لافصاح- الشيخ المفيد ص 185 :
فإن قالوا : أفليس قد آنس الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بأبي بكر في خروجه إلى المدينة للهجرة ، وسماه صاحبا له في محكم كتابه ، وثانيا لنبيه صلى الله عليه وآله في سفره ، ومستقرا معه في الغار لنجاته ، فقال تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينتة عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } وهذه فضيلة جليلة يشهد بها القرآن ، فهل تجدون من الحجة مخرجا ؟
الجواب : قيل لهم : أما خروج أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وآله فغير مدفوع ، وكونه في الغار معه غير مجحود ، واستحقاق اسم الصحبة معروف ، إلا أنه ليس في واحدة منها ولا في جميعها ما يظنون له من الفضل ، فلا تثبتله منقبة في حجة سمع ولا عقل ، بل قد شهدت الآية التي تلوتموها في ذلك بزلل الرجل ، ودلت على نقصه وأنبأت عن سوء أفعاله بما نحن موضحون عن وجهه ، إن شاء الله تعالى . وأما ما ادعيتموه من انس الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله ، فهو توهم منكم وظن يكشف عن بطلانه الاعتبار ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله مؤيد بالملائكة المقربين الكرام ، والوحي ينزل عليه من الله تعالى حالا بحال ، والسكينة معه في كل مكان ، وجبرئيل عليه السلام آتيه بالقرآن وعصمته والتوفيق من الله تعالى والثقة بما وعهده من النصر والظفر يرفع عنه الاستيحاش ، فلا حاجة إلى أنيس سوى من ذكرنا ، لا سيما وبمنقوص عن منزلة الكمال ، خائف وجل ، يحتاج إلى التسكين والرفق والمداراة . وقد نطق بصفته هذه صريح القرآن ، وأنبأ بمحنة النبي صلى الله عليه وآله ، وما عالجه من تدبيره له بالتسكين والتشجيع وتلافي ما فرط منه لشدة جزعه وخوفه وقلقه ، كي لا يظهر منه ما يكون به عظيم الفساد ، حيث يقول سبحانه فيما أخبر به عن نبيه صلى الله عليه وآله : { لا تحزن إن الله معنا } . وبعد : فلو كان لرسول الله صلى الله عليه وآله مؤنس على ما ادعاه الجاهل ، لم يكن له بذلك فضل في الدين ، لان الانس قد يكون لاهل التقوى والايمان بأمثالهم من أهل الايمان ، وباغيارهم من اهل الضلال والبهائم والشجر والجمادات ، بل ربما أنس العاقل بمن يخالفه في دينه ، واستوحش ممن يوافقه ، وكان انسه بعبده - وإن كان ذميا - أكثر من انسه بعالم وفقيه - وإن كان مهذبا - ويأنس بوكيله أحيانا ولا يأنس برئيسه ، كما يأنس بزوجته أكثر من انسه بوالدته ، ويأنس إلى الاجنبي فيما لا يأنس فيه إلى الاقرب منه ، وتأتي عليه الاحوال يرى أن التأنس ببعيره وفرسه أولى من التأنس بأخيه وابن عمه ، كما يختار المسافر استصحاب من يخبره بأيام الناس ، ويضرب له الامثال ، وينشده الاشعار ، ويلهيه بالحديث عن الذكر وما يبهج الخواطر بالبال ، ولا يختار استصحاب أعبد الناس ولا أعرفهم بالاحكام ولا أقرأهم للقرآن ، وإذا كان الامر على ما وصفناه لم يثبت لابي بكر فضل بالانس به ، ولو سلمناه ولم نعترض في بطلانه بما قدمناه ، وهذا بين لا إشكال فيه عند ذوي الالباب . وأما كونه للنبي صلى الله عليه وآله ثانيا ، فليس فيه أكثر من الاخبار بالعدد في الحال ، وقد يكون المؤمن في سفره ثاني كافر ، أو فاسق ، أو جاهل ، أو صبي ، أو ناقص ، كما يكون ثاني مؤمن وصالح وعالم وبالغ وكامل ، وهذا ما ليس فيه اشتباه ، فمن ظن به فضلا فليس من العقلاء . وأما الصحبة فقد تكون بين المؤمن والكافر كما تكون بينه وبين المؤمن ، وقد يكون الصاحب فاسقا كما يكون برا تقيا ، ويكون أيضا بهيمة وطفلا ، فلا معتبر باستحقاقها فيما يوجب المدح أو الذم ، ويقتضي الفضل أو النقص . قال الله تعالى فيما خبر به عن مؤمن وكافر : { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكناه هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا } فوصف أحدهما بالايمان ، والآخر بالكفر والطغيان ، وحكم لكل واحد منهما بصحبة الآخر على الحقيقة وظاهر البيان ، ولم يناف الصحبة اختلاف ما بينهما في الاديان . وقال الله سبحانه مخاطبا الكفار الذين بهتوا نبيه صلى الله عليه وآله ، وادعوا عليه الجنون والنقصان : { وما صاحبكم بمجنون * ولقد رأه بالافق المبين } فأضافه عليه السلام إلى قومه بذكر الصحبة ، ولم يوجب ذلك لهم فضلا ، ولا بإقامتهم كفرا وذما ، فلا ينكر أن يضيف إليه عليه السلام رجلا بذكر الصحبة ، وإن كان المضاف إليه كافرا ومنافقا