إلهي كيف أنساك، ولم تزل ذاكري؟!.. أم كيف ألهو عنك، وأنت مراقبي؟!.. أما آن لك أيها الإنسان أن تستحي من ربك؟!.. قد أوجدك نورا شامخاً من نوره، وهيأ لك أرضا، جعلها فراشا لك تحتضنك بكل ذرة فيها، وجعلها تطعمك من نباتها، وتسقيك من ماء ها، وتربيك في رحمها.. فهيأ لذلك شمسا، تبخر ماء فراشك، فينزل عليك من عنده ماء صافيا.. وجعل لك قمرا منيرا، يعلمك منازل وبروج السماء، ويعكس لك ضوء الشمس، حتى لا ينقطع عنك.. ومنحك ماء صافيا، يصل إلى جوفك، دون أن تذهب إلى جلبه.. فهو راحمك وموجدك..
ألم يهيئ لك نجوما، تحميك من زعازع الخلق؟.. ألم يهيأ لك سحابا، ينقل لك قطرات ماء نازلا من عنده؟.. ألم يحميك من حركات هذا الفراش الذي وضعك فيه؟.. ألم يغذيك ويطعمك ويسقيك؟.. وفعل ذلك معك في رحم أمك ثانيا، حيث أنزلك في أبوين مؤمنين صالحين في أصلاب طاهرة، حتى أدخلك في رحم أمك من ماء صاف كاللبن، من محل النية والمشيئة، الذي ما وسعته أرض ربك ولا سمائه، لكن وسع قلب أبويك، فخرجت من عنده؟..
ألم يربيك في عنق رحم أمك، حتى تتكون في 72 ساعة، يغذيك من نفس العنق؟.. أيها الإنسان من نقلك إلى الرحم بعد ذلك؟.. أليس هو من أرسل نطفتك إلى هناك؟.. أليس هو من كونك في رحم أمك، حتى تفجرت مضغتك في 14 يوم، حتى بدأ في تكوين آلات جسدك لينزل فيها الروح والنور، التي كونك منه في الأول؟.. ألم يعينك، ويعلمك كيف تجلس وتصلي وتسبح، وتقوم وتقعد، وتأكل وتشرب، وأنت جهاز لم يكتمل نموه في ظلمة داكنة، لا ترى ولا تبصر؟..
أما آن لك أن تستحي من خالقك؟!..
ألم يقيك من حركات أمك، حيث جعلك في فرش من ماء رحمها، حتى لا يصطدم رأسك الهش بجسدها، فكان أحن من أمك عليك؟.. حتى إذا نمت وكبرت وتعلمت، استقبلك من رحم أمك ساجدا باكيا، وضعك بين يديه، حيث لا يرغب في أحد أحدا، وسخر لك أبويك، حيث لا يرغب أحد في أحد..
ألم تكن طفلا لا تبصر محالب أمك، فأرشدك إليها، لكي يغذيك.. وحينما كبرت قليلا، علمك كيف تسير على أربع، تقضي في حركتك حاجتك؟.. ألم يعلمك ويلاعبك؟.. حفظك من شرار الدواب والهوام، والكبير والصغير، حتى إذا هم جسدك إلى الوقوع، استقبلت يداه جسدك، فهان عليك الألم بعد رؤيتك ذلك؟..
سخر لك كل شيء، وهيأ لك كل شيء، وعمل لك شيء.. أبعد ذلك تقابله بالعصيان والطغيان والجحود؟.. أبعد أن دلك على الطريق، وعلمك المسير، تقف عليه بالنكران؟!..
أما آن لك أن تستحي من ربك؟..
وبعد ذلك، حتى إذا عرضت عليك الدنيا زينتها، تبدل ربك بها!.. أذلك عدل أن تبيع من أحسن إليك بالإساء ة؟!.. فتعصيه، فينادي هذا عبدي، وأنا أولى به.. يستر فعلك عن جميع خلقه، حتى عن ملائكته، وسكان سماواته.. أبعد ذلك تجرأ عليه؟!..
يعلمك التوبة، ويسوقك إليها، لتتوب، فيرجعك إلى طريق صنعه لك، فتوقع نفسك في الجب، فيخرجك، أليس هو أحق بعبادتك؟!..
يعلمك الكلام، فتقوله لغيره!.. يعلمك معارف خلقه من جن وأنس وملائكة، فتكرس وقتك لعبادتهم، والتقرب لهم!.. أليس هو أحق منهم في ذلك؟!.. وبعد فعلك كله، يقول لك : عبدي نادني، فأجيبك وأعطيك.. وتقرب إلي، أتقرب إليك..
حتى إذا دنى أجلك، واحتضنك الموت قال له : خل عنك.. هذا عبدي وحبيبي، أنا أولى منك في احتضانه.. فآنس وحشتك، كما فعل في رحم أمك، وأنار لك برزخ من قبل نكرانك وجحدك.. فاستقبلك، وجعل لك عرسا يزفك إلى جنانه.. ويفرح بك أكثر من فرح أهلك ومحبيك بك، حين تزويجك وتخرجك، فيغفر لك، ويرحمك.. أليس أحق هو بحمدك؟.. أسكنك أرضه، وأطعمك من نباته، وأسقاك من مائها، فعصيته فغفر لك..
كيف بك، وأنت على أثقالك أكناف الذنوب تجرها؟.. وأغلال الحديد بين يديك وقدميك، تنادي : أي رب أي رب أي رب!.. يا الله!.. عبدك بين يديك.. أبعد ذلك جئت إلى ربك تستسقيه؟!.. أبعد أن تبدلت صورتك، وانمحى ذكرك؟.. أبعد أن سودت أعمالك وجهك، جئت سائلا قارعا بابه، تسأله أن يدخلك جنته، ويحظيك بقربه؟.. وهو الرؤوف بك، الرحيم لك، فيغفر لك، فينادي مناد : إني غفرت لحبيبي، قد أحسن ظنه بي، خل سبيله..
فلماذا أيها الإنسان، توالي عدوه، وتصم آذانك عنه؟!..
فرجعت إليه بعد أن خرجت من عنده!.. كان هذا سفر، بعيدا، أم قصيرا، أم أقل من طرفة عين، إلا انه زاد شوقه إليك، وحبه لك!.. فأنت بغربتك هذه، ازددت معرفة به، وحبا له.. فآن لك أن تعصيه بعد ذلك!.. أبعد أن زرع أشجار الشوق إليه، في صدرك، قلعتها!..
أما آن لك أن تستحي من ربك!..
قال الإمام الصادق (ع)- روحي وأرواح العالمين له الفداء - :
تعصي الإله وأنت تُظهر حبه *** هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع