ما جرى على العلوي المصري في مصر وكربلاء
إن الذين يرون إمامهم، إنما يرونه لشدة شوقهم، أو لشدة ابتلائهم.. وليس على نحو السفارة، فإن السفارة انقطعت بموت السفراء الأربعة.. وهؤلاء لا يدّعون السفارة والنيابة، فالذي يدّعي ذلك فهو ملعون.. وهذه القصص تدل على عناية الإمام، فالإمام مظهر للصفات الإلهية في الأرض بمقدار ما تحتمله البشرية من صفات الربوبية، والمعصوم في كل عصر يمثل هذه الصفات.. فعلى المؤمن أن يتخلق بأخلاق الله، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أدَّبني ربّي، فأحسن تأديبي).. ولذا فإنه على كل مؤمن، أن يتشبه بخصال الله عز وجل بمستواه البشري، فالله رحيم.. وبالتالي، فإن على المؤمن أن يكون رحيما بالناس.. والمعصوم في العصر يمثل قمة العناية، واللطف، والسخاء، والرأفة، والحنان، بمن يعيش في ذلك العصر.
إن هذه القضية ينقلها سيد جليل، هذا السيد يعتبر من قمة العارفين والسالكين في طوال زمان الغيبة.. وهذا السيد من الذين يعدون على أصابع اليد من علماء الإمامية، هو السيد الجليل علي بن طاووس -رحمه الله- كان في منتهى درجات المراقبة ومحاسبة النفس.. وانظروا إلى كتبه: مهج الدعوات، والاقبال، وغير ذلك.. فإنه لا يرى نفس شبيه لهذا السيد في أي عالم من علمائنا، يتكلم وكأنه على ارتباط بالمبدأ الأعلى، وبالمحل الأعلى.. فهو هكذا معروف في كتاباته.
وهذه القضية ينقلها في كتابه مهج الدعوات، ويذكر أن هذا الأمر وجده في سنة 396، فهي قضية قديمة عن مئات السنين، والسيد ينقل هذا الأمر، مقدمةً لدعاء العلوي المصري، هذا الدعاء المعروف في أوساط الداعين، وهذا الدعاء من الأدعية المعروفة لقضاء الحوائج.. فدعاء العلوي المصري دعاء معروف في هذا الكتاب، ولهذا الدعاء قصة وقضية وهي كالتالي:
(قال محمد بن علي العلوي الحسيني، وكان يسكن بمصر).. إن محبي أهل البيت في كل العصور كانوا متناثرين في شرق الأرض وغربها.. (يقول: دهمني أمرٌ عظيمٌ وهمٌّ شديدٌ، من قِبَل صاحب مصر، فخشيته على نفسي، وكان قد سعى بي إلى أحمد بن طولون).. هذا الإنسان الذي يعد من مؤسسي الدولة الطولونية في مصر.. (فخرجت من مصر حاجّاً، وسرت من الحجاز إلى العراق، فقصدت مشهد مولاي الحسين بن علي -صلوات الله عليهما- عائذاً به، ولائذاً بقبره، ومستجيراً به من سطوة من كنت أخافه).. رأى هذا السيد العلوي، بأن النجاة بعد الذهاب إلى الحج -ذلك المكان الذي ينظر الله عز وجل فيه إلى أهل عرفة- هو بالذهاب إلى الحسين (ع)، لأنه قبل ذلك ينظر إلى زوار قبر الحسين (ع).
(فأقمت بالحائر خمسة عشر يوماً، أدعو وأتضرع ليلي ونهاري).. إن الإنسان في بعض الأوقات عندما يبتلى، يحول ابتلاءه إلى اكتئاب، وغضب على الأهل والعيال، وإلى تبرم بالزمان.. وقد يؤدي به إلى الكفر، وتحدي رب العالمين، والعتب على القضاء والقدر.. والبعض بلغ به ما بلغ إما إلى الجنون، وإما إلى الانتحار.. نعم، هؤلاء أهل الدنيا الذين لم يركنوا إلى ركن وثيق.. ولكن انظروا إلى هذا العلوي من مصر، يخرج من تلك البلاد البعيدة، ويذهب إلى بيت ربه، ومن ثم يلتجىء إلى الحائر الحسيني، مقيما يتضرع ليله ونهاره.
