في فضائل الصحابة لابن حنبل:2/988: (دخل سعد بن مالك(أبي وقاص)على معاوية فقال: السلام عليك أيها الملك ! فقال معاوية: أو غير ذلك ؟ أنتم المؤمنون وأنا أميركم ! فقال سعد: نعم إن كنا أمرناك ! فقال معاوية: لا يبلغني أن أحداً زعم أن سعداً ليس من قريش إلا فعلت به وفعلت) ! (ورواه الأزدي في الجامع:10/390، وعبد الرزاق في المصنف:10/391 ، وابن عساكر في تاريخ دمشق:17/324 ، وأحمد في فضائل الصحابة:2/988، واليعقوبي:2/217، وابن الأثيرفي الكامل:3/275)
وهذا من خبث معاوية فقد أعلن ما كان يقال سراً من الطعن في نسب سعد ، فهو يقول له إنك لَسْتَ من قريش ! فلو كنت قرشياً لقبلت بي أمير المؤمنين وخليفة !
ولذا قال الرواة بعد نقلهم كلام معاوية: (فقال محمد بن علي: لعمري إن سعداً لوسط من قريش أو من وسط قريش ، ثابت النسب). يردُّون بذلك على معاوية !
وفي نسب سعد وابنه عمر قاتل الحسين عليه السلام كلامٌ ، وهو خارج عن موضوعنا .
وفي أنساب الأشراف للبلاذري ص1111، والكامل لابن الأثير:3/275: (فضحك معاوية وقال: ما كان عليك يا أبا إسحاق رحمك الله لو قلت: يا أمير المؤمنين ! فقال: أتقولها جذلان ضاحكاً ، والله ما أحب أني وليتها بما وليتها به) !! انتهى .
يقول له سعد إنك دفعت ثمنها غالياً من دماء المسلمين ، وهذا ما لا أقبله لنفسي !
وفي تاريخ اليعقوبي:2/217: ( فغضب معاوية فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذاك إن كنا أمرناك ، إنما أنت مُنْتَزٍ) .
يقصد سعد أنك قافزٌ غاصب للخلافة ! ورواية اليعقوبي أقرب الى منطق القصة ، والى حرص معاوية على أن يعترفوا له بإسم (أمير المؤمنين) .
وفي مقاتل الطالبيين ص48: (وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد ، فلم يكن شئ أثقل من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص ، فدسَّ إليهما سماً فماتا منه) .
ونحوه شرح النهج:16/49 ، وفي البدء والتاريخ:5/85: (وروى شعبة أن سعداً والحسن بن علي ماتا في يوم واحد قال: ويرون أن معاوية سمهم). (ونحوه في أنساب الأشراف للبلاذري:1/ 404) .
وفي الآحاد والمثاني للضحاك:1/169: (ومات سعد بن أبي وقاص(في قصره) بالعقيق وحمل فدفن بالمدينة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة).
وأعجب من الجميع رواية البيهقي في لباب الأنساب والألقاب والأعقاب ص40: (وأمروا والي المدينة سعيد بن العاص حتى سقاه السم مع سعد بن أبي وقاص
وجماعة من المهاجرين ، فمات الحسن رضي الله عنه مسموماً بعد يومين ، وسعد بن أبي وقاص في يومه). انتهى .
فهي تدل على أن أوامر معاوية بالقتل بالسم شملت عدداً من المهاجرين ، ولم تشمل الأنصار مع أن عدائهم للنظام الأموي أشد من المهاجرين القرشيين ، وذلك لأن الذين يطمعون بالخلافة ويقفون ضد بيعة يزيد هم من قريش ، أما الأنصار فقد انقطع أملهم بالخلافة بعد قتل سعد بن عبادة !
والبيهقي المذكور هو علي بن زيد البيهقي الشافعي متوفى سنة565 ، وهو من العلماء المشهور وله مصنفات عديدة أدبية وتاريخية وهندسية .( راجع: إيضاح المكنون:1/154، مجلة تراثناعدد58/128، والذريعة:18/277). وهو غير البيهقي المشهور صاحب السنن القريب منه ، وإسمه علي بن الحسين البيهقي الشافعي المتوفى483 .
5- هلك زياد بن ابيه بدعاء الإمام الحسين عليه السلام وسُمِّ معاوية !
اتفقت المصادر على أن زياداً بن أبيه مات وهو بكامل صحته ، عن ثلاث وخمسين سنة ، وذكر أكثرهم أن موته سنة ثلاث وخمسين هجرية ، أي بعد وفاة الإمام الحسن عليه السلام بأكثر من سنتين .
قال في تاريخ دمشق:19/207: (سنة ثلاث وخمسين فيها مات زياد بن أبي سفيان بالكوفة ، ومات زياد وهو ابن ثلاث وخمسين)
وفي تاريخ دمشق: 19/166: (ولي العراق سنة ثمان وأربعين ومات سنة ثلاث وخمسين وكانت ولايته خمس سنين والياً على المصرين). انتهى .
كما اتفقوا على أنه كان معارضاً لجعل يزيد ولي عهد لمعاوية ، وكان يأمل أن يكون هو بعد أن جعله معاوية أخاه وابن أبي سفيان !
قال ابن كثير في النهاية:8/86 وفي طبعة 79: (وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك ، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد ، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك ، وهو عبيد بن كعب بن النميري وكان صاحباً أكيداً لزياد ، فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولاً ، فكلمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك ، فإن تركه خير له من السعي فيه ، فانزجر يزيد عما يريد من ذلك واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك في هذا الوقت ، فلما مات زياد وكانت هذه السنة ، شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه ، وعقد البيعة لولده يزيد ، وكتب إلى الآفاق بذلك). انتهى .
وهذا النص الذي اختاره ابن كثير ، المحب لمعاوية ويزيد ، من أكثر النصوص تشذيباً وتهذيباً ، وابتعاداً عن الصراع الخفي بين معاوية و(أخيه)زياد !
وذكر ابن عساكر وغيره ، أن عبيد بن كعب النميري قام بمهته على أحسن وجه فأقنع يزيداً ومعاوية بتأخير الموضوع فعلاً ، وتحسين سلوك يزيد !
قال في تاريخ دمشق:38/213: (وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع ، ثم قدم عبيد على زياد فأقطعه قطيعة). انتهى .
وفي الطبري:4/225 ، أن زياداً قال لمبعوثه النميري: (ويزيد صاحب رِسْلة وتهاون ، مع ما قد أولع به من الصيد ، فالق أمير المؤمنين مؤدياً عني فأخبره عن فعلات يزيد ! فقل له: رويدك بالأمر فأقمنُ أن يتم لك ما تريد ، ولا تعجل فإن دركاً في تأخير ، خير من تعجيل عاقبته الفوت... وكتب زياد إلى معاوية يأمره بالتؤدة وألا يعجل فقبل ذلك معاوية وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع ثم قدم عبيد على زياد فأقطعه قطيعة) ! انتهى .
أقول: هذه سذاجة من عبيد وزياد ومن الرواة ، لأن معاوية نمرود لايتحمل مخالفة زياد له واتصاله من ورائه بيزيد لثنيه عن الموضوع بحجة سوء سيرته ! فهو يعتبر ذلك تدخلاُ في أخص أموره وأهمها عنده !
لذلك نقول إن معاوية أسرَّها في نفسه ، وقرر أن يحبط خطة زياد ولا يدعه يستغل شهادته فيه بأنه أكفأ أولاد أبي سفيان بعده !
ولذلك أهانه عندما وفد عليه من أجل الموضوع ووبخه ، وأصدر أمره الى مجموعة الإغتيال بالتخلص منه !
ففي تاريخ دمشق:19/197: ( وفد زياد إلى معاوية ومعه أشراف أهل العراق فزجر به ابن حنيق العبادي(أي تفاءل بهذه السفرة) فقال:
قد علمت ضامرةُ الجيادْ أن الأمير بعده زيادْ
فلم يصل زياد إلى معاوية حتى أتاه الخبر وما قال ابن حنيق ، وإقرار زياد بذلك ! ومعاوية يربِّص لابنه ما يربِّص من الخلافة ، ثم أذن للناس فأخذوا مجالسهم ، ثم دخل زياد فلم يدعه إلى مجلس حتى قام له رجل من أهل العراق فجلس في مجلس ، فحمد الله معاوية وأثنى عليه ثم قال: هذه الخلافة أمر من أمور الله ، وقضاء من قضاء الله ، وإنها لا تكون لمنافق ولا لمن صلى خلف إمام منافق يعرض بزياد حتى عرف زياد).
يقصد معاوية: أن زياداً لايصلح للخلافة لأنه صلى خلف علي عليه السلام !! وقوله: (هذه الخلافة أمر من أمور الله ، وقضاء من قضاء الله) محاولةٌ لتركيز مذهبه الجبري الذي يجعل الخليفة الأموي خليفة الله تعالى في أرضه ، ويجعل فعله فعل الله تعالى ويرفع عنه الحساب والعقاب !
وتدل الرواية على أن زياداً جاء الى الشام بوفد (عراقي) ليطرح موضوع ولايته للعهد بدل يزيد ! وأن جواسيس معاوية عليه أوصلوا أخباره الى معاوية قبل أن يصل ! فعامله معاوية باستهانة ، وأجاب على أمنيته بالرد والتوبيخ !
ولايبعد أن يكون مجئ زياد بعد رسالة معاوية اليه يستشيره في إعلان يزيد ولياً لعهده ، وهذا يجعل قتله واجباً حسب مقررات معاوية !
قال الطبري في تاريخه:4/225: (لما مات زياد دعا معاوية بكتاب فقرأه على الناس باستخلاف يزيد ، إن حدث به حدث الموت فيزيد ولي عهد ، فاستوثق له الناس على البيعة).(ومثله في سمط النجوم:3/148، ونحو رواية ابن كثير في الكامل:3/350 ، والطبري:3/247، ومنتظم ابن الجوزي:5/285، وتاريخ خليفةص165).
* *
وقد اتفقت رواياتهم على أن زياداً أصيب بطاعون بدأ بإبهامه اليمنى فورمت وتآكل لحمها ، ثم انتشر بسرعة في كل يده !
قال الطبري في تاريخه:4/215: (فخرجت طاعونة على إصبعه ، فأرسل إلى شريح وكان قاضيه..... يستشيره في قطع يده فقال: لا تفعل ، إنك إن عشت صرت أجذم ، وإن هلكت إياك جانياً على نفسك ! قال: أنام والطاعون في لحاف؟! فعزم أن يفعل فلما نظر إلى النار والمكاوي جزع وترك ذلك).انتهى .
ولم يطل أمره حتى هلك ، وروي أن المرض انتشر في بدنه في أسبوع .
. وفي تاريخ اليعقوبي:2/235: (وروي أنه كان أحضر قوما بلغه أنهم شيعة لعلي ليدعوهم إلى لعن علي والبراءة منه ، أو يضرب أعناقهم ، وكانوا سبعين رجلا ، فصعد المنبر ، وجعل يتكلم بالوعيد والتهديد.... فبينا زياد يتكلم على المنبر إذ قبض على إصبعه ، ثم صاح: يدي ! وسقط عن المنبر مغشيا عليه فأدخل القصر وقد طعن في خنصره اليمنى ، فجعل لا يتغاذَّ ، فأحضر الطبيب فقال له: إقطع يدي ! قال: أيها الأمير ! اخبرني عن الوجع تجده في يدك ، أو في قلبك ؟ قال: والله إلا في قلبي . قال: فعش سويا). انتهى . أي قرب أجلك !
* *
أما دعوة الإمام الحسين عليه السلام على زياد ، فنقلتها مصادرنا ونسبَتْها الى الإمام الحسن عليه السلام ، وذلك تصحيف في الإسم أو اشتباه ، لأن الإمام الحسن عليه السلام استشهد في سنة خمسين للهجرة ، باتفاق مصادرنا وأكثر مصادرهم ! بينما هلك زياد بن أبيه سنة ثلاث وخمسين .
قال في مناقب آل أبي طالب:3/174: (واستغاث الناس من زياد إلى الحسن بن علي عليه السلام فرفع يده وقال: اللهم خذ لنا ولشيعتنا من زياد بن أبيه وأرنا فيه نكالاً عاجلاً إنك على كل شئ قدير ، قال: فخرج خرَّاجٌ في إبهام يمينه يقال لها السلعة ، وورم إلى عنقه فمات). انتهى .
أما رواية مصادر الخلافة فنسبت هذه الكرامة الى عبدالله بن عمر ، وقالت إنه دعا على زياد فأصيب بالطاعون ! قال في تاريخ دمشق:19/203: (عن ابن شوذب قال: بلغ ابن عمر أن زياداً كتب إلى معاوية: إني قد ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة ، يسأله أن يوليه الحجاز والعروض يعني بالعروض اليمامة والبحرين ، فكره ابن عمر أن يكون في سلطانه ، فقال: اللهم إنك تجعل في القتل كفارة لمن شئت من خلقك ، فموتاً لابن سمية لا قتلاً. قال: فخرج في إبهامه طاعونة فما أتت عليه إلا جمعة حتى مات ، فبلغ ابن عمر موته فقال: إليك يا ابن سمية ، لا الدنيا بقيت لك ولا الآخرة أدركت) ! (ونحوه في تاريخ الطبري:4/214 ، وأنساب الأشراف ص 1228، وفوات الوفيات ص288 ، والنجوم الزاهرة:1/219 ، وفيه: فقال ابن عمر لما بلغه ذلك اللهم أرحنا من يمين زياد وأرح أهل العراق من شماله فكان أول خبر جاءه موت زياد). والأوائل للعسكري ص172
وفي نهاية الأرب:4460: (فقال: ادعوا الله عليه يكفيكموه ، فاستقبل القبلة واستقبلوها فدعوا ودعا ، وكان من دعائه أن قال: اللهم اكفنا يمين زياد ! فخرجت طاعونة على إصبع يمينه ، فمات منها). (ونحوه في الطبري:4/215 ، وكامل ابن الأثير:3/2). وفي التمهيد لابن عبد البر:6/212: ( فقال: مروا العجائز يدعون الله عليه ، ففعلن فخرج بإصبعه طاعون...) . وفي البدء والتاريخ:6/2 و446: (فاجتمع أهل المدينة في مسجد رسول الله (ص) ودعوا عليه ، فخرجت في يده الآكلة فشغله عن ذلك . وكان ينال من علي رضي الله عنه فضربه النقاد ذو الرقبة يعني الفالج ، فقتله بالكوفة)
أما الذهبي فقد روى الروايتين ! قال في سير أعلام النبلاء:3/496: (وقال ابن شوذب: بلغ ابن عمر أن زياداً كتب إلى معاوية: إني قد ضبطت العراق بيميني وشمالي فارغة ، وسأله أن يوليه الحجاز . فقال ابن عمر: اللهم إنك إن تجعل في القتل كفارة ، فموتا لابن سمية لا قتلاً ، فخرج في إصبعه طاعون ، فمات .
