[عندما زار سماحة السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله عليه مدينة مشهد المقدّسة وُجّهت لسماحته بعض الأسئلة المهمّة التي تدور حول الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام تتعلّق ببقعته المقدّسة وزيارته، فأجاب عنها السيّد بصورة مفصّلة نسبيّاً، وكان من ضمنها هذا السؤال عن سرّ اشتهار الإمام الرضا عليه السلام بالإمام الغريب:]
السؤال: لماذا اشتهر الإمام الثامن عليه السلام وعُرف من بين الأئمّة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بعنوان الإمام الغريب؟!
[فأجاب سماحته بالجواب التالي:]
إنّ هناك عدّة أمور ربّما كان لها الأثر في عنوان اتّصافه عليه السلام باسم الغريب وصفته.
[الجهات العامّة التي تؤدّي إلى غربة أولياء الله]
الأمر الأوّل: يُعتبر عنوان الولاية في حدّ نفسه بعيداً عن متناول البشر و إدراكهم، وقريباً إلى مقام القرب من الله وحرمه الخاصّ، وهذه الحقيقة تستلزم عدم أُنس عموم الناس وتعرّفهم على آثار وخصائص الولاية وصفات وليّ الله. وذلك لأنّ هناك في ظهور الولاية بالنسبة للناس بسطاً وانفتاحاً كما أنّ هناك أيضاً قبضاً وانكماشاً، أي الرحمة والغضب معاً، فهناك جزاء الإحسان وهناك الانتقام والعقوبة والتنكيل، لذا فإنّ الناس حين يلمسون آثار الولاية في التخفيف والمحبّة والجمال فإنّهم سيتقبّلونها ويحبّونها، أمّا مع آثارها في القهر والشدّة والجلال، فإنّهم سيكرهونها فيواجهونها بعواطف الحقد والشدّة و المحاربة.
إنّ الأنبياء العظام الذين فعلهم هو فعل الله سبحانه، يبقون في معزل لا يتصدّى أحد لمواجهتهم ماداموا تحت ستار الخلوة والمناجاة، وطالما لم يطّلع أحد على حالاتهم الباطنيّة، ولكن ما إن يُكلّفوا من جانب الله تعالى بالإرشاد والدعوة، فيسعون إلى نقل الناس من آدابهم القوميّة وسُننهم الجاهليّة القديمة إلى الآداب العقلائيّة والسنن والأعراف والآداب التكميليّة في الصراط المستقيم والمنهج القويم؛ فإنّ الناس سينهضون من كلّ حدب وصوب إلى قتالهم ومحاربتهم عن جهل أو عن علم، لا يتورّعون عن القتل والإغارة والنهب والأسر والتعذيب، ولا تنطفئ نائرتهم، ولا يخمد عطش غضبهم وشهوتهم وأوهامهم وغرائزهم في التكبّر والعناد والأنانيّة إلاّ عند سفكهم دماء هؤلاء الأنبياء.
كما أنّ من شأن الشخص المتّصف بالولاية أن يكون على الدوام منهمكاً مع نفسه مستغرقاً في عالم عزّه، فهو في غيبة سواء كان بادياً فيالظاهر أم لم يكن. و من الجليّ كم أنّ عامّة الناس الذين لا تتعدّى أفكارهم المشتهيات النفسيّة واللذائذ الخسيسة الطبعيّة عن عالم الروح وحقيقته بعيدون عن لطافة تلك الأنوار الملكوتيّة القدسيّة؛ كما أنّ عدم التسانخ بين عالم الكثرة وآثاره- من التمسّك بالآداب والتقاليد الاجتماعيّة والأفكار المصلحيّة والاعتبارات الجوفاء- وبين عالم الوحدة وآثاره- المتمثّلة في كسر قيود أسر الهوى والرغبات وتخطّي مراحل اللذائذ الطبيعيّة والمنازل الوهميّة الخياليّة الاعتباريّة- قد منح مقام الولاية عنوان العزّة، وهذا ما ألزم تغرّبهم عن الناس.
وعلى هذا الأساس، فقد كان الأنبياء والأولياء غرباء في هذا العالم على الدوام، فقضوا حياتهم غرباء لا يلتحمون بهذه المجتمعات المتجبِّرة الظالمة.
