في تاريخ دمشق:21/223: (كان أهل المدينة عبيدهم ونساؤهم يقولون:
والله لا ينالها يزيدُ حتى ينالَ هامَه الحديدُ إن الأميرَ بعدَهُ سعيدُ
يعنون لا ينال يزيد الخلافة ، والأمير بعده سعيد بن عثمان ، وكانت أمه أم عبد الله بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . فقدم سعيد على معاوية فقال: يا ابن أخي ما شئ يقوله أهل المدينة؟ قال وما يقولون؟ قال: قولهم: والله لا ينالها يزيد حتى يعض هامه الحديد إن الأمير بعده سعيد ! قال: ما تنكر من ذلك يا معاوية ؟! والله إن أبي لخير من أبي يزيد ، ولأمي خير خير من أم يزيد ، ولأنا خير منه ، وقد استعملناك فما عزلناك بعد ، ووصلناك فما قطعناك ، ثم صار في يديك ما قد ترى ، فحلأتنا عنه أجمع ! فقال له معاوية: يا بنيَّ أما قولك إن أبي خير من أبي يزيد فقد صدقت ، عثمان خير من معاوية . وأما قولك أمي خير من أم يزيد فقد صدقت ، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب ، ولَحَسْبُ امرأة أن تكون من صالح نساء قومها . وأما قولك إني خير من يزيد فوالله ما يسرني أن حبلاً بيني وبين العراق ثم نُظم لي فيه أمثالك به .
ثم قال معاوية لسعيد بن عثمان: إلحق بعمك زياد بن أبي سفيان فإني قد أمرته أن يوليك خراسان ، وكتب إلى زياد أن وله ثغر خراسان ، وابعث على الخراج رجلاً جلداً حازماً ! فقدم عليه فولاه وتوجه سعيد إلى خراسان على ثغرها ، وبعث زياد أسلم بن زرعة الكلابي معه على الخراج! ثم أورد ابن عساكر رواية جاء فيها: (فوالله ما يسرني أن الغوطة ملئت رجالا مثلك ! فقال يزيد: يا أمير المؤمنين إنه ابن من تعرف ، وحقه الحق الواجب الذي لايدفع ، فانظر له وتعطف عليه ووله !).
أقول: يظهر أن سعيداً هذا كان قليل العقل ، مع أنهم يسمونه: (شيطان قريش ولسانها)! (الإمامة والسياسة:1/164) فقد جاء مطالباً بولاية العهد ، فلعب عليه معاوية وأرضاه بمنصب شكلي وجعله تحت إمرة زياد ، وجعل ميزانية منطقته بيد غيره: (وكتب إلى زياد أن ولِّه ثغر خراسان ، وابعث على الخراج رجلاً جلداً حازماً) ! ولا بد أنه رتب أمره مع ابن زياد ، فجعله مسؤولاً عسكرياً في منطقة لم يستقر فتحها ، فهو في معرض القتل ولا مال بيده !
وفي الأمامة والسياسة لابن قتيبة:1/165: (فقال معاوية: لك خراسان . قال سعيد: وما خراسان؟ قال: إنها لك طعمة وصلة رحم ، فخرج راضياً ، وهو يقول:
ذكرت أمير المؤمنين وفضله فقلت جزاه الله خيرا بما وصل)...الخ..
وفي تاريخ الطبري:4/227: (وأما فضلك عليه ، فوالله ما أحب أن الغوطة دُحست بيزيد رجالاً مثلك ! فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره ، وقد عتب عليك لي ، فأعتبه ! قال: فولاه حرب خراسان)!!