قال الحسن البصري: بلغ الحسن بن علي أن زياداً يتتبع شيعة علي بالبصرة فيقتلهم فدعا عليه . وقيل: إنه جمع أهل الكوفة ليعرضهم على البراءة من أبي الحسن فأصابه حينئذ طاعون في سنة ثلاث وخمسين). انتهى .
وكلام الذهبي الأخير يشير الى حشد زياد لشخصيات الشيعة في الكوفة في ساحة قصره وامتدادها حتى وصلوا الى الرحبة كما ذكرت الروايات ، ليعرض عليهم البراءة من علي عليه السلام فمن لم يفعل قطع رأسه !
قال في تاريخ دمشق:19/203، ونحوه204: عن (عبد الرحمن بن السائب قال: جمع زياد أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من علي! قال عبد الرحمن: فإني لمع نفر من الأنصار والناس في أمر عظيم فهوَّمتُ تهويمةً فرأيت شيئاً أقبل طويل العنق مثل عنق البعير أهدب أهدل ! فقلت: ما أنت ؟ قال: أنا النقَّاد ذو الرقبة ، بُعثتُ إلى صاحب هذا القصر ! فاستيقظت فزعاً فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت ؟ قالوا: لا ، فأخبرتهم ! قال: ويخرج علينا خارج من القصر فقال: إن الأمير يقول لكم إنصرفوا عني ، فإني عنكم مشغول! وإذا الطاعون قد ضربه ، فأنشأ عبد الرحمن بن السائب يقول:
ما كان منتهياً عما أراد بنا حتى تناوله النَّقاد ذو الرقبهْ
فأثبت الشق منه ضربة ثبتت كما تناول ظلماً صاحب الرَّحَبَهْ).انتهى.
وصاحب الرحبة علي عليه السلام بسكون الحاء وفتحه للشعر .
وقد رواه من مصادرهم: النهاية:8/32 وفي طبعة 62، ونهاية ابن الأثير:2/315 ، ولسان العرب:2/291 ، ,469 ، والبد والتاريخ:6/3، وفي طبعة 446، والفائق للزمخشري:4/120، والروض المعطار للحميري:256، والمحاسن للبيهقي ص39، ومروج الذهب ص682، وأنساب الأشراف ص1271، وشرح النهج:3/199 ، وجمهرة اللغة لابن دريد ص809 ، وفي طبعة:2/677، وتاج العروس:6/442 ، وتذكرة ابن حمدون:2139 ، وسمط النجوم العوالي:3/122، وفي طبعة ص871 ، وغريب الحديث للخطابي:3/65، والمختضرين ص102، و103) .
ومن مصادرنا: الطوسي في الأمالي ص233 و620، وكنز الفوائد ص61، والمناقب:2/169 ، وتاريخ الكوفة للبراقي ص73، و104 ، وغيرها) .
ومعنى رؤيا عبد الرحمن السائب: أنه رأى حيواناً عنقه طويل كالبعير ، أهدب أي على رأسه وعينيه شعر ، وأهدل أي مدلى الشفتين ، وقال له إن اسمه ( النقاد ذو الرقبة) أي الذي ينقد الشخص من نقد الديك ، وهو رمز للبلاء والموت .
* *
فتلخص أنه سبب طاعون زياد وموته حسب ما تقدم هو: دعاء ابن عمر ، أو دعاء الإمام الحسن عليه السلام ، أو دعاء أهل المدينة ، أو دعاء أهل الكوفة ، أو سم معاوية ! والذي نرجحه أن يكون موته استجابة لدعاء الحسن والحسين‘ متقارناً مع سمِّ معاوية له بسم يهودي ، وأن السم ظهر في يده وانتشر بعد أسبوع في جسمه ، فهلك .
وقد استبعدنا دعاء ابن عمر عليه ، لما ثبت من خوفه الشديد من معاوية ، فهو لايجرؤ أن يدعو على أخيه زياد ! ولأن روايات دعاء ابن عمر متضاربة في نفسها والكلام الذي نسبه اليه الرواة هو كلام الإمام الحسن عليه السلام ، ويبدو أنهم نسبوه الى ابن عمر بعد موت زياد ، وربما بعد موت معاوية !
ففي تاريخ دمشق:19/202: (بلغ الحسن بن علي أن زياداً يتتبع شيعة علي بالبصرة فيقتلهم ، فقال: اللهم لاتقتلنَّ زياداً ، وأمته حتف أنفه ، فإنه كان يقال إن في القتل كفارة.... عن ابن أبي مليكة قال: إني لأطوف مع الحسن بن علي ، فقيل له: قتل زياد ، فساءه ذلك ! فقلت: وما يسوءك؟ قال: إن القتل كفارة لكل مؤمن .
عن أبي عبيدة بن الحكم عن الحسن بن علي قال أتاه قوم من الشيعة فجعلوا يذكرون ما لقي حجر وأصحابه وجعلوا يقولون: اللهم اجعل قتله بأيدينا ، فقال: الحسن: مه لا تفعلوا ، فإن القتل كفارات ، ولكن أسأل الله أن يميته على فراشه).
وفي تذكرة ابن حمدون:2139: (بلغ الحسن بن علي ماكان يصنع زياد بشيعة علي فقال: اللهم تفرد بموته ، فإن في القتل كفارة). انتهى .
وقد رجحنا تصحيف إسم الحسين في الرواية الى الحسن‘ ، لأن دعاء الإمام الحسن على ابن زياد ورد بصيغه عامة ليس فيها تحديد وقت ، بينما المروي عنه في المناقب:3/174، دعاء فوري معجل: (اللهم خذ لنا ولشيعتنا من زياد بن أبيه وأرنا فيه نكالاً عاجلاً إنك على كل شئ قدير) ومثل هذ الدعاء من المعصوم سيد شباب أهل الجنة ، لايتأخر الى سنوات . ولذا قلنا إنه للإمام الحسين عليه السلام .
وفي ختام حديث زياد نسجل شهادة ابن عباس بأنه رجل دموي قاتل ، ففي تاريخ دمشق:19/171: عن (الهجيع بن قيس قال: كتب زياد إلى الحسن والحسين وعبد الله بن عباس يعتذر إليهم في شأن حجر وأصحابه ، فأما الحسن فقرأ كتابه وسكت ، وأما الحسين فأخذ كتابه ولم يقرأه(ومزقه كما في مختصر ابن منظور) ، وأما ابن عباس فقرأ كتابه وجعل يقول كذبَ كذبَ . ثم أنشأ يحدث قال: إني لما كنت بالبصرة كبَّر الناس بي تكبيرة ثم كبروا الثانية ثم كبروا الثالثة ، فدخل علي زياد فقال: هل أنت مطيعي يستقم لك الناس ؟ فقلت: ماذا ؟ قال: أرسل إلى فلان وفلان وفلان ، ناس من الأشراف تضرب أعناقهم يستقم لك الناس !! فعلمت أنه إنما صنع بحجر وأصحابه مثل ما أشار به عليَّ) !! انتهى .
وكان زياد كاتباً عند ابن عباس عندما كان حاكم البصرة وإيران من قبل علي عليه السلام ، ومعنى كبَّر الناس أنهم صاحوا بشعار الخوارج ضد علي عليه السلام ، وكان شعارهم (لاحكم إلا لله ، الله أكبر) لأنهم قالوا إنهم كفروا بتحكيم حكمين وكان مطلبهم من علي عليه السلام أن يتوب من التحكيم ويقاتل معاوية !
فأشار زياد على ابن عباس أن يرسل شرطته فيحضر رؤساءهم ويقتلهم ليسكت الباقون ويطيعوه ! لذلك يقول ابن عباس هذا تفكير زياد ! فهو من النوع الذي يقابل معارضيه بالقتل! فهو إذن الذي قتل حجراً رئيس كندة وأصحابه !
وهذا هو نفس تفكير معاوية ! فأول ما يفكر فيه بشأن خصمه هو القتل !!
فقد روى ابن قتيبة في الامامة والسياسة:1/49 ، أنه جرى في دار الخلافة ذكر انتقاد الصحابة والأمصار لعثمان ، وكان معاوية عنده: ( فقال عثمان لمعاوية: ما ترى فإن هؤلاء المهاجرين قد استعجلوا القدر ، ولا بد لهم مما في أنفسهم ، فقال معاوية: الرأي أن تأذن لي فأضرب أعناق هؤلاء القوم . قال: من؟ قال: عليٌّ وطلحة والزبير ! قال عثمان: سبحان الله ! أقتل أصحاب رسول الله بلا حدث أحدثوه ولا ذنب ركبوه ؟! قال معاوية: فإن لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك ! قال عثمان: لا أكون أول من خلف رسول الله في أمته بإهراق الدماء). انتهى .
أقول: لن تجد احتراماً لحقوق الناس ودمائهم إلا في مدرسة النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام ، أما بنو أميه وموظفهم زياد ، وأما بنو العباس الذين هم من أبناء عبدالله بن عباس نفسه ، فهم يعتبرون الناس عبيداً لهم ، ويرون أن إراقة دمائهم حقٌّ شرعي لهم ، فهو أسهل عندهم إراقة الماء !
وأما عثمان فكان أقل من غيره من الأمويين في إراقة الدماء ، لكنه قتل العديد !
لله في خلقه شؤون.. فقد كان أبو أحيحة سعيد بن العاص الأموي من كبار زعماء قريش وأثريائها ، ومن أئمة الشرك والعداء لله ورسوله صلى الله عليه وآله ، لكن ابنه خالداً هداه الله تعالى برؤيا رآها ، فذهب الى النبي صلى الله عليه وآله وأسلم ، وتحمل من أبيه ما تحمل ، حتى اضطر للهجرة الى الحبشة ، ثم كان قائداً مع النبي صلى الله عليه وآله ، وشيعياً مخلصاً لعلي عليه السلام وقائداً بطلاً في فتح الشام !
كما كان عتبة بن ربيعة الأموي والد هند آكلة الأكباد ، من شيوخ قريش ، ورئيس حربها للنبي صلى الله عليه وآله ، وقد قتل هو وابنه الوليد وأخوه شيبة ، في بدر !
لكن ابنه أبا حذيفة واسمه قيس ، هداه الله تعالى فذهب الى النبي صلى الله عليه وآله وأسلم وتحمل من أبيه ما تحمل ، حتى اضطر للهجرة الى الحبشة ، وولد له هناك ابنه محمد ، وقد استشهد أبو حذيفة في اليمامة ، وكان ابنه محمد كأبيه شيعياً .
وكان هو ومحمد بن أبي بكر من القادة في فتح مصر ، وفي معركة ذات الصواري البحرية الشهيرة مع الروم . (أنساب الأشراف للبلاذري ص387) .
وشارك محمد بن أبي حذيفة رحمه الله في فتح الشام ، وصادف أن ركب سفينة مع كعب الأحبار الذي كان المستشار الثقافي والمفتي للخليفة عمر والخليفة عثمان وكان يرافق جيش الفتح أحياناً الى المناطق الآمنة ، ويزعم أنه يعرف المغيبات من التوراة ويحدثهم بها ! فأخذ محمد يسخر من كعب وتوراته المحرفة !
قال ابن شبة في تاريخ المدينة:3/1117: (عن محمد بن سيرين قال: ركب كعب الأحبار ومحمد بن أبي حذيفة في سفينة قِبَلَ الشام ، زمن عثمان في غزوة غزاها المسلمون ، فقال محمد لكعب: كيف تجد نعت سفينتنا هذه في التوراة تجري غداً في البحر؟! فقال كعب: يا محمد لاتسخر بالتوراة ، فإن التوراة كتاب الله . قال: ثم قال له(محمد) ذاك ثلاث مرات) !!
وقد وصفه الذهبي في سيره:3/479 بأنه متعلم من أهل القرآن: ( فخرج محمد بن أبي حذيفة فاستوى على المنبر فخطب وقرأ سورة ، وكان من أقرأ الناس).انتهى.
لكن أكثر ما تجد في مصادرهم ذم محمد رحمه الله وتحليل دمه لمعاوية ، مع أنه صحابي ، أموي ، وذلك لأنه حرَّض أهل مصر على ابن عمه عثمان بن عفان ، فجاء وفدهم المعترض على ظلم واليهم ، وكان خمس مائة فارس بقيادة الصحابي عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وانتهى أمره بمحاصرة عثمان بالإشتراك مع وفد البصرة والكوفة وقتله. (تاريخ دمشق:39/423 ، تاريخ الطبري:3/341).
أعطى معاوية الأمان لابن خاله ثم حبسه ، ثم قتله !
قال الطبري في تاريخه:3/548: ( وفي هذه السنة أعني سنة 36 قتل محمد بن أبي حذيفة ، وكان سبب قتله أنه لما خرج المصريون إلى عثمان مع محمد بن أبي بكر أقام بمصر ، وأخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح وضبطها ، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل عثمان وبويع لعلي ، وأظهر معاوية الخلاف وبايعه على ذلك عمرو بن العاص ، فسار معاوية وعمرو إلى محمد بن أبي حذيفة ، قبل قدوم قيس بن سعد مصر فعالجا دخول مصر فلم يقدرا على ذلك ، فلم يزالا يخدعان محمد بن أبي حذيفة حتى خرج إلى عريش مصر في ألف رجل فتحصن بها ، وجاءه عمرو فنصب المنجنيق عليه حتى نزل في ثلاثين من أصحابه وأخذوا وقتلوا رحمهم الله) !
