الاثنين , 2 حزيران / يونيو 2014 - بانوراما الشرق الاوسط
أحمد الشرقاوي
أثار الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي ‘باراك أوباما’ في الأكاديمية العسكرية الأميركية «وست بوينت» في مدينة نيويورك، الأربعاء الماضي، انتقادات ساخرة في الصين، وخيبة أمل مريرة في السعودية، لما حمله الخطاب من تناقض بين وهم “الرغبة” في القيادة و “العجز” عن تكريس الدور.
وإذا كانت الصين قد استهجنت إصرار الولايات المتحدة على التفرد بدور “شرطي العالم” من دون قدرة على الإطلاع به بفعالية ونجاح، فإن السعودية قد صُدمت عندما قطع ‘أوباما’ الشك باليقين وأفهم الحلفاء والشركاء والأدوات، أن أمريكا لم تعد مُهتمّة بخوض حروب الآخرين بجنودها المنهكين وعلى حساب إقتصادها المأزوم، مستحضرا في ذلك مقولة سلفه الرئيس ‘أيزنهاور’ سنة 1947، والتي قال فيها: “إن الحرب هي الحماقة الأكثر مأساوية وغباءً التي ترتكبها البشرية؛ والسعي نحوها أو التشجيع عليها بالاستفزاز المتعمّد إنما هو جريمة سوداء ضد البشرية جمعاء”.
وفي رده الضمنيّ على منتقديه في الداخل، قال ‘أوباما’ وهو يستحضار بذكاء تجربة سلفه المقامر ‘بوش الصغير’: إن “الكلمات القوية غالبًا ما تجتذب عناوين الصحف، ولكن نادرا ما تتوافق الحرب مع الشعارات”. وهذا هو واقع الحال مع حروب أمريكا العبثية حتى الآن، والتي لم تثمر حرية وديمقراطية ورفاهية للشعوب التي وعدتها بها، بل خلفت ما لا يعد ولا يحصى من الضحايا الأبرياء، والكثير من الدمار والخراب والفوضى التي لا يعلم إلا الله كيف؟ و متى؟.. ستنتهي.
الخطاب المذكور، وضع الجمهور الأمريكي أمام رؤية ‘أوباما’ للسياسة الخارجية لبلاده في المرحلة المقبلة، بعد موجة من الإنتقادات التي تعرّض لها شخصيا بسبب مواقفه المرتبكة وتصريحاته المتذبذبة حول سورية.
وفي هذا الصدد، أعاد ‘أوباما’ التأكيد على: أن “الولايات المتحدة ستظل الأمة القيادية الوحيدة للعالم في القرن المقبل”. وهو فيما يبدو تذكير لروسيا والصين بثابتـة “القيادة الأمريكية للعالم” كدور نهائي لا يقبل التعديل أو التغيير، ولقرن من الزمن القادم، ما يقطع الطريق أمام حلم إقامة عالم متعدد الأقطاب الذي تطالب به القوتين الأسيويتين، على أن يكون بالتوافق بين الكبار وعلى أساس القانون الدولي واحترام سيادة الدول. أو بمعنى أدق، تكريس البعد الأخلاقي في العمل السياسي الدولي الذي غاب بسبب القيادة الإنتهازية الظالمة والمنحازة لمصالح لوبيات الخراب، حتى لو تعارضت مع مصالح بل وقيم الدول والشعوب، الأمر الذي ولّد الفوضى، فانتشر الظلم، وساد الفساد، وأصبح الإجرام هو لغة التخاطب والحوار.
وهذا هو معنى الإستكبار الذي تناهضه إيران ومحور الممانعة والمقاومة وحلفائه الأقوياء في العالم، حتى أصبح هذا المحور الكبير يمتد بسرعة الضوء، من بكين وروسيا إلى غزة، ومواطن أخرى من العالم حيث بدأ يظهر التمرّد على الإستبداد الأمريكي في إدارة شؤون العالم، ولم يعد أحد يخاف أو يحترم “إمبراطورية روما الجديدة” الفاشلة والمتداعية.. وبذلك نكون اليوم شهودا على أبواب نهاية التاريخ وبداية إنهيار الأنموذج الليبرالي الأمريكي المتوحش، بعد أن سقط عنه قناع الوجه الإنساني الذي كان يتخفّى ورائه.
