اللهم صل على محمد وآل محمد الاطهار وعجل فرجهم ورحمنا بهم
إذا كانت زيارة قبور المسلمين من السنن التي دعا إليها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعمل بها بمرأى ومسمع من نسائه وصحابته، فزيارة قبر سيد ولد آدم ومن أنيطت إليه سعادة البشر أولى بها، لذا جرت سيرة المسلمين على زيارة قبره، وصرح بها فقهاء الأمة، وتضافرت السنة على استحبابها.
ولنقدم بعض الكلمات من أكابر الأمة التي تعرب عن موقف المسلمين طيلة القرون تجاه المسألة، فقد قيض سبحانه في كل عصر رجالاً يجاهرون بالحق، وينفون غبار الباطل عن وجهه نذكر منهم شخصيتين كبيرتين من السنة والشيعة:
1. الإمام تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة 756هـ عليه سحائب الرحمة والرضوان فقد خص في كتابه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) باباً لنقل نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيدنا رسول الله، وقد بين أن الاستحباب أمر مجمع عليه بين المسلمين(1).
2. العلامة الكبير الأميني في (الغدير) الجزء 5 ص109. 125، فقد استدرك عليه بما لم يقف عليه الإمام السبكي، ونقل كلمات أعلام المذاهب الأربعة بما يتجاوز الأربعين كلمة. شكر الله مساعيهما.
وقد راجعنا أكثر المصادر التي نقلا عنها حسب ما حضرنا منها.
واكتفينا بالنقل عنهما في غيره،وأضفنا بعض ما فات عنهما. ولعل المعثور عليه من الكلمات أقل مما لم يعثر عليها.
1. قال أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني الشافعي (م/403هـ) بعد الحث على تعظيم النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) فأما اليوم فمن تعظيمه زيارته(2).
2. قال أبو الحسن أحمد بن محمد المحاملي الشافعي (م/425هـ): ويستحب للحاج إذا فرغ من مكة أن يزور قبر النبي(صلى الله عليه وآله)(3).
3 . قال القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري (م/450هـ): ويستحب أن يزور النبي(صلى الله عليه وآله) بعد أن يحج ويعتمر(4).
4. قال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي (م/ 450هـ): فإذا عاد (ولي الحاج) سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) ليجمع لهم بين حج بيت الله عزّوجلّ وزيارة قبر رسول الله رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الجميع المستحسنة(5).
وقال أيضاً في كتابه الحاوي: أما زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) فمأمور بها ومندوب إليها(6).
5. حكى عبد الحق بن محمد الصقلي (م/ 466هـ) عن الشيخ أبي عمران المالكي أن زيارة قبر النبي واجبة، قال عبد الحق: يعني من السنن الواجبة(7).
6. قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي الفقيه الشـــافـــعي (م/476هـ): ويستحـــب زيـــارة قـــبر رسول الله(صلى الله عليه وآله)(8).
7. وممن بسط الكلام في زيارة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) الإمام الغزالي في كتاب الحج من إحياء العلوم قال: الجملة العاشرة في زيارة المدينة وآدابها قال: من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي. وقال(صلى الله عليه وآله) (من وجد سعة ولم يفد إلي فقد جفاني) إلى أن قال: فمن قصد زيارة المدينة فليصل على رسول الله(صلى الله عليه وآله) في طريقه كثيراً فإذا وقع بصره على حيطان المدينة وأشجارها قال: اللهم هذا حرم رسولك فاجعله لي وقاية من النار وأماناً من العذاب وسوء الحساب، ثم ذكر آداب الزيارة وصيغتها، وزيارة البقيع بمن فيها، وقبر الحسن بن علي علية السلام، ثم قال: ويصلي في مسجد فاطمة (علية السلام) ويزور قبر إبراهيم ابن رسول الله وقبر صفية عمة رسول الله(صلى الله عليه وآله) فذلك كله بالبقيع، ويستحب له أن يأتي مسجد قباء في كل سبت ويصلي فيه لما روي أن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (من خرج من بيته حتى يأتي مسجد قباء ويصلي فيه كان له عدل عمرة(9).
8. قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوداني الفقيه البغدادي الحنبلي (م/510هـ): وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله)
9. قال القاضي عياض المالكي (م/ 544هـ): وزيارة قبره(صلى الله عليه وآله) سنة مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها ، ثم ذكر عدة من أحاديث الباب فقال: قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: ومما لم يزل من شأن من حج المزور(11)، بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) والتبرك برؤية روضه ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه ومواطن قدميه والعمود الذي استند إليه ومنزل جبرئيل بالوحي فيه عليه(12).
11. عقد الحافظ ابن الجوزي الحنبلي (م/ 597هـ) في كتابه باباً في زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) وذكر حديث ابن عمر وحديث أنس الذين سنذكرهما(14).
12. قال أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله المالكي (م/ 612هـ): إذا كمل لك حجك وعمرتك على الوجه المشروع لم يبق بعد ذلك إلا إتيان مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) للسلام على النبي(صلى الله عليه وآله) والدعاء عنده، والسلام على صاحبيه، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين، والصلاة في مسجد الرسول فلا ينبغي للقادر على ذلك تركه(15).
13. قال أبو عبد الله بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن إدريس السامري الحنبلي (م/ 616هـ): وإذا قدم مدينة الرسول(صلى الله عليه وآله) استحب له أن يغتسل لدخولها. ثم ذكر أدب الزيارة وكيفية السلام والدعاء والوداع(16).
14. قال الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي (م/620هـ): يستحب زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) ثم ذكر حديثي ابن عمر وأبي هريرة من طريق الدار قطني وأحمد(17).
15. قال محي الدين النووي الشافعي (م/ 677هـ): ويسن شرب ماء زمزم وزيارة قبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعد فراغ الحج(18).
16. قال نجم الدين بن حمدان الحنبلي (م/ 695هـ): ويسن لمن فرغ عن نسكه زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) وقبر صاحبيه( رضي الله عنهما)، وله ذلك بعد فراغ حجة وإن شاء قبل فراغه(19).
17. قال القاضي الحسين: إذا فرغ من الحج فالسنة أن يقف بالملتزم ويدعو، ثم يشرب من ماء زمزم، ثم يأتي المدينة ويزور قبر النبي(صلى الله عليه وآله)(20).
18. قال القاضي أبو العباس أحمد السروجي الحنفي (م/710هـ): إذا انصرف الحاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى طيبة مدينة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وزيارة قبره فإنها من أنجح المساعي(21).
19. قال الإمام القدوة ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (م/ 738هـ) بعد أن ذكر لزوم وكيفية زيارة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والتوسل بهم إلى الله تعالى وطلب الحوائج منهم قال: وأما في زيارة سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه وسلامه فكل ما ذكر يزيد عليه أضعافه، أعني في الانكسار والذل والمسكنة، لأنه الشافع المشفع الذي لا ترد شفاعته، ولا يخيب من قصده، ولا من نزل بساحته، ولا من استعان أو استغاث به، إذ أنه عليه الصلاة والسلام قطب دائرة الكمال وعروس المملكة إلى أن قال فمن توسل به أو استغاث به أو طلب حوائجه منه، فلا يرد ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار، ويحتاج إلى الأدب الكلي في زيارته عليه الصلاة والسلام، وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن الزائر يشعر بنفسه بأنه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته(22).
20. وقال شمس الدين ابن قدامة الأندلسي: فإذا فرغ من الحج استحب زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) واستدل على ذلك بروايتي ابن عمر، وأبي هريرة(23).
21. قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي: إن ابن تيمية ذكر في مناسكه (باب زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) إذا أشرف على مدينة النبي(صلى الله عليه وآله) قبل الحج أو بعده، فليقل ما تقدم: إذا دخل استحب له أن يغتسل، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال: بسم الله والصلاة على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلى بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبي فيستقبل جدار القبر ولا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وجاه النبي، ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منتكس الرأس، غاض الطرف، متحضراً بقلبه جلالة موقفه ثم يقول:
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يانبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أمته اللهم آته الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً(24).
22 .ألف الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي (م/ 756هـ) كتاباً حافلاً في زيارة النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) وأسماه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) رداً على ابن تيمية، ومما قال فيه: لا حاجة إلى تتبع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم بإجماعهم وإجماع سائر العلماء عليه. والحنفية قالوا: إن زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) من أفضل المندوبات والمستحبات بل تقرب من درجة الواجبات، وممن صرح بذلك منهم أبو منصور محمد بن مكرم الكرماني في مناسكه، وعبد الله بن محمود بن بلدحي في شرح (المختار) وفي فتاوى أبي الليث السمرقندي في باب أداء الحج(25).