وقال الطبري في:4/80: (اختلف أهل السير في وقت مقتله فقال الواقدي: قتل في سنة 36 ، وذكر خبر تحصنه في العريش ثم قال: وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه ذكر أن محمد بن أبي حذيفة إنما أخذ بعد أن قتل محمد بن أبي بكر ودخل عمرو بن العاص مصر وغلب عليها ، وزعم أن عمراً لما دخل هو وأصحابه مصر أصابوا محمد بن أبي حذيفة ، فبعثوا به إلى معاوية وهو بفلسطين فحبسه في سجن له ، فمكث فيه غير كثير ثم إنه هرب من السجن ، وكان ابن خال معاوية). انتهى .
فرَّ من السجن فلحقه مبعوث معاوية وقتله في فلسطين !
في تاريخ دمشق:52/272: (عن يزيد بن أبي حبيب قال: كان رجال من أصحاب النبي(ص) يحدثون أن رسول الله (ص) قال: يقتل في جبل الجليل والقطران من أصحابي أو من أمتي ناس ، فكان أولئك النفر الذين قتلوا مع محمد بن أبي حذيفة وأصحابه بجبل الجليل والقطران هناك).
وفي الإصابة:6/11: ( كان رجال من الصحابة يحدثون أن النبي(ص)قال: يقتل بجبل الخليل والقطران من أصحابي..... وذكر خليفة بن خياط في تاريخه أن علياً لما ولي الخلافة أقر محمد بن أبي حذيفة على إمرة مصر ، ثم ولاها محمد بن أبي بكر . واختلف في وفاته فقال بن قتيبة: قتله رشدين مولى معاوية ، وقال بن الكلبي: قتله مالك بن هبيرة السكوني) .
وفي أنساب الأشراف ص408 ، أن معاوية حبسه عنده في الشام: (فرماه عمرو بالمنجنيق حتى أخذه أخذاً فبعث به عمرو إلى معاوية فسجنه عنده ، وكانت ابنة قرظة امرأة معاوية ابنة عمة محمد بن أبي حذيفة ، أمها فاطمة بنت عتبة بن ربيعة تصنع له طعاماً وترسل به إليه وهو في السجن ، فلما سار معاوية إلى صفين ، أرسلت ابنة قرظة بشئ فيه مساحل من حديد إلى ابن أبي حذيفة ، فقطع بها الحديد عنه ، ثم جاء فاختبأ في مغارة بجبل الذيب بفلسطين فدل نبطيٌّ عليه رشدين مولى أبي حذيفة أبيه ، وكان معاوية خلفه على فلسطين ، فأخذه فقال له محمد: أنشدك الله خليت سبيلي! فقال له: أخلي سبيلك فتذهب إلى ابن أبي طالب وتقاتل معه ابن عمتك وابن عمك معاوية ، وقد كنت فيمن شايع علياً على قتل عثمان . فقدمه فضرب عنقه).
وقال البلاذري في أنساب الأشراف407: (وقوم يقولون: أن ابن أبي حذيفة حين أخذ لم يزل حبس معاوية إلى بعد مقتل حجر بن عدي ، ثم إنه هرب فطلبه مالك بن هبيرة بن خالد الكندي ثم السكوني ، ووضع الأرصاد عليه ، فلما ظفر به قتله غضباً لحجر) . انتهى .
أقول: توسط مالك بن هبرية الكندي لحجر بن عدي الكندي ، فلم يقبل معاوية وساطته فغضب ! ثم أرضاه معاوية بالمال . وتدعي هذه الرواية أنه قتل ثأراً بحجر بن عدي شخصية من بني أمية هو محمد بن أبي حذيفة !
وهذه من شائعات معاوية لإبعاد قتل ابن خاله عن نفسه ، اتقاءً لنقمة بني أمية ! لأن آل عتبة الذين منهم محمد وآل أبي أحيحة الذين منهم خالد بن سعيد ، أشرف عندهم من آل حرب ، وآل حرب الذين منهم معاوية أشرف عندهم من آل العاص الذين منهم عثمان !
في تاريخ دمشق:21/223: (كان أهل المدينة عبيدهم ونساؤهم يقولون:
والله لا ينالها يزيدُ حتى ينالَ هامَه الحديدُ إن الأميرَ بعدَهُ سعيدُ
يعنون لا ينال يزيد الخلافة ، والأمير بعده سعيد بن عثمان ، وكانت أمه أم عبد الله بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . فقدم سعيد على معاوية فقال: يا ابن أخي ما شئ يقوله أهل المدينة؟ قال وما يقولون؟ قال: قولهم: والله لا ينالها يزيد حتى يعض هامه الحديد إن الأمير بعده سعيد ! قال: ما تنكر من ذلك يا معاوية ؟! والله إن أبي لخير من أبي يزيد ، ولأمي خير خير من أم يزيد ، ولأنا خير منه ، وقد استعملناك فما عزلناك بعد ، ووصلناك فما قطعناك ، ثم صار في يديك ما قد ترى ، فحلأتنا عنه أجمع ! فقال له معاوية: يا بنيَّ أما قولك إن أبي خير من أبي يزيد فقد صدقت ، عثمان خير من معاوية . وأما قولك أمي خير من أم يزيد فقد صدقت ، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب ، ولَحَسْبُ امرأة أن تكون من صالح نساء قومها . وأما قولك إني خير من يزيد فوالله ما يسرني أن حبلاً بيني وبين العراق ثم نُظم لي فيه أمثالك به .
ثم قال معاوية لسعيد بن عثمان: إلحق بعمك زياد بن أبي سفيان فإني قد أمرته أن يوليك خراسان ، وكتب إلى زياد أن وله ثغر خراسان ، وابعث على الخراج رجلاً جلداً حازماً ! فقدم عليه فولاه وتوجه سعيد إلى خراسان على ثغرها ، وبعث زياد أسلم بن زرعة الكلابي معه على الخراج! ثم أورد ابن عساكر رواية جاء فيها: (فوالله ما يسرني أن الغوطة ملئت رجالا مثلك ! فقال يزيد: يا أمير المؤمنين إنه ابن من تعرف ، وحقه الحق الواجب الذي لايدفع ، فانظر له وتعطف عليه ووله !).
أقول: يظهر أن سعيداً هذا كان قليل العقل ، مع أنهم يسمونه: (شيطان قريش ولسانها)! (الإمامة والسياسة:1/164) فقد جاء مطالباً بولاية العهد ، فلعب عليه معاوية وأرضاه بمنصب شكلي وجعله تحت إمرة زياد ، وجعل ميزانية منطقته بيد غيره: (وكتب إلى زياد أن ولِّه ثغر خراسان ، وابعث على الخراج رجلاً جلداً حازماً) ! ولا بد أنه رتب أمره مع ابن زياد ، فجعله مسؤولاً عسكرياً في منطقة لم يستقر فتحها ، فهو في معرض القتل ولا مال بيده !
وفي الأمامة والسياسة لابن قتيبة:1/165: (فقال معاوية: لك خراسان . قال سعيد: وما خراسان؟ قال: إنها لك طعمة وصلة رحم ، فخرج راضياً ، وهو يقول:
ذكرت أمير المؤمنين وفضله فقلت جزاه الله خيرا بما وصل)...الخ..
وفي تاريخ الطبري:4/227: (وأما فضلك عليه ، فوالله ما أحب أن الغوطة دُحست بيزيد رجالاً مثلك ! فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره ، وقد عتب عليك لي ، فأعتبه ! قال: فولاه حرب خراسان)!!
وفي تاريخ دمشق:8/231: (فولاه حرب خراسان وولى إسحاق بن طلحة خراجها وكان إسحاق ابن خالة معاوية أمه أم أبان ابنة عتبة بن ربيعة ، فلما صار بالري مات إسحاق بن طلحة فولي سعيد خراج خراسان وحربها وكان ذلك في سنة ست وخمسين على ما ذكر الطبري). (ومنتظم ابن الجوزي:5/287)
وتجهز سعيد من البصرة فجهزه ابن زياد ، وساعده أخوه أبو بكرة بأربع مئة ألف فتعجب سعيد من هذا السخاء! قال ابن الأعثم في الفتوح:4/308: (فعرض عليه أهل السجون والدُّعَّار ومن يصلح للحرب ، فانتخب سعيد بن عثمان منهم أربعة آلاف رجل ، كل رجل يعد برجال....وقواه زياد بأربعة آلاف ألف درهم ، فقبضها سعيد وفرقها في أصحابه). وتوجه بجيشه وقيل في اثني عشر ألفاً (تاريخ دمشق:23/475) وعبر نهر بلخ وحاصر مدينة بخارى(معجم البلدان:1/355) ، أشهراً فلم يستطع فتحها !
وفي فتوح ابن الأعثم:4/310: ( وببخارا ملكة يقال لها يومئذ خيل خاتون....فأرسلت إليه فصالحته على ثلاثمائة ألف درهم وعلى أنها تسهل له الطريق إلى سمرقند . قال: فقبل سعيد ذلك منها ، وأخذ منها ما صالحته عليه وأخذ منها رهائن أيضاً عشرين غلاماً من أبناء ملوك بخارا كأن وجوههم الدنانير ، ثم بعثت إليه بالهدايا ووجهت معه الأدلاء يدلونه على طريق سمرقند . فسار سعيد بن عثمان من بخارا والأدلاء بن يديه يدلونه على الطريق الذي يوصله إلى سمرقند ، فنزل على سمرقند وبها يومئذ خلق كثير من السغد). انتهى. وعلة الرهائن أنهم ضمانة إذا عبر جيش المسلمين من بخارى ، أن لايتبعوه ويغدروا به !
وفي فتوح البلاذري:3/508: ( فنزل على باب سمرقند وحلف أن لا يبرح أو يفتحها ويرمى قهندزها. فقاتل أهلها ثلاثة أيام ، وكان أشد قتالهم في اليوم الثالث . ففقئت عينه وعين المهلب بن أبي صفرة).
وفي تاريخ اليعقوبي:2/237: (وسار إلى سمرقند فحاصرها فلم يكن له طاقة بها ، فظفر بحصن فيه أبناء الملوك ، فلما صاروا في يده طلب القوم الصلح ، فحلف ألا يبرح حتى يدخل المدينة ، ففتح له باب المدينة فدخلها ، ورمى القهندز بحجر !
وكان معه قثم بن العباس بن عبد المطلب فتوفي بسمرقند).
وفي فتوح ابن الأعثم:4/312: (فأنشأ مالك( بن الريب المازني وكان شجاعاً) وجعل يقول:
سعيد بن عثمان أمير مُرَوَّعٌ تراه إذا ما عاين الحرب أخزرا
وما زال يوم السغد يرعد خائفاً من الروع حتى خفت أن يتنصرا
فلولا بنو حرب لهدت عروشكم بطون العظايا من كسير وأعورا
وما كان من عثمان شئ علمته سوى نسله في عقبه حين أدبرا
قال: فبلغ ذلك سعيد بن عثمان فهم بقتله ، ثم إنه راقب فيه عشيرته ، فأكرمه ووصله بصلة سنية واعتذر إليه ، فقبل مالك ذلك .
أقام سعيد على سمرقند لايفتر من حرب القوم ، وعلم أنه لا يقدر على فتحها بالسيف فعزم على صلحهم ، قال: وطلب أهل سمرقند أيضاً الصلح فصالحهم على خمسمائة ألف درهم وعلى أنهم يفتحون له باب المدينة ، فيدخل من باب ويخرج من باب ، ثم ينصرف عنهم فرضي القوم بذلك ، وأعطاه أخشيد ملك سمرقند ما صالحه عليه ، ثم فتح له باب المدينة فدخلها سعيد في ألف فارس ، وسار في شارع واحد حتى خرج من الباب الآخر ، ثم صار إلى عسكره ، ووافته هدايا أهل سمرقند فقبلها ، ثم وضع العطاء لأصحابه فأعطاهم ، وتزود القوم .
ورحل سعيد بن عثمان عن باب سمرقند إلى بخارا ، فأقام على بابها أياماً ، ثم بعثت إليه ملكة بخارا أنك قد صرت إلى حاجتك وقد وفيت لك بمال الصلح ، فرد عليَّ رهائني فإنهم غلمان من أبناء ملوك بخارا ، فأبى سعيد أن يردهم عليها !
ثم رحل حتى صار إلى نهر بلخ فنزل عليه ، وعقدت له الأطواف فعبر وعبر أصحابه وسار حتى صار إلى مرو فنزلها....
ونَفَلَ(رجع) سعيد بن عثمان من بلاد خراسان وقد ملأ يديه من الأموال ، حتى إذا صار إلى المدينة مدينة رسول الله(ص)كتب إلى معاوية يستعفيه من ولاية خراسان فعلم معاوية أنه استظهر بالأموال فأعفاه !
قال: وعمد سعيد إلى الرهائن الذين حملهم من بخارا فجعلهم فلاحين في نخل له وحرث بالمدينة ، فغضبوا لذلك واتفقوا وأجمعوا على قتل سعيد ، قال: وجاءهم سعيد يوماً لينظر إلى نخلة ، فوثبوا عليه فقتلوه بخناجر كانت معهم ، ثم هربوا فصاروا إلى جبل هناك فتحصنوا فيه ، وبلغ ذلك أهل المدينة وساروا إليهم وحاصروهم في ذلك الجبل حتى ماتوا فيه جوعاً وعطشاً). انتهى .
أقول: يدل مجموع الروايات على أن القتل كان في أرض سعيد خارج المدينة ، وأن الغلمان قتلوا هناك !
ومعنى قوله: وما كان من عثمان شئ علمته سوى نسله في عقبه حين أدبرا
أن عثمان لم يورث أبناءه إلا فراره في أحد ! قال ابن حجر في العجاب في بيان الأسباب ص772: (وكان ممن ولى دبره يومئذ عثمان بن عفان وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان ، أخوان من الأنصار من بني زريق ، حتى بلغوا الجلعب فرجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم رسول الله: لقد ذهبتم بها عريضة ! قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). انتهى .(ورواه الاستيعاب:3/1074 ، وغيره).
واستعفاء سعيد لايصح ، فقد صرح المؤرخون بأن معاوية عزله بعد فراره من خراسان ! ففي تاريخ دمشق:37/443 ، و:21/223 : (وفيها يعني سنة سبع وخمسين عزل معاوية سعيد بن عثمان عن خراسان). (وتاريخ ابن خياط ص170، وغيرهما) .
