قلنا ، من قبل ، إننا سنقدم ما نعتقد أنه الصورة الحقيقية لقضية الإمامة . ولكي نتمكن من تقديم هذا التصور ، كان علينا ألا نقيد أنفسنا بما أورده أصحاب السنن في فصل الإمامة ، وألا نتقيد بمصدر واحد ، وإنما علينا أن نفتش في مصادر السنة المختلفة المتاحة لدينا .
وقلنا أيضا إننا سنلتزم بالقواعد القرآنية المحكمة التي لا يأتيها الباطل ، وخاصة قاعدة الاصطفاء الإلهي وأن حمل أمانة الدين والدنيا محصور في ذرية الأنبياء والهم لا غيرهم ، إلا إذا قام لدينا دليل قاطع يقول غير هذا الكلام ، ولا نظن أن رواية مكذوبة منسوبة إلى الرسول الأكرم تصلح لأن ترد صريح القرآن .
وهناك أيضا ملاحظة هامة ، وهي أننا لن نتعرض لأسانيد الأحاديث ، ورجالها ، ورواتها ، فمعظم الأحاديث التي سنوردها قد فرغ فيها القول وحققت وأصبحت أسانيدها مقطوع بصحتها .
كما لن نحرص على استقصاء كميع الروايات المتعلقة بالمسألة فإن هذا الأمر يطول ، وإنما سنركز على هدد قليل من الروايات التي ذكرتها
كتب أهل السنة وصحاحهم ، تقودنا إلى ما نريد .
1 - حديث الغدير . أخرج أصحاب السنن ، واللفظة لابن المغازلي عن زيد بن أرقم قال : ( أقبل نبي الله من مكة في حجة الوداع حتى نزل بغدير الجحفة بين
مكة والمدينة ، فأمر بالدوحات فقم ما تحتهن من شوك ، ثم نادى الصلاة جامعة ، فخرجنا إلى رسول الله ( ص ) في يوم شديد الحر وإن منا لمن يضع رداء ه على
رأسه وبعضه على قدميه من شدة الرمضاء حتى انتهينا إلى رسول الله ( ص ) ، فصلى بنا الظهر ثم انصرف إلينا فقال : الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به
ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله .
أما بعد ، أيها الناس فإنه لم يكن لنبي من العمر إلا نصف عمر من قبله وإن عيسى بن مريم لبث في قومه أربعين سنة وإني قد أسرعت في العشرين ، ألا
وإني أوشك أن أفارقكم ، ألا وإني مسؤول وأنتم مسؤولون فهل بلغتكم فماذا أنتم قائلون ؟ فقام من كل ناحية من القوم مجيب يقولون : نشهد أنك عبد الله ورسوله
قد بلغت رسالته وجاهدت في سبيله وصدعت بأمره وعبدته حتى أتاك اليقين ، جزاك الله عنا خير ما جازى نبيا عن أمته . فقال : ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وتؤمنون بالكتاب كله ؟ قالوا : بلى . قال : فإني أشهد أن صدقتكم وصدقتموني ألا وإني فرطكم وأنكم تبعي توشكون أن تردوا
علي الحوض فأسألكم حتى تلقوني عن ثقلي كيف خلفتموني فيهما . فأعيل علينا ما ندري ما الثقلان حتى قام رجل من المهاجرين قال : بأبي أنت وأمي يا نبي الله ما
الثقلان ؟ فقال ( ص ) : الأكبر منهما كتاب الله تعالى سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم فتمسكوا به ولا تضلوا ، والأصغر منهما عترتي من استقبل قبلتي وأجاب
دعوتي فلا تقتلوهم ولا تقهروهم ولا تقصروا عنهم فإني قد سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني ناصرهما لي ناصر ، وخاذلهما لي خاذل ، ووليهما لي ولي
وعدوهما لي عدو ، ألا وإنها لم تهلك أمة قبلكم حتى تتدين بأهوائها تتظاهر على نبوتها وتقتل من قام بالقسط . ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها ثم قال : من
كنت مولاه فهذا مولاه ومن كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . قالها ثلاثا ) ( 1 )
* ( هامش ) *
( 1 ) للتوسع في مصادر حديث الغدير ، أنظر : - سنن الترمذي : 2 / 298 دار إحياء التراث العربي - بيروت ( غير مؤرخ ) . - سنن ابن ماجة : 1 / 43 حديث رقم 116 . تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار الفكر - بيروت . - المستدرك على الصحيحين 3 / 109 ، 533 دار الكتب العلمية - بيروت 1411 ه . - مسند أحمد بن حنبل : 4 / 270 دار الفكر - بيروت . ( * )
2 - خطبة حجة الوداع روى الترمذي ، في الباب ( 32 ) ، تحت عنوان ( مناقب أهل بيت النبي ( ص ) ، حديث رقم ( 3786 ) ، بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري : ( رأيت رسول الله ( ص ) في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : أيها الناس إني تركت فيكم ما أن أخذتم به لن تظلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ) ( 1 ) .
