمشاركين إلى أن يشددوا على كيفية قيام هذا الظلم بما يفي بالحاجة، وأي ظلم يستحسن كعزم، أو يستنكر كقسوة، كان مقترب ميكافيللي لهذا المأزق مقتربا عمليا بدلا من كونه أخلاقيا، لأن ميكافيللي لم يكترث بالانتهاكات الأخلاقية إذا ما كانت النتيجة نجاحا على المستوى العملي.

فالرغبة في الرحمة غالبا ما تعترضها ضرورة القسوة، ومن هنا يجب على الأمير، طبقا لميكافيللي، أن يتبع الضرورة وليس الرغبة، إذا أراد أن يتجنب دماره، وفي الحقيقة أنه من خلال فعل حالات قليلة جدا، يمكنه أن يكون أكثر رحمة بحق.. لأنه بذلك، يمنع حدوث اضطرابات متى ما أرتكب القتل والسلب، ذلك أن هذه الاضطرابات تسيء إلى مجتمع كامل، في حين تؤثر الإعدامات القليلة في بضعة أفراد فقط (3). تبدو هذه الصياغة مقنعة تماما ما دام المرء ليس من بين البضعة أفراد!

ومن جهة أخرى، ينظر الإمام علي (ع) إلى القضية من زاوية مقابلة، فالأفراد يحظون بالأهمية نفسها بما أنهم أمة مشتركة، وهو لا يعذر مالك الأشتر في الإخلال بحقوقهم، يقول: ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق (4). بهذه العبارة يعيد الإمام علي (ع) تأسيس مبدأ في الفكر السياسي الإسلامي، وهو مسؤولية الحاكم تجاه غير المسلمين (5). يعتقد ميكافيللي بأن القسوة يمكن أن تستخدم بشكل جيد أو سيئ (6)، وهو يؤكد أن القسوة يمكن أن تستخدم بشكل جيد عندما تنجز أفعال القسوة على نحو فوري وبوقت قصير، ولذا فإن الناس يشعرون بحدتها وسرعان ما يتغلبون على مرارتها بفضل المنافع الثانوية، ويجادل ميكافيللي في أنه هو الذي طبّق مثل هذه الأنواع من القسوة، يمكنه أن يسلم من عواقبها وحتى أن يجد بعض الشفاعة، في عيون الله والإنسان (7)! ومن جهة أخرى، تستخدم القسوة بشكل سيئ عندما تصبح عادة، ومن ثم ينمو شعور لدى الناس بعدم الثقة، وذلك لأنهم لم يتحصلوا على أي شيء آخر غير المزيد من القسوة، ومن اللافت للنظر، أن ميكافيللي لا يذكر أبدا ما إذا كان استخدام القسوة- سواء أكان بشكل جيد أم بشكل سيئ - يعتمد على استخدامها ضد أولئك الذين يستحقونها أم لا، ويدعّم ميكافيللي القسوة العملية التي تحقق النتائج المرغوب فيها، فضلا عن قضية تسويغ هذا النوع من القسوة.

يتبنى الإمام علي (ع) استخدام القسوة بشكل مناقض- فهو لا يجد ذريعة لأفعال القسوة - وفي رأيه، يقوم الظلم بـ(تعجيل نقمته (8) نقمة الله، وجر الدولة إلى دمارها)، وطبقا للإمام علي (ع)، ليس من المهم سواء أأعادت جريمة مكانة الدولة أم لا، وأي شخص يرتكب جريمة (وبضمنهم الحكام) يجب أن يعاقب، وحتى في حالة الموت الخطأ، لابد للأمير من أن يعوّض عائلة المتوفى، وبخلاف ميكافيللي، يؤمن الإمام علي (ع) بأنه لن تكون هناك شفاعة مجدية أمام الله لسفك الدماء من دون سبب مشروع، فقد كتب الإمام علي: والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة (9). ولقد كانت أوامر الإمام علي لمالك الأشتر في غاية الوضوح يقول: (إياك والدماء وسفكها بغير حِلِّها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمةٍ، ولا أعظم لتبعةٍ، ولا أحرى لزوال نعمةٍ وانقطاع مدةٍ، من سفك الدماء بغير حقها، فلا تقوّين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن، وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بالعقوبة (10)، فأن في الوكزة فما فوقها مقتلة، ولا تطمحنّ بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم).

إن سمة الجانب العملي التي حفزت ميكافيللي على عقلنة القسوة استقامت على بضعة أسس: أولا، هيمنة أخلاقية الدولة على جميع أشكال الاعتبارات الأخلاقية الأخرى، وفي نظام تكون فيه الدولة هي السلطة الأساسية، تنسحق أخلاقية الفرد تحت وطأة مجال جبار، وفي مثل هذه الحالة، لا تعنى أخلاقية الدولة بمصالح الفرد الخاصة عندما تكون مصالح المجموع رهن الخطر، ثانيا، إن دور ميكافيللي في الاستشارة جعله عاجزا عن فرض القوانين، ولقد كان قادرا، فقط، على أن يقول: ذلك ما يجب فعله بدلا من القول: أفعل هذا! ثالثا، إن المصادر التاريخية التي بنى ميكافيللي عليها نتائجه كانت مجهزة لمثل هذه الخلاصة، تبدو هذه النتيجة محتومة بالنسبة لأولئك الذين يعوّلون على تحليل التاريخ لينسجم مع خطة المستقبل، ذلك لأن الحوادث التاريخية تميل إلى الوضوح بذاتها، وتتعلق المسألة بما إذا كان بإمكان المرء أن يكرر هذه الحوادث أم لا، وإذا استطاع ذلك، ستدور المسألة حول إمكانية المرء الإفضاء إلى الخلاصة نفسها، وقد انصرف ميكافيللي نفسه إلى هذه القضية في كتابه الأمير، وخلص إلى ما يلي: وكما قلت يحدث هنا، أن يستخدم اثنان مناهج مختلفة ربما تفضي بهما إلى النتيجة نفسها، وقد يتبع اثنان المنهج نفسه فينجح أحدهما ويفشل الآخر، ويعزو ميكافيللي التنوع إلى تكيف الأفعال للحقب والظروف أو عدم تكيفها.

وعلى العكس، دشّن الإمام علي شيئا جديدا، فالتاريخ يستشف ولا يحاكى، باستثناء تاريخ إرادة السلام والخير، لقد ابتدع الإمام علي حكومته الخاصة لتكون حكومة عادلة وديمقراطية بحق، فالسلطة منوطة بالناس، بينما الحاكم مجرد وسيط، يقول: إن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، وأنني اليوم لأشكو حيف رعيتي كأنني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة (11). وبهذا القول لا يشير الإمام علي إلى حكم دهماوي من طرف الناس، بل يشير إلى مأزق طبيعي يواجهه قائد جديد يتبنى الديمقراطية بعد عقود من الاستبداد، إن رعايا الإمام علي لم يعرفوا كيفية ممارسة الديمقراطية، لذلك غالبا ما أساؤوا استخدام علاقة القائد- المقود، ولقد تكلم الإمام علي أيضا بسلطة القائد، ولذلك كان أول من قال: على تلك الطريقة أريد منك أن تصرف الأمور، فلتفعل ذلك! كان ذلك العلاج المرّ الذي كان مالك الأشتر وأقرانه يرغبون من خلال القبول بالمنصب، في تناوله كوصفة من دون أن يتناولوا معه شيئا يجعله أقل وطأة من الإيمان المطلق ببراعة الوصف.

إن عاملا في حكومة الإمام علي لابد أن يخوض غمار حرب مستمرة ضد طبيعته الشخصية، فمن المأمول من العامل أن يبدي تسامحا عندما يكون الانتقام مطلبا معتادا، وأن يبتسم عندما يمتلئ غضبا، وليس مسموحا له ارتكاب الأخطاء، مع أنه يقبل بحقيقة أن الآخرين يرتكبون الأخطاء (12)، يجب على العامل، بوصفه موظفا رسميا، القبول بموقعه ضمن التراتبية، حيث يكون الله في قمة الهرم، ويجب عليه محاكاة الله في أفعال الرحمة والتسامح، ومع ذلك فإن الإمام علي يحذره: إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته (13). ومن جهة أخرى، يُنصح الموظف الرسمي- بحسب ميكافيللي - أن يظهر وأن يُظهر فقط، أنه يتمتع بخصائص فاضلة، فما يتعين فعله، في الواقع، كان أمرا آخر، كان عليه أن يتصرف طبقا لمبادئ البيئة السياسية، وأن يتعلم أن يكون خيّرا فقط عندما يكون ذلك مجمّلا لسلطته السياسية، تماما مثل تبرعات التجار كما سيدعو الإمام علي ذلك.

عن الاستشارة

* (ولا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر) الإمام علي، عهد لمالك الأشتر

** (وهكذا عندما لا يكون بوسع الأمير أن يتخذ من الكرم فضيلة له من دون أن يحفَّ نفسه بالخطر، يجب عليه إذا كان حكيما أن لا يحفل بقلب بخيل) ميكافيللي، الأمير

إذا كان اتخاذ القرارات السياسية من دون التماس نصيحة يعني الدكتاتورية، فإن ارتكاز هذه القرارات على نصيحة خاطئة أو مضلّلة يؤدي إلى عواقب وخيمة، وعلى ذلك، فإن مهمة اختيار مستشارين هي المهمة الأصعب والأكثر ثقلا من بين المهمات الأخرى، وليس بكاف نشدان الرجل الأكثر حكمة من دون الاهتمام بما ستفضي إليه حكمته، وكلاهما، الإمام علي وميكافيللي، أوليا عناية خاصة بهذه المجموعة، مجموعة المستشارين، كل بحسب أغراضه.

لقد نبّه الإمام علي (ع) مالكا على أنه هو، وحده، المسؤول عن مآل القرارات، على الرغم من أنه يشارك في اتخاذ القرار مع مستشاريه، ولذلك عليه أن يكون بالغ الحيطة مع الذين يكونون موضع ثقته، يقول: (والصق بأهل الورع والصدق ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله).

يبدو أن خطر الإطراء متفق عليه من طرف الإمام علي وميكافيللي، فحوى الرسالة هو أن الإطراء يسبب الفساد الذي يسبب، تبعا لذلك، سقوط الإنسان: (لا أود أن أغفل مسألة بالغة الأهمية تتعلق بخطر داهم على الأمراء تجنبه، ما لم يكونوا حصيفين وحكماء في اختيار وزرائهم، وأعني بذلك المتملقين الذين تعج بهم البلاطات، فهناك طريقة واحدة فقط للاحتراس من الإطراء، وهذه الطريقة هي أن تشيع انك لن تغتاض من الكلام الصريح (14).

وعلى أية حال، يبدو مقترح ميكافيللي في كيفية معالجة إطراء محتمل، يبدو مقترحا سلطويا إلى حد ما بخلاف مقترح الإمام علي، ففي حين يحث ميكافيللي الأمير على الإصغاء إلى الناصحين، يقترح أن على الأمير أن لا يسمح لناصحيه بالكلام ما لم يُطلب إليهم ذلك، لأنه إذا ما تكلم أي شخص بجرأة أمام الأمير، فأنه يفقد احترامه (15)، وبدلا من ذلك، يجادل ميكافيللي في أنه يجب أن يُسمح، فقط، لأولئك الذين عرفوا بالحكمة والتعقّل أن يصرحوا بآرائهم، لأن الرجال مختلفون تماما من حيث قدرتهم على تحليل المواقف النقدية، فثمة رجال يفهمون الأشياء بحسب فهمهم الخاص، وثمة رجال يحتاجون إلى توضيح كيما يفهموا، وثمة رجال لن يفهموا الأشياء على الإطلاق (16)! وينصح ميكافيللي الأمير بأن ينتخب النمط الأول من الوزراء، مع أنه يحذر ويتنبّه إلى التهديدات المحتملة من مثل هؤلاء الرجال، وذلك لأن لهم مطامحهم المختلفة لذلك، ورغم ذلك، فإن المرمى الوحيد للأمير هو أن يحافظ على حكمه، وبناء على ذلك، يجب عليه أن يضع هذه المطامح قيد المراقبة دائما.

ومن جهة أخرى، يعالج الإمام علي المشورة السيئة في عملية الترشيح، فهو يقول: إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، ومن شركهم في الآثام (17)، ينصح الإمام علي بحكومة جديدة كليا، حكومة متنزّهة عن خطايا الماضي وعاداته، حالما ينتخب الأمير المستشارين الملائمين، يمكنه أن يعتمد عليهم في تحقيق ما يرغب فيه، لأنهم لن يخدعوه أو يسيئوا استعمال الثقة التي حباهم إياها، كان ذلك ما فعله في بداية حكومته، فقد عزل كل أولئك الذين ولّوا لأي سبب غير الجدارة والمآثر، وولّى الآخرين الذين سيكونون - بحسب رأيه - مؤهلين لمناصبهم، وأبقاهم، مع ذلك، قيد مراقبته الدقيقة.