أما الإستراتيجية التي سيعتمدها ‘أوباما’ في سبيل تكريس هذه “القيادة” الوهمية العاجزة حتى عن حل مشاكل الولايات الأمريكية المتحدة الداخلية في الأمن والإقتصاد فأحرى مشاكل العالم، فتتمثل في التمسك بما أسماه “سياسة النأي بالنفس”، والتي تعني، عدم خوض حروب عسكرية خارج البلاد إلا عند “الضرورة القصوى”، والتي وضعتها الرياض في خانة “الشديد القوي” لتبحث لها عن مدخل كارثي يجر رجل أمريكا إلى المستنقع السوري رغما عنها.
وإذا كان الرئيس ‘أوباما’ يعتقد أن الحاجة إلى الحروب الخارجية قد انتفت بعد مقتل زعيم تنظيم القاعدة وتراجع تهديد الإرهاب بشن هجمات داخل الولايات المتحدة وفق زعمه، الأمر الذي يؤكد أن حروب أمريكا العبثية كانت بسبب فزاعة وحش الإرهاب الذي صنعته مخابراتها فانقلب عليها في أفغانستان والعراق. لكن بعد إغتيال ‘بن لادن’ الوهابي بمساعدة ‘الظواهري’ الإخونجي، وتولية هذا الأخير إدارة المنظمة، عادت القاعدة للحضن الأمريكي والسعودي والإسرائيلي في العراق وسورية ولبنان وإيران واليمن ومصر وليبيا ودول الساحل جنوب الصحراء وآسيا وصولا إلى روسيا والصين، أي المحور المعادي للسياسات الأمريكية الإنتهازية والإنتقائية، ما جعل “الإرهاب” سواء الوهابي الأعرابي الذي تستعمله في العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا، أو الفاشي والنازي الغربي التي استعملته في أوكرانيا مؤخرا في إنتظار إنضمام الإجرام الوهابي إليه لإشعال روسيا والصين، سلاحا فتاكا في يدها، يغنيها عن التدخل العسكري المباشر في ميادين الصراع في العالم، وهذا هو معنى سياسة “النأي بالنفس” في القاموس العسكري الأمريكي الجديد.
ويبدو، والله أعلم، أن ‘أوباما’ قد أخذ بنظرية ‘النأي بالنفس’ من فريق 14 سمسار الذي سبقه إلى تطبيقها عمليا في سورية، وأصبح يعشقها بجنون لكثرة ما يتبجح بها ليحرج خصمه اللذوذ في المقاومة، لأنها (أي السياسة) تسمح له بقول الشيىء والإتيان بعكسه، ضدا في المنطق والدين والأخلاق، إعتقادا منه أنه يمارس الواقعية السياسية بخبث وذكاء. ومثله في ذلك كمثل النعامة التي تدفن رأسها في التراب كي لا يراها الصياد وتترك مؤخرتها الكبيرة مكشوفة للعيان بشكل لافت، ولذلك قيل في المثل: أن “صيّاد النعامة لا يحتاج للبحث عنها، لأنها هي من تعلن عن نفسها من شدة غبائها”. وهذا هو حال تيار المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في لبنان.
وفيما لم تعلق روسيا على خطاب أوباما، تساءلت الصين بسخرية: – أميركا تريد قيادة العالم لمدة 100 عام آخر، ولكن بواسطة ماذا!!؟.. وهذا سؤال كبير يكشف أن أمريكا وإن كانت لا تزال متمسكة بقشة حلمها الذهبي هذا، إلا أنها لا تمتلك القوة الكافية لدعمه، خصوصا مع دخول روسيا والصين وحلفائهما في العالم حلبة المنافسة لتقاسم هذا الدور.
الجهات الرسمية الصينية لم تعد تتعامل في تصريحاتها تجاه أمريكا بدبلوماسيتها المعهودة، بل أصبحت تنتقذ أمريكا علنا، وتصفها بأنها “جشعة في أسلوب تملّكها واحتكارها لجميع أنواع السلطة”، ولكنها تفتقر إلى “القلب الكبير، وهو العامل الرئيس لتصبح القائد”، وهذه حكمة صينية قديمة لكنها بليغة وصحيحة تماما. و وصل الحد بوزارة الخارجية الصينية أن صعدت من نبرة خطابها حين وصفت السياسة الأمريكية في شرقي آسيا بـ”المستفزة وغير المقبولة”، خصوصا بشأن الصراع الدائر بينها وبين اليابان حول ملكية الجزر المتنازع عليها.
