دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 8)
1
( منھج التثبت في شأن الدین)
الحلقة الثامنة
مدى انسجام جملة من التشریعات الدینیة مع المبادئ الفطریة
تقدّم الكلام في حلقة سابقة
1 عن توضیح الرؤیة التشریعیة
للدین.. ویبقى السؤال عن: مدى انسجام جملة من التشریعات الدینیة
مع المبادئ الفطریة؛ إذ قد یدّ عى أن بعض الأحكام الشرعیة مخالفة
لما أُشیر إلیھ من المبادئ العامّة للتشریع، ومتصادمة مع المساحة
المحكمة للعناوین الفطریة، ولیست من المساحة المتشابھة فیھا،
ومن ذلك:
١
. التفریق بین الذكر والأنثى في المیراث، وفي الستر
والحجاب، وفي حق الزواج - حیث أنیط زواج المرأة بإذن ولیھا -
ثمّ التفریق بین الزوج والزوجة في الحقوق والواجبات، كجعل
القوامة للزوج، وتجویز تعدد الزوجات
.. وھذه أحكام تنافي مبدأ
العدل.
٢
. حد الرجم، وقتل المرتد، وقطع ید السارق، ومعاقبة
الفعل الشاذ، وجزاء المحارب، وغیرھا من الأحكام الجزائیّة
الشدیدة التي تخرج عن مبدأ تناسب الجرم والجزاء وتُمثّل جفاءً
وقسوة تجاه الإنسان.
٣
. تجویز الاسترقاق بالأسر والقتل، والذي ینافي حق
إنسانیة الإنسان وكرامتھ، وغیر ذلك من الأحكام الواردة في الكتاب
والسنة وفتاوى فقھاء المسلمین.
ولتوضیح وجھة نظر الدین
- بصورة إجمالیّة - بالنسبة
لھذه الأحكام والمآخذ المذكورة علیھا - بلا تك لّف أو تحمیل علیھ -
لا بدّ من ذكر أمور أربعة
:
١
. عدم دقة ما ذُ كر في بعض ھذه الأمثلة عن الموقف
التشریعي في الدین.
٢
. عدم إنتاج ھذه الأمثلة لطابع عام في الدین وفق ما
استوحي منھا.
٣
. مخارج التشریعات المذكورة وفق القانون الفطري من
المنظور الدیني.
٤
. ضرورة التفریق بین الدین والشریعة والفقھ وأقسام
الفقھ.
1
الحلقة السادسة.
2
الأمر الأول
: إن بعض ھذه الأمثلة وما سواھا رغم
اشتھارھا على ألسنة الناس لیست دقیقة؛ فإن العقوبة في بعض
ھذه الموارد على إعلان الخطیئة حذراً من آثاره الاجتماعیة السلبیة
ولیس على أصلھا، كما أن الحكم في بعضھا یختص ببعض
الحالات. 2
2
وتفصیل ذلك: أن لبعض الاحكام السابقة المذكورة وغیرھا حدوداً خاصة بعضھا خلافیّة دون
البعض الآخر..
فعقوبة المرتد
- مثلاً - لیست على أصل الارتداد الفكري الذي لا یعلن عنھ الشخص في المجتمع، بل
ھو على الإعلان عن الارتداد؛ بدلیل أنھ لو ثبت ارتداد الشخص بوسائل أخرى مقبولة قضائیّاً -غیر
إعلانھ عن ذلك- لم یترتّب علیھ أيّ جزاء قانونيّ.
ولذا فإن المنافق
- وھو مَن أظھر الإسلام وأبطن الكفر - محترم الدم والعرض والمال في الإسلام،
حتى وإنْ دلت أفعالھ على كیده بالإسلام وكذبھ في إظھاره الاعتقاد بھ، ولقد كان المنافقون في عھد
النبي (ص) شریحة مصونة في مجتمع المدینة الإسلامي رغم أفعالھم الكیدیة، وافتراقھم عن
المؤمنین في كثیر من التصرفات والأفعال، وقد جاء الاحتجاج معھم والسعي لھدایتھم في كثیر من
آیات القرآن الكریم من غیر أن یُھدر دمھم في شيء منھا، رغم ما عَلِمھ سبحانھ من نوایاھم وظھر
من أعمالھم، مثل: بناء مسجد ضراراً وتفریقاً بین المسلمین.
ولكن ربما كان المنظور في ھذا التشریع أن إظھار الارتداد بعد الإسلام یعني الشھادة ببطلان
الإسلام من بعض أھلھ، وھذا یثیر شكاً في عقائد المجتمع المسلم وتزلزلاً في أخلاقیاتھ وسلوكیاتھ؛
فیوجب انتشار الشبھة واشتعال الفتنة في الأوساط العامة، وقد یؤدّي إلى قتل نفوس كثیرة بإثارة
العصبیات بین فئات المجتمع من جھة ردور الأفعال الغاضبة التي تصدر من بعضھا؛ فكان من
الواجب حمایة المجتمع عن ھذا التصرف الخاطئ والخطیر.
فمَن رجع عن الإسلام في ذات نفسھ وبقي محافظاً على إظھار الإسلام، لم یؤخذ بسریرتھ أو یعاقب
على خطیئتھ.
