فجلس أمير المؤمنين (ع) في بيته، واشتغل بجمع القرآن ـ كما أوصاه النبي (ص) ـ من يومه ذلك ـ وهو اليوم الثالث من وفاة النبي (ص)، أي يوم الأربعاء(24) ـ فأكثر الناس في تخلّفه عن بيعة أبي بكر، واشتدّ أبو بكر وعمر عليه في ذلك فخرجت أُمّ مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر وقالت:
قالوا: وكان الزبير والمقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى علي (ع) فيتشاورون ويتراجعون أُمورهم، فجاء عمر وكلّم فاطمة الزهراء (ع) وحلف لها وقال: إن اجتمع هؤلاء النفر عندكم آمر بإحراق البيت عليهم(26).. وفي رواية: أن يهدم البيت عليهم..(27).
فوقفت فاطمة (ع) على بابها فقالت: " لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله (ص) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّاً "(28)(29).
وفي رواية: ".. وقطعتم أمركم فيما بينكم فلم تؤمرونا ولم تروا لنا حقّنا، كأنّكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيّكم، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة "(30).
المراجعات مع أمير المؤمنين (ع)
ثم إن عمر أتى أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة(31)؟ فإنّ الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر(32)..!
وفي رواية سلمان: أرسل إلى علي فليبايع، فإنّا لسنا في شيء حتّى يبايع.. ولو قد بايع أمنّاه(33).
وفي رواية: يا هذا! ليس في يديك شيء منه مالم يبايعك علي، فابعث إليه حتّى يأتيك فيبايعك، فإنّما هؤلاء رعاع.. فبعث إليه قنفذاً فقال له: اذهب فقل لعليٍّ: أجب خليفة رسول الله (ص)، فذهب قنفذ فما لبث أن رجع فقال لأبي بكر: قال لك: " ما خلّف رسول الله (ص) أحداً غيري(34)، لسريع ما كذبتم على رسول الله (ص) "(35).
وفي رواية ابن عباس: قال علي (ع): " ما أسرع ما كذبتم على رسول الله (ص) وارتددتم، والله ما استخلف رسول الله (ص) غيري، فارجع ـ يا قنفذ ـ فإنّما أنت رسول، فقل له: قال لك علي (ع): " والله ما استخلفك رسول الله (ص)، وإنّك لتعلم مَنْ خليفة رسول الله "، فأقبل قنفذ إلى أبي بكر فبلّغه الرسالة فقال أبو بكر: صدق علي..! ما استخلفني رسول الله (ص) (36).
وفي رواية اُخرى: لمّا جاء قنفذ قال لفاطمة (ع): أنا قنفذ رسول أبي بكر ابن أبي قحافة خليفة رسول الله (ص)، قولي لعليّ: يدعوك خليفة رسول الله..!
قال علي (ع): " قولي: ما أسرع ما ادّعيت ما لم تكن بالأمس، حين خاطبت الأنصار في ظلّة بني ساعدة ودعوت صاحبيك عمر وأبا عبيدة ". فقالت فاطمة ذلك. فرجع قنفذ، فقال عمر: ارجع إليه فقل: خليفة المسلمين يدعوك.
فردّ قنفذ إلى عليّ فأدّى الرسالة، فقال علي (ع): "من استخلف متسخلَفاً فهو دون من استخلفه، وليس للمستخلَف أن يتأمّر على المستخلِف.." فلم يسمع له ولم يطع(37).
فبكي أبو بكر طويلاً(38). فغضب عمر ووثب وقام، وقال: ألا تضمّ هذا المتخلّف عنك بالبيعة..؟! فقال أبو بكر: اجلس، ثم قال لقنفذ: اذهب إليه فقل له: أجب أمير المؤمنين أبا بكر.. فأقبل قنفذ حتّى دخل على علي (ع) فأبلغه الرسالة، فقال: " كذب والله! انطلق إليه فقل له: لقد تسمّيت باسم ليس لك، فقد علمت أنّ أمير المؤمنين غيرك.. " فرجع قفنذ فأخبرهما(39).
وفي رواية سلمان عنه (ع): " سبحان الله! ما والله طال العهد فينسى، والله إنّه ليعلم إنّ هذا الاسم لا يصلح إلاّ لي، ولقد أمّره رسول الله (ص) ـ وهو سابع سبعة ـ فسلّموا عليّ بإمره المؤمنين، فاستفهم هو وصاحبه من بين السبعة، فقالا: أمر من الله ورسوله، فقال لهم رسول الله (ص): " نعم حقّاً من الله ورسوله إنّه أمير المؤمنين، وسيّد المسلمين، وصاحب لواء الغرّ المحجّلين، يقعده الله عزّ وجلّ يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءَه الجنّة وأعداءه النار "(40).