ثم قال: وكيف يتخيل في أحد من السلف نهيهم من زيارة المصطفى(صلى الله عليه وآله) وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى، فالنبي(صلى الله عليه وآله) وسائر الأنبياء الذين ورد فيهم أنهم أحياء كيف يقال فيهم هذه المقالة(26), وحكى عن القاضي عياض وأبي زكري النووي إجماع العلماء والمسلمين على استحباب الزيارة(27).
وقال أيضاً: وإذا استحب زيارة قبر غيره(صلى الله عليه وآله) فقبره أولى لماله من الحق ووجوب التعظيم(28). ثم إنه استدل في الباب السادس على أن السفر إلى الزيارة قربة بالكتاب والسنة والإجماع إلى أن قال :
الرابع: الإجماع إطباق السلف والخلف، فإن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته(صلى الله عليه وآله) فمنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة... ومن ادعى أن هذا الجمع العظيم مجمعون على الخطأ فهو المخطئ(29).
23. قال زين الدين أبو بكر بن الحسين بن عمر القريشي العثماني المصري المراغي (م/ 816هـ): وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته(صلى الله عليه وآله) قربة عظيمة، للأحاديث الواردة في ذلك، ولقوله تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول) الآية لأن تعظيمه لا ينقطع بموته(30).
4. قال السيد نور الدين السمهودي (م/ 911هـ) بعد ذكر أحاديث الباب: وأما الإجماع، فأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي بل قال بعض الظاهرية بوجوبها، وقد اختلفوا في النساء، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلة الخاصة به. قال السبكي: ولهذا أقول: إنه لا فرق في زيارته بين الرجال والنساء. وقال الجمال الريمي في (التفقيه): يستثنى من محل الخلاف قبر النبي(صلى الله عليه وآله) وصاحبيه ثم قال: وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين وهو الدمنهوري الكبير، وأضاف إليه قبور الأولياء والصالحين والشهداء(31).
25.قال الحافظ أبو العباس القسطلاني المصري (م/ 933هـ): إعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات وأرجا الطاعات والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام، وقد أطلق بعض المالكية وهو أبو عمران الفاسي كما ذكره في (المدخل) عن (تهذيب الطالب) لعبد الحق: أنها واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة، وقال القاضي عياض: إنها من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغب فيها...
ثم قال: وقد صح عن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبي(صلى الله عليه وآله) فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة، ومن نذر الزيارة وجبت عليه كما جزم به ابن كج من أصحابنا، إلى أن قال: وللشيخ تقي الدين ابن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شد الرحال للزيارة النبوية وأنه ليس من القرب بل يضد ذلك، ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في (شفاء السقام) فشفى صدور المؤمنين(32).
26. ذكر شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي (م/ 925هـ) في باب ما يستحب لمن حج وقال: ثم يزور قبر النبي(صلى الله عليه وآله) ويسلم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة(33).
27.قال ابن حجر الهيثمي المكي الشافعي (م/ 973هـ) بعد ما استدل على مشروعية زيارة قبر النبي بعدة أدلة منها: الإجماع. فإن قلت: كيف تحكي الإجماع على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله كما رآه السبكي في خطه؟. وقد أطال ابن تيمية الاستدلال لذلك بما تمجه الأسماع، وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً وأنه لا تقصر فيه الصلاة، وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة، وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه. قلت: من هو ابن تيمية؟ حتى ينظر إليه أو يقول في شيء من مورد الدين عليه، وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار سقطاته، وقبائح أوهامه، وغلطاته كالعز بن جماعة: عبد أضله الله تعالى وأغواه، وألبسه رداء الخزي وأرداه، وبواه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان، وأوجب له الحرمان ولقد تصدى شيخ الإسلام وعالم الأنام المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته، التقي السبكي للرد عليه في تضيف مستقل أفاد فيه وأجاد، وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب ثم قال:
هذا ما وقع من ابن تيمية مما ذكر وإن كان عثرة لا تقال أبداًَ، ومصيبة يستمر شؤمها سرمداًَ، وليس بعجب فإنه سولت له نفسه وهواه وشيطانه أنه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب ومادرى المحروم أنه أتى بأقبح المعائب، إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة، وتدارك على أئمتهم لا سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة، شهيرة حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس، المنزه سبحانه عن كل نقص، والمستحق لكل كمال أنفس، فنسب إليه الكبائر والعظائم، وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة، على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين، حتى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره، فحبسه إلى أن مات، وخمدت تلك البدع، وزالت تلك الضلالات، ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأساًَ، ولم يظهر لهم جاهاً، ولا بأساً، بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله بما عصوا وكانوا يعتدون(34).