وفي تاريخ دمشق:8/231: (فولاه حرب خراسان وولى إسحاق بن طلحة خراجها وكان إسحاق ابن خالة معاوية أمه أم أبان ابنة عتبة بن ربيعة ، فلما صار بالري مات إسحاق بن طلحة فولي سعيد خراج خراسان وحربها وكان ذلك في سنة ست وخمسين على ما ذكر الطبري). (ومنتظم ابن الجوزي:5/287)
وتجهز سعيد من البصرة فجهزه ابن زياد ، وساعده أخوه أبو بكرة بأربع مئة ألف فتعجب سعيد من هذا السخاء! قال ابن الأعثم في الفتوح:4/308: (فعرض عليه أهل السجون والدُّعَّار ومن يصلح للحرب ، فانتخب سعيد بن عثمان منهم أربعة آلاف رجل ، كل رجل يعد برجال....وقواه زياد بأربعة آلاف ألف درهم ، فقبضها سعيد وفرقها في أصحابه). وتوجه بجيشه وقيل في اثني عشر ألفاً (تاريخ دمشق:23/475) وعبر نهر بلخ وحاصر مدينة بخارى(معجم البلدان:1/355) ، أشهراً فلم يستطع فتحها !
وفي فتوح ابن الأعثم:4/310: ( وببخارا ملكة يقال لها يومئذ خيل خاتون....فأرسلت إليه فصالحته على ثلاثمائة ألف درهم وعلى أنها تسهل له الطريق إلى سمرقند . قال: فقبل سعيد ذلك منها ، وأخذ منها ما صالحته عليه وأخذ منها رهائن أيضاً عشرين غلاماً من أبناء ملوك بخارا كأن وجوههم الدنانير ، ثم بعثت إليه بالهدايا ووجهت معه الأدلاء يدلونه على طريق سمرقند . فسار سعيد بن عثمان من بخارا والأدلاء بن يديه يدلونه على الطريق الذي يوصله إلى سمرقند ، فنزل على سمرقند وبها يومئذ خلق كثير من السغد). انتهى. وعلة الرهائن أنهم ضمانة إذا عبر جيش المسلمين من بخارى ، أن لايتبعوه ويغدروا به !
وفي فتوح البلاذري:3/508: ( فنزل على باب سمرقند وحلف أن لا يبرح أو يفتحها ويرمى قهندزها. فقاتل أهلها ثلاثة أيام ، وكان أشد قتالهم في اليوم الثالث . ففقئت عينه وعين المهلب بن أبي صفرة).
وفي تاريخ اليعقوبي:2/237: (وسار إلى سمرقند فحاصرها فلم يكن له طاقة بها ، فظفر بحصن فيه أبناء الملوك ، فلما صاروا في يده طلب القوم الصلح ، فحلف ألا يبرح حتى يدخل المدينة ، ففتح له باب المدينة فدخلها ، ورمى القهندز بحجر !
وكان معه قثم بن العباس بن عبد المطلب فتوفي بسمرقند).
وفي فتوح ابن الأعثم:4/312: (فأنشأ مالك( بن الريب المازني وكان شجاعاً) وجعل يقول:
سعيد بن عثمان أمير مُرَوَّعٌ تراه إذا ما عاين الحرب أخزرا
وما زال يوم السغد يرعد خائفاً من الروع حتى خفت أن يتنصرا
فلولا بنو حرب لهدت عروشكم بطون العظايا من كسير وأعورا
وما كان من عثمان شئ علمته سوى نسله في عقبه حين أدبرا
قال: فبلغ ذلك سعيد بن عثمان فهم بقتله ، ثم إنه راقب فيه عشيرته ، فأكرمه ووصله بصلة سنية واعتذر إليه ، فقبل مالك ذلك .
أقام سعيد على سمرقند لايفتر من حرب القوم ، وعلم أنه لا يقدر على فتحها بالسيف فعزم على صلحهم ، قال: وطلب أهل سمرقند أيضاً الصلح فصالحهم على خمسمائة ألف درهم وعلى أنهم يفتحون له باب المدينة ، فيدخل من باب ويخرج من باب ، ثم ينصرف عنهم فرضي القوم بذلك ، وأعطاه أخشيد ملك سمرقند ما صالحه عليه ، ثم فتح له باب المدينة فدخلها سعيد في ألف فارس ، وسار في شارع واحد حتى خرج من الباب الآخر ، ثم صار إلى عسكره ، ووافته هدايا أهل سمرقند فقبلها ، ثم وضع العطاء لأصحابه فأعطاهم ، وتزود القوم .
