الابراهيمية مشروع لدين ومذهب جديد برعاية عالمية , ظاهريا يدعو المشروع الى تقارب الاديان بينما في الحقيقة هو يسعى لدمج الاديان الثلاثة عن طريق إلغاء معالمها واخراجها من مضامينها لصبها في قالب جديد تُصاغ مبادؤه وفق ما يريد المؤسسون للمشروع. الملفت ان التقارب بين الاديان في المشروع هو في الحقيقة تقرب نحو اليهودية الصهيونية على حساب الاديان الاخرى وكمثال على ذلك ما حصل في الثمانينات من القرن الماضي حين اصدرت البابوية الكاثولوكية وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح رغما عن وجود النصوص الانجيلية التي تحمل اليهود صلب المسيح , ولكن الكنيسة تقربت نحو اليهودية بهذا الاجراء وليس العكس. قبل ذلك بسنوات طويلة وتحديدا في القرن 17 تطورالتقارب بين المسيحية واليهودية الصهيونية ليولد التحالف المسيحي-الصهيوني Christian Zionism وهو مشروع يؤمن اليوم ويضمن حماية دولة اسرائيل دوليا ودينيا وللتحالف اتباعه وكنائسه ومؤيديه في انحاء العالم وبالذات في الولايات المتحدة ومن منظري الحركة القس سايروس سكوفيلد الذي ألف كتاب (إنجيل سكوفيلد ) عام 1917، وهو الكتاب الذي أصبح بمثابة المرجع الأول لحركة المسيحية الصهيونية, وقد قامت القوات الامريكية المحتلة في العراق بنشر هذا الانجيل وتوزيعه مجانا على نطاق واسع في العراق تمهيدا للابراهيمية !
صلاة جماعة وفق الابراهيمية
من المبادئ الرئيسية لهذا المشروع تلك التي تخص المسلمين اليوم هي : الغاء او تحوير مفهوم الجهاد في الاسلام بذريعة السلام العالمي ونبذ العنف , فتح الحرية على اوجها لكافة الحركات كحركات التحرر والشذوذ واللاتدين والعلمانية وغيرها وضمان امن وحقوق هذه الحركات دينيا تحت شعار حقوق الانسان وحريته , وكنتيجة لضمان هذه الحرية يأتي التشجيع لاتخاذ مطلق الحرية في الفتاوى الدينية لكسرها وتحريفها وتقديم تنازلات حتى يتقبلها الطرف الاخر , وتحت شعار التسالم والتعايش تسعى هذه الحركة الى ازالة النصوص او على الاقل تأويلها, تلك التي تدين اعتقاد باقي الاديان!
بدأت فكرة دعوة المسلمين عمليا لهذا المشروع في التسعينات من القرن الماضي ووسع هذا المشروع نشاطه بين المسلمين بدعوى ان الاديان الثلاثة اصلها يعود الى ابراهيم ع ابو الانبياء ومن الضروري ايجاد جسور تفاهم وتنازلات في سبيل التوحد والتقارب بين الاديان , كانت الدعوة في البداية صامتة وتدريجية تبحث عن مؤيدين ومبشرين لتجنيدهم وقد تم ذلك بمرور السنوات وتم تدريب المجندين والمتطوعين بالدعوة للعلمانية وفصل الدين عن الدولة وتجاوز قيود الفقه في الدين , ومن نتائج تجاوز قيود الفقه والتحرر من قوانينه قام نسوة بأمامة الصلاة للرجال والنساء معا في اوربا اظهارا لحرية التلاعب بالنصوص , وظهرت نساء يلقين خطب صلاة الجمعة في المساجد أيضا وبدون اللباس الشرعي بحجة المساواة مع الرجل, وظهر تقليد استماع الموسيقى الهادئة عند ترتيل القرآن الكريم وغيرها, واصبح المشروع اليوم جاهزا, اما من ناحية ازالة النصوص من الكتب فقد ظهرت مؤخرا مبادرات الغاء المفاهيم القرآنية وتأويلها وحتى ازالتها في سبيل ترسيخ مفاهيم هذا المشروع والدين الجديد وتجريد الاسلام من مفاهيمه ,ومثال على ذلك ما تم في العام الماضي حيث قامت مؤسسات دينية في السعودية بطبع مصاحف (قرآن كريم) ازالت منه ايات ذم اليهود وغيرت اسماء بعض السور وغيرت ترتيبها وتفسيرها كذلك ارضاء لسياسة الكيان المحتل في فلسطين , وقبل أيام أقرت وزارة التربية والتعليم في مصر مادة دراسية جديدة أسمتها بمادة القيم المشتركة وفيها يتم تدريس الطلاب نصوص من التوراة والتلمود بذريعة التقارب بين الاديان الابراهيمية. اما في الامارات فقد تم بناء معبد فخم في مدينة ابوظبي يضم الديانات الثلاث (اليهودية, المسيحية , الاسلام) في محل واحد تحت مسمى الابراهيمية , تُقام في المعبد الصلاة للديانات الثلاث والاحتفالات الدينية والاجتماعات والمشروع يسعى نحو ضم أقليات دينية غير الاديان الثلاثة ايضا ولكن لم يعلن عن ذلك بعد , وسيتم افتتاح المعبد الابراهيمي رسميا هذا العام في ابو ظبي وسيحضره حاخامات من دولة الاحتلال .