وخلاصة ما يمكن الوصول إليه من التصريحات الصينية، والروسية السابقة للخطاب، هو أن أمريكا وبرغم تمسكها بإستمرارية دورها كقائدة للعالم “الحر” كما ترغب، إلا أن حالها بعد الضربة القاسمة التي تلقتها في سورية، هو كحال “الراغب العاجز”، خصوص في ظل الظروف الدولية الجديدة بعد أن تغيرت القوى وتبدلت الموازين في أكثر من بلاد ومنطقة، وكبر حجم التحديات والمخاطر، وأصبح العالم في أمس الحاجة للتوافق على نظام جديد متعدد القطبية، يمارس السياسة بأخلاق، ويحترم شرعة الأمم وسيادة الدول، ويعمل من أجل السلام بين الشعوب لينصبّ الجهد على مشاريع التنمية البشرية النتجة، بدل تجارة الموت والخراب التي أفقرت شعوب العالم واستنزفت خيرات أوطانها، وزرعت بذور الحقد والكراهية في النفوس والرغبة الشديدة للإنتقام في القلوب..
لكن الأخطر من هذا وذاك، هو إصرار أمريكا في حروبها على العالم العربي والإسلامي، على تفكيك هوية الشعوب، ومحو تاريخها، وتبخيس ثقافتها، وطمس حضارتها، وتدمير عقل شبابها لتغيير عقيدته وأفكاره وتوجهاته. وفي هذا يلعب الإعلام الخليجي دورا محوريا مكمّلا.
معضلة أمريكا تكمن اليوم، في أنها فقدت مجلس الأمن بعد أن نجحت في تحويله إلى مجرد كتابة خاصة تابعة للخارجية الأمريكية، تصدر لها القرارات الأممية الملزمة تحت الفصل السابع لتصبغ الشرعية الدولية على حروبها الإستعمارية اللا شرعية.. وخطورة هذا الأمر، أنه نزع من يد الإدارة الأمريكية ورقة التوت التي كانت تغطي بها عورتها لتبرر لشعبها ضرورة الحرب.
وبالتالي، فالقوة العسكرية الأمريكية لم يعد بمقدورها فرض السياسات الإمبريالية الظالمة على الدول المستضعفة بالقوة، هذا الزمن الذي تميّز بالإستكبار والفجور والإجرام الأمريكي انتهى ببداية عصر إنتصارات المقاومة في أفق إحياء “الأمة”، وتكريس ثقافتها من منطلق خصوصياتها. ويبدو أن إدارة ‘أوباما’ لا تريد أن تفهم ذلك، وتفضل العيش منسلخة عن الواقع الجديد إلى أن تستيقض لتجد نفسها مرفوضة منبوذة من قبل العالم الجديد الذي هو بصدد التشكل، فتدب في مفاصلها الفوضى الخلاقة التي صدّرتها للشعوب المستضعفة.. وبذلك تتفكك أمريكا نفسها وينتهي العصر الإمبريالي البشع من حياة الشعوب إلى الأبد.
ومهما يكن من أمر، فالمؤكد اليوم، هو أن حلم السعودية بإقدام أمريكا على تدخل عسكري في سورية قد تبخّر وتحوّل إلى سراب بقيعــة.. ولم يبقى لآل سعود الذين يُصرّون على أن تلعب بلادهم دور “الأخ الأكبر” أو (Big Brother) على الطريقة الأمريكية، وليس “مملكة العرب” كما روّج لذلك الرئيس ‘السيسي’، لتتربع مملكة الصمت والقهر والفساد على عرش العالم العربي والإسلامي بالإرهاب وشراء الذمم بالمال الحرام، لضمان الدعم السياسي والعسكري الأمريكي والغربي لمشروعها غير القابل للتحقق، لأنه ضد طبيعة وقيم وأخلاق الإنسان العربي والمسلم الشريف.
