دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 14)
1
منهج التثبت في شأن الدين
(الحلقة الرابعة عشرة)
تقدم في الحلقة السابقة توضيح الوظيفة العملية في حالتي الإذعان
بحقانية الرؤية الدينية وعدمها..
[الوظيفة في حال احتمال المرء لصدق الرؤية الدينة وعدمه]:
قد يظن أنه يكفي في معذورية المرء تجاه الدين عدم إحرازه لحقانيته;
لأنّ المهم في شأن الدين هو العقاب الأخروي, وهذا العقاب لا يترتب في
حال الجهل بالحكم; لقاعدة عقلائية وهي: أنه لا عقاب من دون بيان; فمَ ن لم
يصِ لَ ه بيان الدين -على وجه يوجب إذعانه به- فإنه يكون معذوراً في عدم
إيمانه بالدين.
ولكن هذا الظن فيه تسطيح لحقيقة الدين من عمقه -الذي عرفناه
في الفصل الأول- إلى مجرّد العقاب على مخالفة التكليف الإلهي, وهو مع ذلك
ليس صائباً .. والوجه في ذلك: أن احتمال حقانية الدين يكون على وجهين:
١. أن يكون احتمالا أولياً قبل البحث والتثبّ ت اللائق بأهمية المحتمل
وآثاره الخطيرة, وهو المعبّر عنه ب(الاحتمال غير المستقر).
٢. أن يكون احتمالا ناتجاً عن البحث والتثبّ ت; حيث يستقرّ الإنسان
على الشك بعد رحلته في طلب الحقيقة والبحث عنها والعناء في سبيل
إدراكها, وهو المعبّر عنه ب(الاحتمال المستقر).
ولكلّ من هاتين الحالتين حكمها حسب القانون الفطري..
[حالة الاحتمال قبل الفحص]:
أما في حال الاحتمال غير المستقر: فقد مر -في حلقة سابقة- أنّ قيمة
هذا الاحتمال هي قيمة ما يمكن أن يبلغه من درجات على تقدير الفحص
والتحرّي; فإذا كان المرء يحتمل أن يبلغ احتماله إلى درجة العلم -مثلاً - كان
قيمة احتماله قيمة العلم, ولم يكن معذوراً .
2
ولذا, لا شك في القوانين الحديثة أنّ مَ ن أهمل مراعاة التشريعات
المنشورة بشكل رسمي لم يكن معذوراً , كما أن مَن أهمل الاطلاع على الإنذار
القضائي الصادر بحقه في الجرائد الرسمية يعتبر بحكم المطلّ ع; فلو نشر
استدعاء الشخص ولم يحضر صدر عليه الحكم غيابياً . 1
وهكذا يتّضح أن لا معذورية للمحتمِ ل في هذه الحالة; فعليه أن
يتثبّ ت, أو يأخذ حذره من واقعية المحتمل -إن كان ذلك ممكناً -.
ولا فرق في هذا المعنى بين أن تكون قيمة المحتمل من باب الحكمة
أو من باب الفضيلة:
١. أما إذا كانت قيمة المحتمل من باب الحكمة -تحصيلاً للنفع
وتوقّ ياً عن الضرّ ر-; فإنّ الضرر المحتمل الخطير قبل البحث عنه وتحرّيه مما لا
شك في لزوم التحرّز عنه بحكم الفطرة.
٢. وأما إذا كانت قيمة المحتمل من باب الفضيلة -كما هو الحال في
الإيمان بالله تعالى والإذعان به, شكراً لنعمه وتقديراً لإنعامه-; فلأنّ معنى
الكفران والعقوق يرتسم في حالة الجهل المتعمّد; فمَن أعرض عن معرفة
الخالق ورسالته وأنبائه عن عمد كان ذلك كفراناً منه لنعمه.
ويمكن تشبيه هذا الشخص المُعرض بمَ ن يتعامل مع شخص -
يحتمل أن يكون أباه الذي أولده وربّاه واعتنى به, ولا يزال يرتع فيما يتمتع به
من إمكانات بين نعمه- على أنه أجنبي عنه وليس صاحب نعمة عليه; فلا
يعتد به, ولا يهتم بمعرفة انتسابه إليه -حتى يذعن بأبوته, ويشكره على
إنعامه, ويتواضع له إزاء معروفه-; فإنه لا شك أنّ مثل هذا الشخص يعدّ
عند العقلاء عاقّاً لأبيه -إذا كان ذاك أباه فعلاً -.. هذا مع اختلاف المستوى
في هذا المثال عن الأمر في شأن الله تعالى اختلافا هائلاً .