ومن ھذا القبیل: عقوبة الفاحشة بالجلد - وغیره - في الإسلام؛ لأنھ لم یجعل موضوع استحقاق الحد
علیھا مطلق ثبوتھا من خلال أمارات وشواھد توجب العلم بذلك من جھة تردد الرجل على المرأة
الغریبة وحدوث تصرفات مریبة منھما، بل حتى لو شوھدا معاً في وضع غیر لائق.. وإنما اُشتُرِط
في ھذه العقوبة قیام أربعة یشھدون على رؤیة الجانب المادي منھا بوضوح، وھذا یعني أن العقوبة -
في الحقیقة – مفروضة على ضرب من الإشھار بالفاحشة یصل إلى حدّ الإعلان بھا أمام الملتزمین
بالشرع وعدم الحذر من اطلاع رجال أربعة عدول علیھا؛ إذ لو كانت العقوبة على ذات الفاحشة،
للزم الاكتفاء بوجود مؤشرات توجب العلم لدى القاضي - كما تجري علیھ القوانین الوضعیة كلھا في
ما تعتبره جریمة محظورة قانوناً -.
كما یُلاحظ أن في ھذا الاشتراط في عقوبة الفاحشة في الإسلام تضییقاً شدید للغایة في طریقة إثباتھا،
لا سیّما بالنظر إلى أن ھذا الحكم جاء في المجتمع العربي الذي كان ولا یزال یتّصف بالغیرة،
ویتعارف فیھ الاتھام بھا بأدنى شبھة وریبة، ویبادر إلى ردّ الفعل بالقتل عند ملاحظة خروج الرجل
الغریب من عند المرأة بلا توقف.
على أن الإسلام لم یقتصر على ذلك، بل جعل ادّعاء ارتكاب أحد للفاحشة بدون استكمال الشھود
الأربعة -على الوصف المتقدم- موجباً لمعاقبة المدعي لھا بالجلد؛ مما یخوف الناس عن أنْ یشھدوا
على ھذا الأمر، خشیة أن یتراجع بعض الشھود أو یشھد على التصاق الطرفین دون الجانب المادي
المُبصَر من الفاحشة؛ لتعذّره غالباً.
فھذا الاشتراط الوارد في الإسلام لثبوت الفاحشة أشبھ بسدّ الباب أمام ثبوتھا؛ إذ لا تكاد تثبت الفاحشة
وفق ھذه الشروط المشددة في حالة من ملیون حالة تقع خارجاً.
وكأن سیاسة الإسلام في شأن الفاحشة سیاسة التخویف من ارتكابھا بالتھویل المرتكِ زِ على الإعلان
بھا؛ حذرَ أن تصبح حالة معلنة فیفسد الجوّ الاجتماعيّ؛ فضیّق طریق إثباتھا، وعاقب عقوبة شدیدة
على اتھام الغیر علناً بھا -وھي الجلد-.
وأما الرجم - والّذي یُقام على خصوص المتزوّج أو المتزوّجة -، فشدّد فیھ؛ باعتبار كون الشخص
ممّن لا شائبة عذر لھ في ارتكابھا؛ لكون المرأة متزوجة وھي عند زوجھا، وكذلك الرجل یكون
متزوجاً وھو عند زوجتھ.
ومثل ھذا القول یأتي في عقوبة الفعل الشاذ -على خلاف في حكمھ-؛ فھي عقوبة على الإعلان عنھ،
ولیس على الفعل في حدّ نفسھ، وإلا لاكتفي بثبوتھا عند القاضي بأي وسیلة مقبولة قضائیّ اً.. یضاف
إلى ذلك: أنھ قد قیل فیھ بالتخییر بین أمور عدیدة یختار منھ القاضي، ولا شك أن ممّا یأخذه القاضي
بنظر الاعتبار مقدار ما یحتاج إلیھ من العقوبة للردع الاجتماعي؛ فإن كان المجتمع بطبیعتھ مجتمعا
قاسیاً لا تؤثر فیھ إلا العقوبة الشدیدة اختار عقوبة أقسى، وإن وجد أن الأمر لا یقتضي ذلك اختار
العقوبة الخفیفة؛ ومن ثَمَّ قد یختلف ما یتعین اختیاره على القاضي باختلاف الزمان والمكان.
وأما عقوبة المحارب، فقد ورد أیضاً جعل وجوه متعدّدة لعقوبتھ، من جملتھا النفي إلى مدینة أخرى،
وھذا تابع لما یتوق ف علیھ الردع الاجتماعي؛ فیختلف بحسب الزمان والمكان. =
3
الأمر الثاني
: إن مثل ھذه الموارد - بعد موازنتھا مع سائر
الأصول والتشریعات الأخرى- لا یمكن أن تدلّ على الطابع العام
والتوجّ ھ الكلي للدین والتشریع الدیني، بل لا بدّ من حملھا على
مخارج نظر إلیھا التشریع الدیني على ما سیأتي ذكر بعضھا .
