وهذا علمه وهديه وسمته وصلاحه وزلفته الى نبي العظمة
، اضف الى ذلك كله سابقته في الاسلاموهو سادس ستة،
وهجرته الى الحبشة ثم الى المدينة، وشهوده بدرا ومشاهد
النبي كلها، وهو احدالعشرة المبشرة بالجنة كما في رواية
ابي عمر في الاستيعاب، ولعلك لا تشك بعد سيرك الحثيث
في غضونالسيرة والتاريخ في انه لم يكن له داب الا على نشر
علم القرآن وسنة الرسول وتعليم الجاهل، وتنبيه
الغافل،وتثبيت القلوب، وشد ازر الدين، في كل ذلك هو شبيه
رسول اللّه في هديه وسمته ودله، فلا تجد فيهمغمزا
لغامز، ولا محلا للمز لامز، وقد بعثه عمر الى الكوفة ليعلمهم
امور دينهم، وبعث عمارا اميرا وكتباليهم: انهما من النجباء
من اصحاب محمد من اهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا من
قولهما، وقد آثرتكم بعبد اللّهبن مسعود على نفسي ((50)). وقد
سمعت ثناء اهل الكوفة عليه بقولهم: جزيت خيرا، فلقد علمت
جاهلنا وثبتعالمنا، واقراتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، فنعم
اخو الاسلام انت ونعم الخليل.
كانابنمسعود اول منجهر بالقرآنبمكة، اجتمعيوما اصحاب
رسولاللّه فقالوا: واللّه ما سمعتقريش هذا القرآن يجهر لها
به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقالعبداللّه بن مسعود: انا.
قالوا: انا نخشاهمعليك، انما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من
القوم ان ارادوه، قال: دعوني فان اللّه سيمنعني، قال: فغدا
ابنمسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في انديتها،
حتى قام عند المقام ثم قرا: بسم اللّه الرحمن الرحيم آرافعا بها
صوته الرحمن علم القرآن. قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال:
وتاملوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابنام عبد؟ قال: ثم قالوا: انه
ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا اليه، فجعلوا يضربون
في وجهه، وجعليقرا حتى بلغ منها ما شاء اللّه ان يبلغ، ثم
انصرف الى اصحابه وقد اثروا في وجهه، فقالوا له: هذا
الذيخشينا عليك، فقال: ما كان اعداء اللّه اهون علي منهم
الان، ولئن شئتم لاغادينهم بمثلها غدا، قالوا: لا،حسبك قد
اسمعتهم ما يكرهون ((51)).
وقد هذبته تلكم الاحوال وكهربته، فلم يسق لمغضبة على
باطل، ولم يحده طيش الى غاية، فهو ان قال فعنهدى، وان
حدث فعن الصادع الكريم صدقا، وان جال ففي مستوى الحق،
وان صال فعلى الضلالة، وعرفهبذلك من عرفه من اول يومه،
وكان معظما مبجلا لدى الصحابة وكانوا يحذرون خلافه والرد
عليه ويعدونهحوبا. قال ابو وائل: ان ابن مسعود راى رجلا قد
اسبل ازاره فقال: ارفع ازارك. فقال: وانت يابن مسعودفارفع
ازارك. فقال: اني لست مثلك ان بساقي حموشة وانا آدم
الناس. فبلغ ذلك عمر، فضرب الرجلويقول ((53)): ((52))
اترد على ابن مسعود ((54))؟
واخرج ابو عمر في الاستيعاب ((55)) (1/372) بالاسناد عن
علقمة قال: جاء رجل الى عمر وهو بعرفاتفقال: جئتك من
الكوفة وتركت بها رجلا يحكي المصحف عن ظهر قلبه، فغضب
عمر غضبا شديدا وقال:ويحك ومن هو؟ قال:عبداللّه بن
مسعود. قال: فذهب عنه ذلك الغضب وسكن وعاد الى حاله،
وقال: واللّهما اعلم من الناس احدا هو احق بذلك منه.
فلماذا يحرم هذا البدري العظيم عطاءه سنين؟ ثم ياتيه من
سامه سوء العذاب وقد خالجه الندم ولات حينمندم متظاهرا
بالصلة فلا يقبلها ابن مسعود وهو في منصرم عمره، ويسال ربه
ان ياخذ له منه بحقه،ثميتوج ه الى النعيم الخالد معرضا عن
الحطام الزائل، موصيا بان لا يصلي عليه من نال منه ذلك
النيلالفجيع.