وبالتالي، لم يعد أمام الرياض في هذا الزمن الصعب الذي تتحكم في مجرياته ومآلاته قوى الممانعة والمقاومة الشريفة، سوى الإعتماد على النفس وعدم التعويل على أمريكا والغرب، وتغيير سياساتها الإستفزازية لقيم العرب والمسلمين، فما حك جلدك مثل ظفرك كما يقول ‘جمال خشقجي’ نقلا عن الإمام الشافعي، في مقالة له نشرت السبت في صحيفة الحياة، سوّق من خلالها لفكرة أن السعودية هي “الأخ الأكبر” للعرب في المنطقة وهي زعيمة “الأمة” الإسلامية، وأن سياسة المرحلة المقبلة، هي ممارسة السعودية لمزيد من الضغط على إيران كي تقبل بهذه الأطروحة الغبية كمسلمة نهائية، وتتخلى بموجب ذلك عن نفودها في مجالها الإقليمي الطبيعي، وتقبل بالتنازل عن ورقة “الشيعية السياسية” التي تتمدّد بها في بلدان المنطقة، وفق الزعم السعودي، كشرط لحوار منتج بين الرياض وطهران، وفق اشترط “الهزاز” ‘سعود الفيصل’ قبل أيام، في محاولة يائسة وبئيسة لإغراء إيران بالمصالح الإقتصادية مقابل تخليها عن الإديولوجيا، والتي تعني بالنسبة لإيران وحلف المقاومة، القيم والأخلاق والثوابت الدينية والمبادىء الإنسانية السامية التي لا يمكن أن يتطور أي إجتماع إنساني من دونها.
وهنا هو الوجه الحضاري الحقيقي للصراع، حيث يبدو التوفيق بين المصالح والإديولوجيا من سابع المستحيلات، ولا يمكن الإتفاق حول المصالح وترك الإديولوجيا جانبا، لأن الأخيرة هي مفتاح الحل كما كانت سبب الصراعات والحروب السياسية منذ كربلاء وإلى أن يأتي المنقذ من السماء ليضع حدا لهذه الفوضى العبثية.
معضلة العقلية القبلية الرجعية المتحكمة في القرار بمملكة الرمال، أنها لا تريد أن تفهم أن قوة وقدرة وعظمة الدول الفاعلة في التاريخ لا تشترى بالمال الحرام، بل تصنع بجهد الشعوب، والعمل المنتج الدؤوب، والكثير من الصبر والتحمل، والتضحيات الجسام من أجل تحقيق أهداف الأمة الكبرى، وذلك من بوابة الإستثمار في المواطن “الإنسان” صانع الحضارة ومفتاح التغيير.. وهذه شروط لا تتوفر في نظام تيوقراطي، فاسد ومستبد، يلغي الشعب من معادلة الحكم، ويحتكر السلطة والثروة والمجال السياسي والديني.
وكمثال على غباء آل سعود، فقد حاولت الرياض مرارا تقديم رشا إلى روسيا من خلال صفقات أسلحة وهمية بمانسبة زيارات قام بها الأمير ‘بندر’ لموسكو، ثم عرض الرياض فتح أبواب الشرق الأوسط لروسيا وضمان مصالحها في سورية، لكن من دون الأسد مع بقاء المؤسسات والجيش، على أن يضم هذا التحالف روسيا والسعودية ومصر. وقد هلّل وزمّر له مثقفو الإنقلاب الذي قاده ‘السيسي’ على “الديمقراطية” الوليدة لا على الإخوان الفاشلين كما يروج لذلك إعلام الزيت لتضليل الشعوب، وهو ما لم تهضمه حكومات وشعوب الغرب، لوجوب التفريق في السياسة بين المبادىء والأشخاص، لأنه كان بإمكان تغيير الوضع من خلال إستمرار الإحتجاجات حتى قبول السلطة القائمة بإجراء إنتخابات رئاسية لتصحيح الخلل ودعم شرعية الحكم المنقوصة من وجهة نظر المحتجين، أو إنتظار تاريخ الإستحقاقات القادمة لمعاقبة “الإخوان” على فشلهم. وهذه هي الطرق الديمقراطية السليمة المعتمدة في الدول التي تحترم شعوبها، لا هدم الديمقراطية وإسقاط الدستور وسرقة إرادة الشعب بالخديعة والكذب والإحتيال، ثم القيام بإنقلاب عسري في ثوب مدني مكشوف، لوضع مصر في قاطرة العمالة والخيانة ورهن قرارها السيادي للسعودية بعد إسرائيل، خدمة لمصالح أمريكا وضدا في إرادة الشعب المصري وأهداف ثورته المجيدة، مقابل حفنة من الدولارات الملوثة بالدم العربي، والتي لن تُخرج مصر من أزمتها الإقتصادية البنيوية المزمنة، بقدر ما ستتركها كالمعلقة بين الموت والحياة، لتظل تستجدي المساعدات دون قدرة على النهوض بنفسها.