ونقل حسن العدوي الحمزاوي عنه أيضاً ما هذه عبارته:
أعلم وفقني الله وإياك لطاعته وفهم خصوصيات نبيه(صلى الله عليه وآله) والمسارعة إلى مرضاته: أن زيارته(صلى الله عليه وآله) مشروعة مطلوبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة وبالقياس إلى أن قال : وأما الإجماع فقد حكاه الإمام السبكي قال: ولا عبرة بما تفرد به ابن تيمية وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه(35).
28. قال الشيخ محمد الخطيب الشربيني (م/ 977هـ): أما زيارته(صلى الله عليه وآله) فمن أعظم القربات للرجال والنساء، وألحق الدمنهوري به قبور بقية الأنبياء والصالحين والشهداء وهو ظاهر(36).
وقال في موضع آخر ججر بعد بيان مندوبية زيارة قبره الشريف(صلى الله عليه وآله) وذكر جملة من أدلتها: ليس المراد اختصاص أدب الزيارة بالحج فإنها مندوبة مطلقاً بعد حج أو عمرة أو قبلهما أو لا مع نسك، بل المراد تأكد الزيارة فيها(37).
29. قال الشيخ زين الدين عبد الرؤوف المناوي (م/1031هـ): وزيارة قبره(صلى الله عليه وآله) الشريف من كمالات الحج، بل زيارته عند الصوفية فرض وعندهم الهجرة إلى قبره كهي إليه حياً(38).
وقال في موضع آخر: إن أثر الزيارة إما الموت على الإسلام مطلقاً لكل زائر، وإما شفاعة تخص الزائر أخص من العامة، وقوله: شفاعتي في الإضافة إليه تشريف لها، إذ الملائكة وخواص البشر يشفعون فللزائر نسبة خاصة فيشفع هو فيه بنفسه والشفاعة تعظم بعظم الزائر(39).
30. قال الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي: زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) من أفضل القربات وأحسن المستحبّات تقرب من درجة ما لزم من الواجبات، فإنّه(صلى الله عليه وآله) حرض عليها وبالغ في الندب إليها. قال: (من وجد سعة فلم يزرني فقد جفاني) وقال(صلى الله عليه وآله): ( من زار قبري وجبت له شفاعتي). وقال(صلى الله عليه وآله): (من زارني بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي) إلى أن قال: ومما هو مقرر عند المحققين أنه(صلى الله عليه وآله) حيّ يرزق ممتّع بجميع الملاذ والعبادات، غير أنّه حجب عن أبصار القاصرين عن شرف المقامات(40).
31. وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري (م/ 1069هـ): واعلم أنّ هذا الحديث (شدّ الرحال إلى المساجد) هو الذي دعا ابن تيمية ومن معه كابن القيم إلى مقالته الشنيعة التي كفروه بها، وصنف فيها السبكي مصنّفاً مستقلاً، وهي منعه من زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) وهو كما قيل:
لمهــبط الوحي حقّاً ترحل النجب وعند ذاك المرجيّ ينتهي الطلب
فتوهم أنّه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها فإنّها لا تصدر عن عاقل فضلاً عن فاضل سامحه الله تعالى(41).
32. قال الشيخ عبد الرحمن شيخ زاده (م/ 987هـ): من أحسن المندوبات، بل يقرب من درجة الواجبات زيارة قبر نبينا وسيدنا محمد(صلى الله عليه وآله) وقد حرّض (عليه السلام) على زيارته وبالغ في الندب إليها(42).
33. قال الشيخ محمد بن علي بن محمد الحصني المعروف بعلاء الدين الحصكفي الحنفي المفتي بدمشق (م/ 1088هـ): وزيارة قبره(صلى الله عليه وآله) مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة(43).