وفاسقا ، كما اإلى الكافرين بذكر الصحبة ، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسيد الاولين والآخرين ، ولم يوجب لهم فضلا ولا وفاقا في الدين ، ولا نفي عنهم بذلك نقصا ولا ضلالا عن الدين . وقد ثبت أن إضافته إليهم بذكر الصحبة أوكد في معناها من إضافة أبي بكر بها ، لان المضاف إليه أقوى في السبب من المضاف ، وهذا ظاهر البرهان . فأما استحقاق الصبي اسم الصحبة من الكامل العاقل ، وإن لم يوجب ذلك له كمالا ، فهو أظهر من أن يحتاج فيه إلى الاشتهار بإفاضته على ألسن الناس العام والخاص ، ولسقوطه بكل لسان . . وقد تكون البهائم صاحبا ، وذلك معروف في اللغة ، قال عبيد بن الابرص : بل رب ماء أردت آجن * سبيله خائف جديب قطعته غدوة مسيحا * وصاحبي بادن خبوب يريد بصاحبه بعيره بلا اختلاف . وقال أمية بن أبي الصلت : إن الحمار مع الحمار مطية * فإذا خلوت به فبئس الصاحب وقال آخر : زرت هندا وذاك بعد اجتناب * ومعي صاحب كتوم اللسان يعني به السيف ، فسمى سيفه صاحبا . وإذا كان الامر على ما وصفناه لم يثبت لابي بكر بذكر الصحبة فضيلة ، ولا كانت له منقبة على ما بيناه وشرحناه . وأما حلوله مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار ، فهو كالمتقدم غير موجب له فضلا ، ولا رافع عنه نقصا وذما ، وقد يحوي المكان البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، والكامل والناقص ، والحيوان والجماد ، والبهيمة والانسان ، وقد ضم مسجد النبي صلى الله عليه وآله الذي هو أشرف من الغار المؤمنين وأهل النفاق ، وحملت السفينة البهائم وأهل الايمان من الناس ، ولا معتبر حينئذ بالمكان ، ومن اعتقد به فضلا لم يرجع في اعتقاده ذلك إلى حجة عقلية ولا عبارة ولا سمع ولا قياس ، ولم يحصل بذلك إلا على ارتكاب الجهالات . فإن تعلقوا بقوله تعالى : { إن الله معنا } فقد تكون { معنا } للواحد كما تكون للجماعة ، وتكون للموعظة والتخويف كما تكون للتسكين والتبشير ، وإذا احتملت هذه الاقسام لم تقتض فضلا ، إلا أن ينضم إليها دليل من غيرها وبرهان ، وليس به مع التعلق بها أكثر من ظاهر الاسلام . فصل فأما الحجج منها على ما يوجب نقص أبي بكر وذمه ، فهو قوله تعالى فيما أخبر به من نهي نبيه صلى الله عليه وآله لابي بكر عن الحزن في ذلك المكان ، فلا يخلو أن يكون ذلك منه على وجه الطاعة لله سبحانه لما نهاه النبي صلى الله عليه وآله عنه ، ولا لفظ له في تركه ، لانه صلى الله عليه وآله لا ينهى عن طاعات ربه ، ولا يؤخر عن قربه .ومن وصفه بذلك فقد قدح في نبوته ، وأخرجه عن الايمان بالله تعالى ، وأدخله في جملة أعدائه وأهل مخالفيه ، وذلك ضلال عظيم . وإذا خرج أبو بكر بحزنه الذي كان منه في ا لغار على الاتفاق من طاعة الله تعالى ، فقد دخل به في معصية الله ، إذ ليس بين الطاعة والمعصية في أفعال العاقل الذاكر واسطة على تحقيق النظر ، ومن جعل بينهما قسما ثالثا - وهو المباح - لزمه فيه ما لزم في الطاعة ، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يحظر ما أباحه الله تعالى ، ولا يزجر عما شرعه الله . وإذا صح أن أبا بكر كان عاصيا لله سبحانه يحزنه المجمع على وقوعه منه في الغار ، دل على استحقاقه الذم دون المدح ، وكانت الآية كاشفة عن نقصه بما بيناه . ومنها : أن الله سبحانه أخبر في هذه الآية أنه خص نبيه صلى الله عليه وآله بالسكينة دون أبي بكر ، وهذا دليل على أن حاله غير مرضية لله تعالى ، إذ لو كان من أولياء الله وأهل محبته لعمته السكينة مع النبي صلى الله عليه وآله في ذلك المقام ، كما عمت من كان معه صلى الله عليه وآله ببدر وحنين ، ونزل القرآن ، فقال تعالى في هذه السورة : { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين }وقال في سورة الفتح : { لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } . وقال فيها أيضا : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } . فدل عموم ينة
كل من حضر مع النبي صلى الله عليه وآله من المؤمنين مقاما سوى الغار ، بما أنزل به القرآن ، على صلاح حال القوم وإخلاصهم لله تعالى ، واستحقاقهم الكرامة منه بالسكينة التي أكرم بها نبيه صلى الله عليه وآله ، وأوضح بخصوص نبيه في الغار بالسكينة دون صاحبه في تلك الحال على ما ذكرناه عن خروجه من ولاية الله تعالى ، وارتكابه لما أوجب في العدل والحكمة الكرامة بالسكينة من قبائح الاعمال .
منقول ...