وعليه: فإنْ صحت الرؤية الدينية فإننا في محضر الله سبحانه وتعالى,
وهو يحبّ نا -لأننا مخلوقاته-, ويحبُّ منّا مراعاة الأدب معه, والشكر لإنعامه,
وهو يشهد تصرفاتنا وسلوكياتنا تجاهه; فلو لم نتعرف عليه كان ذلك نكراناً
لجميله.. فإنّ أوّ ل مراتب العرفان للجميل المعرفة والإذعان لفاعله بأنه
صاحب النعمة.
1 كما لا شك بين علماء الأصول -على العموم- في أنه لا يمكن إجراء البراءة عن التكليف
المحتمل قبل البحث عن الحجة.
3
وقد وردت أحاديث لطيفة في بيان محبة الله سبحانه وتعالى لعباده
منها حديث مروي عن رسول الله (ص): (للهََُّ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ المُْؤْمِنِ مِنْ
رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَ يْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ , فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ
وَقَدْ ذَهَبَتْ , فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْ رَكَهُ الْعَطَشُ , ثُمَّ قَالَ : أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ
ف يهِ , فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ , فَوَضَعَ رَأْ سَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ , فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ
رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ , فَاللهَُّ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ المُْؤْمِنِ مِنْ
. هَذَا بِرَاحِلَتِهِ ) 2
فإذا كان الله -سبحانه وتعالى- مع خلقه على هذه الصفة, كان عدم
التثبّ ت في شأنه -في مَ ن يحتمل ذلك عقوقاً محتملاً - جديراً بالتجنب.
ثم إنه إذا كان من المحتمل في شأن الله –كما جاء في الرؤية الدينية-
أنه –سبحانه- يحب الفضائل ويكره الرذائل, وقد بعث رسولا إلى العباد..
فكيف يصح للإنسان أن يعرض عن التحقّق حول رسالة الله, ويتمسّك بما
شاء من العقائد, ويسير على ما سار من الأعمال? -لاسيما إذا كان قد توصل
إلى وجود الله, ولكنّه يشك في الرسالة (كالربوبيين)-; فإن هذا انتهاك عظيم
. لحقه المحتمل إذا كان ثابتاً, كما ورد في الآيات: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ 3
وعليه: فلا ينبغي للإنسان أن يبقى على الاحتمال غير المستقر; بل
عليه أن يتثبت ويحذر من مطابقة هذا الاحتمال للواقع.
وينبغي أن يُلاحظ أن الاحتمال لا يخرج عن كونه غير مستقر
بمحض الاطلاع على مؤشر أو مؤشرات نافية أو موجبة للتوقف -يقف
عليها الشخص في هامش اهتماماته في الحياة-; فإنّه لا بدّ في الاحتمال غير
المستقر من استيفاء المؤشرات المحتملة والجدّ في متابعتها.
ولكن المشكلة أن الإنسان قد يريد أن لا يبرح مكانه ونمط فكره
وحياته, ويصعب عليه أن يهاجر في تأملاته وتطلعاته وأبحاثه لطلب الحقيقة
والاهتمام بها, حتى كأنه يبحث عن المعاذير التي تبرّر لنفسه مآربها أو
تكاسلها.
92 .. ونظير ذلك حديث مروي عن الإمام الباقر (ع), لاحظ الكافي / 2 صحيح مسلم/ ج 8
. ج: 2, ص: 435 , ح: 8
. 3 لقمان/ 13
4
[حالة الاحتمال بعد الفحص]:
وأما إذا كان احتمال حقانية الدين من قبيل الاحتمال المستقر فعلاً ;
بأن أصبح الشخص بعد رحلته في سبيل الحقيقة شاكاً واقعاً ومتحيّراً في
صدق الدين وعدمه..
فالصحيح: أن الموقف الفطري يقتضي أن يعتدّ المرء بالرؤية الدينية في
هذه الحالة, ويأخذ حذره تجاه احتمال واقعيّتها; وذلك من جهة خطورة
المحتمل, سواء بالنظر إلى مقتضى الحكمة أم بالنظر إلى مقتضى الفضيلة..
١. أما بالنسبة إلى مقتضى الحكمة: فلما سبق من أنه يقتضي معرفة
الإنسان بالحقائق الكبرى; لما لها من آثار خطيرة ينبغي أن يحذر المرء من
مضاعفاتها ويأخذها بنظر الاعتبار.