ورحل سعيد بن عثمان عن باب سمرقند إلى بخارا ، فأقام على بابها أياماً ، ثم بعثت إليه ملكة بخارا أنك قد صرت إلى حاجتك وقد وفيت لك بمال الصلح ، فرد عليَّ رهائني فإنهم غلمان من أبناء ملوك بخارا ، فأبى سعيد أن يردهم عليها !
ثم رحل حتى صار إلى نهر بلخ فنزل عليه ، وعقدت له الأطواف فعبر وعبر أصحابه وسار حتى صار إلى مرو فنزلها....
ونَفَلَ(رجع) سعيد بن عثمان من بلاد خراسان وقد ملأ يديه من الأموال ، حتى إذا صار إلى المدينة مدينة رسول الله(ص)كتب إلى معاوية يستعفيه من ولاية خراسان فعلم معاوية أنه استظهر بالأموال فأعفاه !
قال: وعمد سعيد إلى الرهائن الذين حملهم من بخارا فجعلهم فلاحين في نخل له وحرث بالمدينة ، فغضبوا لذلك واتفقوا وأجمعوا على قتل سعيد ، قال: وجاءهم سعيد يوماً لينظر إلى نخلة ، فوثبوا عليه فقتلوه بخناجر كانت معهم ، ثم هربوا فصاروا إلى جبل هناك فتحصنوا فيه ، وبلغ ذلك أهل المدينة وساروا إليهم وحاصروهم في ذلك الجبل حتى ماتوا فيه جوعاً وعطشاً). انتهى .
أقول: يدل مجموع الروايات على أن القتل كان في أرض سعيد خارج المدينة ، وأن الغلمان قتلوا هناك !
ومعنى قوله: وما كان من عثمان شئ علمته سوى نسله في عقبه حين أدبرا
أن عثمان لم يورث أبناءه إلا فراره في أحد ! قال ابن حجر في العجاب في بيان الأسباب ص772: (وكان ممن ولى دبره يومئذ عثمان بن عفان وسعد بن عثمان وعقبة بن عثمان ، أخوان من الأنصار من بني زريق ، حتى بلغوا الجلعب فرجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم رسول الله: لقد ذهبتم بها عريضة ! قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ). انتهى .(ورواه الاستيعاب:3/1074 ، وغيره).
واستعفاء سعيد لايصح ، فقد صرح المؤرخون بأن معاوية عزله بعد فراره من خراسان ! ففي تاريخ دمشق:37/443 ، و:21/223 : (وفيها يعني سنة سبع وخمسين عزل معاوية سعيد بن عثمان عن خراسان). (وتاريخ ابن خياط ص170، وغيرهما) .
وينبغي أن نسجل هنا ثلاث ملاحظات:
الأولى: أنك عندما تقرأ عن شخصيات قريش السلطة مثل سعيد بن عثمان أنه حارب وفتح الفتوحات فلا تصدق ! فرواة الخلافة وعلماؤها يستحلون الكذب لمصلحة من يتولونهم ! لاحظ قول الذهبي (الأموي) في سير أعلام النبلاء:3/442: (وسعيد بن عثمان بن عفان ، أبو عبد الرحمن الأموي ، غزا خراسان ، فورد نيسابور في عسكر منهم جماعة من الصحابة والتابعين ، ثم خرج منها إلى مرو ، ومنها إلى جيحون ، وفتح بخارى وسمرقند). ولاحظ قول ابن عساكر في تاريخه:21/222: (سعيد بن عثمان بن عفان القرشي المدني استعمله معاوية على خراسان فغزا سمرقند وفتح الله على يديه فتحاً عظيماً ، وأصيبت عينه بها ، وأخذ الرهون).
وقارن ما كتباه بما كتبه ابن الأعثم في فتوحه:4/312: ( ذكر فتوح خراسان أيضاً بعد سعيد بن عثمان . قال: وبقيت خراسان ليس بها نائب ، فكتب معاوية إلى زياد بن أبيه بالبصرة يأمره أن يوجه إلى خراسان رجلاً يقوم بأمرها)!! انتهى .