لماذا فعل به هذا؟ ولماذا شتم على رؤوس الاشهاد؟ ولماذا
اخرج من مسجد رسول اللّه مهانا عنفا،ولماذا ضرب به
الارض فدقت اضالعه؟ ولماذا بطشوا به بطش الجبارين؟
كل ذلك لانه امتنع عن ان يبيح للوليد بن عقبة الخالع الماجن
من بيت مالالكوفة يوم كان عليه ما امر به،فالقى مفاتيح بيت
المال لما لم يجد من الكتاب والسنة وهو العليم بهما مساغا
لهاتيك الاباحة ولا لاثرة الامربها، وعلم انها سوف تتبعها من
الاعطيات التي لا يقرها كتاب ولا سنة، فتسلل عن عمله
وتنصل، وماراقه ان يبوء بذلك الاثم، فلهج بما علم، وابدى
معاذيره في القاء المفاتيح، فغاظ تلكم الاحوال داعيةالشهوات،
وشاخص الهوى الوليد بن عقبة، فكتب في حقه ونم وسعى،
فكان من ولائد ذلك ان ارتكب منابن مسعود ما عرفت، ولم
تمنع عن ذلك سوابقه في الاسلام وفضائله وفواضله وعلمه
وهديه وورعهومعاذيره وحججه، فضلا على ان يشكر على ذلك
كله، فاوجب نقمة الصحابة على من نال ذلك منه،وانكار مولانا
امير المؤمنين وصيحة ام المؤمنين في خدرها، ولم تزل
البغضاء محتدمة على هذه وامثالهاحتى كان في مغبة الامر ما
لم يحمده خليفة الوقت وزبانيته الذين جروا اليه الويلات.
ولو ضرب المسيطر على الامر صفحا عن الفظاظة في الانتقام،
او اعار لنصحصلحاء الامة اذنا واعية، او لميستبدل جراثيم
الفتن بمحنكي الرجال، او لم ينبذ كتاب اللّه وسنة نبيه وراء
ظهره، لما استقبله ما جرى عليهوعلى من اكتنفه من الواد
والهوان. لكنه لم يفعل ففعلوا، ولمحكمة العدل الالهي غدا
حكمها البات.
ولابن مسعود عند القوم مظلمة اخرى وهي جلده اربعين
سوطا في موقف آخر، لماذا كان ذلك؟ لانه دفنابا ذر لما حضر
موته في حجته. وجد بالربذة في ذلك الوادي القفر الوعر ميتا
كان في الغارب والسنام منالعلم والايمان.
وجد صحابيا عظيما كان رسول اللّه يقربه ويدنيه قد فارق
الدنيا.
وجد عالما من علماء المسلمين قد غادرته الحياة.
وجد مثالا للقداسة والتقوى، فتمثل امام عينيه تلك الصورة
المكبرة التي كان يشاهدها على العهدالنبوي.
وجد شبيه عيسى بن مريم في الامة المرحومة هديا وسمتا
ونسكا وزهدا وخلقا، طرده خليفة الوقت عنعاصمة الاسلام.
وجد عزيزا من اعزاء الصحابة على اللّه ورسوله وعلى المؤمنين
قد اودى على مستوى الهوان في قاعة المنفىمظلوما
مضطهدا.
وجد في قارعة الطريق جثمان طيب طاهر غريب وحيد نازح
عن الاوطانتصهره الشمس، وتسفي عليهالرياح، وذكر قول
رسول اللّه: «رحم اللّه اباذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويحشر
وحده».
فلم يدع العلم والدين ابن مسعود ومن معه من المؤمنين ان
يمروا على ذلك المنظر الفجيع دون ان يمتثلواحكم الشريعة
بتعجيل دفن جثمان كل مسلم، فضلا عن ابي ذر الذي بشر
بدفنه صلحاء المؤمنين رسول اللّه، فنهضوا بالواجب
فاودعوه في مقره الاخير والعيون عبرى، والقلوب واجدة على
ما ارتكب منهذا الانسان المبجل، فلما هبطوا يثرب نقم على
ابن مسعود من نقم على ابي ذر، فحسب ذلك الواجب الذيناء
به ابن مسعود حوبا كبيرا، حتى صدر الامر بجلده اربعين
سوطا، وذلك امر لا يفعل بمن دفن زنديقا لطمجيفته فضلا
عن مسلم لم يبلغ مبلغ ابي ذر من العظمة والعلم والتقوى
والزلفة، فكيف بمثل ابي ذر وعاءالعلم، وموئل التقوى، ومنبثق
الايمان، وللعداء مفعول قد يبلغ اكثر من هذا.