مُحِبُّ اللهِ في الدُّنيَا سَقِيمٌ
تَطَاوَلَ سُقْمُهُ فَدَوَاهُ دَاهُ
إنّ أغلب العقبات و المشاكل التي تواجه السالكين في طريق التوحيد هي نتيجة عدم أنس الناس ومعرفتهم لهذه المراحل، ممّا يعقب إيجاد المشقّة والمضايقة وسدّ الطريق؛ فيدفع ذلك بالسالك طوعاً أو كرهاً إلى الاعتزال والبُعد عن الجماعة:
من از ديار حبيبم نه از بلاد غريب
مُهَيمنا به رفيقان خود رسان بازم [4]
اگر ز خون دلم بوى شوق مى آيد
عجب مدار كه همدرد نافة ختنم [5]
الجهات الخاصّة التي أوجبت غربة ثامن الحجج عليه السلام
و أما تلك الجهات الخاصّة التي أوجبت غربة ثامن الحُجج عليه السلام فهي:
الأولى: ابتلاء ذلك الإمام بسياسة المأمون الشيطانيّة، الذي جاء به عليه السلام بخطّة عجيبة مجبوراً مراقباً من مقرّه ووطنه الذي ألفه، جوار قبر جدّه الرسول الأكرم، فوضعه قُربه بحيث صار يُحصي عليه حركاته وسكناته، فهو حين أعطى الإمام ولاية مرو، فقد وضعه في حقيقة الأمر في سجن وأبعده ونفاه عن وطنه، ومع أنّه ولاّه في الظاهر وأعطاه الحكم لكنّه في باطن الأمر قد عزله عن جميع الشؤون، فلم يكن يجيز له الإفتاء أو إقامة صلاة الجمعة والعيد، وكان يسقي الإمام السمّ النقيع كلّ لحظة بأنظاره الخفيّة ونكاته الدقيقة وخططه وأحابيله الماهرة، فيخيّل للناس أنّه كان يضع الإخلاص والتفاني في طَبَقٍ من الصدق والصفاء فيقدّمه إلى الإمام، وأنّه قد جعله مطلق العنان ومبسوط اليد في جميع الأمور، وفي رَتْق الشؤون وفَتْقها وتدبير أمور الجيش والدولة.
وكان المأمون في الظاهر يضع لخدمة الإمام جارية جميلة من النصارى ويحيطه بالخدم والحشم والغلمان، لكنّه كان يمانع عمليّاً من استقدام أهل الإمام وعياله وولده الحبيب أبي جعفر: الإمام محمّد التقيّ عليه السلام، فيُستشهد وحيداً غريباً في حجرة مقفلة بسمّ الغدر والجفاء. ثمّ يمشي المأمون في جنازته فيشقّ جيبه ويذرف الدموع حرّى ويعقد مجالس العزاء والمأتم ويعلن الحِداد والعزاء العامّ والعطلة الرسميّة إجلالاً واحتراماً للإمام، فيتخيّل للجهلة التعساء الحظّ أنّ هذه الأعمال تنبع من الإخلاص والمودّة.
وَبِمِثْلِ هَذَا عَمِلَ السِّيَاسِيُّونَ، فَهُوَ لَعَنَهُ اللهُ رَئِيسُهُمْ وَقَائِدُهُمْ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَأعْلَمُ مِنْ أبِيهِ هَارُونَ الذي اشْتَبَهَ في سِيَاسَةِ مَدِينَتِهِ بِقَتْلِ أبِيهِ مَوْسَى بْنِ جَعْفَرٍ عَلَيهِمَا السَّلامُ مَسْجُوناً بَعْدَ سِنِينَ عَدِيدَةٍ جِهَاراً.