قدم ميكافيللي منهجا لن يخفق (18) - بحسب تعبيره - في تقييم المستشارين، أي في إلقاء نظرة دقيقة على أولويات الوزير، فإذا ما كان يفكر بنفسه أكثر من تفكيره بسيده، فلابد من تجنبه وعدم الثقة به، ذلك أنه بتفكيره بمنفعته الخاصة، سوف ينتهك أساس واجبه، وحالما يضمن الأمير أن مستشاره يتمتع بعناصر الولاء والثقة، عندئذ عليه أن يعزز هذا الولاء، ويحصن العلاقة بتحقيق جميع رغبات المستشار، يجب عليه أن يمنحه كل الأوسمة والثروة التي يحتاجها، ولذلك ومن جهة، لا يمكن لأحد أن يستميله بأية وعود، وإنه من جهة أخرى، سيخسر خسارة بالغة إذا ما قهر سيده منافس ما.

للإمام علي الرأي نفسه في تأسيس العلاقة بين الأمير ومستشاريه، وعلى أية حال، فإن منهجه يختلف قليلا، فبعد التأكد من أن المستشار ليس بخيلا، أو جبانا أو جشعا، وأنه لم يقم بمهام الظالم في الماضي، عندئذ يتحول إلى خصيصتين بالغتي الأهمية تؤهلان، من وجهة نظره، الرجل للمنصب، وهاتان الخصيصتان هما مخافة الله وقول الحق(19)، فمخافة الله تضمن الولاء، وقول الحقيقة تولد النصيحة الصادقة، لذلك، على الأمير أن يظهر انشغاله بشأن الطريقة التي يتصرف بها أولئك الرجال، ويجب أن لا يعامل المحسن والمسيء سواء بسواء، لأن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة (20). أخيرا، اعتقد كلٌ من الإمام علي وميكافيللي بأن المستشارين لا يمكن أن يكونوا خيّرين بالنسبة لأمير أحمق، أو كما يعبر ميكافيللي، على نحو فظ، إن أميرا بلا حكمة يتوفر عليها بنفسه، لا يمكن أن ينصح بشكل حسن (21)، وبناء على ذلك، يجب عليه أن يتوفر على الخصائص الجيدة التي تمكنه من أن يميز بين النصيحة الخيرة والنصيحة السيئة، وأن يتبع النصيحة الخيرة وينبذ النصيحة الضارة، ويخلص ميكافيللي إلى أنه إذا ما وضع نفسه بيدي وزيره، فسيكون عرضة لأن يجرد من دولته.

عن الجيش

* (فول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك) الإمام علي، عهده لمالك الأشتر

** (حتى أنهم سيكونون أفضل حينما يرون أنفسهم منقادين لأمير منهم، أمير يشرفهم ويرعاهم) ميكافيللي، الأمير

زعم ميكافيللي أن الحرب لا يمكن تجنبها أبدا، وإنما يمكن فقط، تأجيلها لأغراضه (الأمير) الخاصة ، وبناء على ذلك، تشكلت الجيوش، واكتسبت شرعيتها بوحي من هذا الزعم الذي مفاده أن لا دولة يمكنها أن تكون محصنة ضد خطر العدوان، أو تهديده، ومن هنا، كانت الأولوية الرئيسة للحكومات هي أن تتكفل بأمن وجودها، وأن تستعد للدخول الحتمي في الحرب في الوقت المناسب، لقد وصف الإمام علي الجنود بأنهم حصون الرعية التي يجب أن تلقى عناية كافية من الأمير، ويواصل الإمام علي الكلام على الجنود (وليس تقوم الرعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج)(23).

لا تعرف الجيوش، فقط، بكونها عبأ، وبكونها تعتمد على الدولة كليا، وإنما هي، أيضا، ذات خطورة محتملة، وعلى ذلك، من المهم بالنسبة للأمير أن يضعها قيد المراقبة، وأن يضمن ولاءها، وبحسب رأي الإمام علي، يمكن أن يتحقق هذا عبر تعيين الرجال المناسبين لهذه المسؤولية، الرجال العطوفين والشفوقين والقويمين.

(وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم هما واحدا في جهاد العدو) (24).

ومرة أخرى، يلفت انتباهنا إلى أن الترشيح الناجح هو الخطوة الأولى لضمان ولاء الرجال، في حين إن الرعاية الدائمة لهم يمكنها، وحدها، أن تصون وحدتهم وولاءهم، وفي هذا القسم من العهد، أدى الإمام علي دور عالم نفساني عسكري حديث، فهو يجادل بحق، في أن الجنود الذين يزحفون إلى الحرب يجب أن لا يركزوا على أي شيء آخر غير إيقاع الهزيمة بالعدو، ولذلك، فمن واجب الأمير أن يعين القادة البارعين الذين يرعون المحاربين، يقول الإمام علي: (ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما) (25)، ومن المهم جدا التأكد من أن أسرهم يحظون بالرعاية، وعلاوة على ذلك، يحث الإمام علي مالكا الأشتر على إن يطري جنوده وضباطه مرارا وتكرارا لكل ما يقدمونه من خدمات، يقول الإمام علي: (فأفسح في آمالهم وواصل في حسن الثناء عليهم وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر الحسن لأفعالهم تهز الشجاع، وتحرض الناكل، إن شاء الله) (26)، وأخيرا، يحذر الإمام علي مالكا الأشتر من المعاملة المتحيزة بإزاء رجاله اعتمادا على موقع أحدهم في المجتمع: (ثم أعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، ولا ضعة امرئ أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما) (27).

وبالنسبة لميكافيللي، فإن القوات المسلحة هي أحد أساسين رئيسين للدول كلها، جديدها أو قديمها، أو التي تمزج بين الأثنين، هذان الأساسان هما: القوانين الجيدة good والأسلحة الجيدة (28)، وإذا أخذنا مقترب ميكافيللي بعين الاعتبار، فإن كلمة جيدة good تستخدم بأية حال، بمعنى عملي practical، أو إجرائي functioning بمعنى أخلاقي moral أو عادل just، وهكذا تساعد الأسلحة القوية القوانين (سواء أكانت عادلة أم ظالمة) على أن تصبح مطاعة وسارية المفعول، يحدد ميكافيللي الأنواع المختلفة من الجيوش التي وجدت في عصره، ويفكر فيها بوضوح: (المرتزقة والحلفاء خطرون ولا جدوى منهم، والقائد الذي يبني دولته على جيوش المرتزقة لن يكون مطمئنا أبدا، وجند من هذا النوع مفككون، وطموحون وغير منضبطين وخونة، وهم لا يخافون الله، وليس لهم ولاء للرجال) (29).

لقد حدد ميكافيللي السبب الذي جعله يعتقد بخطورة المرتزقة، إنه يتعلق بالظروف التي جندوا واستخدموا في ظلها، فهم أرسلوا ليقاتلوا أعداء أناس آخرين من دون سبب يخصهم، وفائدة يغامرون من أجلها، وعلاوة على ذلك، فهم غالبا ما يكونون مدفوعين بفعل العوز، وهكذا ليس لديهم حافز يجعلهم يرغبون في الموت من أجل من أستأجرهم، والخطر أسوأ بالنسبة لقادتهم:

(إن قادة المرتزقة أما أن يكونوا رجالا ممتازين أولا، فإن كانوا ممتازين، فلا يمكنك عندئذ أن تمحضهم ثقتك، ذلك لأن لهم دائما مطامحهم الخاصة بالسلطة، ولذلك أما أن يهاجموك، يهاجموا سيدهم، أو أن يضطهدوا الآخرين إلى ما وراء أغراضك، وإذا ما كان القائد رجلا عاجزا، فلتتيقن، على العموم من أنك ستتحطم على يديه) (30).

يواصل ميكافيللي، بعد ذلك، القول عبر تقديم نماذج تاريخية ليبرهن على صحة رأيه، فعلى وجه التقريب، خسر القرطاجيون دولتهم لصالح المرتزقة، والميلانيون الذين استأجروا فرانسسكو سيفورزا الذي- بعد أن تغلب على العدو - انقلب ضد أسياده، غالبا ما يثبت ميكافيللي نتيجة المحاجة لصالحه حتى إذا كان التاريخ- وسيلته في الإقناع - ينقلب ضده، وفيما لو رد شخص ما وقال إن الفينسيين والفلورنسيين كان لهم نجاح مع هذه الأنواع من الجيوش، فإن ميكافيللي يجيب: (فيما يتعلق بالفلورنسيين، فإنهم كانوا محظوظين جدا) (31)، وعلى نحو مشابه، لا يمكن تزكية جيوش الحلفاء، لأنهم كما أوحى ميكافيللي، قد يكونون جيدين أو سيئين بحد ذاتهم، لكنهم دائما مضرين بالنسبة لمن يستخدمهم، فلأن خسرت معهم تكون محطما، ولأن ربحت، تصبح أسيرهم (32)، ومرة أخرى، لا يدع ميكافيللي خيارا أو احتمالا لنتيجة جيدة، فهو يحصر، بحذق، المحاجة في احتمالين فقط، وكلا الاحتمالين ينذر بالكارثة، وبخلاف المرتزقة، فإن زمر الحلفاء، كما يحذر ميكافيللي، خطرة إلى أقصى حد (33)، فهم متحدين وموالون لسيدهم الأصلي وليس لمن يستخدمهم، والتجربة المحزنة لليونانيين مع الأتراك تبين بشكل جيد، ما كان يعنيه ميكافيللي.

وعندما يواصل ميكافيللي حديثه الموسع عن جميع أنواع الجيوش، يبدو أنه يستنفد جميع أنواع الاحتمالات مبينا خطورتها، ومستثنيا نوعا واحدا من هذه الاحتمالات يفضله لتحقيق غايته، وكيما يبين أهمية أن يمتلك المرء جيشا خاصا به، يذكر بحذق بالغ، بهذه الحكاية المؤثرة، بقوة من الكتاب المقدس:

عندما تطوع داوود في حضرة شاوول للانطلاق إلى قتال جوليات، فإن المتحدي الفلسطيني، شاوول، ومن أجل أن يشجع داوود، زوده بأسلحته الخاصة، ولكن عندما حاول داوود أن يختبر هذه الأسلحة رفض ارتدائها... وفضّل مواجهة العدو بسكينه ومقلاعه (34)، يخلص ميكافيللي إلى أن لا جيوش يمكن أن تكون مأمونة ومؤثرة وموالية مثل جيوش المرء الخاصة، وإذا ما ارتبت في ذلك، تأمّل التاريخ، وإذا ما بقيت في شك من ذلك، فهذه كلمات الله! وفي هذا السياق، فإن رسالة ميكافيللي والإمام علي هي إن إخلاص الجيش وولاءه- اللذين يجب أن يكونا مكفولين قبل القوة - أمر ذو أهمية قصوى، وذلك لأن الإخلاص والولاء إنما هما سمتا الأمان للجيش، في حين أن القوة وحدها إنما هي سمة خطرة، وكما أن جيشا ضعيفا يؤدي بالأمير إلى فقدان دولته لصالح الأعداء، فإن جيشا قويا، ولكن غير موالِ، قد ينقلب ضده حالما تسنح الفرصة.

عن المعاهدات

* (وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وأرع ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم وتشتت أرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود) الإمام علي، عهده لمالك اللأشتر

** (ومن هنا، ليس فإمكان أمير حكيم، ولا يجب أن يحفظ عهده عندما لا يكون حفظ العهد لصالحه، أو عندما لا تعود الأسباب التي دفعته إلى ذلك نافذة المفعول) ميكافيللي، الأمير

إن الفصل الثامن عشر من كتاب الأمير هو فصل سيء الصيت إلى أبعد حد، إذ يعالج فيه ميكافيللي الطريقة التي يجب أن يعامل فيها الأمراء عهودهم، وفي هذا الفصل أيضا، يمكن العثور، في خلاصة الفصل، على العبارة التي تخطر أولا على كل ذهن حالما يذكر اسم ميكافيللي، وهي (الغاية تسوّغ الوسيلة) وأخيرا وفي هذا الفصل أيضا، يتحدث ميكافيللي عن الثعلب والأسد، حيث ألقى مسؤولية الخدعة على الضحية التي تتيح للمخادع تنفيذ ما يرمي إليه، وفي الفقرة الثانية من هذا الفصل، يشير ميكافيللي إلى (طريقتين في القتال، الأولى بالقوانين، والثانية بالأسلحة)، وهو يشير إلى الأولى على أنها (طريقة الرجال)، وإلى الثانية إلى أنها (أسلوب الحيوانات) ومن ثم، ينصح ميكافيللي بأن (على الأمير أن يعرف كيف يمثل دور الحيوان إضافة إلى دور الرجل)، ويواصل القول في تصنيف أفعال الحيوانات بوصفها (أفعال الثعلب والأسد) فقد كتب يقول: (إن الأسد لا يمكنه أن يدافع عن نفسه أمام الشراك، والثعلب عاجز أمام الذئاب، ولذلك على المرء أن يكون ثعلبا في تجنب المكائد، وأسدا في قتال الذئاب).