والوجھ في ذلك: أن أساس التشریع الدیني - على ما ذُكر
في نصوصھ - ھو مراعاة القیم الإنسانیة المحكمة المعبّر عنھا في
لسان الأدلة بالمعروف والمنكر، وھذا المعنى لم یكن شعاراً یرفعھ
الدین لجذب الناس إلیھ، بل ھو وفق منظوره شرط أساس لصدق
الرسالة؛ حیث جعل من علائم صدق نبي الإسلام (ص) أنھ یأمر
بالمعروف وینھى عن المنكر، بل یمكن القول: إن الدین یرى العدل
سبحانھ على حدّ العدل في التشریعي صفة كمالیّة ثابتة
المجازاة.. ومّما یوضح ذلك: كثرة التأكید على القیم الأخلاقیة
النبیلة في النصوص القرآنیة في مقامات مختلفة، منھا:
١. ما جاء في مقام توصیف لله سبحانھ أنھ تعالى ودود
بالناس، رحیم، عفوً ، غفور، رحمن، رؤوف، حلیم، شكور، لطیف،
وَ فيٌّ بوعده، غف ار، س تّار، توّ اب، لا یخلف المیعاد، لیس بظلّا م
للعبید.
٢. ما جاء في مقام توصیف رسلھ إلى الخلق.. كما جاء في
مقام وصف نبیھ محمد (ص): [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِیمٍ ] 3، و[لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِیزٌ عَلَیْھِ مَا عَنِتُّمْ حَرِیصٌ عَلَیْكُمْ
بِالْمُؤْمِنِینَ رَءُوفٌ رَحِیمٌ ] 4، و[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ للهَِّ لِنْتَ لَھُمْ وَلَوْ كُنْتَ
فَظًّا غَلِیظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ] 5، و[لَا تَذْھَبْ نَفْسُكَ عَلَیْھِمْ
حَسَرَاتٍ ] 6، و[لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا یَكُونُوا مُؤْمِنِینَ ] 7، كما جاء في
= وقد یُحتمل وجود استثناءات لھذه الأحكام في بعض الحالات، من قبیل ما ورد من رفع حد السرقة
في عام المجاعة؛ فقد یحتمل الفقیھ جریان مثل ذلك في شأن بعض آخر من المعاصي؛ بمعنى أنھ إذا
كان ھناك باعث عام یوجب وقوع كثیر من الناس في الخطیئة - كالارتداد –، فإنھ لا یعاقبھم بالعقوبة
المقدرة، ویكون لھ الحق فیما یناسب الحكمة من غیر تعسف ولا تساھل.
ثمّ إن بعض الأمثلة المذكورة لیس الحكم فیھا على وجھ العموم.. فمثلا : التفریق بین الذكر والأنثى
في المیراث لیس عام اً، بل یختص بأقارب المیت من جھة الأب، -مثل أولاد المیت ذكوراً وإناثاً
وأخوتھ من أبیھ وأعمامھ-، وأما أقارب الأم - مثل الإخوة للأم - فلا شك في تساوي الذكر والأنثى،
كما ھو مفاد آیة كلالة الأم: [وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ یُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَھُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْھُمَا
السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَھُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُث] النساء/ 12 . وھذا مما لا خلاف فیھ بین فقھاء
المسلمین، وكأن وجھ تفضیل الذكر من أقارب الأب أنھم یمثلون عشیرة المیت الذین یحمونھ وأولاده
ویتحملون الدیة عنھ في حال ثبوتھا علیھ، فھو جارٍ وفق منظومة من الحقوق والاستحقاقات بین
الأقرباء والعصبة.
وممّا تقدّم یتّضح: لزوم التدقیق فیما یذكر من الأمثلة في ھذا السیاق وتأمل اتجاه الحكم ومورده فیھا..
على كلام في أصل ثبوت الحكم في بعضھا، أو في كون ثبوتھ قطعیاً، فقد یكون اجتھادیّ اً، ولا یكون
مثلھ حجّة في ھذا السیاق.
. 3 القلم/ 4
. 4 التوبة/ 128
. 5 آل عمران/ 159
. 6 فاطر/ 8
. 7 الشعراء/ 3
4
مقام توصیف سائر الأنبیاء بالصلاح والصدق والصبر والحكمة
والبرّ بالوالدین وصفات أخرى نبیلة.
٣. ما جاء في مقام ذكر مَن یُحبھ لله ویكون معھ ومَن
یكرھھ ولا یتولّاه؛ فقد ورد أنھ تعالى یُحبّ المحسنین الصابرین
المقسطین التوابین المتقین، وھو لا یحب المعتدین والظالمین
والخائنین والمستكبرین، ولا من كان مختالاً فخوراً أو من كان
خوان اً أثیم اً.
٤. ما جاء في مقام بیان الأصول التشریعیة العامة: [إِنَّ للهََّ
یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِیتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَیَنْھَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
. وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ]
8، و[إِنَّ للهََّ لَا یَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ] 9
علماً أن ھذه الأصول التشریعیة لیست - في المنظور الدیني -
مجرد مبادئ تشریعیة لا بعد عمليّ فعليّ لھا، بل ھي:
(أولاً): تمثّل مواد تشریعیّة بأنفسھا بنحو عام؛ فوجوب
العدل وحسن الإحسان ونحوھما تشریعات عامة في حدّ أنفسھا، بل
أن الإسلام نفسھ عوّل في كثیر من المواد التشریعیة الخاصة على
عنوان فطري عام مثل: ما ورد من أمر الأزواج بمعاشرة زوجاتھم
بالمعروف.