٢. وأما بالنسبة إلى مقتضى الفضيلة: فالأمر كذلك; فإن عظمة حق
الخالق والمنعم -المحتمل حسب الفرض- يقتضي الاهتمام به, وتجنب ما
يكون عقوقاً وكفراناً بالنسبة إليه.
والواقع أن مَ ن وعى حقيقة المحتمل وخطورته وتأمّ له بنحو حيوي
لا يمكن أن يجادل في هذا الأمر.
وإذا كنّا نجد بعض الناس يقرّ ون بأنهم يحتملون حقانية الدين لكنهم
لا يعبَ ؤون بهذا الاحتمال, فهُ مْ في الحقيقة يتكلمون بن فَ س المنكر المستبعد لهذا
الاحتمال, أو ينطلقون من عدم الوعي له; فإن الإنسان متى لم يتلق أمراً تلقّياً
واعياً وحيوياً وجاداً استهان به وهان عليه, وهذا من المحاذير الفكرية التي
يبتلي بها الإنسان -على ما سيأتي توضيحه في قواعد التثبت-.
ولعلّ هذا يفسّر ما ادعاه بعض من أنكر الدين: من أن هناك جمعاً
غير قليل من الناس في الغرب يشكّكون في حقّانية الدين ولكنه لا يبدي ذلك
ويجري في ظاهر ما يبديه على الإيمان.
5
فلو صحّ هذا الادّعاء 4, فمن الممكن أن يكون من عوامل هذه
الظاهرة هو الفاعلية الارتكازية الباطنة لاحتمال حقانية الدين, مما يوجب
رعاية شأن هذا المحتمل.
ولا ينافي ذلك إنكار بعض آخر ممّن بحث في هذا الموضوع فنيّاً
لفاعلية هذا الاحتمال; لأن من المعاني الارتكازية ما يكون بدرجة من الظرافة
بحيث يخط ئُ ه البحث الفنّي إذا لم يملك الباحث الأدوات الفنية الكافية
لتشخيص الموضوع أو اقترن بضعف الشعور الارتكازي; فإن ذلك يؤدي إلى
استسلام الباحث للعجز النفسي بسرعة ويجري على خلاف الارتكاز
الإجمالي.. وهذه حالة معروفة وسيأتي توضيحها في الفصل الثالث إن شاء الله
تعالى.
إذن: احتمال حقّانية الدين احتمال مستوجب للاهتمام.
[إشارة القرآن إلى قيمة احتمال صدق الدين]:
وقد يشير إلى ما ذكرنا -من أن من المناسب عناية المرء باحتمال صدق
الدين- بعض الآيات القرآنية..
١. الآيات التي دلّ ت على أن مَن كان يرجو بقاءً بعد هذه الحياة ولقاءً
لله سبحانه ينبغي عليه -بحكم العقل- أن يتجنب الشرك ويعمل صالحاً, قال
تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا
. لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالحًِا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ 5
فيقال: إن التعبير بالرجاء إنما يكون في الأمر المحتمل دون المتيقن;
فوقوع التعبير في الآية الشريفة إنما هو لنكتة بلاغية: وهي الإشارة إلى أن
الرجاء كافٍ في تحفيز الإنسان على العمل الصالح وتجنب الشرك بالله فيما لا
دليل على مشاركته إياه في الألوهية.
4 على أننا لا نثق بصحّة هذا التحليل; إذ من المحتمل أن ما كان يدور في أذهان الفئة الذين أشير
إليهم هواجس محضة وليست شكوكاً فعلية, وهذه الهواجس قد تخطر من جهة خطور سؤال غير محلول في
الذهن, أو من جهة الاطلاع على حركة التشكيك مثلاً.
. 5 الكهف/ 110
6
ومثل هذا التعبير جارٍ في الاستعمالات; فإن المرء قد يعبر بالظن
والرجاء والاحتمال في مواضع العلم كأسلوب بلاغي للإشارة إلى الاكتفاء
بذلك; فيقال -في الردع عن أمر يعلم المخاطب بضرره أو الترغيب إلى أمر
يعلم بنفعه-: (ألا تظن كذا) و (ألا تحتمل كذا) و (ألا ترجو كذا)..
٢. الآيات التي عُلّل فيها عدم اهتمام الكفّار بأنباء الدين وحقائقه
باليأس منها, كقوله تعالى: ﴿لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهَُّ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ
الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ﴾ 6, وفي ذلك نحو دلالة على أن
عدم الاهتمام بتلك الحقائق إنما يناسب اليأس الجازم منها, ولو كان للمرء
رجاء قليل كان من الحكمة الاهتمام بها.
