الحرالحر بن يزيد الرياحي، هذا الإنسان الذي كان أول قائد لألف مقاتل أُريد لهم أن يعطّلوا مسيرة الإمام الحسين ويأتوا به إلى الكوفة ليتسلّمه ابن زياد، هذا الإنسان الذي رقّ للحسين ، لأنه كان يحمل القيمة الروحية الأخلاقية في أعماق نفسه، وإن كانت وظيفته تختلف مع ذلك، لكن أخلاقيته غلبـت مهمته، ولذلك نجد أنه عندما قال له الإمام الحسين : «ثكلتك أمك»، امتنع عن أيّ ردِّ فعل لهذه الكلمة، وعمل على حلٍ وسط، بأن يسلك الحسين طريقاً لا يُرجعه إلى المدينة ولا يدخله إلى الكوفة، وهكذا كان.
فالرجل كان يفكِّر في الله، لم تضغط عليه وظيفته ومهمته، ولكن كانت تضغط عليه روحيته وأخلاقيته، لأنه كان يمثل الحرية الإنسانية التي تفكر وتحاول أن تتفهّم الأمور في عمقها، لا كالذين يعيشون العبودية الذاتية لأطماعهم وشهواتهم، فتمنعهم من أن يفكروا في الخيار الآخر والجانب الآخر. كان حراً، لأن الحرية هي أولاً حرية أن تفكر تفكيراً موضوعياً عقلانياً تحسب فيه حساب الربح والخسارة، وتحسب فيه حساب النفع والضرر، كان الرجل غير مرتاح لموقعه، وإن كان موقعه يجرّ إليه الغنائم، كان يفكّر في الله، لقد خرج من كل هذه الظلمة المادية التي كانت تخاطب فيه أطماعه وتقوده إلى ليل لا نور فيه ولا ضوء، ليل الأطماع والشهوات والدنيا الفانية.
كان ينطلق من ضوء بدأ يشرق في قلبه فينيره، ويشرق في عقله فيضيئه، ويشرق في مستقبله فينفتح به على المستقبل، وبدأ يتحرك في القرار الصعب، لأنه ليس قراراً يتصل بحاجة هنا وهناك، ولكنه قرار يتصل بالمصير والحياة والموت، يتصل بموقف بحيث يترك كل ما لديه من ثروات وزعامات وما ينتظره من أحلام وأطماع، وبدأ يرتعد ويهتز، وجاءه صاحبه واستنكر هذه الرعدة والاهتزاز وقال له: «أترتعد، لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة، ما عدوتك»!! وقال له: «أنا لا أرتعد جبناً ولا خوفاً، ولكني أخيّر نفسي بين الجنة والنار ـ النار هنا مع ابن سعد وابن زياد، والموقف مع الحسين الذي لا دنيا فيه على مستوى الواقع ولكن في آخره الجنة، ثم قرر وأراد وعزم وتحرك ـ فوالله لا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت أو أُحرقت». وانطلق إلى الحسين خاضعاً مطأطئاً تائباً، ورحّب به الحسين الذي كان يرصد في هذا الشخص روحيّته وإرادته الحرة التي لا تسقط أمام الأطماع، تماماً كما هم أصحاب الحسين الذين ثبتوا معه، وكان قائلهم يقول: «وددت لو أُقتل ثم أُحرق ثم أُحيى، يُفعل ذلك سبعين مرة وإني أدفع عنك القتل قربةً إلى الله ما تأخرت عن ذلك».
كان الحسين كما كان جدّه رسول الله ، يبحث عن الإنسان الحر، الإنسان الذي يعرف كيف يختار مصيره ويقرِّر موقفه، كان في حواره مع جيش ابن سعد يريد أن يُخرج الناس من عبوديتهم للسلطان الجائر ليدفع بالإرادة الحرة إلى مواقفهم، وهذا هو دور الإسلام في هذا المجال، وهو ما قاله الإمام عليّ في تأكيد حرية الإنسان: «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً»، إن حريتك جزء من إنسانيتك وإيمانك وذاتك، فلا تسقطها لتستعبد نفسك أمام إنسان آخر. كانت المسألة هي أن الحسين اعتز بأصحابه لأنهم كانوا الأحرار كما كان هو سيد الأحرار، واستقبله الإمام الحسين واستشهد بين يديه، وأعطاه الوسام الإيماني، وسام الحرية في سبيل الله: «أنت الحر كما سمّتك أمك، حرّ في الدنيا وسعيد في الآخرة»، حرّ في الدنيا لأنك أطلقت إرادتك الحرة، وسعيد في الآخرة لأنك انفتحت على رضى الله، فكانت شهادتك صلاة وعبادة وحركة في سبيل الله.
ابن سعد:
بينما نجد في الجانب الآخر كل هذه الجموع التي كانت تنفتح على الإمام الحسين ، كما قال الشاعر الفرزدق للإمام الحسين عندما سأله: «كيف تركت الناس في الكوفة»؟ قال: «قلوبهم معك وسيوفهم عليك»، لأن سيوفهم كانت في خدمة أطماعهم وأحلامهم، بينما كانت قلوبهم تختبئ في خفقاتها على أساس ذاتي لا قيمة له، وكانت هناك شخصية عمر بن سعد الذي تربطه صلة قرابة بالإمام الحسين ، عاش الحيرة كما عاشها الحر، ويقال إنه ـ وهو الذي أُعطي مرسوم ولاية الريّ على أن يقاتل الحسين ـ تحدّث عن هذا القلق النفسي بين الدنيا والآخرة، وكانت النتيجة أنه سقط في الامتحان، وغلبته الدنيا وخسر الآخرة:
والله ما أدري وإني لحائر أفكر في أمري على خطرين
أأترك ملك الريّ والريّ منيتي أم أرجع مأثوماً بقتل حسين
يـقولون إن الله خالـق جنة ونار وتـعذيب وغلّ يـدين
فإن صدقوا فيما يقولون فإني أتوب إلى الرحمن من سنتين
السلام على الحرّ الرياحي ... ما أجمل توبته ... قصّة تقشعرّ لها الأبدان ... أن تكون في الطرف الخصم كلّ الوقت ... و في اليوم الفصل ينعم عليه الله بالتوبة و السداد ليكون من أهل الجنّة ...