فوثب عمر غضبان فقال: والله إنّي لعارف بسخفه..! وضعف رأيه..! وإنّه لا يستقيم لنا أمر حتّى نقتله.. فخلّني آتيك برأسه، فقال أبو بكر: اجلس! فأبى، فأقسم عليه فجلس، ثمّ قال: يا قنفذ! انطلق فقل له: أجب أبا بكر.. فأقبل قنفذ فقال: يا علي! أجب أبا بكر، فقال علي (ع): " إنّي لفي شغل عنه، وما كنت ُ بالذي أترك وصيّة خليلي وأخي وأنطلق إلى أبي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور "(41).
وفي رواية: قال أبو بكر: ارجع إليه فقل: أجب! فإنّ الناس قد أجمعوا على بيعتهم إيّاه، وهؤلاء المهاجرون والأنصار يبايعونه وقريش، وإنّما أنت رجل من المسلمين لك ما لهم وعليك ما عليهم، وذهب إليه قنفذ فما لبث أن رجع، فقال: قال لك: " إنّ رسول الله (ص) قال لي وأوصاني إذا واريته في حفرته: أن لا أخرج من بيتي حتّى أُؤلف كتاب الله فإنّه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل "(42).
أقول: يستفاد من ظاهر بعض الروايات وقوع الهجوم الأخير في هذا اليوم، لذكره عقيب هذه المراسلات، كما يظهر من كلام المسعودي، ولكن روى سليم عن سلمان أنّ إرسالهم كان بعد عرض القرآن عليهم قال سلمان:
لما بعث إليه علي (ع): " إني مشغول وقد آليت على نفسي يميناً أن لا أرتدي برداء إلاّ للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه.. " سكتوا عنه أياماً، فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله (ص) فنادى علي (ع) بأعلى صوته: " أيّها الناس! إنّي لم أزل منذ قبض رسول الله (ص) مشغولاً بغسله، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد، فلم ينزل الله على رسول آية منه إلاّ وقد جمعتها، وليست منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله (ص) وعلّمني تأويلها.. ".
ثم قال علي (ع): " لئلا تقولوا غداً إنّا كنا عن هذا غافلين، لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكم إلى نصرتي.. ولم أُذكّركم حقّي.. ولم أدعُكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته ".
فقال له عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا إليه!
ثم دخل علي (ع) بيته(43). ثم ذكر مراودات القوم معه كما مرّ.. وقال: فسكتوا عنه يومهم ذلك.
قال سلمان: فلمّا كان الليل حمل علي (ع)، فاطمة (ع) على حمار، وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين (ع)، فلم يدع أحداً من أصحاب رسول الله (ص) إلاّ أتاه في منزله، فناشدهم الله حقّه ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب منهم رجل غيرنا أربعة، فإنّا حلقنا رؤوسنا، وبذلنا له نصرتنا، فلما أن رأى علي (ع) خذلان الناس إيّاه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وتعظيمهم إياه لزم بيته(44).
وفي رواية ابن قتيبة: خرج علي (ع) يحمل فاطمة بنت رسول الله (ص)على دابّة ليلاً يدور [بها] في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به..!
فيقول علي (ع): " أفكنت أدع رسول الله (ص) في بيته لم أدفنه وأخرج أُنازع الناس سلطانه..؟! " فقالت فاطمة (ع): " ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له وقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم "(45).
الهوامش
1. اثبات الوصيّة: 145 ـ 146. 2. راجع الطبري: 3/202 ; اليعقوبي: 2/126 ; نهج الحق: 271. 3. العقد الفريد: 4/259. 4. الطبري: 3/202، وذكره كثير من أرباب السيرة. 5. شرح نهج البلاغة: 2/56. 6. الطبري: 3/202 ; الكامل لابن الأثير: 2/325 ; وذكر هؤلاء الأربعة فى السيرة الحلبية: 3/360. 7. شرح نهج البلاغة: 2/56. 8. الرياض النضرة: 1/241 ; تاريخ الخميس: 2/169. 9. الجمل: 117. 10. شرح نهج البلاغة: 2/56. 11. شرح نهج البلاغة: 15/186. 12. أقول: إخراج الزبير وكسر سيفه إنّما كان في الهجوم الثاني الذي وقع قبل الهجوم الثالث بلحظات يسيرة، راجع الطبري: 3/203 ; الكامل لابن الأثير: 2/325 ; شرح نهج البلاغة: 2/45، 50، 56 و 6/47 ـ 48 ; المسترشد: 378، وأمّا في الهجوم الأوّل فقد صرّحوا بعدم مبايعة أمير المؤمنين (عليه السلام)بل قال (عليه السلام) في جواب عمر: " إذن والله لا أقبل قولك ولا أُبايعه "، وورد في غير هذه الرواية أيضاً سكوتهم عنه (عليه السلام) حينذاك. راجع مصادر الرواية في الهجوم الأوّل، والإيضاح: 367 ; المسترشد: 381. والمتحصّل من ذلك كلّه: أنّ ذكر إخراج الزبير وكسر سيفه هنا وهم صدر من الرواة بسبب الخلط بين الهجوم الأول والثاني. 13. لم يذكر ابن أبي الحديد مبايعة بني هاشم لأبي بكر هنا ويعضده ما ذكروه من عدم مبايعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبني هاشم بأجمعهم في حياة فاطمة (عليها السلام) وقد مرّ قريباً. 14 و 15. ما بين القوسين لا يوجد في شرح نهج البلاغة و الامامة والسياسة. 16. ذكره ابن قتيبة وابن أبي الحديد هكذا: هؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأُمور..!). وفي هذا الكلام إشارة إلى حكومة " الحزب " دون شخص أبي بكر، فتدبّره. 17 ـ 20. ما بين القوسين لا يوجد في شرح نهج البلاغة والامامة والسياسة. 21. ما بين القوسين لا يوجد في شرح نهج البلاغة. 22. مثالب النواصب: 139. 23. الاحتجاج: 73 ـ 75، عنه بحار الأنوار: 28/183 ـ 188 ; الإمامة والسياسة: 1/18 ـ 19 ; مثالب النواصب: 138 ـ 139 ; شرح نهج البلاغة: 6/11 ـ 12. وجعلنا علامة () رمزاً للمواضع المحذوفة في الإمامة والسياسة وشرح نهج البلاغة: وبعد التأمل تجد ما حذف نصّاً على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)ووصايته، ولا يجديهم ما دلّسوه مع قولهم عنه (عليه السلام): وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً. وقوله: فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون؟
ثمّ ذكر بعض ما وقع في هذا المجلس في كتاب الردّة للواقدي: 46 ـ 47 ; الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي: 1/13 ـ 14 ; روضة الصفا: 2/595 ـ 597 ; حبيب السير: 1/447 ; المسترشد: 374 ـ 376 (عن مولانا أبي جعفر الباقر (عليه السلام)) ; أنوار اليقين، للحسيني الزيدي: 380، شفاء صدور الناس: 478 ـ 479 ; التاريخ السياسي والحضاري، للسيّد عبد العزيز سالم: 177 ; تاريخ الدولة العربية: 161 ; دائرة المعارف، محمّد فريد وجدي: 3/758 ـ 759. 24. أقول: بناءً على أنّ الدفن كان في ليلة الأربعاء ـ كما ورد في غير واحد من روايات الفريقين ـ فلا شكّ في كون يوم الأربعاء الأول من أيام جمع القرآن، هذا من حيث المبدأ. اما تاريخ الفراغ ; فالذي يظهر من رواية الفرات الكوفي في تفسيره بسنده عن مولانا أبي جعفر (عليه السلام)ومما ذكره ابن النديم في الفهرست أنه فرغ بعد ثلاثة أيام، راجع تفسير الفرات: 398 ـ 399 ; عنه بحار الأنوار: 23/249 ; الفهرست: 30 ولكن ورد في الروايات عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)عن آبائه (عليهم السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)خطب خطبة (الوسيلة) بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبعة أيام، وفي بعض النسخ بتسعة أيام، وذلك حين فرغ من جمع القرآن. الكافي: 8/17 ; التوحيد: 73 ; أمالي الصدوق: 320 ; أمالي الطوسي: 1/263، عنه بحار الأنوار: 4/221 و 77/382. 25. شرح نهج البلاغة: 2/50 و 6/46. 26. المصنف لابن أبي شيبة: 14/267. 27. الجواب الحاسم، طبع مع المغني، للقاضي الأسد آبادي: 20/ ق 2/269. 28. خ. ل: لم تشاورونا ولم تروا لنا حقّاً. 29. الإمامة والسياسة: 1/19. 30. الاحتجاج: 80 عنه بحار الأنوار: 28/204. 31. الإمامة والسياسة: 1/19. 32. كتاب سليم: 249. 33. كتاب سليم: 82. 34. تفسير العياشي: 2/66 ـ 67 ; الاختصاص: 185 ـ 186. 35. الإمامة والسياسة: 1/19. 36. كتاب سليم: 249 عنه بحار الأنوار: 28/297. 37. الكشكول، للسيد حيدر الآملي: 83 ـ 84. 38. الإمامة والسياسة: 1/19. 39. كتاب سليم:ص 249 عنه بحار الأنوار: 28/297. 40. كتاب سليم: 82. 41. كتاب سليم: 249، عنه بحار الأنوار: 28/297. 42. تفسير العياشي: 2/66 ـ 67 ; الاختصاص: 186. 43. كتاب سليم: 81 ـ 82 وراجع أيضاً بحار الأنوار: 28/307 عن المسعودي في إثبات الوصية و 92/52 عن المناقب. 44. كتاب سليم: 81 ـ 83 عنه بحار الأنوار: 28/264 ـ 268. 45. الإمامة والسياسة: 1/19 وذكرنا للاستنصار مصادر اُخرى عن الفريقين في الفصل السادس.