وقول الحموي في معجم البلدان:1/355 ، عما حدث بعد سعيد بن عثمان: (ثم لم يبلغني من خبرها شئ إلى سنة87 في ولاية قتيبة بن مسلم خراسان ، فإنه عبر النهر إلى بخارى فحاصرها فاجتمعت الصغد وفرغانة والشاش وبخارى ، فأحدقوا به أربعة أشهر ثم هزمهم... وفتحها... ثم مضى منها إلى سمرقند). انتهى .
ومعناه أن حملة سعيد سنة 56 فشلت ، بل سببت فراغاً سياسياً في خراسان ما وراء النهر ، التي تعني بخارى وسمرقند والشيشان ، وما اليها !
بل لا تعجب إذا قرأت عن بلد أنه فتح عشرين مرة ! وأن من أنواع الفتح أن يدخل القائد ببعض جنوده من باب من المدينة ويخرج من باب آخر !
وعلم أن البطل في رواياتهم قد يكون هو المنهزم الجبان ! وعليك أن تبذل جهداً لتعرف الفاتح الحقيقي ، الذي قد يكون معارضاً طمسوا إسمه !
وهذا يؤكد رأينا في أن الفتوحات الأساسية تحققت بجهود قادة الفتوح الشيعة ، بقيادة علي عليه السلام ، وأن قريشاً نسبتها الى تدبير ولاتها ، على حد تعبيره عليه السلام .
الملاحظة الثانية: أن منطقة ما وراء النهر من خراسان ، استمرت مقاومة أهلها المجوس والوثنيين طيلة حكم بني أمية ، فكانت عند معاوية منفىً نموذجياًً للمعارضين ، ولذلك تقرأ موت عدد كبير من الصحابة والشخصيات فيها ، باسم الجهاد والفتح ، سوى الذين عينوهم قادة وولاة ، وقتلوهم في قبل أن يصلوا اليها !
ولا بد أن سعيد بن عثمان أدرك أن منصبه خطة لقتله ، فسارع في جمع ما أمكنه من ثروة بالصلح والغارات الصغيرة ، وعاد في أقل من سنة !
الملاحظة الثالثة: أن عزل سعيد بن عثمان بمجرد رجوعه الى المدينة يعني أن معاوية خاف أن يستعمل ثروته التي جمعها للقيام بحركة ضده ، وقد صرح بذلك البلاذري فقال في فتوح البلدان:3/509: (وكان معاوية قد خاف سعيداً على خلعه ، ولذلك عاجله بالعزل ! ثم ولى معاوية عبد الرحمن بن زياد خراسان). انتهى.
وهذا يلقي الضوء على قتل الغلمان البخاريين لسعيد ، أو بالأحرى كمين معاوية في البستان ، وأحد عيون معاوية الذي رافق سعيداً الى البستان ، ولم يدافع عنه !
قال في تاريخ دمشق:21/227: (قدم سعيد بن عثمان المدينة فقتله غلمان جاء بهم من الصغد ، وكان معه عبد الرحمن بن أرطأة بن سيحان حليف بني حرب بن أمية.... فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط يرثي سعيد بن عثمان بن عفان:
يا عين جودي بدمع منك تهتانا وابكي سعيد بن عثمان بن عفانا
إن ابن زَيْنَةَ لم تصدق مودته وفرَّ عنه ابن أرطأة بن سيحانا).
وابن أرطاة: (له اختصاص بآل سفيان...ضرب في الخمر وهو حليف بني حرب) (تاريخ دمشق:34/178) و(أكثر شعره في الشراب والغزل والفخر) . (الأعلام:3/299).
وفي أنساب الأشراف ص1508: (قال: فبينا سعيد في حائط له وقد جعل أولئك السغد فيه يعملون بالمساحي ، إذا أغلقوا باب الحائط ووثبوا عليه فقتلوه ، فجاء مروان بن الحكم يطلب المدخل عليهم فلم يجده ! وقتل السغد أنفسهم ! وتسورت الرجال ففتحوا الباب وأخرجوا سعيداً) ! انتهى .