وفي حديث رقم ( 3788 ) للترمذي أيضا عن زيد بن أرقم قال : ( قال رسول الله ( ص ) : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض . وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلوني فيهما ) ( 2 ) .
3 - حديث المنزلة روى البخاري وغيره من أصحاب السنن عن رسول الله ( ص ) ، أنه قال لعلي بن أبي طالب : ( أنت مني بمنزلة هارون
* ( هامش ) *
( 1 ) أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي : الجامع الصحيح ، 5 / 621 . دار الكتب العلمية - بيروت 1408 ه / 1987 م .
( 2 ) المصدر نفسه ، 5 / 622 . ( * )
من موسى غبر أنه لا نبي بعدي ( 1 ) .
4 - حديث أنا مدينة العلم وعلي بابها روى ابن المغازلي الشافعي عن جابر بن عبد الله قال : ( أخذ النبي ( ص ) بعض علي فقال : هذا أمير البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره ، مخذول من خذله . ثم مد بها صوته فقال : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ) .
وأخرجه الحاكم بهذا السند في مستدرك على الصحيحين : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ) .
كما روى ابن المغازلي الشافعي عن جرير عن علي قال : ( قال رسول الله ( ص ) : أنا مدينة العلم وعلي بابها ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها ) ( 2 )
* ( هامش ) *
( 1 ) روي هذا الحديث بهذا المعنى ، وبألفاظ مختلفة في المصادر التالية : - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، 7 / 453 ط . دار الكتب العلمية - بيروت - كنز العمال للمتقي الهندي ، 6 / 395 . - مسند أحمد بن حنبل ، 1 / 170 و / 369 دار الفكر - بيروت - صحيح مسلم ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، 5 / 23 حديث رقم 2404 . - صحيح البخاري كتاب بدء الخلق ، باب غزوة تبوك ، حديث رقم 3503 .
( 2 ) أنظر : الجامع الصحيح للترمذي ، 5 / 596 حديث رقم 3723 . دار الكتب = ( * )
5 - حديث براءة روى ابن كثير ، في تفسيره : ( تفسير القرآن العظيم ) ، عن الإمام أحمد عن أنس بن مالك : ( أن رسول الله ( ص ) بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال : لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعثها مع علي بن أبي طالب ) ( 1 ) .
ورواه الترمذي في التفسير ، وقال عبد الله بن حنبل عن علي : ( لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي ( ص ) ، دعا أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال : أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم . فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبكر إلى النبي ( ص ) فقال : يا رسول الله نزل في شئ ؟ فقال : لا ، ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل من منك ) .
وروى عبد الله أيضا عن علي : ( أن رسول الله ( ص ) قال لي : لا بد أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت . فقال : فإن كان ولا بد فسأذهب بها أنا . قال : إنطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك . قال : ثم وضع يده على فيه ) . وروى ابن كثير أيضا عن إسرائيل عن زيد بن يثيغ : ( لما رجع أبو بكر قال : نزل في
* ( هامش ) *
= العلمية - بيروت 1408 ه / 1987 م . - المستدرك على الصحيحين النيسابوري 3 / 137 حديث رقم 4637 و 4637 و 4638 - دار الكتب العلمية - بيروت 1411 ه .
( 1 ) ابن كثير الدمشقي : تفسير القرآن العظيم ، 2 / 496 م . س ( * )
شئ ؟ . قال ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي ) وروى أيضا : ( لما نزلت براءة قال رسول الله ( ص ) : لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ) ( 1 ) .
( إن الله تعالى عهد إلي عهدا في علي فقلت يا رب بينه لي ، فقال : إسمع ، فقلت : سمعت ، فقال : إن عليا راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين ، من أحبه أحبني ، ومنم أبغضه أبغضني . فبشره
بذلك . فجاء علي فبشرته . فقال : يا رسول الله أنا عبد الله ، وفي قبضته فإن يعذبني فبذنبي ، وإن يتم لي الذي بشرتني به فالله أولى بي . قال : قلت : اللهم أجل قلبه واجعل ربيعه الإيمان ، فقال الله : قد فعلت به ذلك ، ثم إنه رفع إلي أنه
سيخصه من البلاء بشئ لم يخص به أحدا من أصحابي . فقلت : يا رب أخي وصاحبي . فقال : إن هذا شئ قد سبق أنه مبتلى به ) ( 2 )
6 - أحاديث أخرى حديث . . ( من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويتمسك بالقضيبة من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده ، ثم قال لها : كوني
* ( هامش ) *
( 1 ) ابن كثير : م . س . طباعة دار الكتب العلمية بيروت ( غير مؤرخ ) .
( 2 ) أبو نعيم الأصفهاني في حلبة الأولياء 1 / 86 . ( * )
فكانت ، فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب ) . رواه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني ( 1 )
ورواه أحمد بن حنبل في المسند . حديث . . ( والذي نفسي بيده ، لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت مقالا لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة )
رواه أحمد في المسند . حديث . . قال رسول الله ( ص ) : ( يا أنس اسكب لي وضوءا ، ثم قام فصلى ركعتين وثم قال : يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين .
قال أنس : قلت : اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته ، إذ جاء علي فقال ( ص ) : من هذا يا أنس ؟ فقلت : علي . فقام مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ويمسح عرق علي بوجهه . قال علي : يا رسول الله لقد رأيتك
تصنع شيئا ما صنعت بي من قبل ؟ قال : وما يمنعني وأنت تؤدي عني ، وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي )
حديث . . ( من سوره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويسكن جنه عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهما وعلما ، فويل للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي )
* ( هامش ) *
( 1 ) أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني : حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 1 / 66 . ط . دار الكتب العلمية - بيروت ( غير مؤرخ ) . ( * )
__________________
يا من خلق الحُب فسواه .. يا من أهواه اذا أهوا
لو كان لقلبي أن يسهو .. سقط القلب بحبك سهوا
يا من ضاعت فيه سفني .. و برى بحر حنيني رهوا
من كسر المركب و اعتلق .. القلب بشيءٍ الا فهوَ
هل تتركني يا ترى ..
و الكون حوَته يداك ..
في الأعين يجري سناك ..
حديث الغدير . . أشهر من أن يعرف ، رواه معظم أصحاب السنن إن لم نقل كلهم وصححوه ، ولقد ذكرنا في الصفحات السابقة موارد ذكر هذا الحديث في صحاح أهل السنة .
وواقعة ( غدير خم ) معروفة الزمان والمكان ، حديث أثناء عودة المسلمين من حج بيت الله الحرام فيما عرف بحجة الوداع قبيل موت رسول الله ( ص ) بقليل ، أي في العام العاشر للهجرة الموافق 631 ميلادي .
فإذا كانت الحجة عرفت بأنها حجة الوداع فكلمات رسول الله ( ص ) كانت وصية الوداع من رسول وصفة القرآن : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ( التوبة / 128 ) ، إنها كلمات
تحمل أقصى درجة من الأهمية والخطورة بالنسبة لمصير الأمة ومستقبلها ، هذه الوصية كانت بأمر الله سبحانه وتعالى وقد جاء في أسباب النزول للنيسابوري وغيره من المفسرين أن قوله تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) ( المائدة / 67 ) ، أنها نزلت يوم غدير خم ، وأن
هذا التبليغ كان أمرا حيويا متمما ومكملا للرسالة الإسلامية ككل وإلا لما قال القرآن ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) . ما هذا الجزء الذي يكمل الكل فيجعله تاما ؟ .