اي خليفة هذا لم يراع حرمة ولا كرامة لصلحاء الامة وعظماء
الصحابة من البدريين الذين نزل فيهمالقرآن، واثنى عليهم
النبي العظيم؟ وقد جاء في مجرم بدري ((56)) قوله لما
قال عمر: ائذن لي يا رسولاللّه فاضرب عنقه، فقال : مهلا يابن
الخطاب انه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل اللّه قد اطلع على
اهل بدرفقال: اعملوا ما شئتم فاني غافر لكم ((57)). واختلق
القوم حديثا لادخال عثمان في زمرتهم لفضلهم المتسالمعليه
عند الامة جمعاء، كان الرجل آلى على نفسه ان يطل على الامة
الداعية الى الخير، الامرة بالمعروفوالناهية عن المنكر، بالذل
والهوان، ويسر بذلك سماسرة الاهواء من بني ابيه، فطفق
بمراده، واللّه من ورائهمحسيب.
والمدافعان اعوزته المعاذيرتشبث بالطحلب فقال ((58)):
حداه الى ذلك الاجتهاد!ذلك العذر العام المصححللاباطيل،
والمبرر للشنائع، والوسيلة المتخذة لاغراء بسطاء الامة، وذلك
قولهم بافواههم: (وان ربكل يعلمما تكن صدورهم وما
يعلنون) ((59)) (بل الانسان على نفسه بصيرة # ولو القى
معاذيره) ((60)).
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
- انساب الاشراف : 6/146.
2- هذه جملة من كلمة ابن مسعود، وقد اخرجها برمتها ابو
نعيم في حلية الاولياء: 1/138 [رقم21] وهي كلمة قيمةفيها
فوائد جمة. (المؤلف)
3- الاستيعاب: 1/373 [القسم الثالث/993 رقم1659].
(المؤلف)
4- هو عبداللّه بن زمعة بن الاسود القرشي الاسدي، قتل مع
عثمان يوم الدار.
5- انساب الاشراف: 6/147.
6- قال ابن كثير في تاريخه: 7/163 [7/183 حوادث سنة 32
ه]: كان قد تركه سنتين. (المؤلف)
7- كذا، والصحيح كما في شرح ابنابي الحديد: 1/236 [3/42
خطبة43]: فتمثل الزبير. (المؤلف) [وسياتي في صفحة201 ان
البيت لعبيد بن الابرص].
8- البداية والنهاية: 7/183 حوادث سنة 32ه.
9- انساب الاشراف: 6/148.
10- المصدر السابق.
11- المستدرك: 3/313 [3/353 ح5363]، الاستيعاب: 1/373
[القسم الثالث/994 رقم1659] تاريخ ابن كثير:7/163 [7/183
حوادث سنة 32ه]. (المؤلف)
12- شرح نهج البلاغة : 3/42 خطبة 43.
13- تاريخ اليعقوبي: 2/170.
14- شرح نهج البلاغة: 3/44 خطبة43.
15- السيرة الحلبية: 2/78.
16- صحيح مسلم: 5/31 ح45 كتاب فضائل الصحابة، سنن ابن
ماجة: 2/1383 ح4128.
17- الانعام: 52.
18- جامع البيان: مج5/ج7/202، المستدرك على الصحيحين:
3/360 ح5393، تاريخ مدينة دمشق: 20/330
رقم2426و33/74 رقم3573، الجامع لاحكام القرآن: 6/278،
الدر المنثور: 3/274، فتح القدير: 2/121.
19- الطبقات الكبرى: 3/152 153.
20- آل عمران: 172.
21- تفسير ابن كثير: 1/430، تفسير الخازن: 1/305.
22- تفسير الخازن: 4/50.
23- الزمر: 9.