34. قال أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي المصري(م/ 1132هـ): قد كانت زيارته مشهورة في زمن كبار الصحابة معروفة بينهم، لمّا صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به وقال: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره (صلى الله عليه وآله) وتتمتّع بزيارته؟ قال: نعم(44).
35. قال أبو الحسن السندي محمد بن عبد الهادي الحنفي(م/1138هـ): قال الدميري: فائدة زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) من أفضل الطاعات وأعظم القربات لقوله(صلى الله عليه وآله): (من زار قبري وجبت له شفاعتي إلخ)(45).
36.قال محمد بن عبد الوهاب: تسنّ زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) إلا أنّه لا يشدّ الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه(46).
37. قال الشيخ محمد بن علي الشوكاني(م/ 1250هـ): قد اختلفت فيها(في زيارة النبي(صلى الله عليه وآله )، أمّا أقوال أهل العلم، فذهب الجمهور إلى أنّها مندوبة, وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية إلى أنّها واجبة، وقالت الحنفية: إنّها قريبة من الواجبات، وذهب ابن تيمية الحنبلي حفيد المصنّف المعروف بشيخ الإسلام إلى أنّها غير مشروعة. ثم فصل الكلام في الأقوال، إلى أن قال وفي آخر كلامه: احتجّ أيضاً من قال بالمشروعية بأنّه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحج في جميع الأزمان على تباين الديار واختلاف المذاهب، الوصول إلى المدينة المشرّفة لقصد زيارته، ويعدون ذلك من أفضل الأعمال، ولم ينقل أن أحداً أنكر ذلك عليهم فكان إجماعاً(47).
38. قال الشيخ محمد أمين ابن عابدين (م/ 1253هـ): زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) مندوبة بإجماع المسلمين إلى ان قال: وهل تستحب زيارة قبره(صلى الله عليه وآله) للنساء؟ الصحيح، نعم، بلا كراهة بشروطها على ما صرّح به بعض العلماء، وأمّا على الأصح من مذهبنا وهو قول الكرخي وغيره من أنّ الرخصة في زيارة القبور ثابتة للرجال والنساء جميعاً فلا إشكال، وأمّا على غيره فذلك نقول بالاستحباب لإطلاق الأصحاب(48).
39. قال الشيخ محمد بن السيد درويش الحوت البيروني(م/ 1276هـ): زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) مطلوبة لأنّه واسطة الخلق، وزيارته بعد وفاته كالهجرة إليه في حياته، ومن أنكرها فإن كان ذلك إنكاراً لها من أصلها فخطأه عظيم، وإن كان لما يعرض من الجهلة ممّا لا ينبغي فليبيّن ذلك(49).
40. قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي(م/ 1277هـ): وتسنّ زيارة قبره(صلى الله عليه وآله) ولو لغير حاج ومعتمر كالذي قبله، ويسنّ لمن قصد المدنية الشريفة لزيارته(صلى الله عليه وآله) أن يكثر من الصلاة والسلام عليه في طريقه، ويزيد في ذلك إذا رأى حرم المدينة وأشجارها، ويسأل الله أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبّلها منه. ثم ذكر جملـــة كثـــيرة من آداب الزيــــارة وألفــــاظها(50).
41. قال الشيخ حسن العدوي الحمراوي الشافعي (م/ 1303هـ)، بعد نقل جملة من الأحاديث الواردة في أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) يسمع سلام زائريه ويرد عليهم: إذا علمت ذلك علمت أنّ ردّه(صلى الله عليه وآله) سلام الزائر عليه بنفسه الكريمة(صلى الله عليه وآله) أمر واقع لا شكّ فيه، وإنّما الخلاف في ردّه على المسلّم عليه من غير الزائرين. فهذه فضيلة عظيمة ينالها الزائرون لقبره(صلى الله عليه وآله) فيجمع الله لهم بين سماع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصواتهم من غير واسطة وبين ردّه عليهم سلامهم بنفسه، فأنّى لمن سمع بهذين بل بأحدهما أن يتأخّر عن زيارته(صلى الله عليه وآله) ؟ أو يتوانى عن المبادرة إلى المثول في حضرته(صلى الله عليه وآله) تالله ما يتأخر عن ذلك مع القدرة عليه إلا من حق عليه البعد من الخيرات، والطرد عن مواسم أعظم القربات، أعاذنا الله تعالى من ذلك بمنّه وكرمه آمين. وعلم من تلك الأحاديث أيضاً أنّه(صلى الله عليه وآله) حيّ على الدوام، إذ من المحال العادي أن يخلو الوجود كلّه من واحد يسلّم عليه في ليل أو نهار، فنحن نؤمن ونصدق بأنّه(صلى الله عليه وآله) حيّ يرزق، وأنّ جسده الشريف لا تأكله الأرض، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإجماع على هذا(51).
