هل كان السيد الصدر يريد الخروج من العراق حقاً؟!
السؤال:
يعتبر إيفادكم إلى إيران مظهراً من مظاهر عزم السيّد الصدر على ترميم علاقته بالإمام، أليس كذلك؟
السيد الشاهرودي:
دعونا هنا لا ننسى الرسالة التي وجّهها السيّد الصدر إلى الإمام عندما كان في (نوفل لو شاتو)، فقد كانت رسالةً عظيمةً وهي في الواقع تحكي عن عظمة هذه الثورة(1).
السؤال:
هل لديكم ذكريات تتعلّق بكم حول مجيئكم إلى إيران وأحاديثكم مع السيّد الصدر بهذا الصدد وفي المرحلة التي انتُدبتم فيها لتمثيله هنا في إيران؟
السيد الشاهرودي:
أذكر أنّه في مساء اليوم الذي ولّى فيه الشاه هارباً لم يلقِ درسه المعتاد، فقد كان يطفر من الفرح ويميد بعطفيه السرور، وبدأ حديثه بكلامٍ رائع وأسلوبٍ ساحر.
السؤال:
لقد كان يتمتّع بأدبيّات راقية، صحيح؟
السيد الشاهرودي:
بالفعل، لقد كان عجيباً جدّاً؛ فقد كان بيانُه طوعَ لسانه وقلمُه أسيرَ بنانه، وقد قال في تلك اللحظة بعد البسملة: «اليوم تحقّقت آمال الأنبياء»، فقد استنشى في هذا الحدث نسيم الأمل. وبعد أن قامت التظاهرات عقيب تلك الأحداث قلت له: إنّ المنطقة ستشهد تحوّلاً ومنعطفاً مصيريّاً بسبب الأوضاع الأخيرة، ومن المؤكّد أنّ صدّام حسين لن يدعكم تتفيّؤون ظلال الراحة وتتقلّبون بين أعطاف الدعة، بعد أن شاهد بأم عينه سقوط نظام الشاه وعدم نجاحه في الحفاظ على ملكه، ولذا فلابدّ أن تخرجوا من العراق بأيّ شكلٍ من الأشكال، فكان رأيه أن أذهب أنا في الوقت الراهن.
السؤال:
إلى أين؟
السيد الشاهرودي:
إلى بغداد، فقد أخذت من النجف إلى بغداد حيث تواريت عن الأنظار، وبسبب معرفتي بحقيقة البعثيّين ومدى وحشيّتهم وكونهم جرثومة الفساد قلت للسيّد الصدر بأنّهم سينغّصون عليه عيشه؛ لأنّهم كانوا يستهدفون القضاء على من كان خلف الأحداث الأخيرة التي جرت في العراق، الذي هو السيّد الصدر. ولهذا السبب سارعتُ بالرحيل بمجرّد أن اشتعل فتيل الأمور، كما أنّ السيّد الصدر نفسه أوعز لي بذلك، وقال لي بأنّنا سنبحث لاحقاً من خلال تواصلنا كيف يمكن أن يخرج هو من العراق. فالسيّد الصدر لم يكن في الواقع يرفض فكرة الخروج؛ لأنّ الأوضاع كانت في غاية الخطورة.
السؤال:
هذا يعني أنّه كان يرغب في الخروج؟
السيد الشاهرودي:
نعم، كانت لديه رغبة في الخروج في أوائل الأمر، وقد طلب منّي الخروج والتواصل معه لنر إلى أين ستقودنا الأمور. بالمناسبة، لو كنتُ قد أخّرت سفري لأسبوع واحد لاحتضنتني جدران المعتقل، ولكنّي سافرت إلى الكويت، ومنها إلى إيران، وربّما كان ذلك في أوائل (فروردين) من العام 1358هـ.ش [آذار/1979م]؛ لأنّني شاركت في انتخابات الجمهوريّة الإسلاميّة، وكان الإمام في ذلك الحين في قم فزرته هناك وقد استغرب من وجودي.
استعرضتُ أمام الإمام الخميني أوضاع العراق وما آلت إليه الأمور، وذكرتُ له أنّ الخطر محدق بالسيّد الصدر، وأنّ البعثيّين سيقتلونه، ولكنّه كان يرى أنّهم لا يتورّطون في إعدام مرجع، والحرب العراقيّة الإيرانيّة لم تكن قد بدأت بعد، فلم يكن واضحاً لدى الإمام مدى إجرام صدّام حسين، ولذلك قال: إنّ من البعيد أن يقدموا على هذه الخطوة.