(ثانیاً): أنھا تمثل المقاصد التشریعیة التي تكون قرینة على
حدود سائر التشریعات من جھة، كما أنھا تمثل السیاق العام لما
ینبغي أن تجري علیھ سیاسة الحاكم والوالي والفقیھ في المساحات
التي یخوّل بالتشریع والاجتھاد فیھا؛ فھي أصول لا ینفد محتواھا
التشریعي.
٥. تحرّى الإسلام في مقام التشریعات الخاصّة منحى رفع
الحیف والظُلم وتطبیق العدالة، لا سیّما في شأن الفئات
المستضعفة، مثل: النساء والعبید والیتامى، كما اعتنى بضبط
الفئات التي یُخشى تعسفھا ونقضھا للعدالة كأصحاب العصبیة من
رؤوس العشائر والمندفعین من المقاتلین والمُ عتدى علیھم الذین
یمیلون إلى زیادة الجزاء على الجرم.
٦. في مقام أداء الدِ ین والتشریع؛ حیث لوحظ فیھ الرفق
والمداراة بالناس.. ومَن نظر في تاریخ التشریع الإسلامي وقف
على مستوى التدرج والمداراة في مجال الدین وزیادة تشریعاتھ،
كما أن ھذا الأمر من جملة أسباب اختیار الرُسل ممّن تمیّز بالصبر
والحلم والتواضع والحرص على الناس.
٧. في مقام التعامل مع الخصوم حیث نلاحظ رعایة الدین
لمبادئ العدل -خاصة أداء الأمانة وحفظ العھد- مع الأعداء في
.
8 النحل/ 90
. 9 الأعراف/ 28
5
غیر موارد ضرورة الحزم ، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: إلزام
المسلمین برعایة عھودھم مع المشركین، ومنعھم عن الاعتداء
علیھم، ونقض العھد المبرم معھم -إلا أن یلحظ فیھم ما یوجب
الریبة في مكرھم بالمسلمین؛ ف یُلغى العھد معھم بشكل علني-، ولا
یفاجؤون بالھجوم علیھم، قال تعالى: [وَقَاتِلُواْ فِي سَبِیلِ للهِّ الَّذِینَ
. یُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ للهَّ لاَ یُحِبِّ الْمُعْتَدِینَ]
10
٨. وعلى المستوى العمليّ: فلا شكّ في أن الإسلام - عند
تطبیقھ من قبل أئمة الدین - یضمن نقلة نوعیة كبیرة في جملة من
المناحي باتجاه العدالة الاجتماعیّة، كما یظھر بالتدقیق في سیرة
النبيّ (ص) وأھل بیتھ (ع).
٩. في مقام تربیة الإنسان المسلم؛ حیث نجد أن ال نَف س
التربوي الإسلامي للشخصیة المسلمة یبتني على تنمیة روح
الحكمة والفضیلة.. كما یُلاحظ ذلك في خطب الإمام علي (ع) على
منبر الكوفة الموجھة لعامة الناس، ورسالتھ إلى مالك الأشتر
ومحمد بن أبي بكر وسائر عمالھ، ووصیتھ لابنھ الحسن (ع)،
وسائر حكمھ ووصایاه ونصائحھ، رغم أن عصره (ع) لم یكن
عصر ھدوء واستقرار وراحة وتنعّ م، بل كان ملیئاً بالفتن
والحروب والقتال على وجوه متعددة معروفة.
وممّا تقدّم یتّضح أن: انطلاق الدین على العموم من المبادئ
العامة والحكیمة، ولیس من الصحیح أن نعتبر الموارد المذكورة
فیما ثبت منھا ثبوتاً یقینیّ اً ذات دلالة على طابع التمییز والتعسّف
في الدین، والحال في ذلك كما لو وقف المرء من امرئ على حسن
السلوك واللین والأخلاق ورأى منھ عدة تصرفات توحي بخلاف
ذلك؛ فإنھ لا یصح أن یقول عنھ أن طابعَ ھ السلوكُ السيء والشدة
والتعسّف.
وعلیھ یصح القول: إن الدین - وفق منظوره - ملتزم بالعدل
غیر مجانب للفطرة في جمیع الموارد المتقدمة، إلا أن لھ وجھة
نظر في موارد الأحكام المذكورة وفق الرؤیة التشریعیة التي
یرتئیھا.
الأمر الثالث
: إن التخریج المنظور للتشریعات المذكورة ھو
أحد وجوه:
(
الوجھ الأول): ضرورة التفریق بین العدل والتساوي..
فالتساوي: یقتضي مراعاة التماثل في النتیجة في الحكم
مھما كان المحكوم علیھ، فتساوي عامِ لَ ین في الأجر یعني إعطاء
كل منھما راتبا مماثلا لراتب الآخر.