إن موقف ميكافيللي بإزاء المعاهدات واضح تماما، ففي رأيه، إن الأمير يحث على حفظ وعوده ما دام يستفيد من حفظ تلك الوعود، وحالما تكون تلك الوعود عبأ عليه، (فلا يمكنه أو لا يجب أن يحفظ عهده) (35).

وطبقا لميكافيللي، لا يجب على الأمير حفظ عهده عندما تصبح الأسباب التي تجبره على الإيفاء به غير نافذة المفعول، يطبق ميكافيللي هنا، (القاعدة الذهبية)، بطريقة معكوسة.

(إذا كان الرجال جيدين، فلن يكون هذا مبدأ جيدا، ولكن ما داموا شريرين ولن يحتفظوا بإخلاصهم لك، فلست ملزما بالاحتفاظ بالإخلاص لهم) (36). بهذه النظرة الكلبية للطبيعة البشرية يسوغ ميكافيللي الخيانة والغدر مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل من يرغب في تبني نصيحته يجب أن يتعلم صنعة أخرى، وهي (أن يعرف كيف يخفي هذه الطبيعة جيدا، وكيف يدّعي ويرائي) (37)، ويجادل ميكافيللي، أن تكون هناك خيانة، فهذا شيء، وأن تبدو كذلك شيء آخر.

كانت نظرة الإمام علي إلى المعاهدات مستمدة من التعاليم الإسلامية، فالقرآن يقول: (فإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، والتزاما بهذا الناموس، يأمر الإمام علي مالكا الأشتر بأن لا يطرح اقتراح السلم الذي قد يبديه العدو نفسه، لقد دار في حسبان الإمام علي- وكذلك الأمير بالنسبة لميكافيللي فيما بعد - أن العدو قد يبدي السلم بقصد انتهاكه، ومع ذلك، لم يجعل الإمام علي من هذا الأمر ذريعة لعامله قصد نقض وعوده، وبدلا من ذلك، فهو يقترح أن على مالك الأشتر أن يتحسس علامات نقض الوعد من طرف عدوه الذي سوف يجعله في حل من التزامه بمعاهدة محترمة.

عندما تعقد هدنة، يجب على المرء، دائما أن يقبل بالتسوية، وأن يقبل ببعض الشروط المريرة من جراء ضغط اللحظة الراهنة، وعندما يتلاشى الضغط، فإن مرارة مثل هذه تشتد، ويشعر كل طرف من طرفي الهدنة بالحافز للتخلص من هذه الالتزامات، ويرى الإمام علي أن ذلك هو السبب نفسه الذي يجعل من إنجاز الوعد فعلا نبيلا: (حط عهدك بالوفاء، وأرعَ ذمتك بالأمانة، وأجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعا، مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود، فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي) (38).

على الرغم من أمثلة المطابقة أو الاختلاف التي كشفتها هذه الدراسة بين الإمام علي وميكافيللي، فإن كلا الرجلين متسقان إذا ما تناولناهما منفصلين، وأخضعناهما للفحص ضمن شروطهما السياسية والاجتماعية الخاصة، لقد كان الإمام علي وفيا لمقتربه الأخلاقي في الحياة والسياسة، ولم يحد ميكافيللي أبدا عن إيمانه الراسخ بأن على الأمير أن يطيع الضرورة قبل أي اعتبار آخر، فهما متفقان فقط عندما تكون الضرورة أخلاقية في ذاتها، ولكن عندما يكف ما هو ضروري عن أن يكون أخلاقيا، فإن الإمام علي يواصل مسلكه الأخلاقي، أما ميكافيللي فينحرف عنه.

وطبقا لتصنيف ميكافيللي للرجال، فإن الإمام علي ينضم إلى الفئة التي تضم موسى وسايروس وروميولوس وثيسيوس، كان الإمام علي محييا لدين، ومؤسسا لدولة، وقد نجح في تحقيق غايات الحكومة: أي العدالة وتدبير الخير العام، وعلى أية حال، يقف الإمام علي كتحد لنظرية ميكافيللي التي تقضي بأن من الضروري للأمير، إذا رغب في البقاء في السلطة، أن يتعلم كيف لا يكون خيّرا، وكيف يستخدم معرفته أو يحجم من استخدامها، عندما يحتاجها (39)، فالإمام علي لم يخسر حربا أبدا، ولم يخسر دولته رغم كونه خيّرا في مواقفها بأسرها.

ورث الإمام علي أمة كانت مزعزة، ومليئة بالعنف والنزاع، وتفتقر إلى الإيمان بالحكومة، فالأعمال الوحشية للحكومات السابقة قسمت الناس على طبقات، فكان هناك الظالمون والمظلومون، والنبلاء والدهماء، والموسرون والمحرومون، وقد بلغ هذا الوضع مبلغا دفع الإمام علي، بمرور الوقت، إلى أن يتولى القيادة، إذ كانت هناك حاجة لمعجزة من أجل إحياء الدولة وتفعيل الدين، إن حصافة الإمام علي، وطبيعته الفذة هما اللتان كملتا قطع الحطام، وأحيتا إيمان الناس بالدولة، وعلى الرغم من دهاء خصوم الأمام علي، والطبيعة العنيدة لشيعته، فقد احتفظ بدولة قوية وظافرة، حققت العدالة، وأسست الديمقراطية من دون أن يعرّض أخلاقيته للشبهة، أو أن ينتهك مبادئ الأخلاق.




--------------------------------------------------------------------------------

* باحث عراقي مقيم في جامعة سان فرانسيسكو الأمريكية والبحث جزء من أطروحة للماجستير (سياسة الأمل وسياسة الواقع) 1997، مقدمة لإحدى الجامعات الأمريكية.

** المترجم أكاديمي وناقد ومترجم عراقي مقيم في استراليا له تآليف وتراجم عديدة.

المصادر:

1- ميكافيليي- الأمير- الفصل 15.

2- ومع ذلك، كتب ميكافيللي في كتابه: The Discourses- عن أهمية الدين في إبقاء الناس متحدين وموالين للدولة، أنظر الخطابات، 1-21 : لذلك، فعلى حكّام الجمهورية أو المملكة أن يتمسكوا بالمبادئ الأساسية للدين التي يزاولونها، وإذا ما تم ذلك، سيكون من اليسير لهم أن يحافظوا على عقائدهم الدينية المشتركة، وبالنتيجة على خيرهم ووحدتهم، ويتعين عليهم أيضا أن يعززوا ويشجعوا أيّ شيء من المحتمل أن يساعد على تحقيق هذه الغاية، حتى لو كانوا مقتنعين بأن ذلك الشيء منطو على مغالطة تماما.

3- المصدر نفسه، ص 48.

4- الإمام علي، عهده لمالك الأشتر.

5- كان النبي محمد (ص) قد قدم في المدينة، مثل هذا المبدأ من خلال معاهدته مع يهود المدينة، حيث سمح لهم بمزاولة دينهم وموروثهم شريطة ألا يستخدموا سلطتهم وثروتهم في إعاقة الدين الجديد (الإسلام)، وسرعان ما هُجر هذا المبدأ بُعيد وفاته حينما اتخذ انتشار الإسلام شكل فتوحات، ولم ترق مثل هذه المحاولة للأقاليم المفتوحة حديثا حتى بزوغ عهد الإمام علي بعدما يقارب أربعة وعشرين عاما.

6- ميكافيللي - الأمير- الفصل 15، لم يفحص ميكافيللي المفارقة التي تكونها هذه العبارة، ومفهوم استخدام شيء ما استخداما حسنا، شيء هو في ذاته سيئ.

7- المصدر نفسه، الفصل 51.

8- الإمام علي- عهده لمالك الأشتر.

9- المصدر نفسه.

10- المصدر نفسه، وطبقا لقوانين الإسلام، تُنزل الدولة عقوبة جسدية بأولئك الذين يقترفون الجرائم، والعقوبة الشائعة التي من هذا النوع كانت جلد المذنب وهو عار أمام العامة.

11- صدر، رضا - شعار الإمام علي في الحياة - ص 19.

12- الإمام علي - عهده لمالك الأشتر.

13- المصدر نفسه.

14- ميكافيللي- الأمير - الفصل 23.

15- المصدر نفسه.

16- المصدر نفسه، الفصل 22.

17- الأمام علي- عهده لمالك الأشتر.

18- ميكافيللي- الأمير - الفصل 22.

19- أنظر: الإمام علي- عهده لمالك الأشتر.

20- المصدر نفسه.

21- ميكافيللي- الأمير - الفصل 23.

22- المصدر نفسه، الفصل 3.

23- الإمام علي، عهد لمالك الأشتر.

24- المصدر نفسه. 25- المصدر نفسه.

26- المصدر نفسه. 27- المصدر نفسه.

28- ميكافيللي، الأمير، الفصل 12.

29- المصدر نفسه، الفصل 12، يبدو استخدام كلمة الله هنا- إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار سياق مجادلة ميكافيللي - استخداما مثيرا للسخرية.

30- المصدر نفسه. 31- المصدر نفسه.

32- المصدر نفسه، الفصل 23.

33- المصدر نفسه. 34- المصدر نفسه.

35- المصدر نفسه، الفصل 18.

36- المصدر نفسه. 37- المصدر نفسه.

38- الإمام علي، عهده لمالك الأشتر.

39- ميكافيللي، الأمير، الفصل 15.






توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 18  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 04:01 PM


سيادة الحق والعدل الاجتماعي في خطابات نهج البلاغة


فيه أوراقا لتكون مقدمة الاستدراك).

والقارئ المتمعن في فكر الإمام (ع) يدرك الأهمية البلاغية واللغوية التي بسببها سمى الشريف الرضي هذا الكتاب بنهج البلاغة فبالإضافة إلى الأهمية التاريخية والسياسية إذ من خلاله تتوضح الكثير من الصراعات السياسية في صدر الإسلام، فان هناك أيضا المسائل الفكرية التي طرحت في بعض الخطب كمسألة رؤية الله سبحانه وتعالى، ومسألة القضاء والقدر، وعلى سبيل المثال رده على (ثعلب اليماني) عندما سأله هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين، وكذلك جوابه لرجل سأله ( أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره)، والى جانب هذا أيضا هناك بعض القضايا الوصفية لغريب بعض الكائنات كالخفاش والطاووس وأصناف أخرى. إن هذا موجز عام ويسير عن الأثر الذي وجد من يأخذه من صدور الحفاظ سطور ذلك الأثر العظيم وليكون عينا من العيون التي وردها ويردها الباحثون والمهتمون بمجال التراث الفكري الإسلامي.

لقد تكلم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن الحق في أكثر من خطبة، وكذلك وصاياه وكتبه إلى عماله وفي أحاديثه لأصحابه وأعدائه، بمعنى (الحق المضاد للباطل، والحق والعدل والقانون).

والمعروف عن الإمام علي (ع) أنه كان خليفة للحكم في الإسلام للنخبة التي لا تأخذها في الحق لومة لائم، التي كان من أبرز رجالها: أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعدي بن حجر ومالك الاشتر وسلمان الفارسي وغيرهم، وعن هذه النخبة يقول الإمام علي (ع) في إحدى خطبه بعد معركة صفين، (أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق). وهو القائل لأبي ذر الغفاري عند صدور حكم عثمان بإقصائه إلي صحراء الربذة خارج المدينة بعدة أميال (يا أبا ذر إنك غضبت لله فارجع إلى من غضبت له، وإن القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك لا يؤنسك إلا الحق ولا يوحشك إلا الباطل، فلو قبلت دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوك) وفي آخر كلامه هذا إشارة إلى رفض أبي ذر لمال أعطاه عثمان ومعاوية مقابل سكوته وتأمين جانبه للباطل.