وينبغي أن نسجل هنا ثلاث ملاحظات:
الأولى: أنك عندما تقرأ عن شخصيات قريش السلطة مثل سعيد بن عثمان أنه حارب وفتح الفتوحات فلا تصدق ! فرواة الخلافة وعلماؤها يستحلون الكذب لمصلحة من يتولونهم ! لاحظ قول الذهبي (الأموي) في سير أعلام النبلاء:3/442: (وسعيد بن عثمان بن عفان ، أبو عبد الرحمن الأموي ، غزا خراسان ، فورد نيسابور في عسكر منهم جماعة من الصحابة والتابعين ، ثم خرج منها إلى مرو ، ومنها إلى جيحون ، وفتح بخارى وسمرقند). ولاحظ قول ابن عساكر في تاريخه:21/222: (سعيد بن عثمان بن عفان القرشي المدني استعمله معاوية على خراسان فغزا سمرقند وفتح الله على يديه فتحاً عظيماً ، وأصيبت عينه بها ، وأخذ الرهون).
وقارن ما كتباه بما كتبه ابن الأعثم في فتوحه:4/312: ( ذكر فتوح خراسان أيضاً بعد سعيد بن عثمان . قال: وبقيت خراسان ليس بها نائب ، فكتب معاوية إلى زياد بن أبيه بالبصرة يأمره أن يوجه إلى خراسان رجلاً يقوم بأمرها)!! انتهى .
وقول الحموي في معجم البلدان:1/355 ، عما حدث بعد سعيد بن عثمان: (ثم لم يبلغني من خبرها شئ إلى سنة87 في ولاية قتيبة بن مسلم خراسان ، فإنه عبر النهر إلى بخارى فحاصرها فاجتمعت الصغد وفرغانة والشاش وبخارى ، فأحدقوا به أربعة أشهر ثم هزمهم... وفتحها... ثم مضى منها إلى سمرقند). انتهى .
ومعناه أن حملة سعيد سنة 56 فشلت ، بل سببت فراغاً سياسياً في خراسان ما وراء النهر ، التي تعني بخارى وسمرقند والشيشان ، وما اليها !
بل لا تعجب إذا قرأت عن بلد أنه فتح عشرين مرة ! وأن من أنواع الفتح أن يدخل القائد ببعض جنوده من باب من المدينة ويخرج من باب آخر !
وعلم أن البطل في رواياتهم قد يكون هو المنهزم الجبان ! وعليك أن تبذل جهداً لتعرف الفاتح الحقيقي ، الذي قد يكون معارضاً طمسوا إسمه !
وهذا يؤكد رأينا في أن الفتوحات الأساسية تحققت بجهود قادة الفتوح الشيعة ، بقيادة علي عليه السلام ، وأن قريشاً نسبتها الى تدبير ولاتها ، على حد تعبيره عليه السلام .
الملاحظة الثانية: أن منطقة ما وراء النهر من خراسان ، استمرت مقاومة أهلها المجوس والوثنيين طيلة حكم بني أمية ، فكانت عند معاوية منفىً نموذجياًً للمعارضين ، ولذلك تقرأ موت عدد كبير من الصحابة والشخصيات فيها ، باسم الجهاد والفتح ، سوى الذين عينوهم قادة وولاة ، وقتلوهم في قبل أن يصلوا اليها !
ولا بد أن سعيد بن عثمان أدرك أن منصبه خطة لقتله ، فسارع في جمع ما أمكنه من ثروة بالصلح والغارات الصغيرة ، وعاد في أقل من سنة !
الملاحظة الثالثة: أن عزل سعيد بن عثمان بمجرد رجوعه الى المدينة يعني أن معاوية خاف أن يستعمل ثروته التي جمعها للقيام بحركة ضده ، وقد صرح بذلك البلاذري فقال في فتوح البلدان:3/509: (وكان معاوية قد خاف سعيداً على خلعه ، ولذلك عاجله بالعزل ! ثم ولى معاوية عبد الرحمن بن زياد خراسان). انتهى.
وهذا يلقي الضوء على قتل الغلمان البخاريين لسعيد ، أو بالأحرى كمين معاوية في البستان ، وأحد عيون معاوية الذي رافق سعيداً الى البستان ، ولم يدافع عنه !
قال في تاريخ دمشق:21/227: (قدم سعيد بن عثمان المدينة فقتله غلمان جاء بهم من الصغد ، وكان معه عبد الرحمن بن أرطأة بن سيحان حليف بني حرب بن أمية.... فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط يرثي سعيد بن عثمان بن عفان:
يا عين جودي بدمع منك تهتانا وابكي سعيد بن عثمان بن عفانا
إن ابن زَيْنَةَ لم تصدق مودته وفرَّ عنه ابن أرطأة بن سيحانا).
وابن أرطاة: (له اختصاص بآل سفيان...ضرب في الخمر وهو حليف بني حرب) (تاريخ دمشق:34/178) و(أكثر شعره في الشراب والغزل والفخر) . (الأعلام:3/299).
وفي أنساب الأشراف ص1508: (قال: فبينا سعيد في حائط له وقد جعل أولئك السغد فيه يعملون بالمساحي ، إذا أغلقوا باب الحائط ووثبوا عليه فقتلوه ، فجاء مروان بن الحكم يطلب المدخل عليهم فلم يجده ! وقتل السغد أنفسهم ! وتسورت الرجال ففتحوا الباب وأخرجوا سعيداً) ! انتهى .
فاعجب لكون مروان والي المدينة من قبل معاوية حضر عند وقوع الجريمة في بستان خارج البلد ، ولم يجد مفتاح سور البستان فتأخر دخوله اليه ! أما ابن أرطاة فقالوا هرب واختفى ، أو كان مشغولاً مع أعوانه بتكميل مهمته بقتل الغلمان !
واعجب أكثر لإخفاء خيوط الجريمة وقولهم إن العشرين شاباً الذين قتلوا سعيداً قتلوا أنفسهم حتى لم يبق منهم أحد !
ففي تاريخ اليعقوبي:2/237: (وصار سعيد إلى المدينة ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد فوثبوا عليه وقتلوه ، وقتل بعضهم بعضاًحتى لم يبق منهم أحد)!!
وأعجب أكثر ، لمحاولة المغفلين من آل عثمان أن يبعدوا التهمة عن معاوية ، ويقولوا إن الإمام الحسين عليه السلام أصاب سعيداً بالعين لأنه جمع ثروة وغلماناً !
روى ( المدائني عن سحيم بن حفص قال: لقي الحسين بن علي سعيداً وأبناء السغد معه ، فقال متمثلاً: أبا عمارة أما كنتَ ذا نفر فإن قومك لم تأكلهم الضبعُ . وكان قوم من بني عثمان: يقولون: ما قتله إلا عين الحسين)!! (أنساب الأشراف ص1508) .
مع أن الإمام الحسين عليه السلام حذره من هؤلاء الغلمان وقال له: أين قومك؟ أليس لك أحد من أقاربك تمشي معهم بدل هؤلاء؟! ولعل سعيداً فهمها !
وأصل البيت: أبا خراشة أمَّا أنت ذا نفر فإن قوميَ لم تأكلهم الضبعُ .
ولكن الإمام عليه السلام غيَّره من التفاخر الى التعجب من مشي سعيد وحده مع غرباء ، مع أن قومه لم تأكلهم الضبع ، أي لم تفنهم السنين ! (لسان العرب:6/294، ومغنى اللبيب لابن هشام:1/35 ن وجمهرة الأمثال للعسكري:2/105، ومجمع الأمثال للنيسابوري:2/84).
تربى محمد بن أبي بكر في حجر علي عليه السلام وكان من خاصة أصحابه ، ذلك أن أمه أسماء بنت عميس كانت صحابية جليلة محبة لأهل البيت عليهم السلام ، ومن خواص الصديقة الزهراء عليها السلام ، فتزوجها علي عليه السلام بعد وفاة أبي بكر .
وكان أهل مصر يحبون محمداً لأنه شارك في فتح مصر ، وفي معركة ذات الصواري مع صديقه محمد بن أبي حذيفة ، كما تقدم .
وعندما جاء وفد مصر الى عثمان يشكون واليهم ابن أبي معيط الأموي ، أرادوا أن يبعث محمد بن أبي بكر والياً عليهم بدله ، فكتب له عثمان مرسوماً بولاية مصر وأرسله معهم ، لكنهم قبضوا في الطريق على رسول عثمان الى الوالي ابن معيط يأمره أن يقتلهم ويستمر في عمله ! فرجعوا وشاركوا في محاصرة عثمان !
~ ~
وكان علي عليه السلام ولى قيس بن سعد بن عبادة على مصر ، فتجمع بقايا الأمويين في معسكر مناهضين لعلي عليه السلام مطالبين بدم عثمان ، وكانوا بقيادة معاوية بن حديج الكندي ، فأمدهم معاوية من الشام وشجعهم ، فأمر علي عليه السلام قيساً أن يناجزهم القتال قبل أن يتعاظم أمرهم فأبى قيس بحجة أنهم عاهدوه على عدم الخروج !
فعزله الإمام عليه السلام وأرسل بدله محمد بن أبي بكر حاكماً على مصر ، ثم تفاقم أمر أتباع معاوية ووصل ابن العاص بجيش من ثلاث فرق من الشام والأردن وفلسطين ليحتل مصر وتكون طعمة له كل حياته ، كما شرط على معاوية ! فقاتلهم محمد فغلبوه ، وقتلوه قتلة فجيعة رحمه الله ، وسيطروا على مصر !
وفي أثناء هذه الأحداث أرسل أمير المؤمنين عليه السلام مالك الأشتر رحمه الله الى مصر لكن معاوية دبر له السم وقتله على أبواب القاهرة ، قبل أن يتسلم عمله من محمد .
(فلقيهم محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة ، فحاربهم محاربة شديدة ، وكان عمرو يقول: ما رأيت مثل يوم المسناة ، وقد كان محمد استذمَّ إلى اليمانية فمايل عمرو بن العاص اليمانية ، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده ! فجالد ساعة ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة ، واتبعه ابن حديج الكندي فأخذه وقتله ، وأدخله جيفة حمار ، وحرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف ! وبلغ علياً ضعف محمد بن أبي بكر وممالأة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص فقال: ما أوتي محمد من حرض)! (اليعقوبي في تاريخه:2/193) . ومعناه: ما أتي من ضعف في دينه أو عقله أوبدنه ، ولكنها المقادير .
وقد تقدم شئ عن شهادته رحمه الله في المجلد الأول ، وفي موت أخته عائشة ! ونورد هنا ملخصاً مختصراً مما ذكره الطبري في تاريخه:4/76 ، وهو أن ابن العاص نزل بجيش من ثلاثة فرق في أداني أرض مصر ، واجتمعت اليه العثمانية ، وكتب إلى محمد بن أبي بكر ، وأرسل له رسالة معاوية يتهدده ويتهمه بالتحريك على عثمان ، فطوى محمد كتابيهما وبعثهما إلى أمير المؤمنين عليه السلام يطلب منه الرأي والمدد ، فكتب له عليه السلام أن يثبت ويجاهد: ( وذكرت أنك قد رأيت في بعض ممن قبلك فشلاً فلا تفشل وإن فشلوا ، حصن قريتك واضمم إليك شيعتك ، واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والنجدة والبأس فإني نادب إليك النابغي على الصعب والذلول فاصبر لعدوك وامض على بصيرتك وقاتلهم على نيتك وجاهدهم صابراً محتسباً..... فقام محمد بن أبي بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وآله ثم قال: أما بعد معاشر المسلمين والمؤمنين فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة وينعشون الضلال ويشبون نار الفتنة ويتسلطون بالجبرية ، قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود . عبادَ الله فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله . انتدبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر .
قال فانتدب معه نحو من ألفي رجل وخرج محمد في ألفي رجل . واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد ، فأقبل عمرو نحو كنانة ، فلما دنا سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة فجعل كنانة لاتأتيه كتيبة من كتائب أهل الشام إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يقربها بعمرو بن العاص ، ففعل ذلك مراراً !
فلما رأى ذلك عمرو بعث إلى معاوية بن خديج السكوني فأتاه في مثل الدهم فأحاط بكنانة وأصحابه ، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب . فلما رأى ذلك كنانة بن بشر نزل عن فرسه ونزل أصحابه وكنانة يقول: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ .فضاربهم بسيفه حتى استشهد رحمه الله .
وأقبل عمرو بن العاص نحو محمد بن أبي بكر وقد تفرق عنه أصحابه ، لما بلغهم قتل كنانة ، حتى بقي وما معه أحد ! فلما رأى ذلك خرج يمشى في الطريق حتى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق ، فآوى إليها... فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً ، فأقبلوا به نحو فسطاط مصر . قال ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص وكان في جنده فقال: أتقتل أخي صبراً ؟! إبعث إلى معاوية بن خديج فانهه ، فبعث إليه عمرو بن العاص يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر ! فقال معاوية: أكذاك قتلتم كنانة بن بشر(وهو سكوني من قبيلته)وأخلي أنا عن محمد بن أبي بكر ؟! هيهات أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ . فقال لهم محمد: أسقوني من الماء قال له معاوية بن حديج: لا سقاه الله إن سقاك قطرة أبداً ، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائماً محرماً ، فتلقاه الله بالرحيق المختوم ! أتدري ما أصنع بك ؟ أدخلك في جوف حمار ، ثم أحرقه عليك بالنار ! فقال له محمد: إن فعلتم بي ذلك فطالما فعل ذلك بأولياء الله ! فقدمه فقتله ، ثم ألقاه في جيفة حمار ، ثم أحرقه بالنار . فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت عليه في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو)
وفي الغارات للثقفي:2/756: ( فدخلوا إليه وربطوه بالحبال وجروه على الأرض ... وأمر به أن يحرق بالنار في جيفة حمار . ودفن في الموضع الذي قتل فيه ، فلما كان بعد سنة من دفنه أتى غلامه وحفر قبره فلم يجد فيه سوى الرأس ، فأخرجه ودفنه في المسجد تحت المنارة... ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثديا هادماً . ووَجَدَ(حزن)عليه علي بن أبي طالب عليه السلام وجداً عظيماً وقال: كان لي ربيباً وكنت أعده ولداً ولبنيَّ أخاً).
وقد ذكر الثقفي الكبش الذي شوته أخت معاوية ، وأرسلته هدية الى عائشة !
