الحوزة في توجهات الوائلي:
حقق الوائلي تفوقاً في كل صنف من صنفي دراسته الحوزوية والأكاديمية. فقد التحق بالكتاتيب مثل بقية أقرانه، وكانت علامات النبوغ والتفوق واضحة عليه، ففي السابعة من عمره أكمل القرآن الكريم، ولا شك أن ذلك ترك أثره الكبير على شخصيته وثقافته وتوجهاته الإسلامية الأصيلة.
والشيخ الوائلي حريص أشد الحرص على الحوزة العلمية، وضرورة الحفاظ عليها من المندسين الذين يتزيون بزي العلماء وليسوا منهم، وله قصيدة في هذا المجال قال فيها:
وفريق تيمموا عتبة الأسياد ***في حقل سيد ومسود
ربضوا حولهم كما كان***اهل الكهف فيـه وكلبهم بالوصيد
لفظتهم شتى المجالات ***إذ ضاقت بهم بلاهة وجمود
فاستراحوا إلى التفيؤ***بالحوزة اكرم بظلها الممدود
فترحلوا فطاحلاً في شهور***واستطالوا هياكلاً من جليد
واستفادوا مضيرة وسمتهم***بشعار في جبهة أو فود(1)
والدكتور الوائلي عندما يتحدث عن هؤلاء الدخلاء في الحوزة العلمية، فذلك من حرصه على هذه المؤسسة الدينية التي رفدت الأمة بالعطاء المستمر على مدى قرون متعاقبة من الزمن. كما أن هذه الأبيات تعكس التوجه الاصلاحي الذي يختزنه الوائلي في نفسه تجاه الحوزة العلمية.
الشعر عند الدكتور الوائلي احد السمات البارزة في شخصيته، فقد تحرك من خلال الشعر على الكثير من القضايا والشؤون السياسية والاجتماعية، وعالجها
__________________________
(1) أصدرت مجلة الموسم في عددها المزدوج الثاني والثالث ملفاً موسعاً عن الدكتور الوائلي وسنرجع اليه في أخذ القصائد الشعرية وبعض المعلومات.
معالجة إسلامية واعية.
وكان شعر الوائلي مثل خطابته وثيقة من وثائق التوعية الجماهيرية، فحول أحداث العراق الإسلامية كتب عن ثورة العشرين قصيدة رائعة جاء فيها:
ففي (الرميثة) من هاماتنا سـمة***وفي (الشعيبة) من أسلافنا نصـب
و(العارضيات) أمجاد مخـلدة***أضحى يحدّث عنها الدهروالكتب
فالجـو طائرة والأرض قنبلة***وبالجهات البواقي مدفع حـرب
وخضت بحراً دماء الصيد ترقـده***وما السفائن إلاّ الضمـدُّ العرب
ثم انجلت وحشود من احبتنا***صرعى على القاع تسفي فوقهاالترب
فذا قوام وكـان الغصن منكسرا***وذاك وجه وكان البدر مـحتجب
وتلك أمّ يلفّ الوجـه أضلعها***على جنين ابوه في العرا تـرب
قد افلت الامل المنشود فـهي على***جمر من الألم المكبوت تضـطرب
حتّى احتضنا امانينا وصـار لنـا***بين الممالك مـن جاراتنا لقب
جاءالزعانف من حلف الفضول ومن***اذنابه فأرانـا اننـا الذنب
انحى بمنجلـه حصداً وخلّفنا***لا سلّة يجتنى فيها ولا عنـب(1)
ويقف الشيخ الوائلي ليكشف زيف التيارات السياسية والفكرية التي أريد لها أن تستوعب الأمة، وكان في وقفته يتحلى بالأفق الواسع والوعي الكبير الذي تميز به، لنستمع اليه وهو يقول:
والارض يحكمها رهـطٌ وان نزلوا***لا ينسبون إلى ما جـدَّ مـن نظم
لوساوموني حصيَّمن تحت أرجلهم***بانجم الاشتراكيين لـم أسم
__________________________
(1) من قصيدة للوائلي في رثار السيد عيسى آل كمال الدين من رجالات ثورة العشرين.