المثال الثاني، ما تناقلته وسائل الإعلام عن وزير الخارجية الروسي ‘سيرغي لافروف’ من أن الرئيس الصيني ‘شي جينبينغ’ أخبر نظيره الروسي ‘فلاديمير بوتين’ مؤخرا، بـأن مسؤولاً عربياً كبيراً بعث اليه برسالة عبر مستشار باكستاني سابق، يعرض عليه فتح ابواب الشرق الاوسط أمام الصين في حال أنهت ‘بكين’ إرتباطها مع موسكو وتحالفت مع الرياض ومصر في وجه إيران.. فضحك ‘بوتين’ و ‘شي’ حتى استلقيا على قفاهما من غباء آل سعود الذي ليس له حدود.
وهذا هو حال وأسلوب السعودية، الراغبة العاجزة، التي تعرف أن أوراق اللعبة في المنطقة ليست بيدها، بل بيد أمريكا، وأن لعب دور الوكيل المُخرّب والمتآمر لا يمكن أن ينجح مع روسيا والصين لعزل إيران الدولة الكبيرة القوية والقادرة، وبرغم ذلك، فهي غير راغبة في المواجهة لحقن الدم العربي والمسلم، وتعمل على إنتاج القوة ومضاعفتها لتوفر لنفسها ومحورها المقاوم ما يلزم لمواجهة عدو الأمة الحقيقي الذي هو “إسرائيل”، عملا بقوله تعالى (و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة…) وقوله (ليعذبهم الله بأيديكم)، لأن المثاومة ما ضربت حين ضربت ولا رمت حين رمت ولكن الله ضرب والله رمى، فهزم الأحزاب ونصر جنده.
ومن غرائب الصدف، أن ما ذهبنا إليه من إستنتاج بالتحليل في مقالة “ديكتاتور مصر وملك العرب” التي نشرت على موقع ‘بانوراما الشرق الأوسط’ الجمعة، هو بالضبط ما أفصح عنه تلميحا الكاتب السعودي المذكور، والذي يعتبر من المقربين لوزير الداخلية الحالي، وبالتالي، فالرجل لا ينطق عن الهوى، إن هي إلا تسريبات تُسرّب، لتكون بمثابة بالونات إختبار، الهدف منها معرفة رد فعل الغرب الذي يتابع بشراهة ما يُكتب حول مملكة الصمت السعودية.
فبالنسبة لسورية، تعتقد الرياض أن الوسيلة الوحيدة المتبقية لجر رجل أمريكا لأثون حرب طاحنة في المنطقة هو إشعال الجبهة الجنوبية السورية من الأردن إلى لبنان، على أن تدعم “إسرائيل” المقاتلين الذين يعملون تحت إمرتها، وإن إقتضى الأمر تقصف مواقع الجيش السوري ومواقع المقاومة في الشريط المحادي للجولان المحتل، لأنه في حال اشتعلت المعارك وفجّر حزب الله جبهة الجنوب أيضا لمحاولة تحرير الجولان والجليل الأعلى بدعم من حلفائه في سورية والعراق وإيران، وبدأت تتقاطر صواريخ الموت على الداخل الإسرائيلي. حينها، ستهب أمريكا بضغط من اللوبي اليهودي والعربي الصهيوني في واشنطن، لنجدة “إسرائيل” من كارثة محققة لا تشبه في شيىء ما مضى من حروب. وهذا هو الحل الوحيد المتبقي للسعودية وإسرائيل لإنهاء ما يسمونه بحالة “الأسد” التي أصبحت تمثل لهم كابوسا مرعبا يجب التخلص منه.
وبموازات ذلك، هناك إصرار من قبل أمريكا عبر أدواتها في مجلس الأمن (فرنسا، أستراليت، الأردن، وبريطانيا)، لإستصدار قرار يسمح بإدخال ما يسمى المساعدات الإنسانية إلى الإرهابيين ولو بالقوة، في محاولة لفتح أبواب شرعية تساعدهم على إختراق الحصن السوري، للعبث به من الداخل عبر ضخ السلاح والإرهابيين وصب مزيد من الزيت على النار، لضمان استمرار الحرب في سورية حد الإستنزاف فالإنهيار، وفق ما يتوهمون.
أما المنطقة، فقد تبين أن تدخل العقيد ‘حفتر’ في ليبيا كان بتخطيط من السعودية ومصر وإسرائيل وصمت وتواطىء من أمريكا والغرب، لإخضاع الشعب الليبي لحكم عسكري ديكتاتوري على شاكلة ما هو قائم اليوم في مصر، وإخضاع ليبيا للنفوذ السعودي، ومن ثم الإنتقال للسودان فالجزائر، وبذلك يدخل العالم العربي ومن الماء إلى الماء في حضن “الأخ الأكبر” السعودي.