٣. وقد تستفاد الإشارة إلى هذا المعنى أيضاً ممّا وقع فيه التعبير بالظن
في بيان اعتقادات المؤمنين, كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ
وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ 7, وهذا وارد إذا كان المراد بالظن في مثل هذه الآية ما
يقابل اليقين, كما وقعت المقابلة بينهما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهَِّ
ا وَمَا نَحْنُ Õ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَن
. ب مُسْتَيْقِنِينَ ﴾ 8
وعليه: فيكون في التعبير بالظن إشارة إلى أن الظن بملاقاة الله
سبحانه وتعالى والرجوع إليه كافٍ في ترتيب الأثر اللائق, والاعتناء بالرسالة
التي أتى بها الأنبياء (ع).
وقد يحتمل أن لا يكون الظن في الآية بالمعنى المقابل لليقين, بل
يكون بمعنى الاعتقاد غير الحسي; فلا يكون التعبير به مشيراً إلى هذه النكتة
بطبيعة الحال.
٤. وقد يستفاد هذا المعنى أيضاً من أسلوب التعبير في قوله تعالى:
﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ
. 6الممتحنة/ 48
. 7 البقرة/ 46
. 8 الجاثية/ 32
7
عَلَ يْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ 9 فيقال: إن هذا الأسلوب إشارة إلى
. أنه ينبغي لهم الاكتراث باحتمال حقانية المدعي للرسالة 10
. 9 هود/ 28
10 وورد أيضاً هذا المعنى في بعض الروايات عن الإمام الرضا(ع); فقد روى الكليني في الكافي
, ج: 1, ص: 78 ,ح: 3 والصدوق في عيون أخبار الرضا ج 1:, ص: 120 , ح: 28 , وفي التوحيد ص: 250
وورد في الاحتجاج أيضا مرسلاً عن الإمام علي بن موسى الرضا(ع) في محاجة له مع بعض الملحدين: (قَالَ
دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ عَلَى أَبِي الحَْسَنِ ع وعِنْدَه جَمَ اعَةٌ فَقَالَ أَبُو الحَْسَنِ ع أَيُّهَا الرَّجُلُ أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْلُ
قَوْلَكُمْ ولَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُونَ ألَسْنَا وإِيَّاكُمْ شَرَعاً سَوَاءً لَا يَضُرُّنَا مَا صَلَّيْنَا وصُمْنَا وزَكَّيْ نَا وأَقْرَرْنَا فَسَكَتَ
الرَّجُلُ ثُمَّ قَالَ أَبُو الحَْسَنِ ع وإِنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَنَا وهُوَ قَوْلُنَا ألَسْتُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ ونَجَوْنَا).
والكليني والصدوق عاشا في القرن العاشر الميلادي, وقد نقلا الرواية عن الإمام الرضا(ع)
الذي عاش في القرن الثامن الميلادي, نعم الإسناد المذكور إلى الإمام(ع) ضعيف في نفسه; لأنه ينتهي في كلا
المصدرين إلى محمد بن علي أبي سمينة ومحمد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا(ع) والأول مضعّ ف والثاني
مجهول.
ولكن قد يرجّح الوثوق بما روي عن الإمام الرضا(ع) في المحاجة مع الفرق المختلفة لملائمة لها
مع ظروفه التاريخية ولاشتمالها على مضامين تليق بموقعه ومكانته العلمية.
وقد احتج بهذا البرهان أيضاً الرياضي الفرنسي ليز باسكال ( 1623 1667 م) -وهو الذي
وضع الحجر الأساس للنظرية الحديثة لحساب الاحتمالات واخترع الآلة الحاسبة-, وقد اشتهر احتجاجه
ببرهان استخدم فيه حساب الاحتمالات, موضحاً من خلاله أن عاقبة الدين أفضل من عاقبة الكفر.
ولخُص بيانه: بأنه إن آمنّا بوجود الله, فإنْ كان الله موجوداً فيكون جزاؤنا الخلود في الجنة -وهو
ربح غير محدود-, وإنْ لم يكن موجوداً فلن نجزى -وهذه خسارة محدودة-, وإنْ لم نؤمن بالله تعالى, فإن
كان الله موجوداً فسيكون جزاؤنا الخلود في جهنم -وهذه خسارة لا محدودة-, وإن كان الله غير موجود
فسنكون قد عشنا حياتنا -وهذا ربح محدود-.
هكذا لخص هذا البرهان.