فاعجب لكون مروان والي المدينة من قبل معاوية حضر عند وقوع الجريمة في بستان خارج البلد ، ولم يجد مفتاح سور البستان فتأخر دخوله اليه ! أما ابن أرطاة فقالوا هرب واختفى ، أو كان مشغولاً مع أعوانه بتكميل مهمته بقتل الغلمان !
واعجب أكثر لإخفاء خيوط الجريمة وقولهم إن العشرين شاباً الذين قتلوا سعيداً قتلوا أنفسهم حتى لم يبق منهم أحد !
ففي تاريخ اليعقوبي:2/237: (وصار سعيد إلى المدينة ومعه أسراء من أولاد ملوك السغد فوثبوا عليه وقتلوه ، وقتل بعضهم بعضاًحتى لم يبق منهم أحد)!!
وأعجب أكثر ، لمحاولة المغفلين من آل عثمان أن يبعدوا التهمة عن معاوية ، ويقولوا إن الإمام الحسين عليه السلام أصاب سعيداً بالعين لأنه جمع ثروة وغلماناً !
روى ( المدائني عن سحيم بن حفص قال: لقي الحسين بن علي سعيداً وأبناء السغد معه ، فقال متمثلاً: أبا عمارة أما كنتَ ذا نفر فإن قومك لم تأكلهم الضبعُ . وكان قوم من بني عثمان: يقولون: ما قتله إلا عين الحسين)!! (أنساب الأشراف ص1508) .
مع أن الإمام الحسين عليه السلام حذره من هؤلاء الغلمان وقال له: أين قومك؟ أليس لك أحد من أقاربك تمشي معهم بدل هؤلاء؟! ولعل سعيداً فهمها !
وأصل البيت: أبا خراشة أمَّا أنت ذا نفر فإن قوميَ لم تأكلهم الضبعُ .
ولكن الإمام عليه السلام غيَّره من التفاخر الى التعجب من مشي سعيد وحده مع غرباء ، مع أن قومه لم تأكلهم الضبع ، أي لم تفنهم السنين ! (لسان العرب:6/294، ومغنى اللبيب لابن هشام:1/35 ن وجمهرة الأمثال للعسكري:2/105، ومجمع الأمثال للنيسابوري:2/84).
تربى محمد بن أبي بكر في حجر علي عليه السلام وكان من خاصة أصحابه ، ذلك أن أمه أسماء بنت عميس كانت صحابية جليلة محبة لأهل البيت عليهم السلام ، ومن خواص الصديقة الزهراء عليها السلام ، فتزوجها علي عليه السلام بعد وفاة أبي بكر .
وكان أهل مصر يحبون محمداً لأنه شارك في فتح مصر ، وفي معركة ذات الصواري مع صديقه محمد بن أبي حذيفة ، كما تقدم .
وعندما جاء وفد مصر الى عثمان يشكون واليهم ابن أبي معيط الأموي ، أرادوا أن يبعث محمد بن أبي بكر والياً عليهم بدله ، فكتب له عثمان مرسوماً بولاية مصر وأرسله معهم ، لكنهم قبضوا في الطريق على رسول عثمان الى الوالي ابن معيط يأمره أن يقتلهم ويستمر في عمله ! فرجعوا وشاركوا في محاصرة عثمان !
~ ~
وكان علي عليه السلام ولى قيس بن سعد بن عبادة على مصر ، فتجمع بقايا الأمويين في معسكر مناهضين لعلي عليه السلام مطالبين بدم عثمان ، وكانوا بقيادة معاوية بن حديج الكندي ، فأمدهم معاوية من الشام وشجعهم ، فأمر علي عليه السلام قيساً أن يناجزهم القتال قبل أن يتعاظم أمرهم فأبى قيس بحجة أنهم عاهدوه على عدم الخروج !
فعزله الإمام عليه السلام وأرسل بدله محمد بن أبي بكر حاكماً على مصر ، ثم تفاقم أمر أتباع معاوية ووصل ابن العاص بجيش من ثلاث فرق من الشام والأردن وفلسطين ليحتل مصر وتكون طعمة له كل حياته ، كما شرط على معاوية ! فقاتلهم محمد فغلبوه ، وقتلوه قتلة فجيعة رحمه الله ، وسيطروا على مصر !