السؤال:
الحلقة المهمّة هي أنّه من قال للإمام بأنّ السيّد الصدر عازمٌ على الهجرة إلى إيران؟
السيد الشاهرودي:
يبدو أنّ وكالة الأنباء الإيرانيّة (فارس) كانت أوّل من أعلن الخبر وطيّرت ذكرَه في الآفاق، ثمّ تناقلته بعضُ الصحف، وقد أدّى ذلك إلى شيوع الخبر وانتشاره.
السؤال:
نطرح هذا السؤال لأنّه قيل: إنّ السيّد الصدر لم يكن عازماً على الهجرة في بادئ الأمر.
السيد الشاهرودي:
هذا صحيح؛ فإنّ مجيء السيّد الصدر لم يكن متداولاً في البداية، وقد تمّ إفشاؤه هنا، ولستُ أدري ما الذي سبّب ذلك؟! في ذلك الحين كان السيّد محمود دعائي سفيرَ إيران في بغداد، وكان على ارتباطٍ غير مباشر بالسيّد الصدر، فأتاني وطلب منّي صورةً للسيّد الصدر، فسألته عن الأمر فقال: إنّه يريد أن يُصدر له جواز سفر إيراني، وأنّ إدخاله إلى إيران أمرٌ ممكن، فأعطيته الصورة وتمّ إصدار الجواز [2] .
في العراق كان النظام يحمّل السيّد الصدر مسؤوليّة كلّ ما يجري، ولم يكن السيّد الصدر في المقابل مكتوفَ اليدين، فمن دعمه الثورةَ الإسلاميّة في إيران مروراً بتطيير الرسائل الرسميّة ـ من قبيل رسالته إلى الشيخ الخاقاني[3] ـ وصولاً إلى إقامة الفاتحة للشهيد مرتضى المطهّري، إلى غير ذلك من الأعمال... لقد كان الوحيد الذي أقام للشيخ المطهّري مجلساً في النجف، كما أنّه وقف بنفسه ليتقبّل التعازي. وقد اعتبرت السلطة هذه الأعمال بمثابة التحدّي لها، وقد حاول بعض أصدقائه ومريديه أن يزيلوه عن خوض المعركة ويثنوه عنها، وكنتُ منهم، وكان هذا رأي الخواص. ولستُ أدري كيف شاع أمر خروجه عبر وكالة الأنباء والصحف، وقد اطّلع الإمام على ذلك وكتب في ذلك [رسالته المعروفة]، معتقداً أنّ البعثيّين لن يقدموا على قتله.
بعد انتشار الخبر وشيوعه ازداد حنق البعثيّين على السيّد الصدر، وكان مأمولاً أن يُساهم هذا الحنق في الحفاظ على حياته، ولكنَّ الأمور اتخذت مساراً مغايراً تماماً. وبعد نشوب الحرب العراقيّة الإيرانيّة اتّضح بشكل كامل أنّ صدام حسين لن يتلكّأ في إبادة شعبه من أجل الحفاظ على كرسيّه ومنصبه، ولم يكن ليراعي ما يقف وراء هذه الآمال والتعويلات ويأخذه بعين الاعتبار.
الهوامش
-----------
1 ـ راجع الرسالة في: محمّد باقر الصدر، مرجع سابق 4: 10 وما بعد. وسنتطرق لها لاحقا مع بعض الفقرات الاخرى بالتوضيح.
[2 ـ أوعز السيّد الخميني (رحمه الله) إلى وزير الداخليّة آنذاك الدكتور صادق الطباطبائي- ابن أخت أم جعفر الصدر- بإصدار جواز سفر باسم السيّد الصدر (رحمة الله) يمكنّه من الدخول إلى إيران، وقد تمّ التحفّظ الشديد على هذه العمليّة التي لم يكن على علمٍ بها سوى: السيّد الخميني (رحمه الله)، السيّد أحمد الخميني (رحمه الله)، السيّد محمود دعائي والدكتور صادق الطباطبائي، وحتّى ربّان الطائرة المروحيّة التي كان من المفترض الاستعانة بها لم يكن على علمٍ بأنّ من عليه أن يقلّه هو السيّد الصدر (رحمه الله).