توضيح كلمات الخطبة هذه المعاني فتقول ( ألا . إني أوشك أن أفارقكم وإني مسؤول ) . إذن فالرسالة في غاية الأهمية ، إنها المسؤولية أمام الله عن الثقلين كيف خلفتموني فيهما ؟ أول الثقلين أو الثقل الأكبر هو كتاب الله ، إذن القضية
قضية منهج وليست قضية عاطفة ، إنه نبي يوشك أن يفارق أمته فيوصيهم لا بالأولاد كما يفعل عوام الناس ، ولا بتنمية ناله ، ولكن يوصيهم بالحفاظ على المنهج ، بل ويحدد لهم وسيلة الحفاظ على هذا المنهج ، إن هذا لا يكون إلا
بمتابعة الثقلين : الكتاب والعترة ، اتباع منهج ، وقيادة ، لا على سبيل العاطفة أو المودة فحسب .
فناصر الكتاب وأهل البيت ناصر الرسول ، وخاذل الكتاب والعترة خاذل للرسول ، إنها وصية مركزة ومحدودة تحدد المنهج ، وهو الكتاب أو النص وتحدد القيادة وهي قيادة أهل البيت الأقدر على فهم النص وتطبيقه ، ومطابقة السلوك مع المنهج
، فكيف إذن يمر الناس على هذا الحديث المتواتر مرور الكرام ؟ وإذا اضطروا لإثبات الفهم لجؤوا إلى تمييع الأفهام فيقولون : ( ولا ننكر الوصاة بهم ) وهل كان رسول الله ( ص ) في حاجة إلى أن يجمع المسلمين
في هذا الموضع ليوصيهم بذريته وحسب ؟ ، لا نظن هذا . ثم يلجأ الرسول الأكرم ( ص ) إلى مزيد من التحديد حينما يطرح ولاية أمير المؤمنين ( ع ) بصورة واضحة ومحدودة فيقول : ( من كنت وليه فهذا وليه ) ( 1 ) .
يقول بعض الباحثين : إن هذا الكلام لا يعني ولاية الأمر أو قيادة الأمة وإنما يعني النصرة والمحبة ، وهذا كلام عجيب ، فماذا كانت تعني ولاية رسول الله للأمة ؟ .
ألم تكن ولاية التشريع والقيادة ( من كنت مولاة فهذا مولاه ( 2 ) ، إنها ولاية من ولاية ، إنها من نفس الجنس والنوع والمعنى ، وليس هناك أي دليل أو قرينة لغوية تفصل بين الولايتين ، بل على العكس إنها قضية الامتداد تطرح في وقتها الملائم ( إني أوشك أن أفارقكم - من كنت مولاه فعلي مولاه ) .
بقي أن نقول إن هناك معنى عظيما في هذا الحديث ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : ( وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) ، هذا المعنى هو أن هذه القيادة وإن غيبت ، فإنها لا تغيب بل وستبقى حاصرة في دين المسلمين ، إنها حاضرة حضور الكتاب في دنيا الناس حتى آخر الدنيا ، ثم إن هذه القيادة تحتفظ بصوابية
* ( هامش ) *
( 1 ) المصدر السابق ، 1 / 63 - 64 .
( 2 ) أنظر مصادر هذه الأحاديث من كتب وصحاح أهل السنة في الصفحات السابقة . ( * )
الكتاب الكريم نفسها ، إذ العترة عدل الكتاب ورفيقته في الطريق الحق ، وحاشا لكليهما من الزيغ والضلال .
ومن عجيب أن رواية الترمذي عن خطبة رسول الله ( ص ) في حجة الوداع ، وهي رواية تفرد بها تحمل المعنى نفسه بل النص والوصية نفسيهما ( تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) ، لقد كان رسول الله ( ص ) حريصا على أن يكرر الوصية نفسها في مسافة زمنية متقاربة .
وفي وسط أكبر عدد من جموع المسلمين اجتمعت في حجة الوداع ، ثم كان حديثه في ( غدير الجحفة ) تفصيلا وتأكيدا لوصيته يوم عرفة ، ثم إنها فوق كل هذا وصية مودع وصية ( رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ( التوبة / 128 ) .
أما ( حديث المنزلة ) وقد قاله رسول الله ( ص ) ، قبيل مغادرته المدينة إلى غزوة تبوك في رجب من العام التاسع للهجرة ، 630 ميلادي ، وتبوك موضع في شمالي جزيرة العرب ، ولما انطلق النبي ( ص ) إلى الغزو ، استخلف عليا
( ع ) على المدينة فكانت هذه الكلمات : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ) ، فماذا كانت منزلة هارون من موسى ؟ فلنقرأ القرآن : ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا
تتبع سبيل المفسدين ) ( الأعراف / 142 ) . إذا لقد كانت منزلة هارون من موسى هي منزلة الخلافة على الأمة ( اخلفني في قومي ) .