وفي أثناء هذه الأحداث أرسل أمير المؤمنين عليه السلام مالك الأشتر رحمه الله الى مصر لكن معاوية دبر له السم وقتله على أبواب القاهرة ، قبل أن يتسلم عمله من محمد .
(فلقيهم محمد بن أبي بكر بموضع يقال له المسناة ، فحاربهم محاربة شديدة ، وكان عمرو يقول: ما رأيت مثل يوم المسناة ، وقد كان محمد استذمَّ إلى اليمانية فمايل عمرو بن العاص اليمانية ، فخلفوا محمد بن أبي بكر وحده ! فجالد ساعة ثم مضى فدخل منزل قوم خرابة ، واتبعه ابن حديج الكندي فأخذه وقتله ، وأدخله جيفة حمار ، وحرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف ! وبلغ علياً ضعف محمد بن أبي بكر وممالأة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص فقال: ما أوتي محمد من حرض)! (اليعقوبي في تاريخه:2/193) . ومعناه: ما أتي من ضعف في دينه أو عقله أوبدنه ، ولكنها المقادير .
وقد تقدم شئ عن شهادته رحمه الله في المجلد الأول ، وفي موت أخته عائشة ! ونورد هنا ملخصاً مختصراً مما ذكره الطبري في تاريخه:4/76 ، وهو أن ابن العاص نزل بجيش من ثلاثة فرق في أداني أرض مصر ، واجتمعت اليه العثمانية ، وكتب إلى محمد بن أبي بكر ، وأرسل له رسالة معاوية يتهدده ويتهمه بالتحريك على عثمان ، فطوى محمد كتابيهما وبعثهما إلى أمير المؤمنين عليه السلام يطلب منه الرأي والمدد ، فكتب له عليه السلام أن يثبت ويجاهد: ( وذكرت أنك قد رأيت في بعض ممن قبلك فشلاً فلا تفشل وإن فشلوا ، حصن قريتك واضمم إليك شيعتك ، واندب إلى القوم كنانة بن بشر المعروف بالنصيحة والنجدة والبأس فإني نادب إليك النابغي على الصعب والذلول فاصبر لعدوك وامض على بصيرتك وقاتلهم على نيتك وجاهدهم صابراً محتسباً..... فقام محمد بن أبي بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلى الله عليه وآله ثم قال: أما بعد معاشر المسلمين والمؤمنين فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة وينعشون الضلال ويشبون نار الفتنة ويتسلطون بالجبرية ، قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بالجنود . عبادَ الله فمن أراد الجنة والمغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم فليجاهدهم في الله . انتدبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر .
قال فانتدب معه نحو من ألفي رجل وخرج محمد في ألفي رجل . واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد ، فأقبل عمرو نحو كنانة ، فلما دنا سرح الكتائب كتيبة بعد كتيبة فجعل كنانة لاتأتيه كتيبة من كتائب أهل الشام إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يقربها بعمرو بن العاص ، ففعل ذلك مراراً !
فلما رأى ذلك عمرو بعث إلى معاوية بن خديج السكوني فأتاه في مثل الدهم فأحاط بكنانة وأصحابه ، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب . فلما رأى ذلك كنانة بن بشر نزل عن فرسه ونزل أصحابه وكنانة يقول: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ .فضاربهم بسيفه حتى استشهد رحمه الله .