. 10 البقرة/ 190
6
وأما العدل: فھو لا یقتضي المساواة بالضرورة، بل ھو
تقدیر كل شيء بقدره؛ فإذا كان أحد العاملین قد عمل عملاً لھ قیمة
أكبر من عمل الآخر -لتوقفھ على مجھود فكري-، كساعة من عمل
الطبیب، بإزاء ساعة من غیر الطبیب لحمل ثقل ما، فتقدیر كلٍ
بقدره وإن اقتضى التفاوت ولكن یكون عین العدل.
فاعتبار العدل عینَ التسویة والتماثل نوع من الخطأ الشائع
بین الناس.
ویندرج في ھذا الباب مسألة اختلاف أحكام الرجل والمرأة،
فالرؤیة الدینیة أن الرجل والمرأة لیسا متماثلین في الخلق تمام اً، بل
یؤدي كل منھما دور اً مختلفاً ومكملا لدور الآخر، وتكون نتیجة
مثل ھذا التفاوت أن تختلف المھمات والوظائف المنوطة بھما -
والمتمثلة في الأحكام الشرعیة-، وإنما یُفسد الأمر ویھیج المشاعر
تعسف الرجل في استعمال حقھ، أو سعي المرأة إلى التماثل مع
الرجل في خصائصھ، من غیر تقدیر كون ھذا الاختلاف ناتجاً عن
تفاوت طبیعي بین الجنسین.
كما أن المرأة لظرافة تكوینھا وعمق عاطفتھا فھي أكثر
تضرّراً بالخروج بمظھر الإغراء أمام الرجل -كما یدل علیھ الواقع
الاجتماعي-، وكان ھذا المعنى ملحوظ اً لتشریع الحجاب في
حقھا.
11
وھذا التفاوت على الإجمال أمر ظاھر وفطري حتى أن
كثیر اً من الآباء في البلاد الغربیة یشعرون بحرج شدید تجاه
تصرف بعض الفتیات بالقیاس إلى بعض الفتیان، وإن كانت ثقافتھم
لا تساعد على رعایة أمثال ذلك.
12
(
الوجھ الثاني): ضرورة التفریق بین الحزم والتخویف
وبین الشدة في تأمل مباني الحكام الجزائیة، فكل تشریع یبتني على
دعامتین: الأخذ باللین ومقتضیاتھ من الرقة والرحمة والتخفیف،
والأخذ بالحزم ومقتضیاتھ من الإصرار والثبات والاستقامة.
ولكل من ھاتین الدعامتین موضعھ في مقیاس الحكمة، فإذا
جووِ زَ بھ موضعُھ أنتج عكس المقصود، فكما أن للین في موضعھ
آثاراً إیجابیة بالغة، فإن للحزم في موضعھ مثل تلك الآثار بل ما
یزید علیھا أحیاناً؛ فإنھ قد یصحح مسیرة حیاة، وقد یقي من
الجریمة في مئات وآلاف الموارد التي تكون مظنة لحصولھا.
11
كما جاء في آیة الحجاب: (یَا أَیُّھَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِینَ یُدْنِینَ عَلَیْھِنَّ مِن
. جَلاَبِیبِھِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن یُعْرَفْنَ فَلاَ یُؤْذَیْنَ وَكَانَ للهَُّ غَفُورًا رَّحِیمًا) أحزاب/ ٥٩
12
مع ذلك لا ننكر أن ھناك ظلم اً تتعرض لھ المرأة بعنوان الأعراف القبلیة أو المآرب الشخصیة
لبعض الرجال، وقد یتفق العكس، ولكن المنظور الدیني لا ینطلق من التنقیص ولا من السیطرة بل
من منطلق وجود تفاوت في التكوین البدني والنفسي؛ بما یؤدي إلى اختلاف الدور الأسري
والاجتماعي المنوط بالطرفین.
7
ثم إن المصحح للحكم الجزائي في المنظور الشرعي
تأكیداً للمنظور العقلي الفطري لیس ھو الانتقام لمجرد مخالفة
التكلیف أو إرضاء روح الانتقام في المعتدى علیھ، وإنما المصحح
لھ كون الجزاء المحدد رادعاً اجتماعیاً عن الجریمة على أن لا
یخرج عن التناسب العادل مع الجُرم بملاحظة درجة قبحھ وفق
المقیاس الفطري ، فالقصاص من القاتل مثلاً جزاء عادل للقتل
كما أشیر إلیھ في قولھ تعالى: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَیَاةٌ یَا أُولِي
الْأَلْبَابِ ]
13 ؛ لأنھ رادع عنھ، وھو متناسب مع الجریمة لأنھ مقابلة
بالمثل.. وقد ورد التأكید في النصوص الدینیة على مبدأ لزوم
التناسب بین الجریمة والمجازاة في موارد اعتداء بعض الناس على
بعض كما في قولھ تعالى:[فَمَنِ اعْتَدَى عَلَیْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَیْھِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَیْكُمْ ] 14 ؛ ولذلك لم یُجز الدین أن یزید المعتدى علیھ في
مقام القصاص بمقدار أنملة رغم أن النفوس تمیل إلى زیادة
الجزاء على الجریمة؛ لأن البادئ أظلم .