24- المستدرك على الصحيحين: 3/358 ح5385،
الاستيعاب: القسم الثالث/989 رقم1659، صفة الصفوة:
1/399رقم17، البداية والنهاية: 7/183 حوادث سنة 32ه، مسند
احمد: 1/693 ح3981، مسند ابي يعلى: 9/209 ح5310،المعجم
الكبير: 9/78 ح8452 8454، كنز العمال: 11/709 ح33456 و
33457 و 13/466 ح37212.
25- اي: الهيثمي في مجمع الزوائد.
26- مسند احمد: 1/44 ح176، السنن الكبرى: 5/71 ح8255،
التاريخ الكبير: مج7/199 رقم875، صحيح ابن خزيمة:2/186
ح1156، الاحسان في تقريب صحيح ابن حبان: 15/542
ح7066، تاريخ مدينة دمشق: 33/62 رقم3573،مسند البزار
(البحر الزخار): 4/239، المعجم الكبير: 9/67 ح8415، مسند
ابي يعلى: 1/172 ح193، 194.
27- سنن ابن ماجة: 1/49 ح138، المستدرك على الصحيحين:
3/359 ح5390، الاستيعاب: القسم الثالث/990رقم1659، صفة
الصفوة: 1/399 رقم19، طرح التثريب: 1/75، كنز العمال:
11/710 ح33461 33463 و13/460ح37197.
28- مسند البزار (البحر الزخار): 5/354، المعجم الكبير: 9/80
ح8458، المستدرك على الصحيحين: 3/359 و 360ح5387 و
5394، الاستيعاب: القسم الثالث/989 رقم1659، كنز العمال:
11/710 ح33460 و 13/466ح37213.
29- كذا في الحلية، وفي غيرها: اذنك علي.
30- كذا في جميعالمصادر، والسواد بالكسر: السرار. يقال:
ساودتالرجل اي ساررته. وحسبه ناشر حلية الاولياء
غلطافجعله في المتن: سراري. وقال في التعليق: في الاصلين:
سوادي. (المؤلف)
31- مسند احمد: 1/642 ح3675، سنن ابن ماجة: 1/49 ح139،
الاستيعاب: القسم الثالث/988 رقم1659، البدايةوالنهاية:
7/182 حوادث سنة 32ه.
32- سنن الترمذي: 5/630 ح3805.
33- مسند احمد: 6/533 ح22765، البداية والنهاية: 7/183
حوادث سنة 32ه، كنز العمال: 13/465 ح37211.
34- المستدرك على الصحيحين: 3/360 ح5392، الاستيعاب:
القسم الثالث/993 رقم1659، صفة الصفوة: 1/401رقم19.
35- المستدرك على الصحيحين: 3/357 ح5380.
36- سنن الترمذي: 5/631 ح3807.
37- صحيح البخاري: 3/1373 ح3551، مسند احمد: 6/538
ح22797، المستدرك على الصحيحين: 3/356 و 361ح5376
و 5396، الاستيعاب: القسم الثالث/991 رقم1659، مصابيح
السنة: 4/204 ح4855، صفة الصفوة: 1/398 و402 رقم19،
البداية والنهاية: 7/183 حوادث سنة 32ه، تيسير الوصول:
3/324 ح1، كنز العمال: 13/465رقم37210.
38- صحيح البخاري: 3/1373 ح3552، صحيح مسلم: 5/63
ح110 كتاب فضائل الصحابة، سنن الترمذي: 5/631ح3806.
39- المستدرك على الصحيحين: 3/355 ح5375، مصابيح
السنة: 4/204 ح4856، تيسير الوصول: 3/324، البدايةوالنهاية:
7/183 حوادث سنة 32ه.
40- قال ابن حجر في الاصابة: وعند البخاري في التاريخ
[الصغير: 1/60] بسند صحيح عن حريث ابن ظهير: جاء
نعيعبداللّه بن مسعود الى ابي الدرداء فقال: ما ترك بعده مثله.
انتهى.
فما ورد في المتن من نسبة العبارة المذكورة الى ابن حجر
والحاقها بما اخرجه الشيخان والترمذي عن ابي موسى،
سهومن قلمه الشريف منشؤه مجيء العبارة في الاصابة عقيب
ما اخرج عن ابي موسى مباشرة وبلا فصل.
41- مسند احمد: 5/230 ح17351.
42- مختصر تاريخ دمشق: 18/213.