وبعد العدول عن فكرة إصدار جواز سفر إيراني لاحتمال أنّ ذلك كان سيثير الشكوك لدى السلطات العراقيّة وبعد إجراء العديد من الاتّصالات، تمكّن السيّد محمود دعائي- سفير إيران لدى العراق- من إصدار جواز سفر (سوري أو جزائري) يحمل صورة السيّد الصدر (رحمه الله) في لباس كردي- بعد أن ركّبت الصورة تركيباً- وأُرسل الجواز إلى إيران، حيث قام الدكتور الطباطبائي بإصدار إِذن الدخول، وتقرّر استقبال السيّد الصدر (رحمه الله) على الحدود الإيرانيّة مع الأكراد في الوقت الذي تكون فيه عائلته قد سافرت عبر الأردن.
ولمّا وصل السيّد محمود دعائي إلى بغداد حاملًا جواز السفر، علم أنّ السلطة قد ضربت الحجز على السيّد الصدر (رحمه الله) منذ يومين (أوائل تمّوز/ 1979 م). ويبدو أنّ السيّد دعائي قد حاول الاستفادة من هذا الجواز عندما رفعت السلطة الحجز مؤقّتاً عن السيّد الصدر (رحمه الله)، إلّا أنّه (رحمه الله) لم يتفاعل مع فكرة الخروج.
راجع الشهيد محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق ج 4 ص184]
[3 ـ ليس المقصود به عيسى عبدالحميد الخاقاني عميل السلطة والذي قدم للتفاوض مع الشهيد الصدر وكن مبعوثا من النظام البعثي.
وقد أشار لهذه الرسالة المجرم مدير الشعبة الخامسة زهير (أبو أسماء)- واسمه الحقيقي سعدون التكريتي - في التحقيق الذي اجراه مع الشهيد الصدر بعد اعتقاله هو والسيد محمود الخطيب والشيخ طالب السنجري.
وقد وجّه كلامه للشهيد الصدر أثناء التحقيق قائلا:
(ترسل رسالة إلى الخميني؟! وترسل برقيّة إلى الشيخ الخاقاني تقول له هذه دولة علي بن أبي طالب، فهل نحن دولة كفرة؟ وتقول له ادعم الخميني؟ فأجاب الشهيد الصدر : نعم، أرسلت له رسالة، وهذه الأمور نحن العلماء نتفاهم عليها فيما بيننا.
وقد يكون المقصود بالخاقاني إمّا المرجع الشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني، وإمّا الشيخ سلمان الخاقاني. ويبدو من خلال المضمون الذي تلاه (زهير) أنّ السيّد الصدر كان قد أرسل إلى الشيخ الخاقاني برقيّة مستقلّة عن البرقيّة التي أرسلها إلى الشعب العربي المسلم في إيران، ونصّها غير متوفّر لدينا]
يشار الى أنه ازدادت الحملات العراقيّة على الحدود الإيرانيّة، وانتشر الخبر حول تشكيل دولة مستقلّة (عربستان)، وتمّ توزيع أسلحة روسيّة على سكّان الحدود وتحريك النعرات الطائفيّة وإثارة فتنة عربيّة- عجميّة وأخرى سنيّة- شيعيّة. وقد خرجت على إثر ذلك مظاهرات في طهران مندّدة بالهجوم على الحدود، وأحرقت صور البكر وصدّام [گام به گام با انقلاب (فارسي) 2: 158 - 159)]
وقد أدرك السيّد الصدر (رحمة الله) خطورة هذه الدسائس والتحرّكات، فما كان منه إلّا أن وجّه في 16/ رجب/ 1399 هـ (11/ 6/ 1979 م) رسالةً إلى الشعب العربي المسلم في إيران دعاه فيها إلى الانضواء تحت راية الإسلام التي رفعها السيّد الخميني (رحمه الله)، وهذا نصُّ الرسالة:
شعبنا العربيّ المسلم العزيز في إيران، المجاهد:
السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
وبعد، فإنّي أخاطبكم باسم الإسلام، وأدعوكم- وسائر شعوب إيران العظيمة- لتجسيد روح الأخوّة الإسلاميّة، التي ضربت في التّاريخ مثلًا أعلى في التّعاضد والتّلاحم في مجتمع المتّقين، الذي لا فضل فيه لمسلم على مسلم إلّا بالتّقوى، مجتمع عمّار بن ياسر وسلمان الفارسيّ وصهيب الرومي وبلال الحبشيّ، مجتمع القلوب العامرة بالفكر والإيمان، المتجاوزة كلّ حدود الأرض، المفتوحة باسم السماء ورسالة السماء، فلتتوحّد القلوب ولتنصهر كلّ الطّاقات في إطار القيادة الحكيمة للإمام الخميني وفي طريق بناء المجتمع الإسلامي العظيم الذي يحمل مشعل القرآن الكريم الى العالم كلّه. والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.
