روي عن الإمام الكاظم عليه السلام: (لو مَيَّزْتُ شيعتي لما وجدتهم إلا واصفة، ولو امتحنتُهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تَمَحَّصْتُهم لما خلص من الألف واحد) (الكافي 8/338).
وقد اتخذ بعضهم هذا الحديث وسيلة للطعن في الشيعة بأن أحد أئمتهم الذين يعتقد بهم الشيعة قد ذمهم وطعن فيهم ، ويكفي هذا في الدلالة على أن أهل البيت عليهم السلام بريئون ممن يدعون أنهم من شيعتهم.
والجواب:
لا بد من النظر في هذا الحديث من جهتين:
الجهة الأولى: من ناحية السند، فنقول:
هذا الحديث ضعيف السند جداً، فإن في سنده محمد بن سليمان، وهو محمد بن سليمان البصري الديلمي، وهو ضعيف جداً.
قال المحقق السيد الخوئي في (معجم رجال الحديث) 16/134: ولا شك في انصراف محمد بن سليمان إلى البصري الديلمي، فإنه المعروف المشهور.
وقال النجاشي في رجاله 2/269: محمد بن سليمان بن عبد الله الديلمي، ضعيف جداً، لا يُعوَّل عليه في شيء.
وقال في ترجمة أبيه 1/412: سليمان بن عبد الله الديلمي أبو محمد... وقيل: كان غالياً كذَّاباً، وكذلك ابنه محمد، لا يُعمل بما انفردا به من الرواية.
وقال الشيخ في رجاله، ص 343: له كتاب، يُرمى بالغلو.
وقال العلامة في رجاله، ص 255: ضعيف جداً لا يعوَّل عليه في شيء.
ومن رواة هذا الحديث أيضاً: إبراهيم بن عبد الله الصوفي، وهو رجل مجهول، لم يُترجَم في كتب الرجال.
ومن الرواة أيضاً: موسى بن بكر الواسطي، وهو لم يوثَّق في كتب الرجال، بل قال الشيخ الطوسي قدس سره في رجاله، ص 343: موسى بن بكر الواسطي، أصله كوفي، واقفي.
الجهة الثانية: من ناحية متن الحديث ومعناه، فنقول:
لقد كان كثير من المسلمين في زمان الأئمة عليهم السلام يدَّعون أنهم من شيعة علي عليه السلام خاصة أو أهل البيت عليهم السلام عامَّة، ولكنهم لم يكونوا كذلك، لأن شيعتهم هم أتباعهم بالقول والفعل، لا بالادِّعاء فقط.
وعليه فالمراد بالحديث هو أني (لو ميَّزتُ) أي لو أردت أن أَفْصِل (شيعتي) أي الذين يزعمون أنهم من شيعتنا وأتباعنا ـ وهم ليسوا كذلك ـ عن غيرهم ممن شايعنا حقيقة، (لما وجدتُهم إلا واصفة) أي لما وجدتُ هؤلاء شيعة لنا، بل وجدتهم واصفين أنفسهم بمشايعتنا ومُدَّعين لها، مع أنهم ليسوا كذلك، لأنهم لا يعتقدون بإمامتنا، ولا يقتدون بنا، لا في أقوالنا ولا في أفعالنا.
(ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين) أي لو أني امتحنتُ هؤلاء الذين يزعمون أنهم لنا شيعة، بأن ذكرتُ لهم مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام وما يجب عليهم من الاعتقاد والعمل، لما وجدتهم إلا مُنكِرين علينا مذهبنا، وتاركين ادّعاء التشيع لنا، وراجعين عن القول بموالاتنا ومحبَّتنا.
(ولو تمحَّصتُهم لما خلص من الألف واحد) ، أي لو أني محَّصتُ هؤلاء بالامتحان، وأمرتُهم ببذل المال من أجلنا، والتضحية بالنفس في سبيلنا لما خلص منهم أحد، لأنهم يدَّعون التشيع لنا من دون أن يكونوا لنا شيعة حقيقة.
ويدل على ما قلناه من معنى الحديث قوله عليه السلام بعد ذلك: (ولو غربلتُهم غربلة لم يبقَ منهم إلا ما كان لي، إنهم طالما اتّكوا على الأرائك، فقالوا: «نحن شيعة علي»، إنما شيعة علي من صدق قولَه فعلُه) .
أي لو أني اختبرتهم لوجدتهم يتَّبعون غيرنا ويوالون أعداءنا، ولم يبق مِن هؤلاء الذين يدَّعون التشيع لنا إلا شيعتنا الذين يوالوننا ويأخذون بقولنا ويقتدون بنا، وأما المدَّعون الذين يوالون غيرنا فهؤلاء ليسوا من شيعتنا، لأن شيعة علي عليه السلام هم الذين شايعوا عليًّا وأهل بيته عليهم السلام بالقول والفعل، لا بالقول دون الفعل.