إنكار وكلاء الإمام موسى بن جعفر ولاية الإمام الرضا وتكذيبهم بها
الثانية: إنّ أتباع ووكلاء أبيه ومواليه ومطيعيه بدلاً من أن يتمسّكوا بالإمام الرضا بعد شهادة أبيه موسى بن جعفر عليهما السلام في سجن السنديّ بن شاهك رئيس شرطة بغداد، وبدلاً من أن يذعنوا لإمامته ويبجّلونه ويكرّمونه ويَدْعون جميع شيعة أبيه له، ويُسلّموه الأموال الخطيرة التي تَسلّموها من الناس وكالةً عن أبيه، وبدلاً من أن يعمدوا إلى تقوية دعائم إمامته وولايته؛ فقد أنكر هؤلاء المجحفون أمره ورفضوا الانقياد له وتسليمه الأموال، وإعادة الجاه والاعتبار الذي اكتسبوه ببركة أبيه إلى أصله ومحوره وقطبه. وهكذا فقد قام كلٌّ من هؤلاء الوكلاء المهمّين المأذونين بهذه المهامّ باتّخاذ عنوان لنفسه وتكوين وجود لشخصه، فصار لهم محافلهم ومجالسهم وفتواهم وقضاؤهم وفتقهم ورتقهم ورواياتهم وأحاديثهم وتفسيرهم للآيات والسور. وعمدوا من ثَمّ إلى إنفاق الأموال الضخمة للإمام موسى بن جعفر عليه السلام وصرفها في الأهواء والآراء الشخصيّة وعلى أتباعهم ومؤيّديهم؛ رافضين الإذعان والانقياد لإمام زمانهم.
و لقد رجعوا ونكصوا بأجمعهم عن القول بالإمام الرضا عليه السلام، وقالوا إنّ موسى بن جعفر حيّ يرزق لم يمت بعدُ، وصاروا كالكيسانيّة القائلين بحياة محمّد ابن الحنفيّة من أجل أن لا ينقادوا إلى إمامهم الحيّ السجّاد زين العابدين عليه السلام.
و كمثل عُمر الذي نادى بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّ محمّداً لم يمت و سيعود بعد أربعين يوماً فيحارب المنافقين، كلّ ذلك من أجل أن يهب الفرصة لأبي بكر الذي كان خارج المدينة في سُنْح[6] ليعود إليها، و لئلّا يبايع الناس أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا وصل أبو بكر و قال: إنّ رسول الله قد مات، تابعه عمر فقال: إنّ النبيّ قد مات حقّاً !
نعم، لقد قال وكلاء الإمام موسى بن جعفر بعد شهادته: إنّ الإمامة قد خُتمت بهذا الإمام، فلا إمام بعده. لذا صاروا يُدعون بالواقفيّة. ولقد جحد هؤلاء علناً واستكبروا في إنكارهم حجّة الله عليّ بن موسى الرضا عليه السلام وكذّبوه وهو والي هذه الولاية؛ فأيّة غربة أشدّ من هذه وأمضّ؟!ولم يكتفِ هؤلاء بجحودهم وعدم انقيادهم له، بل صاروا كذلك يدعون شيعة أبيه موسى بن جعفر عليهما السلام إلى أنفسهم ويمنعونهم من متابعة ثامن الأئمّة، ولجؤوا إلى تشكيل جماعات وأحزاب لأنفسهم وإلى إحداث البدعة في هذا الدين، وشكّلوا فرقة خاصّة في الإسلام تدعى بالواقفيّة.
ونورد هنا إجمالاً- كشاهد ومثال- مطالب عن أحد كبار وكلاء الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ومن دعائم فرقة الواقفيّة وهو عليّ بن أبي حمزة البطائنيّ؛ قال في «رجال المامقانيّ»: عليّ بن أبي حمزة بن سالم البطائنيّ، لقد كان أبوه رجلاً صالحاً، وقد عدّه الشيخ (الطوسيّ) من أصحاب الصادق ومن أصحاب الكاظم عليهما السلام، وقال عنه إنّه واقفيّ المذهب.
وَ قَالَ عنه النَّجَاشِيّ: رَوَى عَنْ أبي الحَسَنِ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ وَ رَوَى عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلامُ، ثُمَّ وَقَفَ؛ وَهُوَ أحَدُ عُمُدِ الوَاقِفَةِ.
