كانت تلك الغرفة ببابها الموصد دائماً تلتف بغموضٍ مخيف و آسر يثير فيني فضولاً حذراً لنبش خباياها. لم يكن مسموحٌ لنا التواجد في تلك الغرفة أو حتى اللعب بالقرب منها ، وكانت أمي حريصة دوماً على إغلاق الباب خلفها كلما دخلتْ أو خرجتْ منها. لهذه الغرفة بابان أحدهما هو الباب الذي أعتدت أن أراه موصداً وهو يطل على داخل المنزل والباب الآخر يؤدي للشارع عبر ممر صغير وكان مشرعاً دائماً يستقبل الغرباء.
كانت تخيفني تلك الأصوات الهادرة و الحشرجات المكتومة المنبعثة منها، أصوات وحشرجات لأناس لا أراهم ولا أعرف من يكونون ولكنهم دأبوا على المجئ إلى منزلنا لينكأوا أسراراً قبيحة فيفور منها قيحٌ أفسد علي بعضاً من طفولتي و أدخلني في متاهات مظلمة لا يطيقها عقلي الصغير . لكنها عجيبة صروف الدهر ، لم أكن أعلم أن ذات القيح سيختمر في نفسي ليستحيل بلسماً بطعم الشهد تقتات منه روحي لتقف صامدة حينمايحلو للدهر أن يقذفني بقيحه من جديد.
كنتُ عندما ألمح الباب الغامض مفتوحاً على حين غفلة من أمي أندفع باتجاه الغرفة و أطل برأسي مجيلة النظر في أرجائها فلا أرى أي شئ غير اعتيادي عن باقي غرف المنزل ، لا يميزها إلا صفوف متراصة من كتب يشع منها وهج عظمة وعلياء. حدثتني نفسي في سن مبكرة أن سبب تميز هذه الغرفة عن باقي غرف المنزل هو وجود هذه الكتب التي بدت لي حاويةً لأسرار الكون ، فكنتُ أتأمل كيف تعاني أختي في المرحلة الإبتدائية لتجيد القراءة من كتبها العجاف و أقارن حجمها بحجم هذه الكتب التي لا أقوى على حمل أحدها فتعظم هيبة الغرفة وهيبة صاحبها في نفسي.
لعله لهذا السبب نما لدي تقديس ونهم للكتب جعلني أنال فيما بعد حظوة لدى صاحب الغرفة فأباح لي ذات الغرفة المنيعة أصيب من كتبها حيث أشاء!! ألم أخبركم أن للدهر صروفاً عجيبة!.
بعد أن وصلت لسنٍ أطمأنت معه أمي أني لن أعبث بمحتويات الغرفة ولن أدنس قداسة كتبها بتخريب أو تمزيق بدأت ترسلني في بعض الأحيان إلى داخل الغرفة المقدسة لأبلغ "الشيخ" أن الطعام جاهز أو أنه يوجد شخص يطلبه عند الباب. تعلمت أن أطرق الباب بهدوء وأنتظر الأذن بالدخول فإذا جاء الأذن أتعمد الوقوف بجانب أرفف الكتب لأسرق لحظة أمرر فيها أصابعي فوق أغلفة الكتب وأنسل خارجة بسرعة وأنا منتشية بنصري الصغير.
في ذلك المساء و بعد أن أوصتنا أمي كما جرت العادة بعدم إصدار أي صوت بسبب تواجد بعض الغرباء في مجلس "الشيخ" غابت وعادت وهي ممسكة بيد فتاة عرفتها على الفور. إنها "ساجدة" وهي تسكن معنا في نفس الحي وترافق أختي مع مجموعة من الفتيات عند عودتهن من المدرسة ، وقد سنحت لي فرصة اللعب معها في الحسينية عدة مرات. لم تكن معرفتي بها وثيقة ولكني أدركت أنها كانت مضطربة مثل ورقة خريف عاجزة تنتظر أن تعصف بها ريح زمهرير لترمي بها في غياهب المجهول. حاولت أمي تسلية الفتاة وطلبت مني أن آخذ قدح الماء لمجلس "الشيخ".
كانت هذه هي المرة الأولى التي أتواجد فيها في مجلس"الشيخ" بوجود الغرباء ، حينما أطللت على الغرفة أشار والدي "الشيخ" بيده إلى أقصى الغرفة وهناك رأيت امرأة متكورة في عبائتها منحنية الظهر يكاد رأسها أن يلامس الأرض وهي تحاول أن تكتم حشرجات بكاء اعتدت على سماعها كثيراً صادرة من هذه الغرفة. وفي الطرف المقابل كان يجلس رجلان لم أجسر على النظر إلى وجهيهما لأكثر من لحظة من شدة غلظتهما. قدمتُ لها قدح الماء و أنا أشعر بالشفقة تجاهها وهذان خصماها ، تناولتْ الماء مني بيدها المتدثرة جيداً بعبائتها خشية أن تظهر أطراف أصابعها وتمتمت بكلمات لم أسمعها جيداً.
أثناء خروجي من الغرفة أخترق أذناي صوت أحدهما قائلاً:
ـ ماعندنا بنات تتطلق شبيقولون الناس عنا، المرة العدلة حتى لو إن رجلها فيه عذاريب الدنيا تصبر وتتحمل عشان عيالها، فهمها وعقلها يا شيخ خل ترجع بيتها عشان عيالها
و أجابه الرجل الآخر بلهجة متعالية:
ـ دام أنها قالت تبي الطلاق تروح الله يستر عليها مب أنا الي بذل روحي عشان مرة أنا في الأول قلت بخليها على ذمتي عشان تربي عيالها بس دام إنها وصلت السالفة للشيوخ خلاص النفس طابت منها
*
ـ ياولد الحلال من صجك تشره عليها إذا هي عقلها صغير وبتضيع عيالها صير أنت أعقل منها ولا يضيعون هالعيال بينكم
استيقظتْ بعد أن استحالتْ رماد
العرض العادي