ویظھر من ذلك: أن الوجھ في العقوبات الشرعیة على
بعض الجرائم بحسب المنظور الدیني ھو أنھا ضرب من الحزم
المتناسب مع الجرم، وھو أحمد عاقبة من اللین لوجوه..
١. أثره الكبیر في التخوّف من ارتكابھ والارتداع عنھ، في
حین یؤدي اللین والتساھل إلى انھیارات قیمیة وأخلاقیة ومعرفیة
كبیرة في المجتمع بما یستتبعھ من التصرفات الرذیلة والسخیفة.
٢. إمكان تأدیة اللین إلى ردود أفعال شدیدة في الوسط
الاجتماعي تفوق العقوبة الشدیدة التي فرضت في الشریعة، من
جھة مضادّة بعض تلك الخطایا مع ثوابت المجتمع ومبادئھ
المحترمة والفاضلة.
٣. اقتضاء اللین معاقبة مئات الأشخاص بالعقوبة الأدنى
بدلاً من عقوبة غیر ظالمة بالنظر إلى مستوى الجریمة وقبحھا
الفطري لشخص واحد؛ وذلك لأنّ تخفیف الردع عن الجریمة
یزید من فرصة وقوعھا مما یؤدي إلى كثرة تطبیق العقوبة
المخففة، في حین تؤدي قوة الردع إلى تقلیل فرص وقوع الجریمة
و بالتالي قلة تطبیق العقوبة المشددة.
وقد یشعر بعض الناس بشدة بعض العقوبات لأسباب..
(منھا): عدم تقدیر قبح بعض الجرائم حقّ تقدیره.
و(منھا): شعورھم بالرقة لبعدھم عن الممارسات القاسیة
ولو اقتضتھا الحكمة ، فھم یلتفتون إلى جانب الحاضر (وھو شدّة
العقاب) أكثر من الالتفات إلى الجانب الغائب (وھو صیانة المجتمع
. 13 البقرة/ 179
.
14 البقرة/ 194
8
في مئات الموارد عن الجریمة والمعاقبة علیھا)، كما مرّ بیان ذلك
في ذكر المشاعر الإنسانیة التي تشتبھ بالمشاعر النبیلة.
و(منھا): عدم معرفة كثیر من الناس كیف تردع بعضُ
العقوبات الشدیدة على بعض الجرائم، المجتمعَ من ارتكاب مئات
الموارد من ھذه الجرائم التي تكون انتھاكاً لحرمة النفوس
والأعراض والأموال، نظیر اعتقاد السائق الذي یتجاوز قوانین
المرور بأنّ في فرض النظام النظام المروري بما فیھ من
احتیاطات وتغریم مبالغة غیر مبررة في التضییق على السواق؛
نتیجة لعدم معرفتھ بعدد حالات الإصابة في المستشفیات بسبب
انتھاك ھذه القوانین.
وعلیھ: فلیس من الحكمة التسرّع في البتّ بمخالفة عقوبة ما
لمباني العدل في الحكم الجزائي.
(
الوجھ الثالث): ضرورة التفریق في الأحكام الشرعیة
بین المتغیّر والثابت من الأحكام الشرعیة، فقد یشكل حكمٌ ما
المقدارَ المعقول من العدالة في ملابسات زمنیة سابقة ولا یكون
كذلك في زمان لاحق.
وھذا المعنى على الإجمال أمر واضح وبدیھي؛ إذ لا
یسع للإنسان أن یعتبر الأجیال السابقة كلّھا أجیالا سیئة لممارستھا
لبعض الأفعال التي تستقبح الیوم؛ لأنھا كانت تمارس المفاھیم
الفطریة في حدود ما یسمح بھ الفھم والإدراك الإنساني آنذاك.. فلا
یصح القول مثلاً : إن آبائنا كانوا ظالمین في ممارستھم لبعض
الأسالیب في تأدیب أولادھم؛ فإنھم لم ینطلقوا في ذلك من مجرد
الانفعال، بل كان تأدیبھم بحدود المعقول بحسب ما تسمح بھ
ثقافتھم ما لم یجافِ الفطرة ، وقد تحرّوا فیھ وجھ الحكمة آنذاك
بالنظر إلى تقدیرھم لمضاعفات العقوبة بما دون ذلك، ولیس من
الضروري أن یكون ھذا الحكم في ھذا الزمان كذلك أیض اً.
وعلیھ: فإن اعتقاد المرء بأن أمور اً محددة ھي من الظلم
من زمان نشأة أول إنسان على الأرض إلى الآن بلا اكتراث
بالثقافة والبیئة والظروف والأعراف والعادات والتقالید والأماكن
والبدائل المیسورة تفكیر ساذج وغیر ناضج.
والوجھ العلمي والفني في تخریج ھذا الاختلاف ھو: أن
العناوین الفطریة وإن كانت ثابتة في أصولھا العامة في الضمیر
الإنساني ، ولكنھا یجوز أن تختلف في تطبیقاتھا وأدوات تنفیذھا
والأعراف الحامیة لھا ممّا یجوز أن تختلف باختلاف الأزمنة
والظروف.. وھذا المعنى معروف عند علماء الاجتماع والقانون.