لقد جاء الإمام علي (ع) إلى السلطة والفتن على اشدها ونتيجة لتمسكه المتصلب بالحق، والاهتمام بالسياسة وتحقيق الممكن منها على إنها فن الممكن كما نفهم في عصرنا مما يريد أن يحقق، وهذا الأمر بحد ذاته لا يرجع كما هو شائع إلى عدم دراية وبلوغ فطنة، بل تذمر الناس الشديد من سياسة عمال الخليفة عثمان، على الأمصار إذ وصل الأمر إلى الثورة ضده وقتله، وبهذا لم يكن أمام الإمام علي (ع) إلا رفع الشعار الآتي: (وأيم الله لأبقرن الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته) والحق الذي يريد أن يقيمه كما سار عليه رسول الله (ص)، وما انتهك لا يمكن تحقيقه، والولاة يتربعون على إمارة الأمصار ويملكون خزائن أموال المسلمين، ولذلك فان أول ما نهض به الإمام علي (ع) هو أخذه قطائع الأرض التي منحت للصفوة من القوم في خلافة عثمان وعلى يد بعض ولاته، وبهذا يقول (ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل مال أعطاه من بيت المال فهو مردود إلى بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء وإن وجدته قد تزوج).

وفي العبارة القديمة نجد الإصرار على استرجاع هذه القطائع إلى بيت المال، والإمام علي كما يتضح اتخذ سياسة الوضوح حيث لم يضع في حساباته أو في سياسته ما يعرف بالوسائل التي تبرز الغايات.

وعن سياسته هذه يقول (والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس)، إن اعتبار القيم والأخلاق عند الإمام علي (ع) التي هي حقيقة من سجاياه الشخصية جعلته يلتزم بها في سياسته مع أعدائه وقد أتضح هذا في حادثة التحكيم التي غصبه عليها خوف سريان الفتنة بين أصحابه وبعد الحيلة التي تغلب بها (عمرو بن العاص) على أبي موسى الأشعري، ورغم إصرار بعض أصحابه على القتال، فانه ظل ملتزما بما ستؤول إليه نتيجة التحكيم، وهو العارف والقائل لابن عمه عبد الله بن عباس في استغلال بعض آيات القرآن الكريم، بسبب إمكانية تأويله وتفسيره (لا تخاصمهم بالقرآن الكريم، فهو حمّال أوجه وذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصا).

لقد شغلت مسألة الحق والعدل سياسة الإمام علي بن أبي طالب كلها، وهو يصف استهانته بالإمارة والسلطة في حديث له مع عبد الله بن عباس بأن نعله الذي يخصفه بيده أحب له من هذه الإمارة (إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا) وكذلك يقول (لم تكن بيعتكم إياي فلتة وليس أمري وأمركم واحدا، أني أريدكم لله وانتم تريدوني لأنفسكم).

أيها الناس أعينوني على نفسكم، وأيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، ولأقودن الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق وإن كان كارها).

إن هذه السياسة التي كانت محوراً منفردا في سياسة الإمام علي (ع) لم يتحملها الكثرة من المستفيدين من أمراء ومسؤولي بيت مال المسلمين، لذلك أصبح الاصطفاف مع معاوية له ثقله في مواجهة هذه السياسة، إذ وصل الأمر بأخيه عقيل أن يشد رحاله إلى معاوية بعد أن منعه أخوه الخليفة من لقمة وكساء لأطفاله. وهذه الحادثة مذكورة بقوله ( والله لقد رأيت عقيلا، وقد احلق حتى استماضى من بركم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت وجوههم بالعظام، صبغة النيله، وعاودني مؤكدا وكرر علي القول مرودا، فأصغيت إليه سمعي فظن أني أبيعه ديني، واتبع قياده مفارقا طريقي) ويقصد به طريق الحق.

إن تحقيق هذا الأمر عند الإمام (ع) هو السير الثابت لتحقيق أبرز سمات الدعوة الإسلامية وخصائصها كعدالة اجتماعية، وهاهو يراها تميز بين الناس وتصف الغني عن الفقير، حين يتكلم الإمام علي عن الحق بهذا الجهاد، فهو يعد الحق قانونا والتزاما على الناس بعد أن تم اختيارهم له غير مرغمين عليه، ويعد دفاع الناس عن هذه السياسة حقا بموجب العقد الذي عقدوه معه، والذي كان به يقبل مشورتهم، فهو يقول عندما طالبه قوم من أصحابه في عقاب القوم الذين استفادوا من سياسة عثمان والتعجيل بمحاسبتهم (أخوتاه إنه ليس ما تعلمون، ولكن كيف لي بقوة والقوم المجلبون على حد شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم، وقد ثارت معهم عنانكم والتفتت إليهم عريانكم) واكثر ما كان علي (ع) يحدث الناس بهذا الحق كسيادة قانون في حربه ضد تكتل معاوية، الذي يعده المعرقل القوي لهذه السيادة وتعميمها، لذلك فكل جهوده الحربية متجهة بهذا الاتجاه إذ قال في رسالته إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف (وسأجهد في أن اطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس) يعني به معاوية ومن خطبة له بصفين عند مواجهة هذا الباطل وساسته يقول (فالحق أوسع الأشياء، في التواصف، وأضيفها في التناصف لا يجري على أحد إلا جرى عليه– إلى قوله– وأعظم ما افترضه الله سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي).

لم يبعد الإمام علي (ع) من عد هذا الحق السياسي عقدا بين السلطة والناس، ولكن بافتراض الهي حمله القران الكريم للناس والسنة النبوية الشريفة وليس مثلما افترض جان جاك روسو وأشار به إلى نظرية العقد الاجتماعي، لقد حاول الإمام علي (ع) في مواقف عديدة حقن دماء الناس بتأكيد هذا الحق، وذلك أن يبايع له معاوية كالعامة، وان يعزل من الشام ويأتي للحساب كرأس من رؤوس أصحاب القطائع أيام عثمان، وان يرد ما عنده من المال لبيت مال المسلمين،لان معاوية كان في الشام وان إمكانية تدبير مؤامراته في الإغراء أو الاغتيال للأقوياء من أصحاب الإمام علي (ع) كقتل (مالك الاشتر) وهو في طريقه إلى مصر واليا عليها بعد أن قتل (محمد بن أبي بكر) فيها، وكإغراء (زياد ابن أبيه) والي علي (ع) في البصرة نيابة عن واليها عبد الله بن عباس.

ومن خلال مطالعة رسائل الإمام (ع) إلى عماله تظهر الدعوة إلى سيادة الحق بين الناس، فهو لا يضع لسلطة الوالي أي معيار غير أن يكون محققا لهذه السيادة والبدء بنفسه فيها، وهو يقول لواليه على البصرة (اتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك، ليكن من النار خلاصك) وكان سبب هذه الرسالة أن الوالي عثمان بن حنيف قبل دعوة إلى وليمة، فسرها علي (ع)- وهو الصائب- بهذا التفسير، بأنها مراهنة لهذا المسؤول، وكذلك رسالته (لمقصلة بن هبيرة الشيباني) واليه على آرادشير– (مقاطعة من بلاد فارس):

(إنك تقسم في المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك فهو الذي خلق الحبّة، وبرأ النسمة لأن كان ذلك حقا لتجدن بك علي هوانا، وتتحفن عندي ميزانا).

ورسالته إلى عامل آخر لم يذكر اسمه: (كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم انك تأكل حراما ؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء، مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فانك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لاعذرن إلى الله فيك، فوالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيح الباطل).

وفي قوله إلى أحد اتباعه المخلصين، وهو عبد الله بن زمعة حين قدم عليه يطلب مالاً: (إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم).

هذا ما اختلف به الإمام علي (ع) عن معاوية الذي كان يعطي بدون طلب ويغدق الأموال للحصول على تأييد.. كان الإمام (ع) يتصرف بهذه السياسة الحكيمة وهو في أمس الحاجة إلى المؤيدين والأنصار. وبهذا السلوك الشخصي ذي الالتزام الصارم بالحق كان يدفع عدداً من الناس إلى تأييده والبقاء على نصرته حتى الموت، وبهذا السلوك الذي لم يشك به حتى أعداؤه بل كان يقيم حجة على ولاته في الأمصار، وهو القائل فيما قاله لأبي حنيف: (فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادخرت من غثائها وفراً ولا أدت ليالي ثوبي طمراً).

وهو الذي ترفع عن مقابلة الأمويين بالسباب يوم جعلوا يرشقونه به، فليس من خلقه العظيم أن ينال من ناصبوه العداء بالسباب، ولو سبوه، بل إنه منع على أصحابه أن ينال من ناصبوه بالشتيمة المقذعة. فهو ما كاد يسمع قوما من أصحابه هؤلاء يسبون أهل الشام أيام حروبهم بصفين، لأنهم سايروا الغدر وماشوا الخديعة حتى قال لهم: (إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، وكفاكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في الغدر وقلتم مكان سبكم إياهم، اللهم احقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به).

وتراه يعيش بين فتنة الخوارج وفتنة بني أمية، يلتمس للأولى معاذيرها، ويدعو إلى قتال الفتنة الثانية لأنها هي فتنة الزيغ والطمع والضلال، لذلك نجده يوصي أصحابه، بعد ما فر من فر من بقايا الخوارج في النهروان قائلا: (لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه) فالخوارج عند الإمام علي (ع) لم يتخطوا أن يكونوا طلاب حق، ولكنهم أخطأوا حين نصروا هذا الحق الذي تصوروه بجانبهم، فهؤلاء يجوز قتالهم من قبيل التأديب.

لهذا السبب مضى الإمام علي (ع) بثبات وجرأة في هذه السياسة وأراد أن يجري الناس على سنة الله ورسوله الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) وأراد أن يحاسبهم على الصغيرة والكبيرة فيما يعتقدون، وأن يحملهم على العدل والحق الذي يطرحه الإسلام،خاليا من العبث والهوى والمادة.

ومن هذا الاستعراض والسياحة في آفاق نهج البلاغة وفكره الإبداعي، كانت دعوة الإمام علي (ع) لتثبت أن الحق وإعلان العدالة أمران لا يتحققان إلا حين تنتصر فيه إرادة الله السامية على نوازع الشر المنحطة التي تصطنع سبلا كثيرة من الكذب والمكر واستهواء الناس بما يلائم مطامعهم مما يحسنه أهل المكر والرياء والنفاق، ولا يحسنه أهل الصدق والصفاء والإيمان … هذا هو الإنسان الكبير في حياته، الكبير في موته، الكبير في عبقريته….. تفتيك عن الكثير من التراجم وتعفيك من آفات الروايات.

وحسبنا من الإنسان أثره الذي ينطق عنه، وحين يجتمع الناس على حب رجل، سواء فيه الخصوم والمحبون، فاعلم بأنه رجل عظيم، لأن المحبين أسفوا على المأساة في حياته وموته، والمبغضين لم يسعهم إلا أن يعترفوا بعظمته ويخضعوا لسلطانه.

وهو الذي كان يتمنى أن يخلص حبه من محب غالٍ فيه، وأن يبرأ بغضه من نفاق وانحياز كما قال له المصطفى (ص): يا علي يهلك فيك اثنان.. محب غال ومبغض قال. لقد كان الإمام علي (ع) ولا يزال مثال الشجاعة والحكمة والعلم والأدب والصراحة والشخصية النبيلة، والمثل الأعلى للإنسان في كفاحه ضد الظلم والباطل والضلال منذ أن سطع نجمه وهو غلام في كنف النبوة إلى يوم الدين.


--------------------------------------------------------------------------------

* باحث وكاتب

المصادر:

1- النصوص التي وردت في المقال اعتمدت على نهج البلاغة للشيخ محمد عبده، والشيخ ابن أبي الحديد المعتزلي.

2- ترجمة سيرة الشريف الرضي مأخوذة من نتاج الأستاذ الكبير الدكتور زكي مبارك في كتابه (عبقرية الشريف الرضي







توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 19  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 04:02 PM


إعلان حالة الطوارئ في ظل حكومة الإمام علي







تواجه الحكومات والأنظمة بجميع أنواعها عادة حالات خاصة تضطر فيها إلى إعلان حالة الطوارئ، تلجأ إليها الدولة عندما تمر بأزمة حادة، وخاصة في فترات وقوع الكوارث الطبيعية كالسيول والزلازل، أو غير الطبيعية كالحروب والانقلابات العسكرية والثورات، وتصبح إدارة البلاد غير ممكنة بالطرق الاعتيادية، وبإعلان حالة الطوارئ تتجاوز الدولة الكثير من الحقوق المشروعة للمواطن والحريات التي أقرتها القوانين الموضوعة، لتتصرف وفق ما تقتضيه المصلحة العامة وما ترتئيه الدولة دون الرجوع إلى تلك القوانين.