وفي المواعظ والإعتبار للمقريزي ص1672: (فكانت ولاية محمد بن أبي بكر خمسة أشهر ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر ، سنة ثمان وثلاثين). انتهى .
(وكامل ابن الأثير:3/229، والبدء والتاريخ:5/226 ، ولئالى الأخبار:1/169، والغدير:11/66: ، وتاريخ دمشق:49/426 ، وتهذيب الكمال :24/542 ، والنهاية:7/348 ، و:8/109،والأوائل ص165، والنجوم الزاهرة:1/110، وكر أنه قيل أرسل رأاسه الى معاوية وهي رواية ضعيفة ، وتاريخ اليعقوبي:2/194 ، وفيه أن جيش معاوية كان ثلاث فرق من الشام وفلسطين والأردن . وأنه حرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف. وكان قتله(الأشتر)وقتل محمد بن أبي بكر في سنة 38).
وفي تاريخ دمشق:49/427: (وقدم عمرو بن العاص على معاوية بعد فتحه مصر فعمل معاوية طعاماً ، فبدأ بعمرو وأهل مصر فغداهم ، ثم خرج أهل مصر واحتبس عمرواً عنده ، ثم أدخل أهل الشام فتغدوا ، فلما فرغوا من الغداء قالوا: يا أبا عبد الله بايع ! قال: نعم ، على أن لي عشراً يعني مصر ! فبايعه على أن له ولاية مصر ما كان حياً . فبلغ ذلك علياً فقال ما قال) . انتهى. ويقصد به قول أمير المؤمنين عليه السلام : (إنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتية ، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة)! (نهج البلاغة:1/148) أوقوله عليه السلام: ( كرَّ على العاصي بن العاصي فاستماله فمال إليه ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ! وحرامٌ عليه أن يأخذ من الفئ دون قسمه درهماً). ( الخصال:378)
وفي تاريخ اليعقوبي:2/221: (وكانت مصر والمغرب لعمرو بن العاص طعمةً شرطها له يوم بايع ! ونسخة الشرط: هذا ما أعطى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص مصر أعطاه أهلها فهم له حياته ، ولا تنقص طاعته شرطاً . فقال له وردان مولاه: فيه الشعر من بدنك ، فجعل عمرو يقرأ الشرط ولا يقف على ما وقف عليه وردان ! فلما ختم الكتاب وشهد الشهود قال له وردان: وما عمرك أيها الشيخ إلا كظمإ حمار (مثل لقصر المدة) ! هلا شرطت لعقبك من بعدك؟ فاستقال معاوية فلم يقله ، فكان عمرو لايحمل إليه من مالها شيئاً ، يفرق الأعطية في الناس ، فما فضل من شئ أخذه لنفسه).انتهى .
وفي تاريخ الطبري:4/74: (قال له معاوية مجيباً أهمك يا ابن العاص ما أهمك !! وذلك لأن عمرو بن العاص كان صالح معاوية حين بايعه على قتال علي بن أبي طالب على أن له مصر طعمةً ما بقي). ولم يتمتع بها ابن العا ص إلا سنتين وكسراً !
(مالك الأشتر بن الحارث...بن مالك بن النخع).(معجم الشعراء:1/172).(قدس الله روحه ورضي الله عنه ، جليل القدر عظيم المنزلة ، كان اختصاصه بعلي عليه السلام أظهر من أن يخفى، وتأسف أمير المؤمنين عليه السلام لموته وقال: لقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله ). (الخلاصة للعلامة الحلي ص276) .
وفي معجم رجال الحديث للسيد الخوئي:15/168: (قال الكشي: ذكر أنه لما نعي الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى أمير المؤمنين عليه السلام تأوه حزناً وقال: رحم الله مالكاً وما مالك ! عزَّ عليَّ به هالكاً ، لو كان صخراً لكان صلداً ، ولو كان جبلاً لكان فنداً ، وكأنه قد مني قداً). انتهى .
كان مالك من شجعان العالم ، قوي الروح والبنية طويل القامة، وكان هو وعَديُّ بن حاتم (يركب الفرس الجسام فتخط إبهاماه في الأرض).(المحبر: 113) .
صحابي عدوه في التابعين:
عدُّوه في التابعين لكن بعض العلماء ألف رسالة في إثبات صحبته للنبي صلى الله عليه وآله . (الذريعة:7/37) وفي ذلك نصوص عديدة ! لكن أكثر رواة الخلافة لم يذكروه في وفادة النخع على النبي صلى الله عليه وآله ودعائه لهم ، كما في أسد الغابة:1/61 !
* *
طمسوا دوره في حرب مسيلمة:
ذكر له أسامة بن منقذ في كتاب الإعتبار ص26 ، دوراً حاسماً في قتال مسيلمة الكذاب والمرتدين معه من بني حنيفة ، وأنه قتل فارسهم المشهور ، قال:
(فكان أبو مسيكه الأيادي مع بني حنيفة وكانوا أشد العرب شوكه ، وكان مالك الأشتر في جيش أبي بكر ، فلما تواقفوا برز مالك بين الصفين وصاح يا أبا مسيكة فبرز له فقال: ويحك يا أبا مسيكة! بعد الإسلام وقراءة القرآن ، رجعت إلى الكفر؟! فقال: إياك عني يا مالك ، إنهم يحرمون الخمر ولا صبر لي عنها .
قال: هل لك في المبارزة ؟ قال: نعم . فالتقيا بالرماح ، والتقيا بالسيوف ، فضربه أبو مسيكة فشق رأسه وشتر عينه ، وبتلك الضربه سمي الأشتر . فرجع وهو معتنق رقبه فرسه إلى رحله واجتمع له قوم من أهله وأصدقائه يبكون . فقال لأحدهم: أدخل يدك في فمي، فأدحل إصبعه في فمه فعضها مالك فالتوى الرجل من الوجع! فقال مالك: لابأس على صاحبكم ، يقال إذا سلمت الأضراس سلم الرا س! أحشوها يعني الضربة سياقاً وشدوها بعمامة ، فلما حشوها وشدوها قال: هاتوا فرسي قالوا: إلى أين قال إلى أبي مسيكة ! فبرز بين الصفين وصاح يا أبا مسيكة! فخرج إليه مثل السهم ، فضربه مالك بالسيف على كتفه فشقها إلى سرجه فقتله . ورجع مالك إلى رحله فبقي أربعين يوماً لايستطيع الحراك ، ثم أبلَّ وعوفي من جرحه ذلك).
* *
طمسوا دوره في معارك الفتوحات:
وكان له في الفتوحات دورٌ مميز ، في معارك فتح العراق وفارس ، وكان السبب في انتصار المسلمين في معركة اليرموك ! لكنهم غطوا على دوره كغيره من القادة الشيعة ! فقد روى الطبري:2/597: (عن أرطأة بن جهيش قال كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية ، فخرج يومئذ رجل من الروم فقال من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين فقال للرومي خذها وأنا الغلام الأيادي! فقال الرومي: أكثر الله في قومي مثلك ، أما والله لولا أنك من قومي لأزرت الروم ، فأما الآن فلا أعينهم). (ورواه في تاريخ دمشق:56/379)
وذكر غير الطبري أن هذا الرومي كان فارس الروم في اليرموك ، وأنه كان كعمرو بن ود فارس العرب ، فلم يبرز اليه من المسلمين إلا مالك ، فضربه ففر جريحاً ، فذهل الروم وتغيرت كفة المعركة لمصلحة المسلمين.قال الواقدي:1/242: (وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق ، وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وخوف باسمه....فابتدر مالك ماهان....فقال له ماهان: أنت صاحب خالد بن الوليد؟ قال: لا ، أنا مالك النخعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ! فقال ماهان: لابد لي من الحرب ثم حمل على مالك ، وكان من أهل الشجاعة فاجتهدا في القتال ، فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه ، فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر ، قال: فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ، ثم فكر فيما عزم عليه فدبَّرَ نفسه وعلم أن الله ناصره ، قال والدم فائرٌ من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكاً ، وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه ! وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك إستعن بالله يعنك على قرينك ، قال مالك: فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله صلى الله عليه وآله وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعاً غير موهن فعلمت أن الأجل حصين ، فلما أحس ماهان بالضربة ولى ودخل في عسكره !
قال الواقدي:ولما ولى ماهان بين يدي مالك الأشتر منهزماً صاح خالد بالمسلمين: يا أهل النصر والبأس إحملوا على القوم ما داموا في دهشتهم ، ثم حمل خالد ومن معه من جيشه ، وحمل كل الأمراء بمن معهم ، وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر ، حتى إذا غابت الشمس وأظلم الأفق انكشف الروم منهزمين بين أيديهم ، وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا ، فقتلوا منهم زهاء من مائة ألف وأسروا مثلها..).
وقال الواقدي في ص462: (والتقى مالك الأشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم أنه من ملوكهم ، فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره).
وذكر البلاذري في فتوح البلدان:1/194، أنه كان قائداً في فتح أنطاكية .وذكر في ص630 في القادة أبا ذر والأشتر في محاصرة مدينة ساحلية..الخ. وفي:1/302 ، وما بعدها كيف خطط مالك لفتح حلب ، ثم كيف فتح حصن عزار ، واستخلف عليه سعيد بن عمرو الغنوي ، ورجع الى أبي عبيدة ، فكتب أبو عبيدة الى عمر بالنصر) .
كما أن عدداً من المصادر نصت على أن مالكاً رحمه الله جاء من معركة اليرموك مدداً للمسلمين في القادسية وشهدها . ففي طبقات ابن سعد:6/405: (أخبرنا طلق بن غنام قال شهد جدي مالك بن الحارث القادسية... وتوفي طلق بن غنام في رجب سنة إحدى عشرة ومائتين في خلافة المأمون وكان ثقة صدوقاً) .
وروى له أبو تمام في ديوان الحماسة:1/39 بيت شعر ، قال:
(وتلقنى يشتد بي أجردٌ مستقدم البركة كالراكب.. هو مالك بن الحارث أحد بني النخع والأشتر لقب له ، كان شاعراً يمانياً من شعراء الصحابة ، شهد حرب القادسية أيام عمر بن الخطاب التي كانت بين المسلمين والفرس ، وكان لعلي في حروبه مثل ما كان علي لرسول الله صلى الله عليه وآله ).
وذكر أبو الفرج في الأغاني:15/208، أنه كان في القادسية مع عمرو بن معدي كرب: (قال أبو عبيدة في رواية أبي زيد عمر بن شبة شهد عمرو بن معدي كرب القادسية وهو ابن مائة وست سنين ، وقال بعضهم بل ابن مائة وعشر ، قال: ولما قتله العلج عبر نهر القادسية هو وقيس بن مكشوح المرادي ومالك بن الحارث الأشتر). ( وكذا في معاهد التنصيص للعباسي ص429)
وفي مصنف ابن أبي شيبة:7/718: (عن الأعمش عن مالك بن الحارث أو غيره قال: كنت لاتشاء أن تسمع يوم القادسية: أنا الغلام النخعي ، إلا سمعته).
وفي المصنف:8/14، (فقال عمر: ما شأن النخع ، أصيبوا من بين سائر الناس أفرَّ الناس عنهم؟ قالوا: لا ، بل وَلُوا أعظم الأمر وحدهم).( ونحوه في الإصابة:1/196).
وهذا التعتيم يدل على تعصب رواة الخلافة ضد الأشتر والنخعيين ، لتشيعهم !
روى الطبري نفسه في:3/78 ، عن الأسود النخعي: (قال شهدت القادسية فلقد رأيت غلاماً منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلاً من أبناء الأحرار ! فقلت لقد أذل الله أبناء الأحرار) . وفي مصنف ابن أبي شيبة:8/15، أن النخع كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة ، أي ربع جيش المسلمين ، وأن ثقل المعركة كان عليهم .
وفي تاريخ الطبري:3/82 ، أنهم هاجروا من اليمن مع عوائلهم ، وزوجوا سبع مائة بنت الى المسلمين وخاصة الأنصار. (ونحوه في تاريخ دمشق:65/100، وذكر أن نصف النخع الآخر توجه الى الشام) .
* *
نفي عثمان الأشتر وزعماء الكوفة الى الشام
كانت قبيلة النخع في الكوفة ورئيسهم مالك ، لكن كان له نفوذ على عامة قبائل اليمن ، ولم يكن أكثر منه نفوذاً إلا الأشعث بن قيس ، زعيم قبائل كندة .
وكان الأشتر الناطق الرسمي باسم زعماء الكوفة الى دار الخلافة في زمن عمر وعثمان ، وقد وفد شاكياً مظالم الوالي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي الذي كان أبوه صاحب خمارة في مكة وعدواً لدوداً للنبي صلى الله عليه وآله ، وكان ابنه الوليد مدمن خمر حتى صلى الصبح ثمان ركعات ، وتقيأ خمراً في محراب مسجد الكوفة ! ففي صحيح مسلم:5/126: ( قال شهدت عثمان بن عفان وأتيَ بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ! فقال عثمان إنه لم يتقيأ حتى شربها ، فقال: يا علي قم فاجلده ، فقال علي: قم يا حسين فاجلده ، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه ، فقال، يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده ، فجلده وعليٌّ يعد).
فاستبدله عثمان بسعيد بن العاص الأموي ، فطهر سعيد المنبر وحاول أن يتألف المسلمين ، لكن تعصبه الأموي واستهتاره بالمسلمين أغضب أهل الكوفة عليه !
قال الطبري:3/365: (قدم سعيد بن العاص الكوفة فجعل يختار وجوه الناس يدخلون عليه ويسمرون عنده ، وأنه سمر عنده ليلة وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب الأرحبي ، والأسود بن يزيد ، وعلقمة بن قيس النخعيان ، وفيهم مالك الأشتر في رجال ، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان لقريش ! فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا ، بستان لك ولقومك ! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيباً إلا أن يكون كأحدنا)!
وقال الطبري:3/365 ، إن سعيد بن العاص كتب الى عثمان: (إن رهطاً من أهل الكوفة سماهم له عشرة يؤلبون ويجتمعون على عيبك وعيبي والطعن في ديننا ! وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا ، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلى معاوية ، ومعاوية يومئذ على الشام ، فسيرهم وهم تسعة نفر إلى معاوية ، فيهم مالك الأشتر ، وثابت بن قيس بن منقع ، وكميل بن زياد النخعي ، وصعصعة بن صوحان... أن معاوية لما عاد إليهم من القابلة وذكَّرهم ، قال فيما يقول: وإني والله ما آمركم بشئ إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصتي ! وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها ، إلا ما جعل الله لنبيه نبي الرحمة(ص)... وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس ، لم يلد إلا حازماً !