الملفت من ما تقدم اعلاه ان حركات التقرب هذه تتقرب نحو المسيحية الصهيونية بتقديم التنازلات والتأويلات من غير ان تغير اليهودية الصهيونية اي شئ , أي أنه تقرب من جانب واحد فقط .
ليست مصادفة ان اتفاقية السلام والتطبيع بين الإمارات والكيان المحتل حملت اسم (اتفاق إبراهيم) نسبة للمشروع الابراهيمي, وهذا يكشف طبيعة الاتفاق الذي رعته أمريكا لعقد الاتفاقية, كذلك لم يكن اطلاق اسم ( التطبيع الابراهيمي) على تطبيع البحرين مع الكيان المحتل اعتباطا.
معبد الابراهيمية في ابو ظبي
...............
كل مشروع ذو اتجاه ديني لابد له من ارث تاريخي وديني ولو مزيف في سبيل اثبات اصالته , والمشروع الابراهيمي اتخذ من النبي ابراهيم ع اساسا لتسويق مفاهيم الابراهيمية بحجة انه أبو الانبياء , واعتمد المشروع على ادعاء توراتي مزور يزعم أن ابراهيم ع كان مولده في العراق في مدينة اور(الناصرية), التزوير في الادعاء يظهر جليا لمن يحققه تاريخيا ويراجع نسخ اخرى للتوراة ليتبين ان التزوير جاء متعمدا في سبيل جعل ولادة ابراهيم ع في العراق بالقرب من نهر الفرات من اجل تحقيق مقولة الوطن الممتد (من الفرات الى النيل)! فوفقا لميلاد ابراهيم ع المزعوم في جنوب العراق ووفق مسار رحلته نحو مصر وفلسطين كما تزعم التوراة, فإنه (ابراهيم ع) قد خطَّ حدود الوطن القومي لليهود من الفرات الى النيل حسب الرواية التوراتية ووفق ما تدعيه دولة الكيان المحتل اليوم التي تبنت هذا التزوير لشرعنة وجودها دينيا في فلسطين, وستبقى تتبنى هذا التزوير في سبيل شرعنة وطنها القومي مستقبلا الممتد كما تزعم من الفرات الى النيل ! الملفت ان اغلب كتب التراث الاسلامي ايضا قد تبنت ادعاء مولد ابراهيم في العراق استنادا الى روايات مستقاة من الاسرائيليات في التراث الاسلامي وهي روايات قابلة للدحض والتفنيد, ولكن مع ذلك يتعصب لهذا الادعاء الكثير من المسلمين ويصرون على ان ابراهيم ع حقا قد ولد في العراق , وهو امر يبين كيف ان التلقين الاجتماعي والديني على المدى الطويل يترك اثرا من الصعب ازالته من مفاهيم الجماهير .