وبذلك یظھر أن من الجائز في الحكم المجافي للفطرة في
مجتمع في الزمن الحاضر ألا یكون كذلك في الأزمنة السابقة؛ فإذا
9
قُدِّرَ كون الحكم الوارد في الشریعة من المتغیر لم یكن ھناك من
محذور في البین.
15
15
[مناشئ تغیر الحكم]:
إن لتغیّر الحكم مناشئ ثلاثة في الفقھ والقانون..
الأول: نسخ الحكم وتغییره من قبل المشرّع.
الثاني: أن یكون الحكم ولائیاً جعلھ الحاكم وفق المصالح المتغیرة باختلاف الأمكنة
والأزمنة. وذلك لأن كلّ نظام تشریعي كما یحتوي على عناصر ثابتة فإنھ یترك مساحة یخوّل فیھا
القوة التشریعیة في الدولة للتقنین فیھا وفق المصالح المتغیرة مع رعایة الأصول العامة للتشریع.
وعلیھ: فإذا كان الحكم الشرعي مجعولاً من قبل الحاكم على أساس صلاحیاتھ القانونیة
فیمكن تغییره لاحقاً من قبل ولي الأمر، ولا یعد ذلك من النسخ المعروف اصطلاحاً.
وقد یختلف الفقھاء في كون جملة من الأحكام الشرعیة من الأحكام الأولیة (الثابتة) أو
الولائیة القابلة للتغییر من قبل من لھ الصلاحیة التشریعیة.
الثالث: أن یكون الحكم الأولي محدود اً بحدود ارتكازیة یلتفت إلیھا أھل الفقھ والقانون
الذین یطلعون على الأصول العامة للنظام التشریعي المفترض، وعلى المناحي المنظورة بالتشریع
الخاص فیوجب ذلك عدم انطباق الحكم في حال اختلاف الظروف والملابسات.
وقد یمثل لذلك بملكیة المقاتلین لأربعة أخماس الغنیمة؛ فإنھ ناظر إلى الأسلوب السابق
للقتال وأدواتھ المعروفة حیث كان المقاتل ھو صاحب الجھد نوعاً في التدریب والتجھیز للقتال دون
الحاكم، فلا یحتمل ثبوت ھذا الحكم وفق الأسلوب الحدیث الذي یكون ذلك ك لّھ شأن الدولة، بأن یحكم
بملكیة المقاتلین للطائرات والدبابات والمدافع التي یستولون علیھا مثلاً .
[
تحدید الثابت والمتغیر في الشریعة]:
وأما تحدید الثابت والمتغیّر في الشریعة، فھناك منحیان اجتھادیان یختلف بحسبھما مقدار
الثابت والمتغیر في الشرع، وھما:
1.
منحى الأخذ بالنص، ویرى ھذا المنحى تعیّن الأخذ بالنص على وجھ الإطلاق، فتكون
عامة الأحكام المذكورة عنده من قبیل الثابت التشریعي.
2. منحى الأخذ بالمقاصد أو الفقھ المقاصدي ، ویرى تحكیم الذوق الفقھي في تأمل
اتجاه النص ومقصده وفق الأصول والمقاصد العامّة للشریعة، ویستنبط بموجبھ حدوداً للحكم المفاد
بالنص یؤدي إلى تجویز اختلاف الحكم وفق المتغیرات بحسب الزمان والمكان. ویوجد في ضمن
ھذا المنحى اتجاھات عدیدة یتوسع بعضھا في تحري المقاصد التشریعیة العامة ویعتبر كثیر اً من
الثوابت وفق المنھج المشھور من جملة المتغیرات.
وتتّفق ھذه المناحي الاستنباطیّة رغم الاختلاف بینھا على قواعد ثلاثة للاستنباط:
القاعدة الأولى
: عدم إطلاق جمیع الأحكام الواردة لجمیع الأزمنة، لا لأن لنا سلطاناً على
نسخ الحكم، بل لأن بعض الأحكام في الأصل ولائیة أو محدودة بحدود تختلف معھا باختلاف البیئات
والظروف والملابسات حسب الأزمنة، نظیر مثال الغنیمة الذي مرّ ذكره.
وعلیھ: فلا بد لمن یتصدى لاستنباط الموقف التشریعي من أخذ ھذه الحقیقة بنظر
الاعتبار.
القاعدة الثانیة
: أصالة الثبات في الحكم والقانون؛ بمعنى: أنھ لا یصح البناء على
اختلاف الحكم باختلاف الزمان لمجرد بعض وجوه الترجیح والاستحسان، بل لا بدّ من الاستیثاق فیھ
حتى یكون المخرج ناضجاً ومدروساً ومؤكداً.