ولعلّ أهم هذه الظروف الاستثنائية التي تشهدها أغلب البلاد هي ظروف الأزمات السياسية التي تعصف بها، والسبب في ذلك تصاعد الاختلافات والتناحرات السياسية بين الدول من جهة، وبينها وبين المعارضة من جهة أخرى، وتتمثل هذه الاختلافات تارة بالاغتيالات السياسية والانفجارات وممارسة شتى أنواع العنف الأخرى، وتارة أخرى بشن الحروب والهجوم المسلح العسكري من قبل دولة على أخرى، وفي بعض الأحيان تبرز بشكل مظاهرات واضطرابات داخلية أو القيام بانقلابات عسكرية داخل مؤسسات النظام القائم.

تعلن الدول حالة الطوارئ فوراً عندما تواجه مثل هذه الأزمات، وتعطي لنفسها الحق باستخدام شتى الوسائل المناسبة والممكنة لاحتواء الأزمة، بحجة إعادة النظام والاستقرار وتأمين المصالح العامة..

واللجوء إلى الأحكام العرفية وبسط يد العسكر في إدارة البلاد، واحد من الوسائل التي تتخذها السلطات للقضاء على الفوضى والاضطرابات وحينها تخضع البلاد لقوانين ومقررات عسكرية تسمح للعسكر في أن:

1- يفتشوا المنازل دون إذن مسبق.

2- يمنعوا المواطنين من السكن في المحلات التي يقطنونها ويرحلوهم عنها.

3- يمنعوا تجمع أكثر من ثلاثة أشخاص.

4- يقيموا المحاكمات الميدانية وعلى ضوئها يُحكم على المعتقلين وتنفذ فيهم الأحكام الصادرة.

5- يضعوا الحواجز على الطرقات وفي المحلات السكنية ليسيطروا بواسطتها على حركة الناس.

6- يعطلوا إصدار الجرائد والمجلات أو يخضعونها لرقابة مشددة.

7- يحلّوا المجالس الشعبية والنيابية والقوة التشريعية ويمنعوا أي نوع من أنواع الانتخابات.

لا تختلف الأنظمة بوضع هذه الإجراءات موضع التنفيذ، أياً كان نوعها دستورية برلمانية أو شمولية استبدادية، إلا بفارق بسيط هو أن الحكومات الديمقراطية تشرع تلك الإجراءات عن طريق آراء ممثلي الشعب في البرلمان؛ أي القوة التشريعية، بينما يتم اتخاذ مثل هذه الإجراءات في الحكومات الاستبدادية من قبل الملك أو رئيس الجمهورية أو رئيس القوة التنفيذية.

ولذلك احتوت قوانين ودساتير جميع الدول على مواد قانونية تعالج الحالات الطارئة عليها وتعترف بها بصورة رسمية.

الدستور الدائم الألماني

عبّر الدستور الدائم الألماني عن الحالة غير الاعتيادية بـ(الوضع الاضطراري)، فأعطت المادة 81 من هذا الدستور للمستشار الألماني في الأوضاع الاضطرارية صلاحيات واسعة، ففي حالة عدم المصادقة على أطروحاته في المجلس النيابي وعدم حصوله على أكثرية الآراء للاستمرار في الحكومة، فإن القانون يعطيه الحق بحل المجلس، وليس عليه تقديم استقالته أو التفاهم مع بعض ممثلي الشعب لتحقيق الأكثرية اللازمة لديمومة الحكومة، وإذا امتنع المجلس النيابي عن المصادقة على اللوائح والقوانين اللازمة التي يطرحها رئيس الحكومة، فإن القانون يسمح له (إعلان حالة الطوارئ التشريعية) ويرجع في مصادقة القوانين إلى مجلس ممثلي المحافظات والولايات والمقاطعات للمصادقة عليها وتنفيذها.. تستمر هذه الحالة طبقاً للقانون المذكور مدة ستة أشهر قابلة للتمديد لفترة ستة أشهر أخرى.

الدستور الفرنسي:

تعطي المادة 16 من الدستور الدائم الفرنسي رئيس الجمهورية صلاحية الحاكم المطلق في حالة تعرض البلاد إلى الطوارئ، ويتمتع بموجب هذه المادة بصلاحيات القوى الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) فيمكنه أن يقرر ما يشاء، تشمل حالة الطوارئ الاستثنائية هذه الحوادث التي قد تهدد أركان الجمهورية الفرنسية وتعرض استقلال البلاد ووحدة أراضيها للخطر، فلا يمكن للدولة أن تتعهد بالتزاماتها الدولية إلا عن طريق إعلان حالة الطوارئ.

وفي هذه الحالة فإن على رئيس الدولة أن يسلك كافة السبل المؤدية إلى إنقاذ بلده وإخراجه من الأزمة بأمان وفقاً لتشخيصه الخاص، مدة حكومة الطوارئ أيضاً يحددها الرئيس، وله أن يمددها للفترة التي يشاء وإلى أمد غير محدود.

القوانين الأمريكية:

يتمتع رئيس الجمهورية الأمريكي في زمن الحرب بصلاحيات واسعة، وذلك طبقاً للقوانين المعمول بها في أمريكا، فيستطيع أن يصادر الأموال والممتلكات الخاصة من أي شخص كان لصالح العمليات العسكرية، وكذلك إصدار أوامر الاعتقال للمتهمين بصورة مباشرة، وهذا ما مارسه (روزفلت) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أبان الحرب العالمية الثانية، فلم يكتف بإصدار الأوامر باعتقال اليابانيين المقيمين في أمريكا، بل طالت أوامره حتى الأمريكيين الذين ينحدرون من أصل ياباني، وبعد ذلك بفترة قصيرة صادقت المحكمة العليا لصيانة الدستور والحريات على هذه الصلاحيات، وأعطتها الصفة القانونية والرسمية.

تسجل هذه الملاحظات والوقائع في دول ما فتئت ترفع شعار الدفاع عن حقوق الإنسان، وتؤكد على ذلك منذ ما يناهز مائتي عام، وقد دفعت بعضها ثمناً باهضاً وتعرضت إلى ضربات ماحقة طالت كياناتها السياسية، واتهمت أمام العالم بخرقها لحقوق الإنسان.

النظم الإسلامية:

قبل أن نتطرق إلى طريقة التعامل مع الأوضاع الاضطرارية أو حالة الطوارئ، من قبل حكام الدول الإسلامية، لا بد من الإشارة إلى الفرق الشاسع بين النظم الإسلامية الحاكمة التي كانت سائدة فيها والموجودة حالياً، وبين النظام الذي يصبو الإسلام إليه، والتعرف على حدود وأبعاد كل منهما، ذلك لأنه لا يوجد أي تشابه بين النظام الإسلامي في زمن رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع) وما آلت إليه الحكومات التي تدعى إسلامية وقد تختلف جذرياً ومن جميع الأبعاد معه.

فالحكومتان العباسية والأموية كانتا من أسوأ النظم التي شهدتها البشرية وعرفها التاريخ، لأن هدف الحكام في هذه الأنظمة يتلخص في التسلط والاستبداد، ولم يتوان هؤلاء الحكام، من أجل الوصول إلى هذا الهدف، عن ارتكاب شتى صنوف الجرائم ومختلف أشكال التعذيب والسجن والإعدامات التي طالت حتى الأبرياء، وكانت من ممارساتهم العادية.

ولذلك فالمقصود من النظام الإسلامي إنما هو النظام الذي أقامه رسول الله(ص) والإمام علي(ع) وليس المقصود كل نظام أطلق على نفسه مثل هذا العنوان.

ومع أن حدود دولة الرسول(ص) وحكومته كانت تنحصر في منطقة جغرافية صغيرة تدعى المدينة المنورة، فإن الرسول(ص) لم يسلب أو يتغاض قط عن أي حق من حقوق الإنسان، ولم يصادر حق أي شخص بحجة الحفاظ على المصلحة العامة أو المصالح القومية العليا، كما يفعل الكثير من الحكام، فلم يعلن رسول الله(ص) (حالة الطوارئ) طيلة فترة حكمه، حتى عندما كان يتعرض إلى هجوم الأعداء والضغوط من قبل قوى الشرك والضلالة، ولم يعط لنفسه صلاحيات واسعة واستثنائية في أحلك الظروف.

وكذلك كانت حكومة الإمام علي(ع) الذي انتخبه الناس وبايعوه للخلافة ليصبح خليفة على المسلمين بإرادتهم، فلم يلجأ إلى إعلان (حالة الطوارئ) قط رغم كل المشاكل والمتاعب التي واجهها في زمن خلافته، بل على العكس من ذلك كرس احترام الحقوق المدنية للشعب، وأطلق لهم حرية العمل والانتخاب، وحرية ممارسة حياتهم بالطريقة التي يرغبون، فهو لم يستخدم أساليب الأعداء الذين تألبوا عليه في أصعب وأشد الأزمات السياسية التي عصفت بواقع الدولة الإسلامية، ولم يتمثل سلوكهم الشاذ، لكنه أصر على أسلوبه الخاص في سياسة البلاد، والقائم على أساس الحفاظ على مصالح الناس - المؤالف منهم والمخالف - وصيانة حقوقهم.

الإمام علي (ع) والناكثون:

ليس لنكث البيعة في العرف السياسي السائد للحكومات والأنظمة بشتى صورها غير معنى واحد، وهو العصيان والتوسل بالفوضى والاضطرابات من أجل إسقاط الحكومة القائمة، وتتعامل الحكومات عادة مع مثل هؤلاء بأشد أنواع القسوة وبلا رأفة ورحمة، من أجل قمع حركتهم ووأدها في المهد، لكن الإمام علياً(ع) لم يتعامل مع الناكثين لبيعته بهذا الأسلوب، فعندما انتخب الإمام للخلافة بإجماع المسلمين وإرادتهم الحرة، رفض البعض - من أمثال عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن سلمة الأنصاري وغيرهم - مبايعة الإمام ورفعوا لواء المعارضة. كان يمكن للإمام(ع) آنذاك - خاصة والبلاد كانت تجتاز مرحلة عصيبة من الثورة والفوضى السياسية والاضطرابات الداخلية - أن يلجا لقانون الطوارئ، ويقضي عليهم بحجة إعادة الأمن والاستقرار وحفظ الصالح العام ويلغي أي دور لهم في المجتمع، ولكنه لم يفعل ذلك ولم يأخذ منهم البيعة بالإكراه.

يوضع أمثال هؤلاء الأشخاص في حكومات اليوم تحت الإقامة الجبرية والمراقبة التامة لجميع تحركاتهم وسكناتهم؛ بينما الإمام علي(ع) لم يكتف بأن لم يضيق على هؤلاء بل أعطاهم مطلق الحرية في الإقامة والتحرك والتنقل، وهذا يعني الاعتراف بالحرية السياسية للإنسان بأروع صورها، واحترام رأي الآخر وإن كان مخالفاً، وإعطاءه الحق في أن يعارض ويمارس حقه بحرية كاملة.

كيف تعامل الإمام علي(ع) مع طلحة والزبير:

بعد أن يئس طلحة والزبير من تجاوب الإمام(ع) مع مطالبهم المتمثلة بإشراكهم في الأمر كنوع من الرشوة وثمناً لسكوتهم، قررا الرحيل إلى مكة لتحريك الناس وإثارتهم على الإمام، ولذلك جاءا إلى الإمام وطلبا منه السماح لهما بأداء مناسك العمرة، لكن الإمام ببصيرته الثاقبة صارحهما بحقيقة أمرهما: (إنكما لا تريدان العمرة بل الغدرة)، وهذا بالضبط ما كان يدور في خلدهما، ومع ذلك لم يمنعهما من الذهاب إلى مكة ولم يصادر حريتهما في ذلك.

لا ينسجم هذا المنطق مع الموازين السياسية السائدة اليوم، لأن أقل ما يفعله الحكام والمسؤولون عن الحكومات في مثل هذه الحالة، هو فرض الإقامة الجبرية عليهما في المكان الذي تسهل فيه مراقبتهما والسيطرة على تحركاتهما.

ولكن قيمة الحرية في منطق الإمام علي(ع) والتي أعطاها الله للإنسان أسمى وأغلى من التسلط والحكومة، وأساساً فإن فلسفة الحكومة لدى الإمام علي(ع) لا تقوم إلا على صيانة حقوق الإنسان وحفظها من المصادرة والاستهتار، وإذا حصل ذلك فإن الحكومة ستفقد مصداقيتها وفلسفة وجودها.