لم تترك الحكومة البريطانية هذه الحبكة التوراتية لمحل مولد ابراهيم ع بلا تعزيز, فبعد اصدارها لقراروعد بلفورعام 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين, ادعى بريطاني موالي للحكومة البريطانية- وهو منقب آثار اسمه تشارلز ليناردو ولي- ادعى اكتشافه لبيت ابراهيم ع في جنوب العراق عام 1924 عن طريق اكتشاف حجر مكتوب عليه اسم (ابرام) كما زعم ,وهكذا بهذه البساطة اثبت المنقب البريطاني محل مولد ابراهيم وفقط بوجود حجر يحمل اسم ابرام , فيا للعجب ! هذا الدليل (المفبرك) الساذج ايدته الحكومة العراقية التابعة لبريطانيا آنذاك وتبنته , وهلل اهل العراق فخرا بأن يكون مولد أبو الانبياء في بلادهم مقرونا باثبات تنقيبي عملي بريطاني! الملفت هو تقارب المدة الزمنية بين وعد بلفورعام 1917 وبين اكتشاف بيت ابراهيم بين عام 1922- 1924 والملفت كذلك ان مصدرهما دولة واحدة وهي بريطانيا الممهدة لاقامة الدولة العبرية في فلسطين , فزعم اكتشاف بيت ابراهيم ع جاء مكملا ومعززا لوعد بلفور باقامة الوطن القومي في فلسطين كبداية ولكنه سيمتد بعدها الى حدود وطن ابراهيم ع فيكون من الفرات الى النيل , فابراهيم المولود على ضفاف الفرات في العراق والمهاجر الى فلسطين ووادي النيل كما تزعم التوراة قد خط وحدد وبأمر آلهي حدود الوطن القومي للدولة العبرية ,فتأمل الحبكة التوراتية المزورة , وتأمل اكتشاف المنقب البريطاني المعزز لهذه الحبكة التوراتية والمتناسق مع وعد بلفور!
التأكيد على ان ولادة ابراهيم ع هي في مدينة اور (الناصرية) في العراق لم يُترك للنسيان , فبعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 ظهر معمم عراقي معروف واتباع له في العراق بالترويج لمشروع الابراهيمية واكد (كما قال وينشرولايزال) ان ابراهيم ع ولد في اور بالعراق وإذن- حسب زعمه- من حق المسلمين وواجبهم ان يأتوا للحج والصلاة في هذا المكان ووصل الامر انه ادعى ان الكعبة الحقيقية هي في أور الناصرية, والصلاة اولى ان تكون نحوها, دعوة كما يتبين لتهميش الكعبة في مكة المكرمة لكسر ركن الحج في الدين وقد مرت محاولات كهذه في التاريخ قبلا في عهد القرامطة وقبل ذلك في عهد الأموي عبد الملك بن مروان عندما جعل الحج نحو فلسطين بدلا من مكة , فمحو ركن الحج من الدين يتم بهذا التزوير التاريخي الجغرافي الرخيص الذي حتما يشجعه المشروع الابراهيمي الساعي لابطال الفروض واركان الدين بحجة التقارب مع الاديان الاخرى ! هذا الادعاء الذي قال به المعمم العراقي -لجعل اور كعبة المسلمين- تناساه الناس مع الأيام لانشغالهم باحداث اخرى ولكن تناسي الامر لا يعني عدم وجوده ,ولايعني ان ايدي التخطيط كلَت عنه بل هي مستمرة لتجذير هذا المفهوم (المشروع الابراهيمي) والتبشير له باستعمال كل الحيل الاجتماعية والنفسية والتأثيرات التاريخية وكذلك الدعم المالي وفوق ذلك باستعمال الغطاء الديني , فهو كما يتبين مشروع متكامل يشبه مشروع الديانة البهائية الذي تكفلته بريطانيا فيما مضى , فذلك المشروع يلتقى مع توجهات المشروع الابراهيمي بحيلة توحيد الاديان للوصول الى اذابتها وتجريدها من مفاهيمها الاصلية ثم صبها في قالب آخر, ومعبد الديانة البهائية المركزي العالمي اليوم يقوم في دولة الاحتلال بمدينة حيفا , فتأمل! تاريخيا كذلك هناك مشروع الديانة القاديانية الذي أقيم تحت الرعاية البريطانية أيضا فيما مضى وهو مشروع يلتقي مع البهائية والابراهيمية بألغاء فريضة الجهاد ويدعو لنزع السلاح وكف الاقتتال ..ألخ. مشاريع متعددة لجذب التوجهات المتنوعة للجماهير , فالتنوع ضروري لكسب الناس على اختلاف توجهاتهم , ولا ضير في تعدد المشاريع مادام الهدف واحد وهوتشويه الدين وتحطيم مفاهيمه للوصول الى هدف السيطرة على الشعوب وتسييرها .