(فتراءى لي قيّم الزمان وولي الرحمن (ع)).. نعم، الإمام في كل عصر هو القيّم على أهل ذلك العصر، وإن كان هنالك وجودا يمثل رب العالمين، فهو هذا الوجود.. ونحن نعلم أن آدم ليس من أنبياء أولي العزم، ولكن مع ذلك يقول القرآن: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وأول خليفة يجعله هو آدم.. بينما يقول النبي عن نفسه: (كنت نبيا وآدم (ع) منخول في طينته).. فإذن، إن هذه الوجودات المباركة، كانت معروفة من قديم الزمان في عالم العرش وعند الملائكة.
(وأنا بين النائم واليقظان).. يبدو أن القضية ليست في نوم محض، ولا يقظة محضة.. أما ما هذا العالم، وما هو؟.. يقال أنه عالم المكاشفة، وعالم الحالة البرزخية.. فهذا سره عند أهله، فلله أسرار!.. وكما هو معلوم بأن عزرائيل يقبض أرواح كثيرة في آن واحد، فهل هذا الملك متعدد؟.. أو أن له مثيلا؟.. وكذلك عندما قال علي (ع): (يا حار همدان من يمت يرني).. ففي كل لحظة كم يموت من الموالين؟.. وهو (ع) يتفقدهم واحدا واحدا!.. وباعتبار أن هذا إمام الزمان تتنزل إليه المقادير في ليلة القدر، فإرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليهم وتصدر من بيوتهم.. فالله عز وجل يختار إمام كل عصر، كي يجري البركات على يديه.. فإذا ذهبت إلى الروضة، أو إلى البقيع، أو إلى الحائر، فقل: يا رسول الله!.. يا أمير المؤمنين!.. يا أبا عبدالله!.. سل ولدك أن يتفقدنا بعنايته، وسلوه أن يخصني برعايته.. نعم، فالحسين بن علي يريد أن يتفضل على هذا العلوي المصري، فيأتي من خلال إمام العصر.
(فقال لي: يقول لك الحسين: يا بني!.. خفت فلانا؟.. فقلت: نعم، أراد هلاكي، فلجأت إلى سيدي (ع) وأشكو إليه عظيم ما أراد بي).. أنظروا إلى تعبير: يا بني!.. رغم أن السنوات بعيدة مئات السنين، ولكن الأئمة (ع) ينظرون إلى السادة وإلى ذرية رسول الله (ص) في كل عصر على أنهم ذريتهم.. (فقال: هلاّ دعوت الله ربك ورب آبائك، بالأدعية التي دعا بها مَن سلف من الأنبياء (ع)؟.. فقد كانوا في شدة، فكشف الله عنهم ذلك).. إن أئمتنا (ع) يتعمدون في رواياتهم بذكر أربعة مصادر:
أولا: تارة ينسبون العلم إلى أنفسهم.. فيقول الإمام: يجوز، ولا يجوز.. والحق كذا، والأمر كذا.
ثانيا: وتارة ينسبون الحديث إلى جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، كحديث سلسلة الذهب.. "لما وافى أبو الحسن الرضا (ع) نيسابور، وأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث، فقالوا له: يا بن رسول الله!.. ترحل عنا، ولا تحدّثنا بحديث فنستفيد منك؟.. وقد كان قعد في العمارية، فأطلع رأسه وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: سمعت جبرائيل (ع) يقول: سمعت الله جلّ وعزّ يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي.. فلما مرّت الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها".
ثالثا: وتارة ينسبون الحديث إلى رب العالمين.. كالأحاديث القدسية، فقسم من هذه الأحاديث منقولة عن أئمة أهل البيت (ع).
رابعا: وتارة ينقلون أحاديثهم عن الأنبياء السلف: عن موسى، عن عيسى، عن إبراهيم.. لأنهم ذرية واحدة، ويستقون علمهم من منبع واحد.
فالإمام –كما هو الملاحظ هنا- يحيل العلوي المصري إلى دعاء الأنبياء السلف، ليفهم الناس أن هذا خط واحد، بدأ من آدم واستمر واستمر ويستمر إلى قيام إمامنا (عج).. (قلت: وبماذا أدعوه؟.. فقال: إذا كان ليلة الجمعة).. فالدرس هنا هو أهمية ليلة الجمعة، فيعقوب (ع) يعد أبناءه: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} يقول المفسرون: بأنه أراد بذلك ليلة الجمعة، إذ كان بإمكانه أن يستغفر في الحال، ولكنه أجّل ذلك إلى ليلة الجمعة.. فاغتنموا تلك الليلة!..