الكاذبين على التأريخ والمثـل الغـ***ـراء والعـلم والأخـلاق والقيم
والحاملين شعار الكادحين وهـم***محض افتراء على العمـال متهم
والمدعين التساوي والسماء لهـم***والارض والناس اصناف من الخدم
الناب والظفر فحواهم فمـا نبضت***من رحمة بهم يوماً ولا رحـم
عقماً لارحام دنيا الناس ان نسـلت***امثال اولاء من عرب ومـن عجـم
ولا يقف الوائلي وقفة المصدوم بما يجري أمامه، لكنه يقف وقفة من يعرف الحل ويشير اليه. فهو يقول في إحدى قصائده أن الحل يكمن في حكم الله على الارض، جاء في هذه القصيدة التي يبث فيها شكواه إلى الله تعالى ويسأله النصر والحكم الإسلامي:
رب رحماك ذوَّبتنا الرزايـا***واللظى قد يذوب منه الحديد
لم يعرف الشيخ الوائلي الممالأة للسلطات الحاكمة، فعندما سقط النظام الملكي في العراق عام 1958م وتشكلت الجمهورية العراقية، قام عبد الكريم قاسم بتقريب الشيوعيين لدعم سلطته، وقد إستغل الشيوعيون ذلك فقاموا بحملة تخريب كبير في الجوانب الفكرية والتربوية والسياسية، فتصدى الشيخ الوائلي لعبد الكريم قاسم، مخاطباً إياه في قصيدة شجاعة جريئة، مع العلم أن الشيوعيين لم يكونوا يتوانون عن الدفاع عن قاسم، ومهاجمة من ينتقد الحكم، لكن الشيخ لم يضعف في أداء رسالته:
وعـاد يزأر في النادي الوديع فتىً***مُفَيهق صوته كالصخر ينـحدر
يحكي البطولات كالصبيان ان ركبوا***عصيَّهم حسبوها الخيـلَ تبتدر
وحوله نفر يروون مـن خدع***له الهدير ليروي أنَّهـم هدروا
وهو الذي كان لا يسطيع من هلع***ان تستقر على اعطـافه الأزُرُ
ايام لا نحـن في سلـم فيمنعنا***ولا بحرب فندري كيف نعتجر
اغراب لا نحـن من قيس فتمنعنا***ولا قريش فيحمي رحلنـا مضر
مشى لنا، غربـاء، لو بساعدهم***لهان، لكنّهم ظلٌّ لمـن امـروا
وللشيخ الوائلي مواقف مماثلة من حكم عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف، الذي تميز بالطائفية المقيتة، فقد قال قصيدته الخالدة في مهرجان الأدباء العرب عام 1965م:
بغداد يومـك لا يزال كأمسه***صورٌ علـى طرفي نقيض تجمع
يطغى النعيـم بجانب وبجانب***يطغـى الشقا فمرفّه ومضيع
في القصراغنية على شفةِ الهوى***والكوخ دمعٌ في المحاجر يلذع
ومن الطوى جنب البيادر صرّع***وبجنب زق ابـي نؤاس صرّع
ويد تكبّل وهـي مما يُفتدى***ويدٌ تقبّل وهي مما يُقطـع
فتبيّني هذي المهازل واحذرى***من مثلهـا فوراء ذلك إصبع
شُدّي وهزي الليل في جبروته***وبعهدتي انَّ الكواكب تطلع
هذه جوانب من الشخصية الشعرية للدكتور الوائلي عميد المنبر الحسيني المعاصر، وهي تكشف عن الملكات الكبيرة التي يتمتع بها في المجال الأدبي. والحق أن خطيبا يمتلك هذه الموهبة الشعرية المرهفة، لخليق به أن يكون رائد المنبر الحسيني المعاصر وعميده.
فترة الخطابة الثرة:
عندما برز الشيخ الوائلي في عالم الخطابة كانت الفترة التي عاشها تتميز بوجود ثلة من الخطباء الواعين الذي ساهموا في نشر الوعي الإسلامي في مختلف مناطق العراق، وقد تصدوا بشكل مكثف للموجات الالحادية والمادية والقومية التي كانت مدعومة من قبل السلطات الحاكمة.
لقد كان لهم الدور المشهود في التبليغ الإسلامي، وكان لهم حضورهم الميداني في مدن وقرى العراق المختلفة، فكان الوعي ينتشر حيث حلوا وألقوا خطبهم ومارسوا عملهم التبليغي الحركي.
وفي تقديرنا أن وجود خطباء بارزين لهم مكانتهم وقدراتهم العالية في المجال الخطابي، كان يمثل عامل تحفيز لولادة أجيال من الخطباء الذين يتمتعون بمقدرة وكفاءة في المجال الخطابي. لأن الحاجة إلى التطوير والابداع تصبح ملحة من
أجل أن ياخذ الخطيب مكانته في الساحة.