وھذا مبدأ عقلائي عام في الدساتیر والقوانین، فإن العقلاء یبنون علیھا حتى یثبت
المخرج البیّن عنھا.. وھناك اعتبارات عدة یتعارف الأخذ بھا لدى العقلاء للتوسعة في الإبقاء على
الحكم زماناً ومكاناً:
(منھا): أن بقاء القانون في نفسھ أمر مناسب بحسب الذوق القانوني، ومن ثَمَّ یكتفى في
إبقاء القانون بما لا یكتفى بھ في إحداثھ، فلا یرفع الید عنھ إلا بمبرر قوي؛ ولذا تجد أن الدستور
الوضعي في كثیر من الأحیان قد جُ عل من قبل جیل سابق وفق أعراف ومقتضیات قائمة آنذاك،
ف یُبنى على بقائھ رغم اختلاف الأجیال وتجدد الأحوال، أخذاً بمبدأ الثبات والاستقرار في القانون.
(ومنھا): العنایة بالتواصل التاریخي في ذھن المجتمع بین ماضیھ وحاضره؛ اعتزازاً
بماضیھ، وعنایة بالقیم الفاضلة التي یلھمھا ھذا الماضي في ذھن أھلھ مما یساعد على الحفاظ على
تلك القیم، ویقیھ من الاھتزازات التي یمكن أن تحدث في عامة أفراده في تلك القیم جراء تغییر
10
(
الوجھ الرابع): ضرورة الفرق بین الحكم النافذ والحكم
غیر النافذ، فثبوت حكم ما في الشریعة لا یقتضي نفوذه في جمیع
الأحوال وفق بعض المناحي الفقھیة، كما ھو الحال في القانون
الوضعي أیضاً حیث نلاحظ تعلیق بعض القوانین، من غیر إلغاء
لھا -ولو لفترة من الزمن- من جھة الطوارئ أو غیرھا.
وتوضیح ذلك: أن ھناك منحَ یان في الفقھ تجاه ھذا
الموضوع:
(أحدھما): یرى أن كلّ حكم ثابت في الشرع فھو نافذ لا
محالة، ولا بدّ من تنفیذه من قبل السلطة التنفیذیة، وإلا كان ذلك
تعطیلاً للشرع.
و(الآخر): یرى أن من الجائز تعلیق بعض أنواع الحكم
الشرعي من غیر إلغائھ لعوامل تصحح ذلك، فیعمل على
الحكم البدیل في ظروف تعلیقھ.. ومن ھذه العوامل مثلاً : الرفق
والمداراة بالناس فیما لا یحتملونھ، سواء كان عدم الاحتمال فكریاً -
بأن یؤدي تنفیذه إلى سوء الظن بالدین ومبادئھ التشریعیة-، أو
عملیاً -بأن یؤدي تنفیذه إلى مفاسد عملیة من اضطرابات اجتماعیة
وغیرھا یكون التوقّي منھا أھمّ من تنفیذ الحكم-؛ فیحقّ للحاكم تعلیق
الحكم أخذاً بمقاصد الشریعة. ولھذا المنحى شواھده من النصوص
والمواقف الدینیة في رعایة الرفق مع الناس وفق طاقاتھم
ومداركھم مما لا یسع المقام ذكره. وھذا المقدار قد لا یرفع التساؤل
عن مشروعیة بقاء الحكم ولو من غیر تنفیذ فیما إذا قدّر أنّ
بقائھ یخالف الفطرة، ولكنھ یدل على عنایة الشریعة برعایة
المدارك العامة، والتزامھا بالتأكید على أن أصول الشریعة تنطلق
من الفطرة ولا تنافیھا بحالٍ ، كمنھج عام وأساسي في إشاعة روح
الفضیلة والحكمة في المجتمع الإنساني، والاھتمام بالبعد التربوي
للأحكام وتلقّي المجتمع لھا. 16
القانون. نعم قد یحدث الاھتزاز بإبقاء القانون في نفوس نخبة من المجتمع، إلا أن الاھتمام بعامة
الناس الذین ھم الطبقة الأوسع مقدّم على رعایة أذھان النخبة.
وھذا العامل أمر معقول وإن كان لا ینبغي الإفراط في الأخذ بما یجافي العقل والمنطق
الفطري الإنساني.
نعم قد یفرض لزوم مفاسد كبیرة من تغییر القانون بالقیاس مع الملاحظات المتوجھة إلیھ
فیكون إبقاؤه أفضل بطبیعة الحال.
القاعدة الثالثة
: ضرورة عدم مصادمة الحكم حدوثاً وبقاءً مع المبادئ العقلیة الواضحة.
وھذه قضیة یتفق علیھا الفقھاء، وإن اختلفوا في تخریجھا، فمنھم مَن یخرجّھ على أساس قیمة الحكم
العقلي، ومنھم مَن یخرجھ على أساس اعتماد الشارع على تلك المبادئ واتخاذھا أصولاً تشریعیة
تحرجاً من أن یلزم الشارع بحدود لا یحقّ لھ تجاوزھا؛ فمتى شُخّص منافاة بقاء الحكم مع القانون
الفطري كان ذلك بنفسھ نافیاً لثبوتھ.
16
وسیأتي تفصیل الأمر الرابع (ضرورة التفریق بین الدین والشریعة والفقھ وأقسام الفقھ) في الحلقة
القادمة إن شاء لله تعالى.