في سفري مع مجموعة من الأصدقاء لإحدى الدول الأفريقية، دخلنا إلى مطعم لمسلم من لبنان، لكنّا فوجئنا عندما رأينا زوجته غير محجبة. فسأله أحد الأصدقاء الذي كان معنا عن ذلك بكل متانة وبشاشة قائلا: "لماذا لا ترتدي زوجتك الحجاب الإسلامي مع كونك مسلم؟". فأجاب صاحب المطعم: "لأني لم أقتنع لحد الآن بضرورة الحجاب". فذكر له هذا الصديق ضمن عرضه لبعض المطالب عن الحجاب، مثال الورد. فتبسم هذا الرجل اللبناني وقال: "أنا أيضا -لحسن الاتفاق- أعتقد بأن المرأة كالوردة، والورد يستخدم للتزيين والتجميل. لذلك أنا أستغل جمال زوجتي لتزيين المطعم وجلب الزبائن. فبرأيي أن المرأة ليست هي كالوردة فحسب بل هي كالعطر الذي يضعه الناس ليشم عطره الآخرون ويستمتعوا به".
فالدليل الضعيف لهذا الصديق على ضرورة الحجاب، تبدل إلى دليل هذا الشخص اللبناني على ضرورة نزع الحجاب بالنسبة لزوجته. لهذا يقال: "الدفاع السيئ عن شيء، أسوء من عدم الدفاع عنه". فلو تحجبت المرأة على اثر استدلال ضعيف غير مقنع، ستكره الحجاب بعد مدة وتضعه جانبا.
فهذه الأمثلة والأدلة على الحجاب بوسعها أن ترضي من هم من أهل الحجاب ويهمهم كسب رضا الله تبارك وتعالى. لكنه هل يقنع الذين يرون الحجاب ففاقدا لأي توجيه عقلائي؟
ومن جهة أخرى، إن هذا الاستدلال لا يقنع مجتمعاتنا الحاضرة، لأن نساءنا الآن يعيشون باحترام. فحتى لو خرجت بدون حجاب لا يجرأ أحد على التعرض لها. نعم، لو ظهرت المرأة في المجتمعات الغربية بحجاب سيئ (طبعا الحجاب السيئ بالمعنى الغربي له؛ لا المصطلح عليه في وطننا) لا يرحمها الآخرون وستكون بمعرض التعرض بنحو ما. فهنا يمكن القول بأن "الحجاب حصانة"، لكن ليس لهذا التعريف فاعلية في مجتمعاتنا التي للمرأة فيه مكانة عالية.
3- هل المرأة وحدها تحتاج إلى حصانة؟
الاشكال الآخر الذي يتجه لهذا التعريف، هو التقييم الخطأ للحصانة. فللأسف هناك تقييم خاطئ في مجتمعاتنا للمشاكل الموجودة في مجال العلاقات بين المرأة والرجل. فالنظرة المتعارفة في مجتمعنا هي أن المقصر الأصلي في المشكلة التي تظهر في العلاقة بين المرأة والرجل، هو الرجل لا غير. فلماذا نتصور أن كل الأخطار تأتي من الرجال، ونريد من المرأة أن تحفظ نفسها منها؟
قبل عدة سنوات أجري حكم الإعدام على شابين في محلة من مدينة طهران بجرم إقامة الارتباط المحرم مع بنت واحدة. أجري بعد الإعدام مقابلة مع هذه البنت أذيعت في الإذاعة والتلفزيون. كانت البنت ترتدي أثناء المقابلة حجاب شنيع جدا. فليس من المعلوم كيف كان لباسها في الشارع عند ابتعادها عن قيد جهاز تصوير الإذاعة والتلفزيون، حيث طمع فيها هذين الشابين!؟ صحيح أن هذين الشابين كانا متجاوزين وينبغي إعدامهما، لكن إين يذهب ذنب هذه البنت؟ فللأسف لا أحد ينظر لهذه البنت بنظرة المقصر.
يحب الجميع حتى النساء غير المحجبات أن تكون مجتمعاتنا مصونة من الأخظار. لذلك لا أحد يوجه اتهامه للنساء غير المحجبات، لكن بمجرد أن يرتكب الرجل جرما معينا أو يسلك سلوكا غير صحيح، ينهال عليه سيل التهم من كل حدب وصوب. فلا أحد يشك في أن الرجل لابد أن يؤاخذ لو ارتكب معصية كهذه، لكن الكلام هو لماذا لا تُرى إلا معصية الرجل، ولا أحد يلتفت إلى جرم المرأة في هذا المجال؟ إن السفور جريمة. والرجال في اشتباكهم مع غير المحجبات، قد وقعوا في الحقيقة في مواجهة لسلوك إجرامي. فمن الممكن أن يقول أحد: "على الرجل أن يكون عصاميّ" فلو سألناه: "ألا ينبغي على المرأة أن تكون عصامية أيضا؟" فهل المرأة مجازة في أن تفعل ما تشاء؟ هذه هي ثقافتنا الخاطئة الرائجة في مجتمعنا.