وَمِثلُهُ في «الخُلاصَةِ» مُضِيفاً إلى ذَلِكَ قَوْلَهُ: قَالَ الشَّيْخُ الطُّوسِيّ رَحمَةُ اللهِ عَلَيهِ في عِدَّةِ مَوَاضِع: إنَّهُ واقِفِيّ. وَقَالَ: أبُو الحَسَنِ عَلِيّ بْنُ الحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ: عَلِيّ بْنُ أبي حَمْزَةَ كَذَّابٌ مُتَّهَمٌ مَلْعُونٌ. قَدْ رَوَيْتُ عَنْهُ أحَادِيثَ كَثِيَرةً وَ كَتَبْتُ عَنْهُ تَفْسِيرَ القُرْآنِ مِنْ أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ إلا أنِّي لا أسْتَحِلُّ أنْ أرْوِي عَنْهُ حَدِيثاً وَاحِداً.
وَ قَالَ ابْنُ الغَضَائِرِيّ: عَلِيّ بْنُ أبي حَمْزَةَ لَعَنَهُ اللهُ أصْلُ الوَقْفِ وَأشَدُّ الخَلْقِ عَدَاوَةً لِلْمَوْلَى (يعني الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ) بَعْدَ أبي إبْرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلامُ- انْتَهَى مَا في «الخُلاصَة» انتهى موضع الحاجة.
ثمّ يورد روايات كشاهد على المطلب نذكر بعضها هنا، وقد وردت هذه الروايات في «رجال» الكشّيّ.
بعض الاخبار الواردة بشأن عليّ بن أبي حمزة البطائنيّ
ومِنْهَا مَا رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبُو عَلِيّ الفَارِسِيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: دَخَلْتُ على الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ، فَقَالَ: مَاتَ عَلِيّ بْنُ أبي حَمْزَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ! قَالَ: قَدْ دَخَلَ النَّارَ.
فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: أمَا إنَّهُ سُئِلَ عَنِ الإمَامِ بَعْدَ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ، فَقَالَ: إنِّي لا أعْرِفُ إمَاماً بَعْدَهُ، فَضُرِبَ في قَبْرِهِ ضَرْبَةً اشْتَعَلَ قَبْرُهُ نَاراً.
وَ مِنْهَا مَا رَوَاهُ عَنْ حَمْدَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي الحَسَنُ بْن مُوسَى، عَنْ دَاوُد بْنِ مُحَمَّدِ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبي نَصْرٍ قال: وَقَفَ أبُو الحَسَنِ الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ في بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ لِي وَهُوَ رَافِعٌ صَوْتَهُ: يَا أحْمَدُ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ. قَالَ: إنَّهُ لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ جَهَدَ النَّاسُ في إطْفَاءِ نُورِ اللهِ فَأبَى اللهُ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ بِأمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلامُ؛ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أبُو الحَسَنِ عَلَيهِ السَّلامُ جَهَدَ عَلِيّ بْنُ أبي حَمْزَةَ في إطْفَاءِ نُورِ اللهِ، فَأبَى اللهُ إلا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ.
وَإنَّ أهْلَ الحَقِّ إذَا دَخَلَ فِيهِمْ دَاخِلٌ سَرُّوا بِهِ وَإذَا خَرَجَ مِنْهُمْ خَارِجٌ لَمْ يَجْزَعُوا عَلَيهِ، وَذَلِكَ أنَّهُمْ على يَقِينٍ مِنْ أمْرِهِمْ. وَإنَّ أهْلَ البَاطِلِ إذَا دَخَلَ فِيهِمْ دَاخِلٌ سَرُّوا بِهِ وَ إذَا خَرَجَ مِنْهُمْ خَارِجٌ جَزَعُوا عَلَيهِ، وَذَلِكَ أنَّهُمْ على شَكٍّ مِنْ أمْرِهِمْ. إنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ يَقُولُ: «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ». [7]
قَالَ: ثُمَّ قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيهِ السَّلامُ: المُسْتَقَرُّ: الثَّابِتُ، وَالمُسْتَوْدَعُ: المُعَارُ.
