والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبا الزهراء محمد وعلى آله الغر الميامين
المعصومين وعلى من وآلاهم وأحبهم إلى يوم الدين.
وبعد:
العبّاس في نظر الأئمّة (عليهم السّلام):
فإنّك ترى الفكر يسفُّ عن مدى هذه الكلمة، وأنّى له أنْ يُحلّق إلى ذروة الحقيقة من ذاتٍ مُطهّرة تفتدى بنفس الإمام (عليه السّلام) علّة الكائنات، وهو الصادرُ الأوّل، والمُمكنُ الأشرف، والفيض الأقدس للمُمكنات: ((بكُمْ فتَحَ اللّهُ وبكُمْ يَخْتمُ)) (1).
نعم، عرفها البصير النّاقد بعد أنْ جرّبها بمحكِّ النّزاهة، فوجدها غير مشوبة بغير جنسها، ثُمّ أطلق تلك الكلمة الذهبيّة الثمينة (ولا يعرف الفضلَ إلاّ أهلُهُ).
ولا يذهب بك الظنّ ـ أيّها القارئ الفطن ـ إلى عدم الأهمّيّة في هذه الكلمة بعد القول في زيارة الشُّهداء من زيارة وارث: ((بأبي أنتُمْ واُمِّي! طُبتُمْ وطابتْ الأرضُ الّتِي فيهَا دُفنتُمْ)). فإنّ الإمام (عليه السّلام) في هذه الزيارة لم يكن هو المخاطِب لهم، وإنّما هو (عليه السّلام) في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أنْ يُخاطبهم بذلك الخطاب؛ فإنّ الرواية جاءت ـ كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي ـ أنّ صفوان قال: استأذنتُ الصادقَ (عليه السّلام) لزيارة الحسين (عليه السّلام) وسألتُهُ أنْ يُعرّفني ما أعمل عليه.
فقال (عليه السّلام) له: ((يا صفوان، صُمْ قبل خروجِكَ ثلاثةَ أيّام...)). إلى أنْقال: ((ثُمّ إذا أتيتَ الحائرَ، فقُلْ: اللّهُ أكبرُ كبيراً)). ثُمّ ساق الزيارة إلى أنْ قال: ((ثُمّ اخرُجْ مِنْ البابِ الذي يلي رجْلَي عليِّ بنِ الحُسينِ، وتوجّه إلى الشُّهداءِ، وقُلْ: السّلامُ عليكُمْ يا أولياءَ اللّهِ...)) إلى آخره.
فالصادق (عليه السّلام) في مقام تعليم صفوان أنْ يقول في السّلام على الشُّهداء ذلك، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّ الصادق (عليه السّلام) ماذا يقول لو أراد السّلام عليهم.
وهنا ظاهرةٌ اُخرى دلّت على منزلة كُبرى للعبّاس عند سيّد الشُّهداء (عليه السّلام)؛ ذلك أنّ الإمام الشهيد (عليه السّلام) لمّا اجتمع بعمر بن سعد ليلاً وسط العسكرين؛ لإرشاده إلى سبيل الحقِّ، وتعريفه طغيان ابن ميسون، وتذكيره بقول الرسول (صلّى الله عليه وآله) في حقِّه، أمر (عليه السّلام) مَن كان معه بالتنحّي إلاّ العبّاس وابنه علياً، وهكذا صنع ابن سعد، فبقي معه ابنه وغلامه.
وأنت تعلم أنّ ميزة أبي الفضل على الصحب الأكارم، وسروات المجدِ من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذين شهد لهم الحسين (عليه السّلام) باليقين والصدق في النّيّة والوفاء (2)، غير أنّه (عليه السّلام) أراد أنْ يوعز إلى الملأ من بعده ما لأبي الفضل وعلي الأكبر من الصفات التي لا تحدّها العقول.
ومن هذا الباب، لمّا خطب يوم العاشر، وعلا صراخ النّساء وعويل الأطفال حتّى كان بمسامع الحسين (عليه السّلام)، وهو ماثل أمام العسكر، أمر أخاه العبّاس أنْ يُسكتهنَّ؛ حذار شماتة القوم إذا سمعوا ذلك العويل، وغيرةً على نواميس حرم النّبوَّة أنْ يسمع أصواتهنّ الأجانب.
ولو رمتَ تحليلاً لتأخّر شهادة العبّاس عن جميع الشُّهداء، وهو حامل تلك النّفس النّزّاعة إلى المفادات والتهلكة دون الدِّين، فلا يمكنه حينئذ التأخّر آناً ما، فكيف بطيلة تلك المدّة، وبمرأى منه مصارعُ آل اللّه ونشيج الفواطم، وإقبال الشرّ من جميع نواحيه، واضطهاد حجّة الوقت بما يراه من المناظر الشبحية؛ والواحدة من ذلك لا تترك (لحامل اللواء) مساغاً عن أخذ الترات آناً ما.
لكنْ أهميّة موقفه عند أخيه السّبط (عليه السّلام) هو الذي أرجأ تأخيره عن الإقدام؛ فإنّ سيّد الشُّهداء (عليه السّلام) يعدّ بقاءه من ذخائر الإمامة، وأنّ موتته تفتّ في العضد، فيقول له: ((إذا مَضيْتَ تفرّقَ عَسْكرِي)). حتّى إنّه في السّاعة الأخيرة لم يأذنْ له إلاّ بعد أخذٍ وردٍّ.
وإنّ حديث (الإيقاد) لسيّدنا المتتبّع الحجّة السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيم (قُدّس سرُّه) يوقفنا على مرتبة تُضاهي مرتبة المعصومين (عليهم السّلام)؛ ذلك لمّا حضر السجّاد (عليه السّلام) لدفن الأجساد الطاهرة، ترك مساغاً لبني أسد في نقل الجثث الزواكي إلى محلِّها الأخير، عدى جسد الحسين وجثّة عمّه العبّاس (عليهما السّلام)، فتولّى وحده إنزالهما إلى مقرّهما، أو اصعادهما إلى حضيرة القدس، وقال: ((إنّ مَعِي مَنْ يُعينُنِي)).
أمّا الإمام (عليه السّلام) فالأمر فيه واضح؛ لأنّه لا يلي أمرَه إلاّ إمامٌ مثلُه، ولكنْ الأمر الذي لا نكاد نصل إلى حقيقته وكنهه، فعله بعمِّه الصدّيق الشهيد مثل ما فعل بأبيه الوصيِّ (عليهما السّلام)، وليس ذلك إلاّ لأنّ ذلك الهيكل المُطهّر لا يمسّهُ إلاّ ذواتٌ طاهرة في ساعة هي أقرب حالاته إلى المولى سبحانه، ولا يدنو منه مَنْ ليس مِن أهل ذلك المحلّ الأرفع.
ولم تزل هذه العظمة محفوظةً له عند أهل البيت (عليهم السّلام) دنياً وآخرة، حتّى إنّ الصّدِّيقة الزَّهراء سلام اللّه عليها لا تبتدأ بالشكاية بأيِّ ظُلامةٍ من ظُلامات آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) ـ وهي لا تُحصى ـ إلاّ بكفَّي أبي الفضل المقطوعتين، كما في الأسرار ص 325، وجواهر الإيقان ص 194، وقد ادَّخرتهما [ليكونا] مِن أهم أسباب الشّفاعة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين.