شتات
فاطمة اللامي
«كل إنسان يختار مكافأته التعويضية بما يوازي خساراته كما يراها هو».
كانت هذه أُولى قناعاتها التي ربّت النفس عليها في حياة لم تعشها كما حلمت أن تحياها. لم تكن متعلمة تعليماً أكاديمياً، لكنها ليست بالجاهلة، يكفيها من ثقافة الحرمان ما تفك به خطوط حياتها المُربكة!.
كانت تعيش حياتها بروح الخاسر الأكبر، أولائك الذين تواجههم أقدارهم بعكس ما يتمنون دائماً، لم يدع لها ذلك الإحساس فرصة للتمتع بقدر أكبر من المباهج، كأنها وُلدت من شجرة صبيّر، ذلك الخفيّ السخيّ الذي يمنحك عمراً مضاعفاً لتبدو أكبر من سنّك، وأكثر عمقاً في فهم جوهر الأشياء، ليس لتتلذذ بها باكراً، بل لتتنازل عنها دون أن تتحسّر عليها.
لكأنّ الحياة تمنحنا الأمنيات بيد مكسورة، وتُلقمنا الأمل بملعقة مثقوبة!.
هي سليلة مخيّم لا تشبه فضاءاته اسمه، مخيّم «عين الحلوة»، تلك العين التي أكل ملحها ضوء مآقيها، هو أشبه بثكنة بشرية تغص بأبناء جيلها ما بعد نكبة 48، من يحملون وثائق إثبات لوجودهم ككائنات سائرة بلا حقوق، وبلا ملمح لنور يُوقد شغفهم بالحياة، تذرع أزقته الضيقة الآسنة رائحة موت الأحلام على مرافئ بلا شطآن، فالبشر يودعون أحلامهم الغالية مرافئها الجديدة فقط حالما يصبح بمقدورهم دفع ضريبتها، لكأنه بكل مأساته وبؤسه المدقع يدفع بشبابه لشراء أوطانهم البديلة وإن لم يعرفوا وجهتها!.
فالأحلام هي المنحة الوحيدة التي يمكنها أن تتمتع بها دون أن تدفع ثمنها، إذ أقصى ما تمنحك إياه حياة المخيّم بعد صفة «اللاجئ» أن ترسم أحلامك على جدرانه، أطواقك الرمادية للهروب بعيداً عن أشباحه. أُولى أحلامها الغضة وفوضى صباها أن تصبح كائناً أثيرياً بأجنحة تحملها في رحلة لاكتشاف حدود التماس مع البهجة التي تفتقدها و تشتهيها خارج أسواره، سهول خضراء تستودعها أسرارها ولواعج عمرها، عوالم بلا أسلاك شائكة، أقل كفافاً، أكثر رحابة من فضاءاته الرطبة المتخمة بأنين ساكنيها، المتواضعة حد التوحش، حتى في قصة ارتباطها بزوجها الحلاّق، ذلك القدر الذي لن يُغيره إلاّ نافذة باتساع الحلم تفتتح بها عوالم الدهشة في روحها المتعطشة، تشق طريق لأمنية تختزنها منذ صغرها في تلافيف مخيلتها. هي ورقتها الرابحة من صندوق سحب الحياة.
حتى جاءت اللحظة الفارقة من حياتها لتطير ملء حلمها، حينما قرر زوجها السفر إلى بلد جديد اسمه «دولة الإمارات»، للعمل كحلاّق رجالي ونسائي حسب الطلب. انتقلت من مخيّم مكتظ بذكرياتها المشوّهة، إلى بلد صحراوي يقف للتوّ على قواعد أحلامه. لتُربك هذه النقلة مسرح حلمها الصغير، لتجد نفسها امرأة غريبة بطفلين في بلد لا تعرف فيه أحد، ولا صداقة ممكنة مع أي شيء في ذلك الوقت إلاّ مع وحدتك، تتوسد مؤونة قهوتها المفرزّة التي جاءت بها بكميات كبيرة، لكأنها استشرفت ملامح وجهتها المُقبلة، في بيت شعبي متواضع جداً إلاّ في وحشته، في منطقة تُسمى»الباورهاوس» حطّت رحالها.
في غضون الشهرين من وصولها ـ لكأنها كانت تنتظر قدومها- استحوذت على الزوج واحدة من اللاتي يترددن علي عمله الجديد في المنطقة آنذاك، ومن أول ضربة مقص بأنامله الخبيرة. تلتها «قصّات» لرؤوس لم يكن لهن أي دور في حياته سوى إعلاء حاجز الموات العاطفي بينها وبينه. كانت تحاول ألاّ تصطدم به، باتخاذها الصمت مخرجاً آمناً لاستمرار الحياة إلى جانبه، لطالما قلمّت الغربة وما قبلها مشاعرها، لكأنّ كل واحد منهم يعرف مكامن ضعفه ويشبعها كيفما تأتّى له بمعزل عن الآخر. منذ أن التقيا في مخيّم بلا مباهج حقيقية يقبع على هامش الحياة.
لا قيمة للخسارة ولا للتضحية هنا لطالما جمعتهم وسادة وفرقتهم رغبات.