وَ مِنْهَا مَا رَوَاهُ عَنْ عَلِيّ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ الفَضْلِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: مَاتَ أبُو الحَسَنِ عَلَيهِ السَّلامُ وَلَيْسَ مِنْ قُوَّامِهِ أحَدٌ إلا وَعِنْدَهُ المَالُ الكَثيِرُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ وَقْفِهِمْ، وَجُحُودِهِمْ مَوْتَهُ، وَكَانَ عِنْدَ عَلِيّ بْنِ أبي حَمْزَةَ ثَلاثُونَ ألْفَ دِينَارٍ.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَلِيّ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أحْمَدَ، عَنْ أبي عَبْدِ اللهِ الرَّازِيّ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ أبي نَصْرٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ الفُضَيْلِ، عَنْ أبي الحَسَنِ الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إنِّي خَلَّفْتُ ابْنَ أبي حَمْزَةَ وَابْنَ مَهْرَانَ وَابْنَ أبي سَعِيدٍ أشَدَّ أهْلِ الدُّنْيَا عَدَاوَةً لِلَّهِ.
قَالَ: فَقَالَ: مَا ضَرَّكَ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتَ! إنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَّبوا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلامُ، وَكَذَّبوا فُلاناً وَفُلاناً، وَكَذَّبُوا جَعْفَراً وَمُوسَى؛ وَلِيَ بِآبَائِي عَلَيهِمُ السَّلامُ أسْوَةٌ.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إنَّا نَرْوِي أنَّكَ قُلْتَ لابْنِ مَهْرَانَ: أذْهَبَ اللهُ نُورَ قَلْبِكَ؛ وَ أدْخَلَ الفَقْرَ بَيْتَكَ! فَقَالَ: كَيْفَ حَالُهُ وَ حَالُ بِرِّهِ؟ قُلْتُ: يَا سَيِّدِي! أشَدُّ حَالٍ؛ هُمْ مَكْرُوبُونَ بِبَغْدَادَ وَلَمْ يَقْدِرِ الحُسَيْنُ أنْ يَخْرُجَ إلى العُمْرَةِ، فَسَكَتَ.
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ في ابْنِ أبي حَمْزَةَ: أمَا اسْتَبَانَ لَكُمْ كِذْبُهُ؟! ألَيْسَ هُوَ الذي يَرْوِي أنَّ رَأسَ المَهْدِيّ يُهْدَى إلى عِيسَى بْنِ مُوسَى وَهُوَ صَاحِبُ السُّفْيَانِيّ؟! وَ قَالَ: إنَّ أبَا الحَسَنِ عَلَيهِ السَّلامُ يَعُودُ إلى ثَمَانِيَةِ أشْهُرٍ؟
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ بِسَنَدٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَهْلٍ في حَدِيثٍ أسْبَقْنَا نَقْلَهُ في تَرْجَمَةِ الحَسَنِ بْنِ أبي سَعِيدٍ المُكَارِيّ تَضَمَّنَ مُكَالَمَةَ عَلِيّ بْنِ أبي حَمْزَةَ هَذَا مَعَ الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ وَإنْكَارَهُ إمَامَتَهُ وَوَقْفَهُ على أبِيهِ الكَاظِمِ عَلَيهِ السَّلامُ وَإنْكَارَهُ مَوْتَهُ. [8]
نقلنا هنا بعض الروايات الواردة في «رجال الكشّيّ». ثمّ ينقل المرحوم المامقانيّ بعض الروايات الواردة عن الشيخ في كتاب «الغيبة» توضّح شدّة عناده مقابل ثامن الحجج عليهم السلام، مع أنّه كان قبل ذلك يُعلن أمر الوصاية إلى الإمام عليه السلام. ثمّ يذكر أيضاً:
وَرَوَى في «العُيُونِ» في الصَّحِيحِ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيّ الخَزَّازِ قَالَ: خَرَجْنَا إلى مَكَّةَ وَمَعَنَا عَلِيّ بْنُ أبي حَمْزَةَ، وَ مَعَهُ مَالٌ وَ مَتَاعٌ. فَقُلْنَا: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ عَلَيهِ السَّلامُ؛ أمَرَنِي أنْ أحْمِلَهُ إلى عَلِيّ ابْنِهِ، وَ قَدْ أوْصَى إلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: قَالَ مُصَنِّفُ هَذَا الكِتَابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنَّ عَلِيّ بْنَ أبي حَمْزَةَ أنْكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ مُوسَى، وَ حَبَسَ المَالَ عَنِ الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ. [9]
نعم، تتّضح غُربة الإمام عليه السلام في عصر المحنة ذلك، و هو عصر هارون الرشيد ثمّ المأمون بن الرشيد بمطالعة أحوال الواقفيّة وعناد رؤسائهم بشأن الإمام الرضا عليه السلام.