(فاغتسلْ).. لا أدري ما هو هذا السر الذي جعله الله في الغسل!.. حتى أن بعض العلماء من العلماء السلف قد يوجب لعله غسل الجمعة.. وكما هو ملاحظ أن الغسل من معالم الأيام والليالي المباركة.. ولعل في ذلك درس عملي!.. فالإنسان عندما يريد أن يتحدث مع الله تعالى، أو يذهب إلى الحرم المكي، أو الحرم النبوي، عليه أن ينظف جسمه من العرق والغبار والروائح المنتة.. فإذا كان الله عز وجل يحب أن تدخل الحرم بجلد نقي، ألا يريد منك أن تدخل بروح نقية؟.. وباستغفار بليغ؟.. إن بعض الحجاج والمعتمرين يصرّ على أن يغتسل في الميقات، وإن كلّفه ذلك ما كلّفه.. ويذهب ويلبس ثوبي الإحرام، ثم يلبي تلبية سريعة، ويخرج إلى بيت الله هل هذا هو المطلوب؟.. فهو يغتسل بإتقان، لعله يستغرق ساعة من الزمان، وهو مشغول بمقدمات ومؤخرات الغسل.. ولكن أين المناجات بين يدي الله عز وجل في الميقات؟.. وأين الاستغفار من الذنوب؟.. لقد أجرى الماء على وجهه، فهل أجرى الدموع من عينيه، وهو في الميقات، أو في زيارة الحسين (ع)؟..
(وصلّ صلاة الليل).. أين الذين يتهموننا بالشرك؟.. فهذا الإمام يريد أن يدل هذا العلوي على الفرج، فيحيله على دعاء الأنبياء، ويحيله على إحياء صلاة الليل، وعلى الجلوس بين يدي الله عز وجل.. (فإذا سجدت سجدة الشكر، دعوت بهذا الدعاء، وأنت بارك على ركبتيك)، أي على هيئة الذليل، وعلى هيئة المستطعم، والفقير.. فهذه هي تربيتهم، وهذا ديدنهم.. إن الذين تشرفوا بلقاء صاحب الأمر(ع) هكذا كانوا يعيشون هذه الأجواء المباركة.
(فذكر لي دعاءً قال: ورأيته في مثل ذلك الوقت، يأتيني وأنا بين النائم واليقظان.. قال: وكان يأتيني خمس ليال متواليات، يكرّر عليّ هذا القول والدعاء، حتى حفظته، وانقطع عني مجيئه ليلة الجمعة.. فاغتسلت، وغبّرت ثيابي، وتطيّبت.. وصليت صلاة الليل، وسجدت سجدة الشكر، وجثوت على ركبتي، ودعوت الله جلّ وتعالى بهذا الدعاء.. فأتاني (ع) ليلة السبت فقال لي: قد أُجيبت دعوتك يا محمد!.. وقُتل عدوك عند فراغك من الدعاء، عند من وشى بك إليه.. فلما أصبحت ودعت سيدي، وخرجت متوجها إلى مصر.. فلما بلغت الأردن، وأنا متوجّهٌ إلى مصر، رأيت رجلاً من جيراني بمصر -وكان مؤمنا- فحدثني أنّ خصمي قبض عليه أحمد بن طولون، فأمر به، فأصبح مذبوحا من قفاه.. قال: وذلك في ليلة الجمعة، وأُمر به فطُرح في النيل، وكان ذلك فيما أخبرني جماعة من أهلها وإخواننا الشيعة، أنّ ذلك كان فيما بلغهم عند فراغي من الدعاء، كما أخبرني مولاي صلى الله عليه وآله).
نعم، إذا أرادوا، فإن قلبَ الملك يتغير.. فالإمام لم يسأل الله عز وجل أن يسلط عليه جنيا أو ملكا، وإنما سأل الله تعالى أن يسلط عليه الحاكم، فتغير قلبه.. وبهذا المضمون نقل بعضهم حديثا: أن الإمام في أحد المواقف يقول: قلوب الملوك بأيدينا.. وهذا أيضا مضمون القرآن الكريم، عندما يقول: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}.. فهو المذيق، وهو المعذب، ولكن من خلال البعض من الظلمة.. فيجري مشيئته ويعذب قوما لاستحقاقهم العذاب، وذلك من خلال ظالم من الظالمين.. فإذا انتهى أجله اقتلعه من جذوره ورماه حيث يرميه، كما فعل بفرعون، وهامان، ونمرود، وأمثالهم من عتاة التاريخ.