ومنه يتضح أن كلام الإمام عليه السلام ـ لو صحَّ الحديث ـ ليس ناظراً للشيعة الذين يعتقدون بإمامتهم ويوالونهم حقيقة، وإنما أراد عليه السلام أن ينفي تشيع أهل الخلاف المدَّعين أنهم من شيعتهم عليهم السلام.
ولو سلمنا أن المراد بالحديث هو ذَمّ الشيعة فإن الذم المتوجِّه إليهم إنما هو بسبب عدم اقتدائهم بأئمة أهل البيت عليهم السلام في سلوكهم وأفعالهم من الاستقامة والصلاح والتقوى والورع، ولا يراد أنهم كانوا منحرفين عن أئمة أهل البيت عليهم السلام قولاً واعتقاداً.
وحال هذا الكلام حال من يقول: إن المسلمين اليوم لا يطبقون الإسلام، ولا يعملون بالقرآن، ولو امتحنتهم لوجدتهم كلهم مسلمين بالاسم فقط، ولما خلص من الألف واحد.
وهو كلام يُراد به ذمّ المسلمين من جهة سلوكهم وأعمالهم، لا من حيث اعتقادهم وأحكامهم، ولا يراد به أنهم مبطلون وغيرهم محق.
من الأحاديث التي استغلها بعض من لا يخاف الله للتشنيع على الشيعة ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (يا أشباه الرجال ولا رجال، حُلوم الأطفال، وعقول رَبَّات الحِجال، لوددتُ أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرَّتْ نَدَماً، وأعقبتْ سدماً... قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجَرَّعْتُموني نُغَب التهمام أنفاساً، وأفسدتم عَلَيّ رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، ولكن لا رأي لمن لا يُطاع) نهج البلاغة 70، 71.
وقال لهم مُوَبِّخا: مُنِيتُ بكم بثلاث، واثنتين:
(صُمٌّ ذَوو أسماع، وبُكْمٌ ذَوو كلام، وعُمْي ذوو أبصار، لا أحرارَ صِدْق عند اللقاء، ولا إِخوانَ ثقَةٍ عند البلاء.. قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفَراجَ المرأة عن قُبُلِها) نهج البلاغة ص 142.
بزعم أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما قال ذلك لخصوص شيعته بالكوفة بسبب تَخَاذُلِهِم وغَدرِهم بأمير المؤمنين عليه السلام، وهذا كلام قليل من كثير قاله عليه السلام في ذمهم.
والجواب عن ذلك أنا نقول:
إن هذه الكلمات وأمثالها إنما صدرت من أمير المؤمنين عليه السلام في مقام ذم من كان معه في الكوفة، وهم الناس الذين كان يحارب بهم معاوية، وهم أخلاط مختلفة من المسلمين، وأكثرهم من سواد الناس، لا من ذوي السابقة والمكانة في الإسلام.
ولم يكن عليه السلام يخاطب خصوص شيعته وأتباعه، ليتوجَّه الذم إليهم كما أراد الكاتب أن يصوِّر لقارئه أن من كان مع أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه الثلاثة إنما هم شيعته.
ولو سلَّمنا بما قاله الكاتب فإن أهل السنة حينئذ أولى بالذم من الشيعة، وذلك لأنّا إذا فرضنا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يخاطب خصوص شيعته في الكوفة، وكان يذمّهم على تقاعسهم في قتال معاوية، فلنا أن نسأل:
إذا لم يكن أهل السنة مع أمير المؤمنين عليه السلام في قتال معاوية، فأين كانوا حينئذ؟
فإن حالهم لا يخلو من ثلاثة أمور:
إما أن يكونوا مع أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة، فيكون الذم شاملاً لهم كما شمل غيرهم.
وإما أن يكونوا مع معاوية وفئته الباغية، وحال هؤلاء أسوأ من حال أصحابه الذين ذمَّهم.
وإما أن يكونوا قد اعتزلوا عليًّا عليه السلام ومعاوية، وحينئذ فهم أولى بالذم ممن خاضوا معه حروبه الثلاثة وأبلوا فيها بلاءاً حسناً، إلا أنهم بسبب كثرة الحروب وطول المدة اعتراهم الملالة والسأم والضعف الذي جعل أمير المؤمنين عليه السلام يذمّهم ويوبِّخهم.
والحاصل أن أهل السنة إن كانوا مع أمير المؤمنين عليه السلام أو مع معاوية أو كانوا معتزلين، فالذم شامل لهم على كل حال، وأحسن القوم حالاً هم الذين كانوا معه عليه السلام في حروبه، وإن كانوا مقصِّرين في نصرته.