|
عضو برونزي
|
رقم العضوية : 77449
|
الإنتساب : Feb 2013
|
المشاركات : 320
|
بمعدل : 0.07 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
الرحيق المختوم
المنتدى :
منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
شرح خطبة المتقين 2
بتاريخ : 18-06-2013 الساعة : 05:16 PM
خصائص هذه الخطبة
1ـ وضوح مناخها
تنطوي هذه الخطبة على بعض الخصائص النادرة التي قلّ ما نجدها في خطبة أخرى من نهج البلاغة أو في سائر الروايات الأخلاقية. الخصيصة الأولى في هذه الخطبة هو الهدف والغاية من إلقائها، حيث قد بلغتنا قصتها وعرفنا السبب من إلقائها. بيد أن كثيرا من الروايات الأخرى قد وصلت إلينا بدون إشارة إلى مقام صدورها والقرائن المحيطة بها، فنقرأها ونستفيد منها دون علم بأسبابها ودوافعها. وهذا ما قد يسبب سوء فهم الروايات. إن فهم أحاديث أهل البيت أو فهم كلام العلماء العظام وحتى فهم آيات القرآن بشكل صحيح، بحاجة إلى الإحاطة بمناخها وقرائنها وهذا هو الذي يعبّر عنه في خصوص آيات القرآن بشأن النزول. بينما قصة هذه الخطبة قصة واضحة وصريحة وراقية جدا، فقد بلغنا مقام صدورها ودوافع إلقائها والأحداث التي أحاطت بها وهذا ما يمكّننا من استلهام دروس وحقائق كثيرة من هذه الخطبة.
الخصيصة الأخرى في هذه الخطبة هو أن المخاطب ومستوى الكلام معلومان أيضا. فتارة ينقل عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: «اتَّقِ اللَّهَ بَعْضَ التُّقَى وَ إِنْ قَلَ وَ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سِتْراً وَ إِنْ رَقّ».[1] فلابدّ أن نعرف من يخاطب في هذه الوصيّة. إن كلام الأمير(ع) يختلف باختلاف مستوى مخاطبيه، فتارة كان يخاطب أهل الكوفة، وتارة كان يخاطب ولده. أما هنا فالمخاطب معلوم، وهذا ما يعيننا كثيرا على فهم مغزى الكلام. إن مستوى المخاطب عال جدا، وبطبيعة الحال لابدّ أن نفترض مستوى الكلام عاليا أيضا، وعليه فلا مجال لأحد أن يستغني عن معارف هذه الخطبة.
2ـ شموليتها
الخصيصة الأخرى في هذه الخطبة هي شموليتها. فقلّ ما نستطيع أن نعثر على كلام يحظى بشمولية هذه الخطبة، بحيث يتطرق إلى العلاقات الاجتماعية ويخوض في علاقة الإنسان مع ربّه، بلا أن يغفل عن علاقة الإنسان مع نفسه، ويتناول العبادات الفردية والمعاملات الاجتماعية ومختلف المواضيع الروحية والنفسانية والصفات التي لا ينفك عنها الناس في كل شؤون حياتهم. إن شمولية هذه الخطبة لأمر عجيب.
ولا يفوتنا هنا أن نعبّر عن أسفنا الشديد من موت همّام المفاجئ الذي حرمنا من باقي معارف هذه الخطبة، فيا ليت عليّاً كان قد واصل كلامه لنرى إلى ماذا ينتهي حديثه وما هي المعارف الرائعة التي تشرق عن فمه وشفتيه، فما من كلمة نطق بها أمير المؤمنين(ع) قد أخذت مأخذا من قلوبنا وأنارت دربنا وأتحفتنا بفوائد جمّة.
3ـ أثرها
ومن الخصائص العالية جدا في هذه الخطبة، هو ما ذكرناه في قصتها. وهي أثرها العظيم والمشهود على المستمع. لقد تحدث أهل البيت(عليهم السلام) كثيرا ولكن لم يأتنا خبر أثر حديثهم على المستمع، بيد أن أثر هذه الخطبة قد ظهر على المستمع فورا، كما أن أمير المؤمنين(ع) نفسه قد أشار إلى نوعية أثر كلامه. هذه بعض خصائص هذه الخطبة التي قلّ ما نجدها في غيرها من الخطب والروايات.
بالإضافة إلى هذه الخصائص التي تمتاز بها هذه الخطبة عن غيرها، هناك خصائص أخرى في هذه الخطبة تشترك بها كثير من الخطب والكتب و الروايات الأخرى. وحري بنا أن نقف عند هذه الفئة من الخصائص أيضا قبل الدخول في شرح الخطبة.
4ـ صبغتها العرفانية
إحدى هذه الخصائص هي صبغتها العرفانية. فقد نسجت هذه الخطبة من الكلمات والأبحاث الأخلاقية وبصبغة عرفانية. وهناك بون شاسع بين الأبحاث الأخلاقية ذات الصبغة العرفانية وبين التي تفتقد هذه الصبغة. فتارة توصي أحدا وتقول له: إن شئت أن تحفظ عزتك بين الناس، لا تمدّن يدك إلى أحد أبدا. إنها وصية أخلاقية بلا صبغة عرفانية. وتارة تطرح بحثا عقديا كما لو تحدثت عن عدل الله وتقول: ليس الله بظلام للعبيد وغاية الأمر هو أن تقتضي حكمته أن يفعل أمرا ما. لا سبيل للظلم إلى الله، إذ إن الظلم ضرب من النقص وسبحان الله عن أي نقص... هذا بحث عقدي، وهو دفاع عن عدل الله، ولكنك تارة تتحدث عن الله والمسائل الأخلاقية بصبغة عرفانية.