42. قال السيد محمد بن عبد الله الجرداني الدمياطي الشافعي (م/ 1357هـ): زيارة قبره(صلى الله عليه وآله) من أعظم الطاعات وأفضل القربات حتى أنّ بعضهم جرى على أنها واجبة فينبغي أن يحرّض عليها، وليحذّر كل الحذر من التخلّف عنها مع القدرة وخصوصاً بعد حجة الإسلام لأنّ حقه(صلى الله عليه وآله) على أمته عظيم، ولو أنّ أحدهم يجيء على رأسه أو بصره من أبعد موضع من الأرض لزيارته(صلى الله عليه وآله) لم يقم بالحق الذي عليه لنبيه جزاه الله عن المسلمين أتم الجزاء.
ويسنّ لمن قصد المدينة الشريفة (إلخ) ثم فصل القول في آداب الزيارة وذكر التسليم على الشيخين وزيارة السيدة فاطمة وأهل البقيع والمزارات المشهورة وهي نحو ثلاثين موضعاً كما قال وما أحسن ما قيل:
هنـــيئاً لمن زار خــير الورى وحـــطّ عـــن النفس أوزارها
فـــإنّ السعــــادة مـضمـــونـة لمن حلّ طيبة أو زارها(52)
43. قال الشيخ عبد الباسط بن الشيخ علي الفاخوري مفتي بيروت: الفصل الثاني عشر في زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) وهي متأكّدة مطلوبة ومستحبة محبوبة، وتسنّ زيارته في المدينة كزيارته حيّاً وهو في حجرته حيّ يرد على من سلّم عليه السلام، وهي من أنجح المساعي وأهمّ القربات وأفضل الأعمال وأزكى العبادات، وقد قال(صلى الله عليه وآله): (من زار قبري وجبت له شفاعتي). ومعنى ( وجبت) ثبت بالوعد الصادق الذي لابدّ من وقوعه وحصوله، وتحصل الزيارة في أيّ وقت وكونها بعد تمام الحج أحب، يجب على من أراد الزيارة التوبة من كل شيء يخالف طريقه وسنته(صلى الله عليه وآله) إلى أن قال: ويستحب التبرك بالاسطوانات التي لها فضل، وشرف وهي ثمانية: اسطوانة محل صلاته(صلى الله عليه وآله)، واسطوانة عائشة. وتسمى اسطوانة القرعة، واسطوانة التوبة محل اعتكافه(صلى الله عليه وآله)، واسطوانة السرير، واسطوانة عليّ رضي الله عنه واسطوانة الوفود، واسطوانة جبرئيل (عليه السلام)، واسطوانة التهجد(53).
44. قال الشيخ عبد المعطي السقا: في زيارة النبي(صلى الله عليه وآله) إذا أراد الحاج أو المعتمر الانصراف من مكة أدام الله تشريفها وتعظيمها طلب منه أن يتوجّه إلى المدينة المنوّرة للفوز بزيارته عليه الصلاة والسلام فإنّها من أعظم القربات وأفضل الطاعات وأنجح المساعي المشكورة، ولا يختص طلب الزيارة بالحاج غير أنّها في حقّه آكد، والأولى تقديم الزيارة على الحج إذا اتّسع الوقت فإنّه ربما يعوقه عنه عائق...(54).
45. قال الشيخ محمد زاهد الكوثري: والأحاديث في زيارته(صلى الله عليه وآله) في الغاية من الكثرة، وقد جمع طرقها الحافظ صلاح الدين العلائي في جزء، وعلى العمل بموجبها استمرت الأمة إلى أن شذّ ابن تيمية عن جماعة المسلمين في ذلك، قال علي القارئ في شرح (الشفاء): وقد أفرط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبيّ(صلى الله عليه وآله) كما أفرط غيره حيث قال: كون الزيارة قربة معلوم من الدين بالضرورة، وجاحده محكوم عليه بالكفر، ولعل الثاني أقرب إلى الصواب لأنّ تحريم ما أجمع العلماء فيه بالاستحباب يكون كفراً لأنّه فوق تحريم المباح المتّفق عليه(55).