فنساءنا مصونات في مجتمعنا أكثر من اللازم. وهذا مما يساعد على إشاعة ثقافة السفور واللاحجاب.
فلو كان الرجال يؤاخذون على سلوكهم الإجرامي، ألا تؤاخذ المرأة أيضا على بعض تصرفاتها كالوسوسة والتريك والخداع وإيقاع الشباب في شراك صيدها؟ نحن لا نريد أن نتحزب للذكورية، وأن نوجه ثقافتنا للدفاع عن الرجل. لكن ثقافة التحزب للأنثوية الخاطئة، والدفاع عن المرأة على كل حال والغض عن تقصيرها خطأ أيضا.
قيود الحجاب
عندما نقول: "الحجاب حصانة لا قيد"، ففي الحقيقة نحن نسعى وراء رفع القيود التي يأتي بها الحجاب والتي لها ثقل سلبي على النفس. لكن هل في الحقيقة إن الحجاب لا يحد من حرية المرأة؟ إن الجواب المنصف لهذا السؤال هو إن الحجاب قد يحد حرية المرأة نوعا ما. وليس من الصحيح أن نعتبر الحجاب لاحد فيه لحرية المرأة. فالمرأة التي تختار الحجاب الإسلامي تتحمل هذه القيود التي تكون المرأة السافرة في غنىً عنها.
ويمكن أن نشبه حجاب المرأة من حيث القيود التي يأتي بها بلباس الرجل الروحاني (العمة والجبة و...) فلباس الرجل الروحاني أيضا فيه نوع من القيود. فمن لبس الزي الروحاني عليه ترك كثير من الأفعال التي يفعلها الآخرون بسهولة.
بعد أن نتقبل القيود التي يفرضها الحجاب على المرأة، لابد أن ندخل في مسألة أخرى وهي كيف يمكن أ، نعرف هذا الحكم الذي يأتي معه بالقيود للناس بحيث ليس يقبلون به ولا يرفضونه فحسب، بل يحبونه بكل قلوبهم؟
أولا، ينبغي القول، إن فرار الناس من الحدود ليست قاعدة كلية وعامة لجميع البشر، بل نجد كثيرا من الناس يستقبل بعض الحدود بسواعد مفتوحة لكي تكون وسيلة لرشده وتكامله المتزايدين. فيمكن القول بأن عامة الناس يفرون من الحدود والقيود، بيد أن الخواص ليسوا كذلك. فكثيرا ما نرى أن الخواص قد يتحمل كثيرا من الحدود في حياته. فعليه لا يلزم أن نقول للخواص: "ليس الحجاب قيد" حتى ينجذب له ويحبه.
ومن جهة أخرى على رغم الحدود والقيود التي يأتي بها الحجاب، لابد من تبيين فلسفة تقبل بعض القيود والحدود وفائدتها. فجميع الناس يستقبلون كثيرا من الحدود المختلفة في حياتهم ويواجهون كثيرا منها في جميع أرجاء حياتهم شاءوا أم أبوا. أليس في السياقة حدود خاصة؟ فهل يمكن لكل أحد أن يسوق في الجانب الذي يرتضيه من الشارع أو بالسرعة التي يريدها؟ أوليس للأكل حدود؟ فهل يمكن للذي يحب الموز أن يأكل علبة كبيرة كاملة في وقت واحد؟ أوليس للملابس حدود؟ فهل يمكن لكل أحد أن يلبس كل مايحب في كل وقت وأوان وفي كل مكان؟ فحياة الإنسان المادية مليئة منذ الأساس بكثير من الحدود التي يرتضيها جميع البشر ولا يعترض عليها أحد. وبعض هذه الحدود يصعب العيش أو لا يمكن بدون تحملها. فعلى سبيل المثال فالإنسان ولأجل صيانة نفسه من الحر والبرد يحد نفسه ببناء مؤلف من أربعة جدران باسم البيت. فهل تجد أحدا يفر من هذا الحد؟ فالبشر يواجهون دائما في حياتهم أشكالا مختلفة من الحدود التي لايمكن العيش بدون التسليم لها. لذلك لايمكن الفرار من الحجاب وعدم القبول به لمجرد كونه يحد الحريات.وبالطبع لو استخدمت كلمة أخرى غير "القيد" حيث تحمل ثقلا أقل على النفس لكان ذلك أفضل. لذلك كان الشهيد المطهري يواجه الذين كانوا يبالغون في وصف حدود الحجاب، بقوله إنه ليس (قيد) حتى لا يترك ذريعة للمغرضين أن يشجعوا الحجاب وضرورته باستغلالهم لهذه الكلمة. لذلك استخدم الشهيد المطهري كلمة أخرى أقل ثقلا على النفس من القيد وهي "الحصانة".