ومن نماذج الصبغة العرفانية في الأبحاث الأخلاقية هو أن يقول أحد: من القبيح جدا أن نمدّ أيدينا إلى أحد سوى الله غافلين عن كونه ربنا وصاحبنا ومالك رزقنا. وأساسا إن مدّ اليد إلى الغير بمرآى رب الأرباب ورب العالمين هي غاية الخزي والعار الذي يمكن أن يحيط بالإنسان. إن هذا الكلام هو نفس الوصية الأخلاقية الأولى التي مرّ ذكرها، ولكن قد صحبته صبغة عرفانية.
وكذلك الأمر في هذه الخطبة فقد نسجت عباراتها بصبغة عرفانية، وهذه من الخصائص الممتازة التي لا تخفى عليكم مواطن فائدتها، ولا سيما في هذا العصر الذي بات ينزع الإنسان فيه إلى الأبحاث المعنوية والعرفانية. فمن شأن هذه الخطبة أن تحلّ عقدا كثيرة في مثل هذه الأجواء.
5ـ عدم تقيدها بنطاق محدود
ومن خصائصها الأخرى هي أنها غير محدودة في نطاق زمني أو مكانيّ خاص. فهي لم تختص بهمّام ولا تختصّ بزمانه ولا بفئة معينة من المؤمنين. إنها تجري في كل زمان ومكان. طبعا نوعية معارفنا الدينية هي أنها غير محدودة بموقع خاص، ولكن يبدو أن هذه الخطبة تفوق كثيرا من النصوص والمعارف من هذا الجانب. فكن من شئت واصب إلى ما شئت واختر ما شئت من عمل ومهنة، فإنك لست بغنى عن الكمال في الإنسانية، ولست بغنى عن التقوى في حياتك، فلابد أن يصوّر لك الإنسان المتقي وهذا ما ينفع كلّ من يجرّب العيش والحياة.
6ـ لحنها وموسيقيتها
من الخصائص الأخرى في هذه الخطبة هي أنها بالإضافة إلى ما تنطوي عليه من حكم رائعة، ذات لحن وموسيقية جميلة أيضا. فإن أمير المؤمنين(ع) قد نظم هذه الخطبة ونسج عباراتها بلحن ووزن جميل، ولم يطرح بعض المفاهيم وحسب. فإن ألفتموها وأنستم بها سوف تجدون حلاوة لحنها وجمال موسيقيتها ونظم نسقها الرائع.
من هذا المنطلق بودّي أن أقدم وصية لكم وهي أن احفظوا هذه الخطبة واقرأوها باللحن والطور الذي تفتضيه روحكم. وسوف تشعرون بمدى حاجة روحكم إلى أمثال هذه الموسيقى العذبة وسوف ترون كم تنتعش نفسكم بهذه الأغنية الطويلة، وسوف تسقط من أعينكم باقي الأغاني والأشعار الطفولية وتفقد رونقها وموقعها في نفوسكم وقلوبكم بعد ما احتلتها هذه الخطبة واستأنستم بها بدلا عن باقي الألحان والأطوار.
7ـ كونها وصفا لا توصية
وإلى جانب هذه الخصائص، تتصف هذه الخطبة بكونها وصفا لا وصية. إن الوصية لا تنفع من لم يستعدّ لاستماعها وقبولها. إنها بحاجة إلى ظروف أصعب. طبعا وبالتأكيد إنها مفيدة وضرورية جدا، ولكن قلّ ما تتوفر مع شرائطها وأسبابها. ولكنّ الكلام بصيغة الوصف لا يحتاج إلى شروط معقدة وبالإضافة إلى ذلك إنه أسهل نفوذا وأعمق تأثيرا في القلب ولا ينجلي أثره سريعا. وإن هذه الخطبة لخطبة وصفية في فضائل المتقين فتصف المتقين ولا توصي بالتقوى. ولهذا فلا يملّ الإنسان منها أبدا.
نصيحتان أقدمها لكم
النصيحة الأولى هي التي قدمتها حين البحث وهي أن احفظوا هذه الخطبة. أما النصيحة الثانية هي أن فرّقوا بين فهم هذه الخطبة وبين التأثّر بها. فحاولوا أن تفهموها وتدركوها عبر هذه الأبحاث، ولكن إلى جانب هذه الأبحاث أعدّوا برنامجا للتأثّر بها والانتفاع من منهلها. فاخلوا بهذه الخطبة ساعة، واسمحوا لأمطار فضائل كلام أمير المؤمنين(ع) أن تمطر على قلوبكم وتذهب بكم إلى ما تشاء من الحسن والفضل والكمال.
يتبع إن شاء الله ...
[1]. غرر الحكم ودرر الكلم، ص 138.
|
|
|
|
|