لم تمض فترة وجيزة إلا وطلحة والزبير وعائشة يجتمعون في مكة لتأليب الناس على الإمام علي(ع)، وعندما وصلت التقارير والأخبار عن نشاطات هؤلاء المعارضين لخلافته لم يكن رد فعله (ع) إلا أن قال: (إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخط أمارتي، وأصبر ما لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا)(1).

وعندما استعد طلحة والزبير ومعهم عائشة وفئات من المعارضين والمخالفين من الأمويين وغيرهم للتحرك إلى البصرة، تحرك الإمام بدوره إلى البصرة ولكن ليس لمنازلتهم بل لإقناعهم بالرجوع عن الفتنة وعن خيار الحرب، ولكنهم كانوا قد وصلوها قبل الإمام علي(ع) وعاثوا فيها الفساد والخراب والدمار، ومع كل ذلك لم يبدأهم الإمام بالقتال إلا بعد أن أشعلوا هم أوارها فاستأصل فتنتهم.

كيف تعامل الإمام مع القاعدين عن حرب الجمل؟

لم يستجب البعض من أهل الكوفة إلى نداء التعبئة الذي أطلقه الإمام لحرب الجمل وبقوا في الكوفة، وبعد انتهاء حرب الجمل وانتصار الإمام فيها وعودته إلى الكوفة اكتفى الإمام(ع) بتوبيخ هؤلاء، وطلب من المسلمين أن يقاطعوهم، ولكنه لم يحاربهم في لقمة العيش فأبقى على رواتبهم جارية من بيت المال، لأنهم في النهاية يجب أن يكونوا ضمن جيش الإمام؛ يأتمرون بأمره عند الضرورة، ولكن بعض قيادات وأمراء جيش الإمام طالبت بالانتقام منهم ومعاقبتهم بأشد العقوبات، وكان من هؤلاء الأمراء مالك بن حبيب اليربوعي الذي جاء إلى الإمام وقال له: بالله عليك مرنا حتى نقتلهم، فأجابه الإمام: (سبحان الله يا مالك، جزت المدى وعدوت الحد وأغرقت في النزع)، فتمثل مالك بهذا البيت في جواب الإمام:

لبعض الغشم أبلغ في أمور تنوبك من مهادنة الأعادي(2)

ويقصد أن استعمال الشدة أفضل من مهادنة الأعداء، فقال له الإمام(ع): (ليس هكذا قضى الله يا مالك، قتل النفس بالنفس، فما بال الغشم؟).

وتلا بعدها هذه الآية (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) (3)، وأضاف: والإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك فقد نهى الله عنه، وذلك هو الغشم(4).

الإمام علي(ع) في صفين:

لقد اتخذ الإمام علي(ع) في صفين كافة التدابير اللازمة وأصدر أوامره الصارمة إلى أمراء جنده أن لا يبدأوا معاوية القتال، إلا أن معاوية اعتبر ذلك ضعفاً فعندما سيطرت قواته على مياه نهر الفرات، صادرها لقواته وحرم جيش الإمام منها، عندها خطب الإمام(ع) في جيشه خطاباً قصيراً أثار فيه حماسهم وطالبهم بالسيطرة على منابع الفرات(5)، ولما سيطر جيشه على الفرات أراد بعض قادته حرمان جيش معاوية من الماء طبقاً لمبدأ المعاملة بالمثل، ولكن الإمام رفض ذلك بشدة، ولم يسمح لجيشه أن يمنع الماء عن الجيش الأموي بحجة حالة الحرب القائمة، وأن ينتصر عليهم بالعطش، ولو كان قد فعل فلن يلومه لائم، لكن الإمام كان يعطي للإنسان الحق في الاستفادة من الموارد الطبيعية التي وهبها الله لعباده وليس لأحد أن يمنعه ذلك، لذلك أعلنها الإمام للجميع: (لا إنا لا نكافيك، هلم إلى الماء، فنحن وأنتم فيه سواء) (6).

لم يشأ الإمام أن يمنع الإنسان - وإن كان من الأعداء - الماء المباح للكلاب والخنازير، ففي مبدأ الإمام علي(ع) يجب الفصل بين حق الإنسان كإنسان وبين ما يعتقده ذلك الإنسان وعدم الخلط والمزج بين الاثنين، وبذلك أثبت الإمام علي(ع) أن للإنسان الحق في الحياة، حتى وإن كان على شاكلة معاوية بن أبي سفيان فإنه ليس لأحد أن يحرمه منها، واختلاف الآراء لا يبرر حرمان الإنسان من حقوقه الأساسية.

الإمام علي(ع) والخوارج:

يشكل سلوك الإمام علي(ع) مع الخوارج نموذجاً آخر لأهمية حرمة الإنسان وحقوقه في الإسلام. لقد مارس الإمام هذا السلوك مع الخوارج في الوقت الذي كانت فيه حكومته تمر بظروف غير اعتيادية، أو ما يصطلح عليه اليوم حالة الطوارئ، فعلم الفتنة والاضطراب كان مرفوعاً في أغلب المناطق، ولكن الطريقة التي تعامل بها أمير المؤمنين(ع) مع الخوارج تبين ما في مبدأ الإمام من مناقبية ومثالية في ظل الظروف الطارئة.

1- الخوارج يكفرون الإمام(ع):

إحدى الحيل العسكرية التي لجأ إليها معاوية في معركة صفين كانت رفع المصاحف على الرماح والدعوة إلى الاحتكام لكتاب الله، هذه الحيلة انطلت على الكثير من عناصر جيش الإمام علي(ع) أجبرت الإمام على القبول بوقف القتال وبالتحكيم في وقت كانت بوادر النصر الساحق تلوح بالأفق.

وعلى أثر ذلك تشكلت لجنتان من الطرفين المتنازعين للحوار والرضوخ إلى نتائج المفاوضات بينهما، رشح الإمام علي(ع) مالك الأشتر لرئاسة اللجنة التي تمثله فلم يرتضوه فرشح عبد الله بن عباس فلم ينل القبول منهم أيضاً، وأصروا على تشريح أبي موسى الأشعري الذي لم يكن الإمام يراه مناسباً لتمثيله في المفاوضات، لعلمه بشخصيته المتزعزعة وعدم حماسته له(7)، لكنه اضطر للرضوخ لرغبتهم تحت الضغوط والإصرار الذي مارسوه عليه، فعين أبا موسى الأشعري رئيساً للجنة المفاوضة مع ممثلي جيش معاوية، وكانت النتيجة معروفة عند أمير المؤمنين(ع) مسبقاً، ولكن عندما آلت النتائج إلى ما آلت إليه كان أول رد فعل للخوارج هو أنهم كفروا الإمام علياً(ع) لقبوله التحكيم وطالبوه بالتوبة!!(8).

لم يأمر الإمام باعتقال ومحاكمة ومعاقبة الخوارج بل أعلن مبادئه العامة في الحياة، القائمة على صيانة الإنسان وحقوقه (لكم عندنا ثلاث خصال لا نمنعكم مساجد الله أن تصلّوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بحرب حتى تبدأونا) (9).

2- الخوارج في النهروان:

اجتمع الخوارج في منطقة المدائن خارج الكوفة، وقرروا الخروج مع أنصارهم من البصريين إلى النهروان، في الوقت الذي كان الإمام(ع) يستعد للخروج إلى الشام، فاقترح بعض أمراء وقادة الجيش العلوي، من أجل الحؤول دون هجوم الخوارج على الكوفة والاعتداء على الأطفال والنساء، أن يقمعوا حركة الخوارج أولاً ومن ثم يتوجهوا مطمئنين إلى الشام لقتال معاوية، لكن أمير المؤمنين(ع) رفض الانصياع لمثل هذا الاقتراح، معتبراً إياه نوعاً من القصاص قبل ارتكاب الجريمة؛ ففي مبدأ الإمام علي(ع) أنه لا يستحق أحد العقاب بمجرد التهمة أو نية الفتنة، وما دام لم يرتكب جريمة؛ قتل أو فساد في الأرض، بل يرفض الإمام حتى توبيخه.

بيد أنّ الخوارج قاموا بقتل عبد الله بن الخباب وزوجته الحامل بلا ذنب، وبذلك تحقق فيهم ارتكاب القتل والفساد في الأرض، وشكلت هذه الحادثة السبب الذي أجاز للإمام قتالهم، إلا أنه(ع) لم يفقد الأمل بالإصلاح وتجنب الحرب والقتال وسعى كثيراً في سبيل ذلك، فطلب إليهم تسليمه قتلة عبد الله بن الخباب لينالوا القصاص العادل، لكنهم رفضوا ذلك وأعلنوا أنهم جميعاً قتلته، حينئذٍ أكد الإمام لهم بأنه في هذه الحالة سيقتص منهم جميعاً، لكنهم أصروا على مقولتهم ورفضوا تسليم القتلة، فلم يبق هنا من سبيل أمام الإمام علي(ع) سوى مقاتلتهم، ومع ذلك وطبقاً لمبدئه في عدم البدء بالقتال، صبر الإمام حتى بدأوه الحرب فصار الدفاع واجباً عليه.

3- الخوارج.. مؤامرات متواصلة..!

لم يمنع الخوارج اندحارهم وكسر شوكتهم في النهروان من متابعة أهدافهم الخبيثة، فراحوا بما بقي عندهم يحوكون المؤامرات ضد الإمام(ع)، ومن تلك المؤامرات أن جاءه يوماً خريت بن راشد وقال: (يا أمير المؤمنين بين أصحابك من يريد أن يتركك ويلتحق بالأعداء فماذا أعددت لذلك؟! فقال الإمام علي(ع): إني لا آخذ على التهمة ولا أعاقب على الظن.

فقال خريت مصراً: إني أظن أن عبد الله بن وهب وزيد بن الحصين الطائي يتآمران عليك، إنهما يقولان قولاً فيك لو ارتقى إلى مسامعك فإني على يقين بأنك إما أن تقتلهما أو تودعهما السجن المؤبد، فأجابه الإمام: إني مستشيرك فيهما، فبماذا تشير؟. فقال خريت: أشير عليك أن تستدعيهما وتضرب أعناقهما.. رفض الإمام هذه المشورة وقال: لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوة، كان ينبغي لك لو أنني أردت قتلهم أن تقول لي: اتق الله بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا أحداً ولم ينابذوك ولم يخرجوا من طاعتك؟!).

وذات يوم جاء هذا الشخص إلى الإمام وقال بعصبية وغضب: سوف لن أطيعك بعد اليوم ولا أصلي معك أبداً وسوف أهجرك غداً، فحذره الإمام من مغبة أقواله وأفعاله وقال: ويحك، فهلمّ إليّ أدارسك وأناظرك السنن، وأفاتحك أموراً من الحق أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له منكر وتبصر ما أنت الآن عنه عَمٍ وبه جاهل، فقال خريت: سآتيك غداً، ومرة أخرى نصحه الإمام أن لا يقع في حبائل الشيطان(10)، لكنه خرج ولم يعد وأشعل تلك الفتنة المعروفة في التاريخ.

وصية الإمام إلى جارية بن قدامة:

كان معاوية قد أرسل بسر بن أرطاة على رأس قوة ضاربة إلى الحجاز واليمن، لتهديد أهالي تلك الأمصار وأخذ البيعة بالقوة منهم لمعاوية، فدفع الإمام علي(ع) بـ(جارية بن قدامة) على رأس قوة لصد بسر بن أرطاة وإفشال مهمته الخبيثة، وأوصاه بما يلي: (لا تسـتأثرن على أهل المياه بمياههم إلا بطيب أنفسهم... ولا تسخرن بعيراً ولا حماراً وإن ترجلت وحبست) (11).

علي(ع)على فراش الشهادة:

عندما اغتيل الإمام علي(ع) فجر التاسع عشر من رمضان بسيف ابن ملجم وكان ما زال به رمق، نادى: (لا يفوتنكم الرجل) (12)، وعندما استطاعوا الإمساك به أوصاهم أن يحسنوا إليه وقال: (إن أَبقَ فأنا وليُّ دمي وإن أُفن فالفناء ميعادي، وإن أعفُ فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله ما فجأني من الموت واردٌ كرهته ولا طائع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد وطالب وجد، وما عند الله خيرٌ للأبرار) (13).

ويؤكد أمير المؤمنين(ع) نفس هذا المعنى في وصيته إلى الحسن والحسين(ع) حيث يقول: (يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوضاً تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور) (14).

فهل توجد مثل هذه المناقبية والمبادئ عند غير الإمام علي(ع)؟ وفي أية دولة في العالم تقع مثل هذه الحوادث ولا تعلن فيها حالة الطوارئ والأحكام العرفية؟! ولا يتعرض فيها الناس الأبرياء إلى الاعتقال العشوائي والأخذ بالظنة والتعذيب؟!.