قال صعصعة: كذبت ! قد ولدهم خير من أبي سفيان ، من خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البر والفاجر والأحمق والكيس ! فخرج تلك الليلة من عندهم ، ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلاً ثم قال: أيها القوم ردوا عليَّ خيراً أو اسكتوا ، وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم وينفع عشائركم ، وينفع جماعة المسلمين ، فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم . فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله !
فقال: أوليس ما ابتدأتكم به إن أمرتكم بتقوى الله وطاعته وطاعة نبيه (ص)وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرقوا ؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي(ص) ! قال: فإني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه(ص)ولزوم الجماعة وكراهة الفرقة ، وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم ، وتعظوهم في لين ولطف.... فقال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ! قال: من هو؟ قال من كان أبوه أحسن قدماً من أبيك، وهو بنفسه أحسن قَدماً منك في الإسلام !
فقال: والله إن لي في الإسلام قَدماً ولغيري كان أحسن قَدماً مني ، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة...الخ.) ! ( وذكر في كشف الخفاء:2/275، قول معاوية: لو ولد أبو سفيان الخلق كانوا عقلاء ، وجواب صعصعة).
ووصف الطبري في:3/365 ،آخر جلسة لمعاوية معهم ، بعد أن أمضوا مدة في الشام: (فوثبوا عليه (على معاوية بعد نقاشهم معه)فأخذوا برأسه ولحيته ! فقال: مهْ ، إن هذه ليست بأرض الكوفة ، والله لو رأى أهل الشأم ما صنعتم بي وأنا إمامهم ، ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً ! ثم قام من عندهم فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت ! ثم كتب إلى عثمان:
(لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم ، ويأتون الناس زعموا من قبل القرآن ، فيشبهون على الناس! وليس كل الناس يعلم ما يريدون ، وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة ! قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم ، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشأم أن يغروهم بسحرهم وفجورهم ، فارددهم إلى مصرهم فلتكن دراهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم ، والسلام . فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة ، فردهم إليه ، فلم يكونوا إلا أطْلَقَ ألسنةً منهم حين رجعوا ! وكتب سعيد إلى عثمان يضجُّ منهم ، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرْهُمْ إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وكان أميراً على حمص ، وكتب إلى الأشتر وأصحابه: أما بعد ، فإني قد سيرتكم إلى حمص ، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها ، فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شراً ، والسلام . فلما قرأ الأشتر الكتاب قال: اللهم أسوأنا نظراً للرعية ، وأعملنا فيهم بالمعصية فعجل له النقمة ! فكتب بذلك سعيد إلى عثمان ، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص ، فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل ، وأجرى عليهم رزقاً).انتهى.
وقال الطبري في:3/367: (فكتب سعيد بن العاص إلى عثمان يخبره بأمرهم فكتب إليه أن سيرهم إلى الشام وألْزِمْهُمْ الدروب...). انتهى .
أقول: تدل هذه الروايات الحكومية على قوة شخصياتهم ومنطقهم ، واسترخاصهم لمعاوية وبني أمية ، وأنهم كانوا مؤمنين أصحاب ثقافة قرآنية وحديثية عبَّر عنها معاوية بقوله الجاهلي: (قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم ، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشا أن يغروهم بسحرهم وفجورهم) ! ومعنى قول عثمان لابن خالد: ألزمهم الدروب ، أي ضعهم في الطرق التي يَغِيرُ منها الروم على المسلمين ، وهي مناطق خطرة ، لعلهم يُقتلون !
وكانت لهم قصص مع عبد الرحمن بن خالد كقصصهم مع معاوية في التبعيد الأول ، فاضطروا الى إرجاعهم الى الكوفة ! فعادوا وهم أقوى لالتفاف المسلمين حولهم ، وذهب وفد الكوفة الى المدينة برئاسة مالك الأشتر يطالبون عثمان بإصلاح الوضع وتغيير الوالي ابن العاص ، فلم يستجب عثمان وكان الوالي في المدينة ، فمنعه مالك من دخول الكوفة ، وفرض على عثمان تغييره بالقوة !
قوم صالحون يجهزون جنازة أبي ذر رحمه الله :
كان الأشتر مع مئتي راكب من اليمانيين عائدين من الحج ، فشاهدوا امرأة في الربذة على قارعة الطريق تلوِّح بثوب أسود ، وإذا بها ابنة أبي ذر الذي نفاه عثمان الى الربذة ، فأخبرتهم أنه توفي ودعتهم الى القيام بمراسم دفنه .
في اختيار معرفة الرجال:1/283: (مكث أبو ذر رحمه الله بالربذة حتى مات . فلما حضرته الوفاة قال لامرأته: إذبحي شاة من غنمك واصنعيها ، فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطريق ، فأول ركب ترينهم قولي ياعباد الله المسلمين هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله قد قضى نحبه ولقي ربه فأعينوني عليه وأجيبوه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرني أني أموت في أرض غربة ، وأنه يلي غسلي ودفني والصلاة عليَّ رجال من أمتي صالحون . محمد بن علقمة بن الأسود النخعي قال: خرجت في رهط أريد الحج ، منهم مالك بن الحارث الأشتر ، وعبد الله بن الفضل التميمي ، ورفاعة بن شداد البجلي حتى قدمنا الربذة ، فإذا امرأة على قارعة الطريق تقول: يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله هلك غريباً ، ليس لي أحد يعينني عليه ، قال: فنظر بعضنا إلى بعض وحمدنا الله على ما ساق إلينا ، واسترجعنا على عظم المصيبة ، ثم أقبلنا معها ، فجهزناه وتنافسنا في كفنه حتى خرج من بيننا بالسواء ، ثم تعاونا على غسله حتى فرغنا منه ، ثم قدمنا مالك الأشتر فصلى بنا عليه ، ثم دفناه ، فقام الأشتر على قبره ثم قال: اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغير ولم يبدل ، لكنه رأى منكراً فغيره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيداً غريباً ، اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسولك ! قال: فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا: آمين . ثم قدمت الشاة التي صنعت ، فقالت: إنه قد أقسم عليكم ألا تبرحوا حتى تتغدوا ، فتغدينا وارتحلنا). انتهى .
ولكن رواة الخلافة بخلوا على مالك الأشتر وصحبه بهذا التوفيق في تجهيز أبي ذر ، فزعموا أن الذي صلى عليه عبدالله بن مسعود ! (في الحاكم وأبي نعيم وأبي عمر: ليموتن أحدكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين . وفي البلاذري: يلي دفنه رهط صالحون . وقد دفنه مالك الأشتر وأصحابه الكوفيون ، أنساب الأشراف:5/55 ، وحلية الأولياء:1/17 ، والحاكم:3/337 ، والإستيعاب:1/83 ، وقال ابن أبي الحديد:3/416: هذا الحديث يدل فضيلة عظيمة للأشتر رحمه الله وهي شهادة قاطعة من النبي بأنه مؤمن). (الغدير:9/41، بتصرف).وسبب بخلهم على الأشتر بشهادة النبي صلى الله عليه وآله أنهم يريدون أن يمدحوا عثمان بأنه تأثر لموت أبي ذر وضم ابنته الى عياله! (الطبري:3/354) .
قال في أسد الغابة:5/188: (وفي ذكر موته وصلاة عبد الله بن مسعود عليه ومن كان معه في موته ، ومقامه بالربذة ، أحاديث لانطوِّل بذكرها . وكان أبو ذر طويلاً عظيماً أخرجه أبو عمرو). انتهى. (وراجع مستدرك الحاكم:3/51).
خطبة الأشتر عند بيعة أمير المؤمنين عليه السلام
في تاريخ اليعقوبي:2/179 : (وقام صعصعة بن صوحان فقال: والله يا أمير المؤمنين ، لقد زينت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ، ولهي إليك أحوج منك إليها . ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيها الناس ، هذا وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء ، الحسن الغناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ، ورسوله بجنة الرضوان . من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ، ولا الأوائل). انتهى .
ثم كان الأشتر مع أمير المؤمنين عليه السلام عضده في حربه وسلمه ، وقد تقدمت بعض مواقفه ودوره العظيم في حرب الجمل وصفين، ثم نصبه أمير المؤمنين عليه السلام والياً على الجزيرة والموصل ، فبقي فيها حتى أرسل اليه أن يستخلف أحداً ويحضر اليه فأرسله الى مصر فاستخلف شبيب بن عامر على الجزيرة). (أنساب الأشراف ص471).
رسالة الإمام عليه السلام الى أهل مصر وعهده الى مالك الأشتر:
وفي أمالي المفيد ص81: (فخرج مالك الأشتر رضي الله عنه فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر ، وقدَّم أمير المؤمنين عليه السلام أمامه كتاباً إلى أهل مصر:
بسم الله الرحمن الرحيم ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله ، وإني قد بعثت إليك عبداً من عباد الله ، لاينام أيام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر ، من أشد عبيد الله بأساً ، وأكرمهم حسباً ، أضر على الفجار من حريق النار ، وأبعد الناس من دنس أو عار ، وهو مالك بن الحارث الأشتر ، لا نابي الضرس ولا كليل الحد ، حليم في الحذر رزين في الحرب ، ذو رأي أصيل ، وصبر جميل ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ، فإن أمركم بالنفير فانفروا ، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري ، فقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم ، وشدة شكيمة على عدوكم . عصمكم الله بالهدى وثبتكم التقوى ، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته). انتهى .
أما عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر ، فهو يبلغ ثلاثين صفحة ، وهو وثيقة سياسية إدارية حقوقية ترسم للحاكم كيفية إدارة الدولة . وقد عرف قيمته بعض الحقوقيين الغربيين كما قرأت ، فجعلوه مصدراً فيما لانص قانوينياً فيه !
قتل معاوية مالك الأشتر بالسُّم
في أمالي المفيد ص82: (ولما تهيأ مالك الأشتر للرحيل إلى مصر كتب عيون معاوية بالعراق إليه يرفعون خبره ، فعظم ذلك على معاوية ، وقد كان طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها فاتته ، وكان أشد عليه من ابن أبي بكر ، فبعث إلى دهقان من أهل الخراج بالقلزم أن علياً قد بعث بالأشتر إلى مصر وإن كفيتنيه سوغتك خراج ناحيتك ما بقيت ، فاحتل في قتله بما قدرت عليه . ثم جمع معاوية أهل الشام وقال لهم: إن علياً قد بعث بالأشتر إلى مصر ، فهلموا ندعو الله عليه يكفينا أمره ، ثم دعا ودعوا معه ! وخرج الأشتر حتى أتى القلزم ، فاستقبله ذلك الدهقان فسلم عليه وقال له: أنا رجل من أهل الخراج ولك ولأصحابك علي حق في ارتفاع أرضي فانزل عليَّ أقم بأمرك وأمر أصحابك وعلف دوابك واحتسب بذلك لي من الخراج . فنزل عليه الأشتر ، فأقام له ولأصحابه بما احتاجوا إليه ، وحمل إليه طعاما دس في جملته عسلاً جعل فيه سماً ، فلما شربه الأشتر قتله ومات من ذلك ! وبلغ معاوية خبره فجمع أهل الشام وقال لهم: أبشروا فإن الله تعالى قد أجاب دعاءكم ، وكفاكم الأشتر وأماته ، فسروا بذلك واستبشروا به) !! انتهى .
وقد ذكرنا في قتل معاوية لعبد الرحمن بن خالد ، عدة مصادر لقول معاوية عندما بلغه نجاح خطته في قتل مالك الأشتر بالسم: (إن لله جنوداً من عسل)!
وفي المستطرف ص154: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي في كتاب الأمثال: ومعاوية أيضاً حين بلغه أن الأشتر سقي شربة عسل فيها سم فمات: إن لله جنوداً منها العسل). وفي ص352: (فقال معاوية: إن لله جنوداً منها العسل).
وفي نهاية الإرب ص4465: (وبلغ معاوية مسيره ، فدس إلى دهقان بالعريش فقال: إن قتلت الأشتر فلك خراجك عشرين سنة... فسمَّه وأتاه به فشربه فمات).
وفي تاريخ البخاري:7/311: (فقال عمرو بن العاص إن لله جنوداً من عسل).
وفي البدء والتاريخ:440: (كتب معاوية إلى دهقان العريش إن أنت قتلت الأشتر فلك خراجه عشرين سنة ، فأخرج له سويقاً وجعل فيه سماً ، فلما شربه الأشتر يبس مكانه ! فقال معاوية: لما بلغه: ما أبردها على الفؤاد ! إن لله جنوداً من عسل)!
مشهد مالك الأشتر رحمه الله في القاهرة
(لما سار الأشتر إلى مصر أخذ في طريق الحجاز فقدم المدينة فجاءه مولى لعثمان يقال له نافع وأظهر له الود ، فلم يزل معه إلى عين شمس (أعني المدينة الخراب خارج مصر بالقرب من المطرية) فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا ، وسقاه نافع العسل فمات. وهذه الرواية هي أقرب الروايات إلى الواقع ، وتؤكد صحة موضع قبره بمنطقة القلج الآن بالقرب من بلدة الخانكة ، وهذه المنطقة واقعة ضمن حدود مدينة عين شمس القديمة. وأكثر زوار مرقد مالك الأشتر من العرب والأجانب ، فشهرته محدودة وسط المصريين ، ولذلك يلقبونه بالشيخ العجمي ! وقد تم تجديد مرقده مؤخراً على أيدي طائفة البهرة الإسماعيليين ، ودفن إلى جواره شقيق شيخ البهرة . ويقع مرقده وسط بستان تحيط به مناطق زراعية بدأ الزحف السكاني يطغي عليها). (الشيعة في مصر لصالح الورداني ص108).
حجر بن عدي الكندي رحمه الله صحابي جليل: وفارس من كبار قادة الفتوحات ، كان كثير العبادة حتى وصفوه براهب الصحابة ، قال الحاكم في المستدرك:3/468: (ذكر مناقب حجر بن عدي رضي الله عنه ، وهو راهب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ) .