وفي صياغة البرهان بعض المسامحة; لأنّه يعطي انطباعاً بأن علينا أن نؤمن بالله قلباً حتى وإن
شككنا في وجوده, وأن الله سبحانه وتعالى يعاقبنا إنْ لم نؤمن به عقوبة أدبية, وإن كان عدم إيماننا لعدم
التوصل إلى دليل مقنع.
وهذا انطباع خاطئ شائع في الأوساط المسيحية, وهو مخالف لمبدأ عدل الله سبحانه; فإن تكليف
مَن لم يجد دليلاً على شيء بالإيمان القلبي بوجوده تكليف بغير المقدور, ومعاقبته على عدم الإيمان ليست
عدلاً. والثابت في الإسلام أن الله سبحانه لا يكلّف بغير المقدور ولا يعاقب على تركه كما جاء في القرآن
الكريم: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهَُّ نَفْسًا إ لَّا وُسْعَهَا﴾, وجاء في من لم يستطع الهجرة إلى دار الإيمان ليؤمن بالعقائد
الصحيحة: ﴿لَّا المُْسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُ ولَئِكَ
وا غَفُورًا﴾. Õ عَسَى اللهَُّ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كَانَ اللهَُّ عَفُ
ولكن رغم هذه المسامحة, فإن روح البرهان يرجع إلى ما ذكرناه من لزوم الاهتمام بالدين حتى
على تقدير عدم البتّ به.
وقد نوقش في هذا البرهان بمناقشات عديدة:
8
[مبنى نفي قيمة احتمال حقانية الدين ومناقشته]:
ولكن هناك من ظن أن احتمال حقانية الدين لا قيمة له, ولا يجب
على صاحبه الاعتبار به.
وممّا يمكن أن يستند إليه هذا الموقف: المناقشة في أحد الأركان الثلاثة
للمعادلة الفطرية المتقدّمة في العناية بالاحتمال, وهي: الاحتمال والمحتمل
والمؤونة.
أما ركن الاحتمال, فقد يُقال: إنه قاصر; لأن احتمال حقّانية الدين
ليس بصالح للفاعليّة; لأن المطلوب في الدين هو التصديق والإيمان, وهو لا
يتأتّى من الشاك, ولو أظهر التصديق بالدين لم يكن ذلك من حقيقة الإيمان
المطلوب في الدين في شيء.
ولكنّ الواقع أن الاعتبار بالرؤية الدينية ورعاية صدقها لا يتوقّف
على اليقين القلبي, بل يتأتّى في حال الظن والاحتمال أيضاً.
وأما ركن المحتمل, فقد يُقال: إن المحتمل من قبيل التكليف
الشرعيّ, ولا يجب الاعتناء بالتكليف الشرعيّ المحتمل ما لم يبلغه المشرّع إلى
المكلف حسبما يقضي به العقل الفطري, والمفروض في من استقر على الشك
عدم بلوغ الحجة إليه بحيث يوجب بتّه بالتكليف.
ولكنّ الصحيح أن المحتمل في مورد الدين أمر خطير; ومن شأن
الاحتمال بحسب القانون الفطري أن يكون فاعلاً إذا كان المحتمل خطيراً, كما
نجد عليه سيرة العقلاء.
وأما ركن المؤونة, فقد يُدّعى أن لرعاية الدين مؤونة كبيرة على
الإنسان من جهات عدّة أهمها: أنه يوجب تهديد التعايش السلمي الإنساني
من جهة العصبيّات الدينية.. كما نجد أمثلة لذلك.
ولكنّ الواقع أن الدين والرؤية الدينية ليس هو المسؤول عن
السلبيات المتولّدة في المجتمع باسمه; وإنما هي ناشئة عن مزاجيّات غير
منها: ما كان ناظراً إلى توضيح المسامحة التي بينّاها وقد اتضح أنها لا تمسّ روح البرهان.
ومنها: مناقشات أخرى غير واردة تظهر معالجتها لمن اطلع عليها على ضوء البيان الآتي في الحلقة
القادمة إن شاء الله تعالى, ونترك التطرق إليها إيجازاً .
9
معتدلة أو عن استغلال للدين في جهة المصالح الشخصيّة, أو عن الجهل به
وبتعاليمه, بل الدين معين للإنسان على الحياة الفاضلة والسليمة.
ولا بدّ من توضيح القول في شأن كل من هذه الأركان بعض الشيء
تحرّزاً عن الإبهام.. وسيأتي توضيح ذلك في الحلقات القادمة إن شاء لله
تعالى..