فمن غير علي(ع) يقول لابنه: إن قاتلي أسيرك الآن فعامل أسيرك بالإحسان؟!.

مبادئ الإمام علي(ع):

مما تقدم يتضح لنا أن حالة الطوارئ وإعلان الأحكام العرفية ليس لها معنى في مبادئ الإمام علي(ع)، وليس في قاموسه السياسي قانونان: قانون للحالة العادية وقانون للظروف الاستثنائية، وبناءً على ذلك يمكننا أن ندعي وبقوة بأن الإمام علياً هو الحاكم الوحيد في العالم الذي واجه في حكومته الاضطرابات السياسية والحروب الأهلية الداخلية والفتن المتنوعة الأشكال والضروب، فلم يلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ، ولم يتوسل بالأحكام العرفية، وذلك هو الإعجاز بعينه.

وبهذا الأسلوب أغلق الإمام علي(ع) الباب على جميع الحكام والرؤساء في التوسل بالأحكام العرفية وإعلان حالة الطوارئ لمصادرة حقوق الإنسان والحريات العامة، ولم يبق لهم عذراً في ذلك، وبإعلانه لهذه المبادئ الإنسانية أثبت أن للإنسان في الإسلام حقاً وكرامةً لا يمكن بأي شكل من الأشكال مصادرتهما وليس لأحد تحت أشد الظروف العذر بإلغائهما والقفز عليهما، والمتشيع للإمام علي(ع) يجب أن يَقْفو آثار إمامه، والفرق كبير اليوم بيننا نحن الشيعة وبين الإمام، ففي فكر الإمام(ع) ومبادئه أن الإنسان لا يعدو كونه واحداً من اثنين (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).

الهـــوامــش:

(1) وقعة صفين: ابن مزاحم المنقري، ص4.

(2) ن.م: ص193.

(3) المصدر السابق.

(4) نهج البلاغة: خطبة 51.

(5) وقعة صفين: مصدر سابق، ص193.

(6) وقد ورد حديث للإمام أمير المؤمنين (ع) في هذا الشأن، هذا بعضه: (وقد كنت أمرتكم فيه هذه الحكومة بأمري، ونخلت لكم مخزون رأيي.. فأبيتم إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة)..

(7) نهج البلاغة: خطبة 35.

(8) ن.م: خطبة 58.

(9) نهج السعادة: محمد باقر محمود، 2/342.

(10) ن.م: ص485.

(11) ن.م: 5/370.

(12) طبقات ابن سعد: 3/36.

(13) نهج البلاغة: خطبة 23.

(14) ن.م: خطبة 47.





توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'

الصورة الرمزية Dr.Zahra
Dr.Zahra
شيعي حسيني
رقم العضوية : 429
الإنتساب : Oct 2006
المشاركات : 12,843
بمعدل : 1.94 يوميا

Dr.Zahra غير متصل

 عرض البوم صور Dr.Zahra

  مشاركة رقم : 20  
كاتب الموضوع : Dr.Zahra المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-10-2007 الساعة : 04:03 PM


دولة الإمام علي(ع)...

بعض الملامح



--------------------------------------------------------------------------------

إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالرغم من الأمر الذي تمّ على صعيد إقصاءهم عن مجال الحكم، كانوا يتحمّلون باستمرار مسئوليتهم في الحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلامية المحمدية، وتحصينها ضد التردي إلى هاوية الانحراف والانسلاخ من مبادئها وقيمها، فكلما كان الانحراف يطغى ويشتد وينذر بخطر التردي إلى الهاوية، كان الأئمة يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك، وكلما وقعت التجربة الإسلامية أو العقيدة في محنة أو مشكلة وعجزت الزعامات عن علاجها بحكم عدم كفاءتها بادر الأئمة إلى تقديم الحل ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددها.

وبكلمة مختصرة كان الأئمة يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الإسلامي ، ويحرصون على أن لا يهبط إلى درجة تشكل خطراً ماحقاً، وهذا يعني ممارستهم جميعاً دوراً إيجابياً فعالاً في حماية العقيدة وتبني مصالح الرسالة والأمة، وفي هذا فعل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) حين تولى مسؤولية الخلافة الإسلامية وتسلّم رسمياً مهمة قيادة الدولة والأمة الإسلامية في فترة سنوات 35-40 هجرية.


--------------------------------------------------------------------------------

الإيجابيات التي جسدها الإمام علي(ع) قبل خلافته

لقد تمثّل الدور الإيجابي الذي جسّده الإمام(ع) في تجربته العظيمة وسياسته الحكيمة في صور عدة أبرزها:

1- إيقاف الحاكم عن المزيد من اللامسئولية والانحراف، وهو ما تجسد كما عبر عنه(ع) حين صعد عمر بن الخطاب على المنبر وتساءل عن ردّ الفعل لو صرف الناس عما يعرفون إلى ما ينكرون، فرد الإمام(ع) عليه بكل وضوح وصراحة «إذن لقومناك بسيوفنا».

2- تعريفة الزعامة المنحرفة إذ أصبحت تشكل خطراً ماحقاً ولو عن طريق الاصطدام المسلّح والشهادة.

3- مجابهة المشاكل التي تهدّد كرامة الدولة الإسلامية، وعجز الزعامات القائمة عن حلها.

4- إنقاذ الدولة الإسلامية من تحد يهدد أمنها وسيادتها.

5- اتخاذ مظهر السلبية والمقاطعة في أكثر الأحايين، بدلاً عن مظهر الاصطدام المباشر والمقابلة المسلحة صيانة لدماء المسلمين، إذ أن المعارضة حتى بصيغتها السلبية كانت بمثابة عملاً إيجابياً عظيماً في حماية الإسلام والحفاظ على مثله وقيمه السامية.

6- تموين الأمة العقائدية بشخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية، ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة وضربها في بدايات تكوينها من ناحية أخرى.

وفي الواقع فإن تلك الآثار الإيجابية وغيرها مثّلت العطاء والدور الإيجابي الذي مارسه الإمام(ع) في الأمة بالرغم من إقصائه عن مركز الحكم لسنوات طويلة، وهذا كان سبباً واضحاً وملموساً في إفراز الواقع المرير والصور السلبية التي رافقت حياة الأمة المسلمة على مختلف الأصعدة (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل وحتى معنوياً)، ولدرجة ما آلت إليه الأمور في نهاية المطاف، وبما أدت إلى ثورة الأمة وقتل الخليفة (الثالث) عثمان بن عفان، وبالتالي قيام دولة الحكم الإسلامي بإمامة وقيادة علي(ع)، والتي كانت بحق فترة انتقالية وعودة إلى التجربة المحمدية الأصيلة.

صورة الوضع القائم في عهد الخليفة عثمان

انعكست مسيرة الحكم لعثمان بن عفان، وما آلت إليه من ممارسات خاطئة وتطورات سلبية طالت مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بسبب مباشر من عدد كبير من الولاة والصحابة والعمال، أمثال سعيد بن العاص وعبد الله بن عوف الزهري، وقادة بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، وغيرهم ممن قربهم عثمان إليه ومكّنهم في الوصول إلى دائرة الحكم.

ويمكن إجمال مظاهر ومساوئ الحالة العامة التي سادت مجتمع الأمة المسلمة وقتذاك بالآتي:

1- سوء الإدارة وفساد جهاز الحكم.

2- سوء السياسة المالية، وشيوع السرقة في بيت مال المسلمين والرشوة.

3- نشوء التعددية الطبقية، وبروز طبقة (الأرستقراطية) التي ضمت المقربين من الخليفة والحاشية الحاكمة.

4- معاداة واضطهاد كبار صحابة الرسول محمد(ص) والإمام علي(ع)، أمثال عمار بن ياسر ومالك الأشتر النخعي وأبو ذر الغفاري ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وسلمان الفارسي (المحمدي).

5- سياسة القسوة والبطش، المتبعة في إسكات وقمع حركات الاحتجاج الشعبي لدى مختلف أوساط الأمة.

كل تلك المظاهر أدت إلى تفاقم حدّة النقمة والمعارضة الشعبية الواسعة، وفقدان الأمة الثقة بحكامها، وبالتالي بروز حركات التمرد والثورة ضد الخليفة عثمان وسلطته، فيما كانت الكوفة (العراق) ساحة لأقوى تلك الحركات المعارضة والثائرة طلباً للإصلاح ومحاسبة ومعاقبة المقصرين والمتآمرين على الإسلام والأمة، ولما لم يكن هناك من يصغي للمطاليب المشروعة للأمة، فإنها آلت في نهاية المطاف إلى مقتل الخليفة عثمان وسقوط نظام سلطته الحاكمة.

علي (ع) يتصدّى لتغيير هذا الواقع

لقد كان صوت علي بن أبي طالب(ع) في مقدمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمعارضة لهذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي الإسلامي في العهود التي سبقت خلافته، ومن ثم فإن حركة المعارضة والنقد، ثم الثورة، ضد هذه الأوضاع الشاذّة المستجدة قد اتخذت من علي(ع) رمزاً لها وقيادة تلتفّ من حولها، كي تمارس الضغط والنقد والتجريح لأصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع الطارئة على المجتمع. حدث ذلك حتى قبل مقتل عثمان ومبايعة علي بالخلافة.

ومن هنا كانت الوقائع والأحداث التي سجّلتها مصادر التاريخ تحكي علاقة الإمام بحركة التغيير، وموقفه (ع) من التطبيقات الخاطئة ففي لقاء من بين لقاءات عدة بين علي وعثمان، ينتقد فيه علي عثمان لميله لبني أمية، وإطلاقه العنان لهم كي يستأثروا بخيرات الناس ويحتازوا حقوقهم، وينبهه إلى خروجه عن نهج الأمة الذي سار عليه من سبقه، وينكر أن يكون عثمان في نهجه مساوياً لأبي بكر وعمر بن الخطاب على أقل تقدير.

والاعتقاد الراسخ هو أن موقف علي(ع) ضد الفرع الأموي من قريش، إنما هو جزء في موقفه العام ضد قادة قريش وأغنيائها، أولئك الذين ناصبوا الفرع الهاشمي المحمدي، العداء منذ ظهر الإسلام، وخاضوا ضده الحروب، ثم تربصوا به -حينما هُزموا- حتى انقضوا على دولة الدين الجديد تحت راياته وأعلامه.

ولو كانت القيادة الإسلامية قد آلت إلى الإمام(ع) قبل حادثة السقيفة أو بعدها لما حدث هذا الاختلال الملحوظ وكان مصداق ذلك ما تحقق عندما بايعه الناس بالخلافة حيث أعلن الثورة الشاملة ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت محل نقده ومعارضته.

الإمام علي(ع) بعد تولي الخلافة

أصبح علي(ع) الخليفة الفعلي للمسلمين، واجتمعت بيديه مقاليد الأمور، فثاب إلى المجتمع هدوء مشفوع بالأمل وارتقاب فجر جديد، وبدأ علي(ع) أول ما بدأ بإعطاء الحق إلى الشعب، فقد وجد أن مشاكلهم المعلقة أضحت مزمنة، لم يبت فيها بشيء، فعطف على آلام هذا الجمهور وواساه بنفسه وقلبه ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

وذهب مع تقريره بأن المجتمع الذي يقوم النظام فيه على برنامج غير مكتوب، يظلّ عرضة للعبث والتلاعب والتصرفات التي من شأنها أن تضيره، إذا لم يقصد أولاً وقبل كل شيء إلى الاختيار وانتقاء الشخصيات التي تضم إلى الكفاءة، الإخلاص والضمير. بل من رأي علي(ع) الإصلاح حتى في المجتمعات التي يستوي النظام فيها على برامج مكتوبة، لا يتم على وجه مضمون إلاّ بالشخصية المنتقاة، ولمس إلى ذلك إن أكبر عناصر الشكوى وأهم أجزائها هو الجزء الخاص بالأمراء والولاة، فبادر قدماً إلى تغيير التعيينات، متوخياً في ذلك مجاراة الحق والعدل والمصلحة العليا للإسلام والأمة، دون أن تأخذه لومة لائم، أو يمنعه سطوة جاه أحد أو تأثير حزب أو فئة ما أو أية ضغوطات أو مؤثرات.

صور وإنجازات الحركة الإصلاحية في دولة الإمام(ع)

1- في السياسة: أعلن عن عزل العمال والولاة السابقين على الأقاليم، ولم يتراجع عن ذلك عندما حاول البعض الحؤول دون ذلك، وهذا موقف شهير في كل كتب التاريخ.