إنكار ولد الإمام الرضا، يمثّل إحدى جهات غربته
الثالثة: إنكار إمامة ولده محمّد بن عليّ سلام الله عليهما، بل إنكار أنّ له ولد أصلاً. ولم يصدر هذا الأمر من الغرباء فقط، بل إنّ الأقارب مثل أعمام الإمام وأولاد أعمامه كانوا قد أنكروا إمامة ووصاية قرّة العين ذلك الإمام، وكانت تبدر منهم المخالفات التي يواجهون بها الإمام، مثل مخالفة أخيه زيد النار.
وفي «بحار الأنوار» رواية مفصّلة حول مجيء ثمانين نفراً من علماء بغداد وعلماء سائر البلدان لحجّ بيت الله الحرام، فيأتون المدينة لمشاهدة أبي جعفر عليه السلام.
وورد في تلك الرواية أنّ عبد الله بن موسى عمّ الإمام الجواد ورد في ذلك المجلس الذي انعقد في بيت الإمام الصادق عليه السلام، فقام منادٍ فنادى: هذا ابن رسول الله، فمن أراد السؤال فليسأله.
فيطرح عليه الحضور أسئلتهم فلا يجيبهم عبد الله جواباً شافياً، ثمّ يدخل جواد الأئمّة عليه السلام وهو صبيّ لم يتجاوز السبع سنين فيجيب الحاضرين على أسئلتهم، فيسرّون بذلك ويدعون له ويُثنون عليه. ثمّ قالوا له: إنّ عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت! فنظر الإمام عليه السلام إلى عمّه فقال:
لا إلَهَ إلا اللهُ. يَا عَمِّ! إنَّهُ عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ أنْ تَقِفَ غَداً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَكَ: لِمَ تُفْتِي عِبَادِي بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وَفي الأمّة مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ؟ إلى آخر الرواية التي حوت مطالب نفيسة و قيّمة. و قد روى هذه الرواية جدّنا المرحوم المجلسيّ رضوان الله عليه عن كتاب «عيون المعجزات». [10]
و قد نقل المرحوم الشيخ الأنصاريّ في «المكاسب المحرَّمة» في باب حرمة القيافة رواية جديرة بالتأمّل:
عَنِ «الكَافِي» عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى بْنِ النُّعْمَانِ الصَّيْرَفِيّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيّ بْنَ جَعْفَرٍ يُحَدِّثُ الحَسَنَ بْنَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ فَقَالَ: وَ اللهِ لَقَدْ نَصَرَ اللهُ أبَا الحَسَنِ الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ. فَقَالَ الحَسَنُ: إي وَ اللهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ لَقَدْ بَغَي عَلَيهِ إخْوَتُهُ. فَقَالَ عَلِيّ بْنُ جَعْفَرٍ: إي وَ اللهِ؛ وَ نَحْنُ عُمُومَتُهُ بَغَيْنَا عَلَيهِ. فَقَالَ لَهُ الحَسَنُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ كَيْفَ صَنَعْتُمْ؟ فَإنِّي لَمْ أحْضُرْكُمْ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ إخْوَتُهُ وَنَحْنُ أيْضاً: مَا كَانَ فِينَا إمَامٌ قَطُّ حَائِلُ اللَوْنِ.[11]
فَقَالَ لَهُمُ الرِّضَا: هُوَ ابْنِي. فَقَالُوا: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَضَى بِالقَافَةِ[12] ، فَبَيْنَنَا وَ بَيْنَكَ القَافَةُ. فَقَالَ: ابْعَثُوا أنْتُمْ إلَيْهِمْ وَ أمَّا أنَا فَلا. وَلا تُعْلِمُوهُمْ لِمَا دَعَوْتُمُوهُمْ إلَيْهِ، وَلْتَكُونُوا في بُيُوتِكُمْ!
