بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم واهلك أعدائهم يالله
السلام عليكم
تلك هي الحياة .!!
"للحياة معان كثيرة, والمسلم الفطن يتلمس معانيها ويحيا متلذذاً بأجملها"
عود خشبي..
.. قصير .. صغير .. وحيد..
.. ملقى في وسط مياه البحر.. الكبير .. المترامي..
.. تقلبه الأمواج بقوة.. تتقاذفه بصرامة.. تتدافعه في عناد..
..لكن ما أن يغوص في أعماق البحر حتى يرتفع.. ويطفو من جديد ..
و ما أن ترمي به الأمواج إلى الوراء حتى يندفع .. ويتقدم إلى الأمام ..
.. صغير .. في حجمه.. دقيق في تكوينه..
.. كبير في معناه .. عظيم في مضمونه..
.. يتعلق به الغريق إذا رآه..
.. يقف عليه طائر النورس ، فإذا هو أجمل المناظر..
.. عود صغير .. سعيد بنفسه .. بعزمه.. بإصراره..
.. تلك هي الحياة !!
ورقة .. من أوراق الشجر..جافة.. هزيلة..
قد شحب لونها.. وضعفت قواها.. وانطفأ بريقها..
.. كتب عليها الموت..
.. انفصلت عن باقي أخواتها..وتركت الفرع..فأخذت تسقط..
.. وتسقط..
.. وتتهاوى..
.. إلا أنها وهي الصغيرة.. الضعيفة..
.. أخذت في الدوران حول نفسها ..
.. وتسقط..
.. تتقلب من وجه إلى آخر ..
.. وتسقط..
.. تلف.. وتدور .. وتدور.. تريد أن تستمتع بآخر اللحظات..
... تريد أن تستغل كل الفرص..
لإثبات .. شخصها..
.. وقوتها..
.. ووجودها..
..لم يكن موتاً.. بل .. تلك هي الحياة !
طفل..يجلس على ناصية الطريق...
أوصاله .. ترتجف من شدة البرد..
.. أمعاؤه تلتهب بسياط الجوع ..
شفتاه مشققة بفعل الجفاف..
يجلس القرفصاء..
قد شبك أصابعه .. وضمها إلى صدره ..
لعل الدفء أن يجد السبيل إلى أنامله المرتعشة..
.. يلقي إليه أحدهم شيئاً..
.. قرشاً.. رباه.. إنه قرش.. إنه مال..
.. يسرع إلى أقرب محل بيع الحليب.. يملأ إنائه المعدني.. القديم .. القذر..
.. يسرع إلى مكانه .. يضع الإناء على شفتيه ..
.. يسمع مواء ضعيفاً..
.. يلتفت .. فيجد قطة.. صغيرة.. هزيلة.. ترتعش أوصالها.. تنظر إليه بنظرات أبلغ من الكلام..
.. بلا تفكير..
.. ينزل الإناء من على شفتيه .. ويضعه على الرصيف البارد..
.. تقترب القطة في حذر.. تضع فمها الصغير على طرف الإناء..
.. تمد لسانها الجاف .. ترتشف الحليب الدافئ..
..أخذت تشرب.. وتشرب.. حتى ارتوت..
.. أحست بالدفء يدب في جسمها الدقيق .. أخذت تتقافز ذات اليمين.. وذات الشمال.. ثم ولت مسرعة..
.. كان الطفل ينظر إليها بعينين دامعتين .. وقلب يعتصر ألماً..
.. هو طفل صغير .. فقير .. جائع .. عطش ..
رفع الإناء ..
لم يعد فيه إلا قطرة واحدة ..
ارتشفها..
أحس بطعمها الرائع في فمه..
وما هي إلا لحظات معدودة .. غابت القطرة .. وذهب طعمها ..
.. جلس ينظر إلى الإناء .. ويتذكر القطة..
.. أحس بأنه طفل صغير.. فقير.. جائع.. عطش..
.. لكنه يملك الدنيا.. قلبه رحيم .. يسع الدنيا ..
.. ابتسامة ضعيفة وجدت طريقها إلى شفتيه .. فتألق وجهه.. وشعر أنه يضحك من أعماق قلبه ..
.. تلك هي الحياة !
شيخ ..كبير .. هرم..
لم يعد يذكر من أعوامه التي خلت شيئاً..
لم يعد يذكر كم هو رصيده المالي..
لم يعد يذكر تلك البلاد التي زارها..
لم يعد يذكر كم من الأشخاص قد عرف..
لم يعد يذكر أبناءه.. أو أحفاده..
لم يعد يذكر اسمه ..
لم يعد يذكر شيئاً ..
لا.. لقد كان يذكر..
يذكر تلك اليتيمة التي عالها حتى زوجها..
يذكر تلك العائلة التي كان ينفق عليها.. وأوصى عليها من بعده..
يذكر الركعات.. والسجدات..
يذكر العبرات في جوف الليل..
يذكر ولا ينسى .. ولم يعد يحزن على كبر سنه.. ولا على ضعف حيلته ..
كان يعلم أنها رحلة..
لعلها تكون طويلة.. وقد تكون قصيرة..
إنها رحلة.. وكان مستعداً لأن يضع رحاله في أي لحظة ..
إنها رحلة..
.. قدم فيها الخير كله..
وتزود فيها من الخير كله..
وهو الآن على فراشه ينتظر ..
ضاحكاً..
مبتسماً..
سعيداً..
تلك هي الحياة ..
تلك هي الحياة !
طائر.. صغير.. جميل..
.. ألوانه زاهية... صوته رائع.. يطير من غصن إلى غصن.. ومن فرع إلى آخر..
.. عيناه صغيرتان.. لكنهما تنظران إلى أبعد الآفاق..
.. يطير .. ويطير .. ويرتفع ..
.. يفرد جناحيه.. ويطبقهما بقوة.. بعزم.. بخفة.. برشاقة..
.. ويرتفع .. يقارب عنان السحاب.. أو أطراف السماء ..
.. يطير في غبطة .. في حرية..
.. يندفع في سعادة .. في حرية..
.. ويسمو .. ويرتفع.. ويسمو .. ويرانا من علو ..