محمّد باقر الصدر
النجف الأشرف 16- رجب
الجدير بالذكرأنّ السيّد الخميني (رحمه الله) كان قد أرسل بتاريخ 2/ 1/ 1358 هـ. ش (23/ ربيع الثاني/ 1399 هـ) رسالةً إلى الشيخ محمّد طاهر الخاقاني (رحمه الله) يؤكّد له فيها على عدم التفرقة بين مختلف القوميّات وشكره على المساعي التي يبذلها في هذا المجال في منطقة الأهواز (صحيفه امام (فارسي) 6: 403)
انظر: صحيفة (لواء الصدر)، 15/ جمادى الأولى/ 1405 هـ؛ وانظر الرسالة في: مقدّمة مباحث الأصول: 147؛ شهيد الأمّة وشاهدها 135: 2- 136؛ . وفي: گام به گام با انقلاب (فارسي) 2: 159 أنّ الرسالة في 12/ رجب والصحيح ما أثبتناه؛ وانظر الإشارة إلى الموضوع في: نقش گروه هاى معارض در روابط ايران وعراق (فارسي): 74.
يشار إلى أنّ هذه الرسالة بخطّ السيّد محمود الهاشمي على ما جاء في (شهيد الأمّة وشاهدها للنعماني)، وتؤكّده شباهة الخط أيضاً:
(1) هذا وقد اتّضح سابقاً أنّ السيّد الصدر قد أعلم السلطة بخروج السيّد الهاشمي من العراق بعد أن اطمأنّ إلى خروجه وابتعاده عن الخطر.
(2) طلّاب السيّد الصدر اتّصلوا أوائل رجب بالسيّد الهاشمي للاستفسار عن برقيّة السيّد الخميني.
(3) سُئل السيّد الصدر أثناء التحقيق معه في اليوم التالي 17/ رجب عن السيّد الهاشمي وإرساله إلى إيران.
(4) ذكر الشيخ محيي الدين المازندراني أنّ السيّد الهاشمي كان في 17/ رجب في فرنسا أو لندن.
وهذا يجعلنا نجزم بأنّ السيّد محمود الهاشمي هو الذي كتب هذه الرسالة من خارج العراق وأرسلها إلى إيران باسم السيّد الصدر، أو أن يكون قد كتبها من إيران إن كان فيها. وقد يكون ذلك بإملاء السيّد الصدر، ولو لم يكن كذلك، فقد ورد في إجازة الاجتهاد التي منحه إيّاها السيّد الصدر أنّ «كلّ ما يصدر منه فهو صادرٌ منّي»
ينبغي الاشارة الى انه في 27/ ربيع الثاني/ 1399 (26/ 3/ 1979) حاز السيّد الهاشمي على إجازة الاجتهاد من السيّد الصدر (رحمه الله) ، وهي إجازة الاجتهاد الكتبيّة الوحيدة المعطاة من قبل السيّد الصدر (رحمه الله) إلى أحد طلّابه، وقد جاء فيها ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمّد وآله الطاهرين.
وبعد، فإنّ ولدنا المبجّل العلّامة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد محمود الهاشمي دامت بركاته قد صرف شطراً من عمره في تحصيل الفقه والأصول وعلوم الشريعة، وحباه الله سبحانه وتعالى بالتأييد والتسديد حتّى بلغ مرتبة الاجتهاد والحمد لله ربّ العالمين.
فهو اليوم من المجتهدين الذين تناط بهم آمال الإسلام والمسلمين، وقد وكّلته في كلّ ما يعود إليّ من الأمور الحسبيّة، وكلّ ما يصدر منه فهو صادرٌ منّي، ولعموم المؤمنين والمقلّدين أن يوصلوا إليه ما يعود إلينا من الحقوق الشرعيّة، وكذلك وكلائنا من العلماء الأعلام فإنّهم مأذونون دامت بركاتهم في الدفع إليه، ونسأل المولى سبحانه أن يحفظه ذخراً للشريعة والإسلام
والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
27 ربيع الثاني 1399
محمّد باقر الصدر
[الختم]
راجع في ما ذكر أعلاه الشهيد الصدر السيرة والمسيرة ج 4 ص146.