2- في ميدان القطائع: كانت هناك الأرض التي جعلها الخليفة عمر ملكا خاصاً لبيت المال، ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته، وبصددها كان موقف علي(ع) حازماً وحاسماً.. فلقد ألغى هذه العقود، وقرر ردّ هذه الأرض إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال، ورفض أن يعترف أو يقر التغييرات «التصرفات العقارية» التي حدثت في هذه الأرض.

3- في ميدان العطاء: أحدث علي(ع) تغييراً ثورياً لعله كان أخطر التغييرات الثورية التي قررها، والتي أراد بها العودة بالمجتمع إلى روح التجربة الثورية الإسلامية الأولى على عهد الرسول الكريم(ص) ذلك أن النظام الذي كان معمولاً به من عهد النبي(ص) فيما يتعلق بالعطاء -والعطاء هو نظام قسمة الأموال العامة بين الناس- بالمساواة، وهذا كان قد ألغاه الخليفة الثاني واستبد له بنظام التفضيل.

وبشكل عام يمكن إجمال صور الحركة الإصلاحية الشاملة التي قادها الإمام بالآتي:

أولاً- الإصلاح الإداري: حيث قام بعزل معظم الولاة عن الأمصار ومسئولي الجهاز التنفيذي الإداري من الدولة، وإقصاء أولئك النفعيين الذين لم يكن لهم هم في الحياة سوى السلب والنهب وكنز الذهب والفضة والتسلّط المرير على رقاب المسلمين، وقال(ع) في ذلك: «والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيَّ من أمري»(1).

ثانياً- الإصلاح الاقتصادي: وتمثل بإرجاع قطائع العهد السابق وأقطاب الحاشية الحاكمة لأصحابها الشرعيين، وتوزيع الثروة بشكل عادل، وإلغاء التصنيف الطبقي للناس، ومصادرة الأموال التي نهبها المدللون من خزانة (صندوق) الدولة، ليتمتعوا بها على حساب الجماهير الجائعة المحرومة، وإعادة تنظيم بيت المال (الميزانية) على أسلوب جديد سليم ومستقيم.

ثالثاً- الإصلاح الاجتماعي: وهذا تجلى في أولى خطواته (ع) بإلغاء القيم العشائرية والقضاء على النزعة القبلية السائدة في المجتمع، والعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة القائمة على أساس المساواة العامة الشاملة، فلا تفاضل بين قوم وقوم وجنس وجنس، ولا شأن أبداً للعرق أو اللون أو العمر أو أي امتياز آخر من الامتيازات العرقية التي كان يتمايز بها الناس، ولا تصنيف للطبقات والفئات الاجتماعية، ولا تنابز بالألقاب، ولا تفاخر بالزينة والأموال والأولاد.

أسس السياسة عند الإمام علي(ع)

تتمثل أسس السياسة الشرعية التي انتهجها الإمام علي(ع) وطريقة الحكم التي جسدها خلال فترة السنوات الخمس (35-40هجرية) التي تولى فيها مسؤولية الخلافة وقيادة الدولة الإسلامية، تتمثل بمجموعة مبادئ وجوانب؛ أبرزها يتحدد بـ:

أخلاق الحاكم أو القائد السياسي وواجباته:

1- العمل الصالح أعظم ذخيرة.

2- امتلاك الهوى، والشح بالنفس عما لا يحل له، والشح يعني «الإنصاف فيما أحببت وكرهت».

3- العدل بين الناس جميعاً، فإنهم صنفان:«إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».

4- التحذير من سفك الدماء بغير حق، وهو مما أكّد عليه الدين الإسلامي.

5- النهي عن الإعجاب بالنفس، وحب الإطراء.

6- النهي عن المن على الرعية بالإحسان، أو التزيد في إظهار ما وقع منه بالفعل.

7- النهي عن الإخلاف في الوعد، بعد الوعد.

8- النهي عن الاستئثار بما فيه الناس متساوون.

9- الحلم وتأخير السطوة حتى سكون الغضب ليمتلك الحاكم عندها الاختيار، وقوام ذلك «ذكر المعاد إلى ربك».

10- أَمرُ الحرس والشرطة والأعوان بعدم التعرّض لذوي الحاجات، حتى يعرض واحدهم حاجته للحاكم، دون تردد.

11- ألا يطيل احتجابه عن رعيته.

12- تنحية الضيق والاستكبار عن الرعية.

13- إجابة من يستعملهم (السلطة التنفيذية بعده) عما يعجز عنه الإداريون وتعقيداتهم.

14- منع خاصته (ع) من التدخّل في شؤون الحكم.

15- إلزام الحق من لزمه، قريباً كان أو بعيداً.

16- إظهار العذر للرعية، حال ظنها وقوع الظلم عليها من قبل الحاكم.

خصائص المستشارون وصفاتهم

لا غنى للحاكم عن المستشارين، وأهم صفات المستشار هي:

1- ألا يكون بخيلاً يعدل بالحاكم عن الفضل، ويعده الفقر.

2- ألا يكون جباناً يضعفه عن الأمور.

3- ألا يكون حريصاً يزين الشره بالجور.

4- تعويد المقربين والإعلاميين على عدم المدح، أو كسب رضا الحاكم وفرحه بباطل لم يفعله.

5- عدم المساواة بين المحسن والمسيء، فإن ذلك تشجيعاً لأهل الإساءة على إساءتهم، وتزهيداً لأهل الإحسان في إحسانهم، وإلزام كل منهم ما ألزم به نفسه، من شكر أو عقاب.

6- حسن الظن بالرعية، دليله إحسانه إليهم، وعدم استكراههم على ما ليس عندهم، وتخفيف الأثقال (المؤونات) عنهم.

سياسته (ع) في مجال القضاء ومواصفات القضاة

حدد(ع) صفات القاضي بما يلي:

1- أن يكون ممن لا تضيق به الأمور، ولا تغضبه الخصوم.

2- أن لا يتمادى في الزلّة.

3- أن لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق إذا أخطأ.

4- أن لا تشرف نفسه على طمع.

5- أن يكون عميق النظر، لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه.

6- أن يكون حازماً عند اتضاح الحكم.

7- أن يكون طويل الأناة، لا يضيق بمراجعة الخصم، وصبوراً حتى تتكشف الأمور له.

8- أن لا يستخفّه زيادة الثناء عليه، ولا يستميله إغراء.

العلاقة الاجتماعية - السياسية بين الحاكم والرعية

وهذه تقوم على المبادئ التالية:

1- إطلاق عقدة كل حقدٍ بين الناس، وتعهد قطع دابر أية عداوة بينهم.

2- التغابي عن كل ما لا يصح له.

3- عدم تصديق الساعي بالوقيعة والنميمة، فهو غاشٌّ وإن بدا متشبهاً بالناصحين.

الطبقة السفلى من المجتمع

وتضم المساكين والمحتاجون وشديدو الفقر، وذوي العاهات أو الأمراض التي تمنعهم من الكسب، ويوصي الإمام(ع) بهذه الطبقة، ففيهم السائل، والمتعرض للعطاء بلا سؤال، وطريقة التعامل العملية معهم هي:

1- تخصيصهم بنصيب مقسوم لهم من بيت المال، كما أن لهم نصيب من ثمرات أرض الغنيمة.

2- المساواة فيما بينهم من هذا التخصيص، فللقاصي منهم كالداني.

3- تعهدهم بشكل دائم من قبل الحاكم، فلا يصرفنّ همة عنهم، ولا يتكبرنَّ عليهم.

4- تفقد أمور من لا يطالب بحقه منهم، وذلك بتخصيص رجال ثقاة للبحث عنهم، والتعرّف على أحوالهم عن كثب، ممن هم من أهل خشية الله والتواضع لعباده.

علي(ع) والنظام الإداري

أقام الإمام(ع) نظاماً إدارياً محكماً، حدّد فيه الوظائف وأوضح طرق تعيين الموظفين، وبيَّن واجباتهم وحقوقهم، وأقام عليهم تفتيشاً دقيقاً، ووضع أسس الثواب والعقاب، والمسؤولية الإدارية بشكل عام.

إن العامل يقوم مقام الخليفة إذا كان معيناً من قبله، أو يقوم مقام أعلى إذا كان هذا العامل هو الذي عينه. ويشترط الإمام في العامل شروطاً مشددة، لخطورة مركزه والسلطة التي يتمتع بها، يقول الإمام(ع) في عهده لمالك الأشتر:«ثم أنظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختياراً، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ فيهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة».

- الإمام (ع) حدد سياسة التعامل مع الولاة بالشروط الآتية:

1- تولية الواحد منهم بالامتحان، وليس اختصاصاً، وميلاً لمعاونتهم، ولا استبداداً بلا مشورة.

2- أن يكون من أهل التجربة والإحياء من أهل البيوتات الصالحة، والخطوة السابقة في الإسلام.

3- التحفّظ من الأعوان، وعقوبة من اجتمعت عليه أخبار المراقبين بما فعل.

4- تفقد أمر الخراج (الضرائب) مما يصلح أهله، لأنه مهم لحياة الناس.

5- تفضيل عمارة الأرض على جباية الضرائب وفرض المكوس.

- أما ما يتعلق بالكتّاب، وهم في عصر الإمام(ع) أفراد الجهاز الإداري للدولة، فالطريقة التي اعتمدها تمثّلت بالشروط الآتية:

1- عدم اجتماع سلطات إدارية واسعة في يد واحدة.

2- اختبارهم بما وُلوا للصالحين قبل.

3- أن يكون واحدهم حسن الأثر في العامة.

4- أن يكون أعرف الناس بالأمانة والقيام بها.

5- سوء إدارة الكتّاب، مسؤول عنه من وضعهم في مناصبهم تلك.

الناحية الدستورية:

جعل الإمام (ع) في عهده رضا الأغلبية واحترامها أساساً في الحكم مادام هذا الرضا ينسجم مع العدل في منظوره الإسلامي، «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة (أي يذهب به)، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة.

وإنما عماد الدين وجماع (جمع المسلمين)، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم».

سياسته المالية:

لقد كان الإمام علي(ع) ثورة في هذا المجال، قد لا تكون البشرية حققتها حتى اليوم، إذ أنه لم يخلط قط بين مال أحد ومال الدولة أو مال الله، ولم يتعامل مع الأشياء العامة على أنها أشياؤه الخاصة.

كانت الدولة في نظره مختلفة عنه شخصياً، على أساس أنها سلطة من الله تعالى، وشعب من البشر الذين هم إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، وأن أموالها هي أموال الله وأموال المسلمين، وليست أموال الخاصة.

يقول (ع) عندما اقترحوا عليه أن يعطي الكبار بشكل مميّز:«لو كان المال مالي لسويت بينهم فكيف والمال مال الله»(2)، ومن هذا الاعتبار كان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب المساعدة، وكان موقفه عندما أبلغ أهل الكوفة إنه لن يأخذ حصته من العطاء، حيث قال:«يا أهل الكوفة، إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي، فأنا خائن»(3)، وكذلك عندما أتاه عبد الله بن زمعة يطلب مالاً، إذ قال له:«إن هذا المال ليس لي ولا لك، إنما هو فيء المسلمين»(4).

ولما كان المال كذلك، فهو أمانة للأمة عند متسلّمه وهو مؤتمن عليه، ولهذا فإن العامل أو (الولاة) ليسوا أحراراً في التصرف بالأموال، وهم مقيدون بالشرع فيما يخص الحقوق والحريات، فتكون حريته في التصرّف على الصعيد الشخصي، غير قائمة فيما يخصّ وظيفته تجاه المواطنين، وفي ذلك تمييز أساسي.

(1) تاريخ الطبري: ج4 ص440.

(2) نهج البلاغة: م2 ج2 ص182.

(3) الوسائل: م6 ص83.

(4) نهج البلاغة: م3 ج13 ص183




توقيع : Dr.Zahra
سألت نفسي كتير مرسيتش يوم على بر
انا الي فيا الخيرر ولا الي فيا الشر
مليان عيوب ولا .؟
خالي من الذنوب ولا .؟
ولاايه.؟
ولا انا جوايا ومش داري الاتنين في بعض..؟
وخمسميه حاجه وملهمش دعوه ببعض..!!
من مواضيع : Dr.Zahra 0 صباحكم جوري..*
0 الدنيا منافع ..*
0 انجازاتي ...*
0 أنا أتد ... ♥
0 عراقي عنده معامله مستعجله ..,'
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام

الساعة الآن: 11:44 AM.

بحسب توقيت النجف الأشرف

Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024
جميع الحقوق محفوظة لـ منتديات أنا شيعـي العالمية


تصميم شبكة التصاميم الشيعية