.................
بابا الفاتيكان يترأس تجمع ديني متعدد (ابراهيمي) في مدينة أور
زيارة بابا الفاتيكان للعراق هذا العام 2021 أكدت حيوية المشروع الابراهيمي وبينت الجهات الداعمة له , و بابا الفاتيكان نفسه هو احد الجهات الداعمة الذي وضع في جدول زيارته زيارة مدينة الناصرية (اور) في العراق منذ سنوات خلت , حيث سبقه ممثله المدعو (اندريانا ليبيريو) عام 2014 بزيارة أور ,واكد اندريانا ليبيرو آنذاك مفهوم مشروع الابراهيمية كذلك ونوه انذاك على مشروع بناء كنيسة تحمل اسم (كنيسة ابراهيم -ابرام) على مساحة قدرها 12 دونم في جنوب مدينة الناصرية وستكون اكبر كنيسة في الشرق الاوسط وبجانب مدينة اور بميزانية بناء 600 مليون دولار من خزينة الدولة العراقية , علما انه لايوجد اتباع للديانة المسيحية في الناصرية وان وجدوا فان كنيسة بمساحة بيت صغير تكفيهم لقلتهم ,ولكن لابأس مادام اسم الكنيسة مقترنا بأسم الابراهيمية وبرعاية البابا وعلى نفقة الحكومة العراقية الحالية المنضوية أيضا والمبشرة بالمشروع الابراهيمي !
أكد متعمدا بابا الفاتيكان في خطابه هذا العام اثناء زيارته للعراق بأن مدينة اورهي محل ولادة ابراهيم ع ابو الانبياء , ثم أقام صلاة جماعية ضمت طوائف واديان متعددة من بينهم ان لم يكن اغلبهم من المجندين تحت المشروع الابراهيمي , وكرر في خطابه كلمات مبدأ السلام ونزع السلام والتعايش والكف عن القتال وكأن العالم قد تحول الى مدينة فاضلة خلت من الحروب ولاتحتاج الى سلاح وجهاد ! كما أطلق اكثر من مرة كلمة (حج) على زيارته للعراق لجعلها زيارة دينية ذات مراسيم وطقوس , بطبيعة الحال هو كان يعني (حج) نحو أور في الناصرية واكمل (حجه) بالصلاة الجماعية برفقة شيوخ ورهبان وممثلي اديان متعددة في مكان واحد, فسَنَّ سنة جديدة وهي الحج في مدينة اور تحت تجمع المشروع الابراهيمي, وكان حجه دعوة للطوائف والاديان بحذو حذوه للقدوم نحو البيت المزعوم للنبي ابراهيم ع واقامة مراسيم حج واحدة لاديان متعددة لاذابتها معا ومن ضمنها بطبيعة الحال الديانة اليهودية تحت مسمى المشروع الابراهيمي , والملفت ان ذوي الشأن من المسلمين يستمعون لترديده كلمة (حج) على زيارته لمدينة أور وكأن الامر لايعنيهم ولايذكرهم ان كلمة الحج تخص مكة فقط لاغير ,فمن اين اخذ البابا هذه الحرية المطلقة ليسن حجا في زقورة اثرية وثنية امام المسلمين وفي بلادهم ؟ الدعوة للحج في اور وتحت المشروع الابراهيمي سيفتح الباب لمستوطني الارض المحتلة بالقدوم نحو العراق للحج كما فعل السيد البابا ؟ ولايتم ذلك إلا بتطبيع العراق مع دولة الكيان والانخراط في المشروع الابراهيمي الذي يسعى لتحوير مفاهيم الاديان وقولبتها كما يريد المؤسسون وهو المطلوب !