فَلَمَّا جَاؤُوا وَقَعَدْنا في البُسْتَانِ وَاصْطَفَّ عُمُومَتُهُ وَإخْوَتُهُ وَأخَوَاتُهُ وَأخَذُوا الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ وَألْبَسُوهُ جُبَّةً مِنْ صُوْفٍ وَقَلَنْسُوَةً وَوَضَعُوا على عُنُقِهِ مِسْحَاةً وَقَالُوا لَهُ: ادْخُلِ البُسْتَانَ كَأنَّكَ تَعْمَلُ فِيْهِ! ثُمَّ جَاؤُوا بِأبِي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلامُ وَقَالُوا: ألْحِقُوا هَذَا الغُلامَ بِأبِيهِ! فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ هُنَا أبٌ؛ وَ لَكِنْ هَذَا عَمُّ أبِيهِ، وَ هَذَا عَمُّهُ، وَ هَذِهِ عَمَّتُهُ، وَ إنْ يَكُنْ لَهُ هُنَا أبٌ فَهُوَ صَاحِبُ البُسْتَانِ؛ فِإنَّ قَدَمَيْهِ وَقَدَمَيْهِ وَاحِدَةٌ.
فَلَمَّا رَجَعَ أبُو الحَسَنِ عَلَيهِ السَّلامُ قَالُوا: هَذَا أبُوهُ.
فَقَالَ عَلِيّ بْنُ جَعْفَرٍ: فَقُمْتُ وَمَصَصْتُ رِيقَ أبي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلامُ وَقُلْتُ لَهُ: أشْهَدُ أنَّكَ إمَامِي عِنْدَ اللهِ. فَبَكَى الرِّضَا عَلَيهِ السَلامُ ثُمَّ قَالَ: يَا عَمِّ! ألَمْ تَسْمَعْ أبي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: بِأبِي ابْنُ خِيَرَةِ الإمَاءِ! ابْنُ النُّوْبِيَّةِ الطَّيِّبَةِ الفَمِ، المُنْتَجَبَةِ الرَّحِمِ. وَيْلَهُمْ! لَعَنَ اللهُ الأعَيْبِسَ وَذُرِّيَّتَهُ صَاحِبَ الفِتْنَةِ؛ وَ يَقْتُلُهُمْ سِنِينَ وَشُهُوراً وَأيَّاماً يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَيَسْقِيهِمْ كَأساً مُصَبَّرَةً.
وَهُوَ الطَّرِيدُ الشَّرِيدُ المَوْتُورُ[13] بِأبِيهِ وَجَدِّهِ صَاحِبُ الغَيْبَةِ؛ يُقَالُ: مَاتَ أوْ هَلَكَ، أ يّ وَادٍ سَلَكَ! أفَيَكُونُ هَذَا يَا عَمِّ إلا مِنِّي؟! فَقُلْتُ: صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ!
و قد روى المرحوم الأنصاريّ هذه الرواية إلى فقرة أشْهَدُ أنَّكَ إمَامِي، و أوردنا تتمّتها من «اصول الكافي». [14]
أفلا يكون «غريباً» هذا الإمام الذي يبكي و ينكسر قلبه لإجباره على التحاكم إلى القافة لتعريف ابنه إلى أعمامه وهم أقرب الناس إليه، في حين أنّه لم يكن ليرضى بالقيافة التي نهى عنها رسول الله صلّى الله عليه وآله؟!
هذا وقد روى هذه الرواية في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، وعليّ بن محمّد القاسانيّ جميعاً عن زكريا بن يحيى الصيرفيّ.
[من أشدّ جهات غربة الإمام الرضا عليه السلام إهمال دراسة رواياته التوحيدية الراقية]
كما أنّ إحدى جهات غربة الإمام الرضا عليه السلام أنّه قد بيّن مطالب نفيسة وراقية في باب معرفة وتوحيد ذات الباري القدسيّة، مسطورة في «عيون أخبار الرضا» وسائر الكتب، و كان ينبغي إيجاد مدارس للبحث والتأمّل في هذه الروايات وإدراجها في الحوزات العلميّة لتحليلها ودراستها وفهم معانيها، ولكن وللأسف فلم يجر أيّ بحث لها، بل بقيت حقائق هذه المعاني في بوتقة الخفاء مستورة عن أفهام الطلبة، وهي غربة تفوق في مضاضتها وشدّتها جميع مراتب غربته السابقة، صلوات الله عليه.