وهذا ما نلاحظه في تجربة الشيخ محمد علي اليعقوبي الخطابية. فقد كان الخطيب الذي يشغل الموقع الأول قبله هو السيد صالح الحلي، الذي كان يمتلك قدرات عالية في مجال الخطابة والتأثير على المستمعين بشكل كبير. وكان الخطباء الآخرون لا يرقون اليه بأي حال من الأحوال. لكن مشكلة السيد صالح الحلي أنه كان قاسياً على من يخالفه الرأي، وقد دخل بقوة في المعركة التي شنت ضد السيد الأمين والسيد أبو الحسن الأصفهاني في موضوع الشعائر الحسينية. وأخذ يؤجج المعركة من على المنبر مستغلاً قدراته الخطابية، مما دفع السيد الأصفهاني إلى تحريم مجالسه إذا إستمر على هذا النحو.
وكانت مشكلة السيد الأصفهاني هي في إيجاد الخطيب البديل الذي يستطيع أن يشغل مكان الحلي، ويستقطب الأضواء منه. وكان البديل هو الشيخ محمد علي اليعقوبي الذي مثّل في زمانه ظاهرة خطابية جديدة، نتيجة ما يتمتع به من علم وثقافة وأدب.. إلى جانب قدرة خطابية عالية مؤثرة في نفوس المستمعين. وقد تمكن اليعقوبي خلال فترة وجيزة أن يكون هو الخطيب المبرز في عالم الخطابة، والبديل الكفؤ للسيد الحلي.
أسدى الشيخ اليعقوبي خدمة كبيرة للمنبر الحسيني وثبت المرتكزات الصحيحة في عالم الخطابة، وكان في زمانه أمير المنبر بلا منازع طوال الاربعينات والخمسينات.
إن اليعقوبي ما كان بإمكانه أن يكون هو الخطيب المطلوب للمرحلة، لو لم يتمتع باللياقات المطلوبة من علم وأدب وبيان. مما يعني أن البديل لا بد أن يكون أفضل من سابقه حتّى يفرض نفسه ومنهجه. وهذه مسألة مسلمة بشكل عام ولا تنحصر في عالم الخطابة.
ربما لم يكن من السهل في الذهنية العامة تصور بروز خطيب يخلف الشيخ اليعقوبي، نظراً للمستوى الرفيع الذي وصل اليه، والذي كان يشير إلى أن البديل أو الخلف لا يمكن أن يأتي بسهولة، ولا بد أن يتمتع بمواصفات عالية تمكنه من الجلوس في درجة اليعقوبي.
لكن المفاجأة كانت كبيرة بظهور الشيخ أحمد الوائلي الذي نال الأعجاب منذ بداية إرتقائه المنبر الحسيني، وكانت طريقته الابداعية ومنهجيته في الطرح وثقافته الموسوعية، تشير بشكل لا يقبل الشك أنه الخليفة المنتظر للشيخ اليعقوبي. بيد أن الشيخ الوائلي ومع مرور الزمن كان يعطي صورة أخرى أكثر قوة وبريقاً، فلقد كان ينتزع الاعجاب بشكل أكبر مما كان عليه سلفه الشيخ اليعقوبي.
لقد برز الوائلي في فترة زمنية حساسة شهدت سيطرة الاتجاهات المادية على الساحة، وكان المد الشيوعي والقومي لهما تأثير كبير على الثقافة العامة. مما يعني أن مهمة الخطيب ستكون صعبة في عملية التوعية الجماهيرية. لكن الدكتور الوائلي إستطاع بفضل كفاءته ومقدرته العلمية من فرض منهجه وسط المجتمع، وتمكن من إستقطاب الاضواء بدرجة ملفتة للنظر، وكان منبره مدرسة متحدية تتناول الأفكار المادية بالنقد والتفنيد وفق منهج علمي موضوعي.
لم يمر الشيخ الوائلي بفترة طويلة من أجل أن يصل إلى القمة الخطابية، فإن الفاصلة بين إنطلاقته وبين تربعه على قمة هرم الخطابة كانت وجيزة جداً، بحيث يمكن لنا ان نقول أن الوائلي ظهر منذ بدايته كبيراً، ثم سرعان ما صار لامعاً.