( وفد على النبي صلى الله عليه وآله هو وأخوه هانئ بن عدي وشهد القادسية ، وشارك في فتح الشام وهو الذي فتح مرج عذراء الذي قتل فيه ! (تاريخ الطبري:3/135 ، والغارات للثقفي:2/812 ، والمحبر لابن حبيب ص292 ، وأخبار الشعراء للمرزباني ص49 ، والمنتخب مذيل الطبري ص149، والطبقات:6/217) .
وكان قائد ميمنة المسلمين في معركة جلولاء وصفين.(الأخبار الطوال ص127)
* *
وكان في صفين قائد ميمنة علي عليه السلام : ( تاريخ الطبري:4/63). وقائد قوات كندة (تاريخ خليفة146 ، والغارات:1/51) وكان من عظماء أصحاب علي ، وأراد أن يوليه رياسة كندة ويعزل الأشعث بن قيس ، وكلاهما من ولد الحارث بن عمرو آكل المرار فأبى حجر بن عدي أن يتولى الأمر والأشعث حي). (الأخبار الطوال:ص224)
* *
وكان باراً بأمه محباً لها: فكان يرتب لها مكان نومها بيديه ، ثم ينام فيه ليطمئن أنه ممهد ! (تاريخ دمشق:12/212 ، ومكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص76)
* *
وهو أول من خرج لرد غارات معاوية: وطارد الضحاك بن قيس في غارته على مسالح العراق ، فلحقه في تدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً وقتل من أصحابه رجلان ، وحال بينهم الليل فهرب الضحاك وأصحابه ورجع حجر ومن معه) ( تاريخ الطبري:4/104)
* *
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام بقتل حجر ظلماً: ففي تاريخ دمشق:12/226: (عن أبي الأسود قال دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل حجر وأصحابه؟ فقال: يا أم المؤمنين أني رأيت قتلهم صلاحاً للأمة وأن بقاءهم فساداً للأمة ! فقالت سمعت رسول الله(ص)يقول: سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم أهل السماء). (وفيض القدير:4/166، والغارات:2/812) .
وفي تاريخ دمشق:12/227: (عن ابن زرير الغافقي عن علي بن أبي طالب قال: ياأهل الكوفة سيقتل فيكم سبعة نفر خياركم ، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود).
وفي بحار الأنوار:39/324: عن حجر رحمه الله قال: (قال لي علي عليه السلام : كيف تصنع أنت إذا ضربت وأمرت بلعنتي؟ قلت له: كيف أصنع؟ قال: إلعني ولا تبرأ مني فإني على دين الله).
وفي مناقب آل أبي طالب:2/106: (وكذلك أخبر (أمير المؤمنين عليه السلام )بقتل جماعة منهم حجر بن عدي ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، وميثم التمار ، ومحمد بن أكثم ، وخالد بن مسعود ، وحبيب بن المظاهر وجويرية ، وعمرو بن الحمق ، وقنبر ، ومذرع ، وغيرهم ، ووصف قاتليهم وكيفية قتلهم) !
* *
يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك:
في بحار الأنوار:32/399: (وروى نصر عن عبد الله بن شريك قال: خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة من أهل الشام فأرسل علي عليه السلام إليهما أن كفَّا عما يبلغني عنكما ، فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقين؟ قال: بلى . قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون وتبرؤون ، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا ومن أعمالهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر . وقلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم أحقن دماءهم ودماءنا ، وأصلح ذات بينهم وبيننا واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لج به ، لكان أحب إلي وخيراً لكم .
فقالا: يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك) .
* *
وكان حجر يكتب عن أمير المؤمنين عليه السلام : ( ففي قال: ناولني الصحيفة من الكوة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما سمعت علي بن أبي طالب يذكر أن الطهور نصف الايمان)
* *
وكان معتمد الإمام الحسن عليه السلام : (فلما بلغ (معاوية) جسر منبج تحرك الحسن عليه السلام وبعث حجر بن عدي فأمر العمال بالمسير ، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خف معه أخلاط من الناس)(الإرشاد:2/10، ومقاتل الطالبيين ص39) .
* *
وقد فضح حجر دور الأشعث بن قيس في قتل أمير المؤمنين عليه السلام : ففي مقاتل الطالبيين ص20 (والأشعث في بعض نواحي المسجد ، فسمع حجر بن عدي الأشعث يقول لابن ملجم: النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح ، فقال له حجر: قتلته يا أعور وخرج مبادراً إلى علي) .
* *
وكان أحد الذين يحسب معاوية حسابهم: (فكتب معاوية إلى المغيرة خذ زيادا وسليمان بن صرد وحجر بن عدي وشبث بن ربعي وابن الكواء وعمرو بن الحمق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه في الصلاة).(تاريخ الطبري:4/137)
* *
وكان مع أصحابه أربعة عشر: قتل منهم خمسة مع حجر في مرج عذراء ، هم: شريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ضبيعة العبسي ومحرز بن شهاب السعدي ثم المنقري ، وكدام بن حيان العنزي .
أما السابع فهو عبد الرحمن بن حسان العنزي ، وقد بعث به معاوية إلى زياد بن أبيه فدفنه في الكوفة حياً ! وقد توسط لهم الصحابة وزعماء القبائل والشخصيات عند معاوية ، فلم يقبل وساطتهم إلا في سبعة فقط فأطلقهم ، وهم:
كريم بن عفيف الخثعمي ، وعبد الله بن حوية التميمي ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء بن سمي البجلي ، والأرقم بن عبد الله الكندي ، وعتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر ، وسعيد بن نمران الهمداني . وكانت شهادة حجر في سنة 51) .(تاريخ دمشق:8/27)
* *
الموت في حب علي عليه السلام شهادة: ففي مختصر أخبار الشعراء للمرزباني ص49: (ولما قدم حجر عذراء قال: ما هذه القرية؟ فقيل: عذراء . فقال: الحمد لله ، أما والله إني لأول مسلم ذكر الله فيها وسجد ، وأول مسلم نبح عليه كلابها في سبيل الله ، ثم أنا اليوم أحمل إليها مصفداً في الحديد ! ثم قال حجر للذي أمر بقتلهم: دعني أصلي ركعتين خفيفتين ، فلما سلم انفتل إلى الناس فقال: لولا أن يقولوا جزع من الموت لأحببت أن يكونا أنفس مما كانتا ، وأيم الله لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ما هاتان بنافعتيَّ شيئاً ، ثم أخذ ثوبه فتحزم به ، ثم قال لمن حوله من أصحابه: لاتحلوا قيودي فإني أجتمع ومعاوية على هذه المحجة ! ثم مشى إليه هدبة الأعور بالسيف ، فشخص إليه حجر فقال: ألم تقل إنك لم تجزع من الموت؟ فقال: أرى كفناً منشوراً وقبراً محفوراً وسيفاً مشهوراً ، فما لي لا أجزع ! أما والله لئن جزعت لا أقول ما يسخط الرب ! فقال له: فابرأ من علي وقد أعد لك معاوية جميع ما تريد إن فعلت ! فقال: ألم أقل إني لا أقول ما يسخط الرب ! والله لقد أخبرني حبيبي رسول الله (ص) بيومي هذا ! ثم قال: إن كنت أمرت بقتل ولدي فقدمه ، فقدمه فضربت عنقه ، فقيل له: تعجلت الثكل فقال: خفت أن يرى هول السيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي عليه السلام فلا نجتمع في دار المقامة التي وعدها الله الصابرين .
ولما حمل عبد الرحمن بن حسان العنزي وكريم بن عفيف الخثعمي ، وكانا من أصحابه قال: العنزي: يا حجر لا تبعد ولا يبعد ثوابك فنعم أخو الإسلام كنت . وقال الخثعمي: يا حجر لا تبعد ولا تفقد فلقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ثم ذهب بهما فأتبعهما حجر بصره ، وقال:
ثم التفت إلى بقية أصحابه ، فرأى منهم جزعاً فقال: قال لي حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله : يا حجر تقتل في محبة عليٍّ صبراً ، فإذا وصل رأسك إلى الأرض مادت وأنبعت عين ماء فتغسل الرأس! فإذا شاهدتم ذلك فكونوا على بصائركم وقدم فضربت عنقه فلما وصل رأسه إلى الأرض مادت من تحته وأنبعت عين ماء فغسلت الرأس! قال: فجعل أصحابه يتهافتون إلى القتل ، فقال لهم أصحاب معاوية: ياأصحاب علي ماأسرعكم إلى القتل فقالوا:من عرف مستقره سارع إليه).
* *
وظهرت له كرامات في حربه وشهادته: منها أنه طال اصطفاف المسلمين والفرس بعد القادسية ، وكان الفرس على الضفة الأخرى لدجلة ، فتقدم حجر وقرأ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ . وأقحم فرسه وهو يقول باسم الله ، فعبر وعبر المسلمون على أثره ! فلما رآهم العدو قالوا: ديوان ديوان ! يعني شياطين شياطين(ديوان بالفارسية جمع ديو: الغول الشرير) فهربوا فدخلنا عسكرهم). (كرامات الأولياء اللالكائي ص152، وتفسير ابن كثير:1/419)
وعندما كان محبوساً في بستان في مرج عذراء أصابته جنابة ، فقال للسجان: أعطني من الماء شرابي اليوم وغداً لأتطهر به ، ولا أطلب منك شيئاً . قال: أخاف أن تموت عطشاً فيقول معاوية أنت قتلته ! قال: فبنى حجر حِجَاراً (شبيه الحوض) ودعا الله فأسكبت سحابة فصبت من الماء ما أراد فتطهر حجر ! فقال له بعض أصحابه: لو دعوت الله أن يخلصنا لفعل ! فقال حجر: اللهم خِرْ لنا ، ثلاثاً).
(فيض القدير:4/166، عن ابن الجنيد في كتاب الأولياء ، والغارات:2/812 ، ومختصر أخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص49) :
وقيل إن شجر ذلك البستان جفت من يوم شهادته ! (شرح الأخبار:2/171).
* *
وكان له أصحاب محبون له من شخصيات الإسلام وفرسانه: (سعيد بن نمران الهمداني الناعطي ، كان كاتباً لعلي عليه السلام وأدرك من حياة النبي صلى الله عليه وآله أعواماً ، وشهد اليرموك وسار إلى العراق مدداً لأهل القادسية ، وكان من أصحاب حجر بن عدي ، وسيَّره زياد مع حجر إلى الشام ، فأراد معاوية قتله مع حجر ، فشفع فيه حمزة بن مالك الهمداني فخلى سبيله). (أسد الغابة:2/316)
* *
وقتله معاوية بيد أحد كبار المجرمين: ففي تاريخ الطبري:4/190: (فشُدَّ في الحديد ثم حُمل إلى معاوية ، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فقال له معاوية: أمير المؤمنين ! أما والله لا أقيلك ولا أستقيلك ، أخرجوه فاضربوا عنقه ! فأخرج من عنده فقال حجر للذين يلون أمره دعوني حتى أصلى ركعتين فقالوا صله فصلى ركعتين خفف فيهما ثم قال: لولا أن تظنوا بي غير الذي أنا عليه ، لأحببت أن تكونا أطول مما كانتا ، ولئن لم يكن فيما مضى من الصلاة خير فما في هاتين خير . ثم قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عنى حديداً ولا تغسلوا عنى دماً فإني ألاقي معاوية غداً على الجادة ثم قدم فضربت عنقه). (سمعت أبا داود قال: قتل حجر بن عدي على يدي أبي الأعور السلمي). (سؤالات الآجري:1/331 ، و(وبغية الطلب:5/2108)
* *
وقتل حجر في صفر سنة إحدى وخمسين هجرية: (تاريخ خليفة بن خياط ص160، وتاريخ دمشق: 8/ 27، وقيل سنة 53: مستدرك الحاكم:3/468، ومعارف ابن قتيبة ص178).
* *
واعترف معاوية بقتل حجر ، وأصيب بالهلوسة بإسمه: فكان يقول: (ما قتلت أحداً إلا وأنا أعرف فيمَ قتلتُه وما أردت به ! ما خلا حجر بن عدي ، فإني لا أعرف فيما قتلته !).(تاريخ دمشق:12/231) وأصيب معاوية قبل موته بالهذيان والهلوسة باسم علي عليه السلام وحجر وعمرو بن الحمق ، كما تقدم .
* *
ولم يلعن حجر عليا عليه السلام رغم التهديد: ففي شرح النهج:4/58: (وأمر المغيرة بن شعبة وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية حجر بن عدي أن يقوم في الناس فليلعن علياً ! فأبى ذلك فتوعده فقام فقال: أيها الناس ، إن أميركم أمرني أن ألعن علياً فالعنوه ! فقال أهل الكوفة: لعنه الله وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد). وفي اختيار معرفة الرجال:1/319 ، أنه قال مثل ذلك عندما طلب منه حاكم اليمن لعن علي عليه السلام في صنعاء) !
وقال في الغدير:9/119: (قاموا إليهم فقالوا: تبرؤون من هذا الرجل(أي علي عليه السلام ) ! قالوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ منه . فأخذ كل رجل منهم رجلاً وأقبلوا يقتلونهم واحداً واحداً حتى قتلوا ستة). راجع:تاريخ الطبري: 6/141 ، تاريخ ابن عساكر:2/370 ، الكامل لابن الأثير:3/202 ، تاريخ ابن كثير: 7/49 ، والأغاني لأبي الفرج:2/16).
* *
وقد اعترض الإمام الحسين عليه السلام على معاوية: وعائشة ، وعامة الصحابة ، والعلماء .
في الإحتجاج:2/19: (عن صالح بن كيسان قال: لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي عليه السلام فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك ؟ فقال عليه السلام : وما صنعت بهم ؟ قال: قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم . فضحك الحسين عليه السلام ثم قال: خصمك القوم يا معاوية ، لكننا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم ! ولقد بلغني وقيعتك في علي وقيامك ببغضنا ، واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ، ثم سلها الحق عليها ولها ، فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر عيبك فيك ، وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترن غير قوسك ، ولا ترمين غير غرضك ، ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب ، فإنك والله لقد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه ولا حدث نفاقه ، ولا نظر لك ! فانظر لنفسك أو دع). انتهى .