[ملاحظة: انتخب هذا البحث من كتاب «الروح المجرّد» ، تأليف المرحوم العلاّمة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، وقد تمّ توثيقه ومقارنته مع المصدر الفارسي من قبل الهيئة العلميّة في لجنة الترجمة والتحقيق، و تجدر الإشارة إلى أنّ العبارات و الهوامش التي وقعت بين معقوفتين هي من الهيئة العلميّة]
[1] ـ «ديوان حافظ الشيرازي» ص 284، الغزل 411، طبعة محمّد القزويني و الدكتور قاسم غني، مطبع سينا، طهران. يقول: «أنا الذي كنتُ أتكدّر بأنفاس الملائكة، صرتُ أتجرّع لأجلك عَذْلَ الخلائق!».
[2] ـ «نفحات الانس» للجاميّ، ص 625 فما بعد.
[3] ـ أورد في «ريحانة الأدب» ج 2، ص 62، الطبعة الثالثة، مطبعة شفق، تبريز، الأبيات الثاني و السادس و السابع عن المنصور الحلّاج. و قد وردت بتمامها في «مكاتيب» گرامي إصفهاني ضمن نقل قصّة مفصّلة لجارية عاشقة للّه باسم تحفة، و لقاء السرّيّ السقطيّ بها في المستشفي، و ذلك باسلوب شيّق و إنشاء جميل. كما ذُكرت تلك القصّة بذلك التفصيل في «المستطرف» للأبشيهيّ، ص 122 و 123، و وردت كذلك في «النفحات» للجاميّ، بالتفصيل المذكور عدا هذه الأبيات. هذا و قد ذكر العلّامة الحاجّ الشيخ آقا بزرگ الطهرانيّ في كتاب «الذريعة» ج 22، ص 140، رقم 6420، الطبعة الأولى، مطبعة المجلس، طهران، سنة 1369، «مكاتيب» گرامي إصفهاني. كما ذكر ديوانه في ج 9، ص 929، رقم 6117، و أضاف: أ نّ اسمه كان «أبو القاسم خان»، و قد سافر إلي دهلي و توفّي هناك، و يُعرف علي لسان العامّة ب- «آقا بابا».
[4] ـ «ديوان خواجه حافظ شيرازي» ص 50، الغزل 334، طبعة پژمان، طبعة انتشارات بروخيم، سنة 1318. يقول: «مِنْ ديار الحبيب أنا لا من بلاد الغريب، فعُدْ بي أيّها المهيمن إلي رفاق الطريق».
[5] ـ يقول: «لو فاحت من دماء قلبي رائحة الشوق و التمنان، فلي اسوة بنافة مسك غزالٍ من ختن». (خُتَنْ: اسم منطقة في تركستان يكثر فيها غزال المسك).
[6] ـ بالسين المهموسة المضمومة و بعدها النون الساكنة و الحاء المهملة: مكان يبعد فرسخاً عن المدينة كان يسكن فيه أهل أبي بكر و كان قد ذهب لرؤيتهم.
[8] ـ «تنقيح المقال» ج 2، ص 260 و 261، ذيل الرقم 8111، طبعة القطع الكبير (الرحليّ).
[9] ـ «تنقيح المقال» ج 2، ص 262.
[10] ـ «بحار الأنوار» ج 12، ص 124، طبعة الكمبانيّ، في تأريخ الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام، باب فضائله و أحوال خلفاء زمانه و أصحابه، عن «عيون المعجزات»: لَمَّا قُبِضَ الرِّضَا عَلَيهِ السَّلامُ كَانَ سِنُّ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلامُ نحو سَبْعِ سِنِينَ فَاخْتُلِفَتِ الكَلِمَةُ بين النَّاسِ بِبَغْدَادَ وَ في الأمْصَارِ- الرواية، و هي رواية طويلة