46. قال فقهاء المذاهب الأربعة المصريين في (الفقه على المذاهب الأربعة): زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله) أفضل المندوبات، وقد ورد فيها أحاديث. ثم ذكروا أحاديث ستة وجملة من أدب السرائر وزيارة النبي(صلى الله عليه وآله) وأخرى للشيخين(56).
47. قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إجابة عن الأسئلة حول زيارة المسجد النبوي: الزيارة للمسجد النبوي سنّة وليست واجبة إلى أن قال : وإذا زار المسجد النبوي: شرع له أن يصلي في الروضة ركعتين ثم يسلّم على النبي(صلى الله عليه وآله) وعلى صاحبيه إبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، كما يشرع له زيارة البقيع والشهداء بالسلام على المدفونين هناك من الصحابة وغيرهم، والدعاء لهم والترحّم عليهم، كما كان النبيّ(صلى الله عليه وآله) يزورهم وكان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الدار من المؤمنين والمسلمين، وأنّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية. وفي رواية عنه(صلى الله عليه وآله) أنّه كان يقول إذا زار البقيع: (يرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين، اللّهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) ويشرع أيضاً لمن زار المسجد النبوي أن يزور مسجد قباء ويصلّي فيه ركعتين لأنّ النبي(صلى الله عليه وآله) كان يزوره كل سبت ويصلّي فيه ركعتين إلى آخر ما قال(57).
وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم
1 . السبكي، شفاء السقام: 65 . 79 ونحن نغترف من هذا العين المعين ونذكر كلمات المحققين من أهل السنة حول زيارة النبي(صلى الله عليه وآله).
2 . المنهاج في شعب الإيمان، كما في شفاء السقام: 65.
3 . التجريد، كما في شفاء السقام: 65.
4 . نقله عنه السبكي في شفاء السقام: 65.
5 . الأحكام السلطانية: 109، دار الفكر، بيروت.
6 . الحاوي، كما في شفاء السقام: 65.
7 . تهذيب الطالب، كما في شفاء السقام: 68.
8. المهذب في فقه الإمام الشافعي ج1:ص233، دار الفكر، بيروت.
9 . الغزالي، إحياء علوم الدين ج1:ص305و306.
10 . الهداية، كما في شفاء السقام:ص66.
11 . قيل بكسر الميم وسكون الزاء وفتح الواو: مصدر ميمي بمعنى الزيارة.
12 . الشفاء ج2:ص194،197، ط دار الفيحاء، عمان.
13 . ابن الحاج، المدخل ج1:ص256.
14 . مثير العزام الساكن إلى أشرف الأماكن، كما في شفاء السقام:67.
15 . المناسك، كما في الغديرج5:ص110.
16 . المستوعب، كما في شفاء السقام:ص67.
17 . المغني ج3:ص788.
18 . المنهاج، المطبوع بهامش شرح المغني ج1:ص494 . كما في الغدير ج5: ص111.
19 . الرعاية الكبرى في الفروع الحنبلية، كما في شفاء السقام: 67.
20 . نقله السبكي في شفاء السقام: 66.
21. الغاية، كما في شفاء السقام:66.
22 . ابن الحاج، المدخل ج1:ص257.
23 . ابن قدامة، الشرح الكبير على المقنع ج3:ص494.
24 . عبد الهادي الحنبلي، الصارم المنكي في الرد على السبكي: 7، الطبعة الأولى، القاهرة المطبعة الخيرية. ولو صحّ ما نقله يحمل على تبدلّ الاجتهاد والمعروف أنه نهى عن السفر للزيارة لا عن أصلها. وسيوافيك بعض شبهاته.
25 . السبكي، شفاء السقام: 66، طبع دار الجيل.
26 . المصدر نفسه: 79.
27 . المصدر نفسه: 83.
28 . المصدر نفسه: 84.
29 . المصدر نفسه: 100.
30 . المواهب اللدنية للقسطلاني ج4:ص572 المكتب الإسلامي، بيروت. والآية من سورة النساء: 64.
31 . وفاء الوفاء المجلد الثاني ص4:ح1362، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.