ويقصد الإمام عليه السلام عمرو المعاص ، ومعناه أن دوره أساسي في خطط معاوية !
وقالت له عائشة: (يا معاوية أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: لست أنا قتلتهم ، إنما قتلهم من شهد عليهم)! (تاريخ الطبري:4/208 ، والإستيعاب:1/331 ، وفي طبعة 238، والسيرة الحلبية:3/163، والروض الأنف:3/366 ،وفي طبعة ص643 وفيه: ( فقال أوَأنا ؟! إنما قتلهم من شهد عليهم) !! ونحوه: أنساب الأشراف ص1265 . وفي الطبقات:6/219، أن عائشة بعثت رسالة الى معاوية ، واعتذرت الرواية بأنها وصلت بعد تنفيذه الإعدام !
وفي تاريخ دمشق:12/228: (وكان ابن عمر في السوق فنعي له حجر ، فأطلق حبوته وقام وغلبه النحيب) .
وقال ابن سيرين: (أربع خصال كن في معاوية ، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ! واستخلافه بعده ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير . وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله(ص) : الولد للفراش وللعاهر الحجر . وقتله حجراً وأصحاب حجر ، فيا ويلاً له من حجر ! ويا ويلاً له من أصحاب حجر !). انتهى.
واتفقوا على أن العرب ذلت بعد قتل حجر صبراً: ففي تاريخ الطبري: 4/216: (أن الربيع بن زياد ذكر يوما بخراسان حجر بن عدي فقال لا تزال العرب تقتل صبرا بعده ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبراً ولكنها أقرت فذلت)!
* *
وهدم زياد دار حجر بأمر معاوية: فقد ذكر الطبري:4/536 ، أن المختار طلب محمد بن الأشعث لأنه من قتلة الحسين عليه السلام فهرب (فبعث إلى داره فهدمها وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي وكان زياد بن سمية قد هدمها).
* *
وأوصى حجر أن يدفنوه بثيابه ودمائه: في مصنف ابن أبي شيبة:3/139: (قال حجر بن عدي لمن حضره من أهل بيته: لا تَغْسلوا عني دماً ولا تُطلقوا عني حديداً ، وادفنوني في ثيابي ، فإني ألتقي أنا ومعاوية على الجادة غداً !). ( ونحوه في تاريخ دمشق:12/225).(أدفنوني في ثيابي فإني أبعث مخاصماً).(الطبقات:6/219).
* *
وقالت الشعراء في رثاء حجر الشهيد الصحابي: ففي الطبقات:6/220: (وقد كانت هند بنت زيد الأنصارية وكانت شيعية ، قالت حين سير بحجر إلى معاوية:
ترفع أيها القمر المنير ترفع هل ترى حجرا يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ليقتله كما زعم الخبير
تجبرت الجبابر بعد حجر وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولا كأن لم يحيها يوما مطير..الخ.
(والبحار:32/578 ، و:38/22، وتجد كثيراً من الشعر في أمهات المصادر كالطبري وابن عساكر)
* *
كانت له شعبية واسعة في الكوفة ولكنها لم توظف جيداً:
يتساءل المتأمل في شخصية حجر المحبوبة ونفوذه الواسع على قبائل كندة الكبيرة ، المنتشرة في العراق والشام ! وعلى أوساط أخرى من القبائل ، ويتعجب كيف استطاع زياد بن أبيه أن يعتقله مع بضعة عشر زعيماً من وسط قبائلهم ، ويرسلهم مقيدين الى معاوية ، ثم كيف استطاع معاوية أن يقتل نصفهم ، ولم يقبل الوساطات الواسعة إلا في نصفهم؟ ولم تحدث لذلك ردة فعل تذكر ؟!
والجواب: أنه كانت توجد عوامل متعددة ونقاط ضعف في موقف حجر وأصحابه ، لايتسع المجال لدراستها ، وهذه خلاصة أحداث اعتقالهم:
في تاريخ الطبري:4/191: (قال: كنت في شرط زياد ، فقال زياد: لينطلق بعضكم إلى حجر فليدعه . قال فقال لي أمير الشرطة وهو شداد بن الهيثم الهلالي: إذهب إليه فادعه ، قال: فأتيته فقلت: أجب الأمير . فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة ! قال فرجعت إليه فأخبرته ، فأمر صاحب الشرطة أن يبعث معي رجالاً ، قال فبعث نفراً قال فأتيناه فقلنا أجب الأمير، قال: فسبونا وشتمونا ، فرجعنا إليه فأخبرناه الخبر ! قال: فوثب زياد بأشراف أهل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون بأخرى ؟! أبدانكم معي وأهواؤكم مع حجر ؟! هذا الهجهاجة الأحمق المذبوب ! أنتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر هذا والله من دحسكم وغشكم والله لتظهرن لي برأتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم ! فوثبوا إلى زياد فقالوا: معاذ الله سبحانه أن يكون لنا فيما ههنا رأى إلا طاعتك وطاعة أمير المؤمنين ! وكل ما ظننا أن فيه رضاك وما يستبين به طاعتنا وخلافنا لحجر ، فمرنا به ! قال: فليقم كل امرئ منكم إلى هذه الجماعة حول حجر ، فليدع كل رجل منكم أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته ، حتى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ، ففعلوا ذلك فأقاموا جُلَّ من كان مع حجر بن عدي ! فلما رأى زياد أن جل من كان مع حجر أقيم عنه ، قال لشداد بن الهيثم الهلالي ويقال هيثم بن شداد أمير شرطته: إنطلق إلى حجر فإن تبعك فأتني به وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق ، ثم يشدوا بها عليهم حتى يأتوني به ويضربوا من حال دونه ! فأتاه الهلالي فقال: أجب الأمير ، قال فقال أصحاب حجر: لا ولا نعمة عين لا نجيبه ! فقال لأصحابه شدوا على عمد السوق فاشتدوا إليها فأقبلوا بها قد انتزعوها ، فقال عمير بن يزيد الكندي من بني هند وهو أبو العمر طه: إنه ليس معك رجل معه سيف غيري ، وما يغني عنك ! قال فما ترى؟ قال قم من هذا المكان فالحق بأهلك ، يمنعك قومك !
فقام زياد ينظر إليهم وهو على المنبر ، فغشوا بالعمد فضرب رجل من الحمراء يقال له بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع ، وأتاه أبو سفيان بن عويمر والعجلان بن ربيعة وهما رجلان من الأزد فحملاه ، فأتيا به دار رجل من الأزد يقال له عبيد الله بن مالك ، فخبأه بها فلم يزل بها متوارياً حتى خرج منها!.... قال فلما ضرب عمراً تلك الضربة وحمله ذانك الرجلان ، انحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة ، ويضرب رجل من جذام كان في الشرطة رجلاً يقال له عبد الله بن خليفة الطائي بعمود فضربه ، ضربة فصرعه....وينتزع عموداً من بعض الشرط فقاتل به وحمى حجراً وأصحابه حتى خرجوا من تلقاء أبواب كندة وبغلة حجر موقوفة فأتى بها أبو العمرطة إليه ثم قال اركب لا أب لغيرك ، فوالله ما أراك إلا قد قتلت نفسك وقتلتنا معك ! فوضع حجر رجله في الركاب فلم يستطع أن ينهض فحمله أبو العمرطة على بغلته ووثب أبو العمرطة على فرسه فما هو إلا أن استوى عليه حتى انتهى إليه يزيد بن طريف المسلى وكان يغمز ، فضرب أبا العمرطة بالعمود على فخذه ويخترط أبو العمرطة سيفه فضرب به رأس يزيد بن طريف فخر لوجهه ، ثم إنه برأ بعد....
ثم وصفت روايات الطبري وغيره ، لجوء حجر الى النخع ثم الى الأزد ، ثم كيف أخذوا له أماناً من ابن زياد أن لايقتله ، بل يبعثه الى معاوية ! وكيف جاؤوا به الى ابن زياد فأهانه وسجنه ، وتتبع أصحابه فقبض على أكثرهم ، وفر الباقون!
ثم كيف كتب شهادة زور على حجر وأشهد الزعماء والقضاة عليها ثم استحسن شهادة أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، فأمرهم أن يشهدوا عليها ، وهي!
(هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين ، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة ، ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة ، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية ، وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء ! فقال زياد على مثل هذه الشهادة فاشهدوا أما والله لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق !
فشهد رؤوس الأرباع على مثل شهادته وكانوا أربعة ، ثم إن زيادا دعا الناس فقال: إشهدوا على مثل شهادة رؤوس الأرباع ، فقرأ عليهم الكتاب فقام أول الناس عناق بن شرحبيل بن أبي دهم التيمي تيم الله بن ثعلبة ، فقال بينوا اسمى فقال زياد ابدؤا بأسامي قريش ، ثم اكتبوا اسم عناق في الشهود ، ومن نعرفه ويعرفه أمير المؤمنين بالنصيحة والاستقامة ، فشهد إسحاق بن طلحة بن عبيد الله وموسى بن طلحة ، وإسماعيل بن طلحة بن عبيد الله ، والمنذر بن الزبير ، وعمارة ابن عقبة بن أبي معيط ، وعبد الرحمن بن هناد ، وعمر بن سعد بن أبي وقاص وعامر بن مسعود بن أمية بن خلف ، ومحرز بن جارية بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس ، وعبيد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي ، وعناق بن شرحبيل بن أبي دهم ، ووائل ابن حجر الحضرمي ، وكثير بن شهاب بن حصين الحارثي وقطن بن عبد الله بن حصين ، والسري بن وقاص الحارثي وكتب شهادته وهو غائب في عمله ، والسائب والأقرع الثقفي ، وشبيب بن ربعي ، وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي ، ومصقلة بن هبيرة الشيباني ، والقعقاع بن شور الذهلي ، وشداد بن المنذر بن الحارث بن وعلة الذهلي ، وكان يدعى ابن بزيعة فقال ما لهذا أب ينسب إليه ألقوا هذا من الشهود فقيل له:إنه أخو الحصين وهو ابن المنذر ، قال: فانسبوه إلى أبيه ، فنسب إلى أبيه ، فبلغت شدادا فقال ويلي على ابن الزانية أو ليست أمه أعرف من أبيه والله ما ينسب إلا إلى أمه سمية ! وحجار بن أبجر العجلي ، فغضبت ربيعة على هؤلاء الشهود الذين شهدوا من ربيعة وقالوا لهم: شهدتم على أوليائنا وخلفائنا ! فقالوا: ما نحن إلا من الناس ، وقد شهد عليهم ناس من قومهم كثير ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، ولبيد بن عطارد التميمي ومحمد بن عمير بن عطارد التميمي ، وسويد بن عبد الرحمن التميمي من بنى سعد ، وأسماء بن خارجة الفزاري كان يعتذر من أمره ، وشمر بن ذي الجوشن العامري ، وشداد ومروان ابنا الهيثم الهلاليان ، ومحصن بن ثعلبة من عائذة قريش والهيثم بن الأسود النخعي ، وكان يعتذر إليهم ، وعبد الرحمن بن قيس الأسدي والحارث ، وشداد ابنا الأزمع الهمدانيان ثم الوادعيان ، وكريب بن سلمة بن يزيد الجعفي ، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ، وزحر بن قيس الجعفي وقدامة بن العجلان الأزدي ، وعزرة بن عزرة الأحمسي ، ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة ابن المغيرة بن شعبة ليشهدوا عليه فراغا ، وعمر بن قيس ذي اللحية وهانئ بن أبي حية الوادعيان.
فشهد عليه سبعون رجلا فقال زياد: ألقوهم إلا من قد عرف بحسب وصلاح في دينه فألقوا حتى صيروا إلى هذه العدة ، وألقيت شهادة عبد الله بن الحجاج التغلبي ، وكتبت شهادة هؤلاء الشهود في صحيفة ، ثم دفعها إلى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب الحارثي ، وبعثهما عليهم وأمرهما أن يخرجا بهم وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانئ الحارثي . فأما شريح فقال: سألني عنه فأخبرته أنه كان صواماً قواماً ، وأما شريح بن هانئ الحارثي فكان يقول: ما شهدت ولقد بلغني أن قد كتبت شهادتي فأكذبته ولمته! وجاء وائل ابن حجر وكثير بن شهاب فأخرج القوم عشية وسار معهم صاحب الشرطة حتى أخرجهم من الكوفة ، فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره وهى في جبانة عرزم ، فإذا بناته مشرفات فقال لوائل وكثير: ائذنا لي فأوصى أهلي فأذنا له فلما دنا منهن وهن يبكين سكت عنهن ساعة ، ثم قال: اسكتن فسكتن فقال: اتقين الله عز وجل واصبرن فإنى أرجو من ربى في وجهي هذا إحدى الحسنيين إما الشهادة وهى السعادة ، وإما الانصراف إليكن في عافية ، وإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مؤنتكن هو الله تعالى ، وهو حي لا يموت ، أرجو أن لا يضيعكن وأن يحفظني فيكن ، ثم انصرف فمر بقومه فجعل القوم يدعون الله له بالعافية ، فقال: إنه لمما يعدل عندي خطر ما أنا فيه هلاك قومي يقول حيث لا ينصرونني وكان رجا أن يخلصوه). انتهى .
ويظهر من الرواية التالية أن حجراً كان يقف في وجه المغيرة والي معاوية بقوة جمهوره ، فيتراجع المغيرة ! قال البلاذري في أنساب الأشراف ص 1256:
(وروي أن المغيرة لما شتم علياً وقام إليه حجر بن عدي قال له: والله لئن عدت لمثلها لأضربن بسيفي هذا ما ثبت قائمة في يدي ! فكتب المغيرة بذلك إلى معاوية فكتب إليه معاوية: إنك لست من رجاله فداره ، فقال زياد: يا ابن الأدبر أتظن أني كالمغيرة إذ كتب أمير المؤمنين إليه بما كتب به فيك؟ أنا والله من رجالك ورجال من يغمرك رأياً وبأساً ومكيدةً ! وكان زياد قد كتب إلى معاوية في حجر إنه وأصحابه يردون أحكامي وقضاياي ، وكتب يستأذنه في قتله فكتب إليه: ترفق حتى تجد عليه حجة ، فكتب إليه: إني قد وجدت على حجر أعظم الحجة: خلعك وشهد الناس عليه بذلك ). انتهى .