أحد الذين اعتدنا على تعليقاتهم في هذا الموقع المقاوم والمتميّز، وكنا نعتقد أنه يدافع عن محورنا، نزع العمامة ولبس العقال، وكتب يقول: “انه الدور السعودي المطلوب، ويجب ان يكون بحجم المملكة السياسي والاقتصادى والفكري، فالمملكة لم تعد ملك ذاتها، بل اصبحت ملك العرب والمسلمين جميعا، والآمال المعقودة عليها كبيرة في مصر وسوريا ولبنان واليمن، لأن قيادة و هامة شامخة بحجم الملك عبد الله، اعطت الكثير وينتظر منها أكثر لكي لا نفقد سوريا ومصر واليمن ولبنان”.
وهذا الحلم الذي يبدو كالوهم، يشبه إلى حد بعيد حلم “إسرائيل” بالسلام مع العرب، من يُصدّقه، يكون إما جاهل أو متخلف عقليا.. ونأسف للقول أن نفس القاعدة تنطبق على من يُصدّق أن السعودية جادّة في التقارب مع إيران، لأنه إذا كان فريق 14 إرهابي في لبنان يُقطّع الوقت لحرق أوراق خصومه في السياسة وأعدائه في الرؤية والنهج فيما له علاقة بمنصب الرئاسة تمهيدا لسرقة السلطة والإستحواذ على الثروة في لبنان، فلأنه ينفذ أموامر المملكة الوهابية التي تفضل وضع لبنان في الثلاجة في إنتظار الإنتهاء من المسألة السورية.
ولعل إعتذار وزير خارجية إيران السيد ‘محمد ظريف’ اليوم، عن حضور إجتماع مؤتمر التعاون الإسلامي الذي يعقد في السعودية، وتبرير ذلك بتزامنه مع إجتماع السداسية حول الملف النووي الإيراني. فهم منه أن طهران غير مستعدة للقبول بالشروط السعودية الوهمية التي نقلها أمير الكويت إلى السلطات خلال زيارته اليوم لإيران. واللافت أيضا، أن الشيخ ‘رفسنجاني’ الذي كانت السعودية تنتظر منه ردا على موقف إيران من مطالبها، قال قبل يومين ما مفاده، أن هناك أمورا يجب أن تحسم داخليا في إيران قبل التوجه إلى السعودية.
هذا يعني أن الفجوة لا تزال عميقة بين الجانبين، وأن لا أمل يبدو في المدى المنظور للوصول إلى إتفاق بشأن ملفات المنطقة الشائكة والمعقدة بسبب تداخل المصالح وتضارب القيم والإديولوجيات. كما وأن السعودية بسبب الصلف والكبر والعناد والغباء، ترفض القبول بهزيمة مشرفة، في انتظار هزيمة كبيرة مدوية ومذلة يُحضّرها محور المقاومة القادر بعون الله، لمحور المؤامرة الراغب العاجز والفاشل الذي يسعى بقدميه نحو حتفه ونهايته الحتمية.. هذا ما سيؤكده التاريخ وإن بعد حين.
وبذلك، تتحقق أسوأ كوابيس ‘جيفري فيلتمان’، الذي حذر من ضياع الأردن ولبنان بسبب ما أسماه بـ”العناد”، لينصهرا في وطن قديم جديد اسمه “الشــام”. ونحن بالمناسبة، نريد أن نضيف للقائمة ما أغفله ‘فيلتمان’ عن عمد، ونقصد بذلك فلسطين الحبيبة تاج عروبتنا وعزة إسلامنا وعنوان حضارتنا ومنبع قيمنا وثقافتنا التي تحولت إلى مقاومة بالخنجر والحجر والبندقية، فتبعها القلم ليصنع لنفسه كلمات من رصاص تصيب القلب وتشل العقل..
وبذلك تكتمل خريطة الشام الفدرالية القوية القادرة المتجانسة والمتحابة كما خلقتها السماء وأرادتها أرضا للمقاومة والجهاد فباركت حولها، لا كما رسمها الإستعمار وأرادها أن تكون مقسمة إلى مشيخات وإمارات تدور في فلك السعودية وتقبل بـ”إسرائيل” كدولة محورية قوية وطبيعية في المنطقة.. وهذا هو جوهر الصراع.