وهل الحياة كانت ستمنحها أجنحتها الأثيرية لتصل بها لبهجة بحجم شغفها وتوقها، لتفتح نوافذها باتجاه المرافئ اللازوردية الهانئة دون أن تُقايضها؟
ــ كأن تتمكن يوماً من شراء وطن لها ولعيالها، وتجلس ملء سعادتها على أبعد هضبة خضراء تمنت أن تحط عليها قدميها، وتمد بناظريها على اتساعها، تاركة لرأيتها سحب ما تشاء من نقاء المكان من نقطة شاهقة، لتُسقِط عنها كل زفراتها المكتظة بأسى المخيّم وأُناسه دفعة واحدة؟!.
الحلاّق لم يعد بإمكانه التراجع، بعد خروج مارده الخامد العطِش من ذاك القمقم الجنوبي، وتحرر براعم شغفه المقموعة أصبح من الاستحالة لأن يتنازل عن مُتع ورغبات تعالت في شبقها تسري في عروقه، واستحكمت من تفكيره ووقته وجيبه، في بلد لا يعرفه فيه أحد، ولا يردّه عنها أحد، فالحياة الجميلة في تصوره ما هي إلاّ كأس ومجموعة نساء شهيات ملونات يطرقن بابك بلا موعد، وما عليك إلاّ أن تختبر مهارة أناملك بشعورهن لتصنع في سمائها قوس قوزحك الأثير!.
فالرغبة هنا بحسب فهمها أصبحت الرديف الحقيقي لسوءَة، لذلك دائماً ما تأتي مواربة، مفردة لا توحي لها إلاّ بامرأة مومس جامحة، باختصار هي عنوان مُخادع للرذيلة!.
أما الأحلام فتُخلق بائنة لا يمكن طمس سريرتها، غالباً ما تشي بالمشروع من الأمنيات، لها صبغة إناث ذاكرات يلتحفن الطهر، فالرغبات وحدها لها خاصية ميكانزم التناسل، تقتل بعضها بعضا فور انقضائها، أما الأحلام فلا يعيبها من أن تبقى أحلاماً آجلة قيد صدور حامليها، دون أن يتكبدوا عبء أوزارها!.
تيقنت لولا غربتها بلا سند، لَمَ انفرد بها وأتجرأ على مكافئة تضحياتها له بهذا القبح السافر، حينما باعت خاتم زواجها وأغلب جهازها الفقير ليبتاع تذكرة تؤهلهم لامتلاك وطن صغير بلون الحلم، إلاّ أنه لم يجتهد سوى في»مرمرة» فنجان حياتها بنساء عابرات مع كل ضربة مقص في ماخوره الصغير!.
استحوذت مباهجه على كل مدخوله. فتيقنت بأنه لم يعد بالإمكان تأسيس لوطن آمِن في ظل فوضى رغباته. بدأت في التفكير جدياً في إيجاد طوق نجاتها بعيداً عن مركبه المتهالك. هي كأيّ ربة بيت متواضعة بتعليم متوسط، نبتت في مخيّم كل الأشياء فيه لها ذات النسق وذات الصفة وذات السقف وذات المآل، لكأنها خرجت من صنوان رحىً لا تتقن من فنون الحياة سوى الطبخ. بدأت بحماسة بلا كلل ولا خجل بإعداد أصناف محددة تُعدّ جديدة وغير مألوفة على أهل الإمارات في منتصف السبعينيات، اجتهدت بقدر مهارتها وحاجتها التي اقتضتها لتلك الخطوة.
بعد فترة تنبّه الزوج لتبدّل أحوالها، وبسكوتها عن مطالبته بالتزاماته الأسرية، فلم تعد حتى تطالبه بدفع أُجرة المسكن.
حتى تجرأ يوماً وسلبها كل واردات كدّها وتعبها ومضى مهرولاً تحمله رغباته.
حتى تلقيّها بطاقتها في سحب الحياة ذلك الصباح الصيفي.
فيما هي ترتشف نديمتها مشوشة الذهن، سابحة بين حيرتين، في تخمين أسباب غيابه ومبيته خارج البيت، وحاجتها الفورية للمال لتجهيز طلبات جديدة، لتعويض ما سلبها إيّاه، على أن تضع حداً لابتزازها في تعبها وشقائها هذه المرّة.
لم يقطع عليها حيرتها تلك سوى صوت جرس الباب، أسرع أحد أبنائها لفتحه، فإذا به يعود نحوها كشرارة موقد ليخطرها بأنّ شرطياً لدى الباب يرغب في التحدث إليها.
قفزت من مكانها كقطة مشاغبة، انخطف لونها وتخلخلت فرائصها جميعاً في لحظة، ولم تقوى على صلب قامتها، بل لم تتمكن من التقاط أنفاسها، فهذه المرة الأولى التي يقف رجل غريب بعتبة بابها مذ حلّت على هذه الأرض، فكيف إن كان شرطياً؟!.قال لها حرفياً:»
أختي: زوجك موقوف لدينا منذ أمس بتهمة الدعارة ولعب القمار، وتم ضبطه متلبساً هو وكل من معه، وبما أنّه هو كفيلكم برخصة المحل، فعليكم توظيب شؤونكم للرحيل معه عن البلاد».