ثم نص القرآن على واجبات الخلافة ( وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) .
وهل كان اختيار رسول الله ( ص ) للإمام علي ( ع ) لحمل آيات البراءة مجرد مصادفة خاصة ، وأنه ( ص ) كان قد أرسل غيره حاملا للرسالة ثم نزعها منه وأعطاها للإمام ؟ ،
لقد كانت رسالة البراءة كما يلي : ( أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله ( ص ) فهو إلى مدته ) .
إن هذه المهمة التي أرسل فيها أمير المؤمنين علي ( ع ) هي من مهمات ( القيادة العليا ) بالتعبير السياسي الحديث مهمة إبرام المعاهدات أو نقضها ، مهمة وضع
سيادة الدولة الإسلامية في إطارها النهائي ، ومن ثم كان اختيار الإمام علي لهذه المهمة متلائما مع دوره المقبل في قيادة الأمة الإسلامية في المرحلة المقبلة ، وإنه
في هذه اللحظة كان يمثل ما تعارف عليه الناس بمصطلح ( النائب الأول ) ، وهذا المعنى واضح في كلمات الرسول ( ص ) : ( لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ) أما حديث السفينة فهو يحمل المعنى نفسه الوارد في حديث
الثقلين ، إنه يرتبط بين النجاة وبين التمسك بمنهج أهل البيت ( ع ) وولايتهم : ( مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك ) ، وهل كان ركوب سفينة نوح متاحا للمؤمنين والكفار أم أنه كان متاحا للمؤمنين من الصابرين دون غيرهم من المعاندين ؟ .
إنها كانت هدية الله لمن آمنوا وصدقوا ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم )
( هود / 40 - 41 ) ، إنها سفينة النجاة تسير بأمر الله مجراها ومرساها لا بأهواء الناس ولا بضحالة علمهم ( وهي تجري بهم في موج كالجبال ) ( هود / 42 ) ، ثم هي بعد ذلك الوسيلة الوحيدة للنجاة من مهالك الدنيا والآخرة .
ويبقى ، بعد هذا ، حديث مدينة العلم ، هذا الحديث الذي شبه فيه الرسول ( ص ) علمه بالمدينة التي لا تؤتى إلا من بابها ، وبابها هو أمير المؤمنين علي ( ع ) ، ولطالما استعصى علي فهم قوله تعالى : ( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها ) ( البقرة / 189 ) ،
هل نزلت هذه الآية لتعالج مشكلة تسلق أسوار البيوت فحسب ؟ ، ربما ، ولكني لا أظن أن مثل هذه الظاهرة تكفي وحدها لتعطينا مدلولا قاطعا مانعا يمنع انطباق مدلول هذه الآية على أية قضية أخرى . إن المدلول
الأخطر والأهم هو تنظيم الهيئة الاجتماعية ، ووضع القيادة العلمية للأمة في موضعها الصحيح ، وهو موضع الباب ، وعلى كل من يريد الدخول أن يمر عبر
الطريق الطبيعي وهو الباب ، فإذا لم يكن للمدرسة أسوار وأصبح الدخول مفتوحا لكل من هب ودب ، فإن هذا عين الفوضى الاجتماعية والعلمية والأخلاقية ، ثم
وجدت ضالتي في كلمات الإمام علي ( ع ) : ( نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلا من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمي سارقا ) ( 1 ) .
* ( هامش ) *
( 1 ) أنظر ص ( 57 ) من هذا البحث . ( * )
كتاب : الطريق إلى مذهب أهل البيت
المستبصر : الدكتور أحمد راسم النفيس
__________________
يا من خلق الحُب فسواه .. يا من أهواه اذا أهوا
لو كان لقلبي أن يسهو .. سقط القلب بحبك سهوا
يا من ضاعت فيه سفني .. و برى بحر حنيني رهوا
من كسر المركب و اعتلق .. القلب بشيءٍ الا فهوَ
هل تتركني يا ترى ..
و الكون حوَته يداك ..
في الأعين يجري سناك ..
عميت عينٌ .. لا تراك ..
هذا البحث للأخ العزيز ابو قاسم مشكورآ على هذا العمل