وأقبل عمرو بن العاص نحو محمد بن أبي بكر وقد تفرق عنه أصحابه ، لما بلغهم قتل كنانة ، حتى بقي وما معه أحد ! فلما رأى ذلك خرج يمشى في الطريق حتى انتهى إلى خربة في ناحية الطريق ، فآوى إليها... فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً ، فأقبلوا به نحو فسطاط مصر . قال ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص وكان في جنده فقال: أتقتل أخي صبراً ؟! إبعث إلى معاوية بن خديج فانهه ، فبعث إليه عمرو بن العاص يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر ! فقال معاوية: أكذاك قتلتم كنانة بن بشر(وهو سكوني من قبيلته)وأخلي أنا عن محمد بن أبي بكر ؟! هيهات أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ . فقال لهم محمد: أسقوني من الماء قال له معاوية بن حديج: لا سقاه الله إن سقاك قطرة أبداً ، إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائماً محرماً ، فتلقاه الله بالرحيق المختوم ! أتدري ما أصنع بك ؟ أدخلك في جوف حمار ، ثم أحرقه عليك بالنار ! فقال له محمد: إن فعلتم بي ذلك فطالما فعل ذلك بأولياء الله ! فقدمه فقتله ، ثم ألقاه في جيفة حمار ، ثم أحرقه بالنار . فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعاً شديداً ، وقنتت عليه في دبر الصلاة تدعو على معاوية وعمرو)
وفي الغارات للثقفي:2/756: ( فدخلوا إليه وربطوه بالحبال وجروه على الأرض ... وأمر به أن يحرق بالنار في جيفة حمار . ودفن في الموضع الذي قتل فيه ، فلما كان بعد سنة من دفنه أتى غلامه وحفر قبره فلم يجد فيه سوى الرأس ، فأخرجه ودفنه في المسجد تحت المنارة... ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثديا هادماً . ووَجَدَ(حزن)عليه علي بن أبي طالب عليه السلام وجداً عظيماً وقال: كان لي ربيباً وكنت أعده ولداً ولبنيَّ أخاً).
وقد ذكر الثقفي الكبش الذي شوته أخت معاوية ، وأرسلته هدية الى عائشة !
وفي المواعظ والإعتبار للمقريزي ص1672: (فكانت ولاية محمد بن أبي بكر خمسة أشهر ومقتله لأربع عشرة خلت من صفر ، سنة ثمان وثلاثين). انتهى .
(وكامل ابن الأثير:3/229، والبدء والتاريخ:5/226 ، ولئالى الأخبار:1/169، والغدير:11/66: ، وتاريخ دمشق:49/426 ، وتهذيب الكمال :24/542 ، والنهاية:7/348 ، و:8/109،والأوائل ص165، والنجوم الزاهرة:1/110، وكر أنه قيل أرسل رأاسه الى معاوية وهي رواية ضعيفة ، وتاريخ اليعقوبي:2/194 ، وفيه أن جيش معاوية كان ثلاث فرق من الشام وفلسطين والأردن . وأنه حرقه بالنار في زقاق يعرف بزقاق الحوف. وكان قتله(الأشتر)وقتل محمد بن أبي بكر في سنة 38).
وفي تاريخ دمشق:49/427: (وقدم عمرو بن العاص على معاوية بعد فتحه مصر فعمل معاوية طعاماً ، فبدأ بعمرو وأهل مصر فغداهم ، ثم خرج أهل مصر واحتبس عمرواً عنده ، ثم أدخل أهل الشام فتغدوا ، فلما فرغوا من الغداء قالوا: يا أبا عبد الله بايع ! قال: نعم ، على أن لي عشراً يعني مصر ! فبايعه على أن له ولاية مصر ما كان حياً . فبلغ ذلك علياً فقال ما قال) . انتهى. ويقصد به قول أمير المؤمنين عليه السلام : (إنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتية ، ويرضخ له على ترك الدين رضيخة)! (نهج البلاغة:1/148) أوقوله عليه السلام: ( كرَّ على العاصي بن العاصي فاستماله فمال إليه ، ثم أقبل به بعد أن أطعمه مصر ! وحرامٌ عليه أن يأخذ من الفئ دون قسمه درهماً). ( الخصال:378)
وفي تاريخ اليعقوبي:2/221: (وكانت مصر والمغرب لعمرو بن العاص طعمةً شرطها له يوم بايع ! ونسخة الشرط: هذا ما أعطى معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص مصر أعطاه أهلها فهم له حياته ، ولا تنقص طاعته شرطاً . فقال له وردان مولاه: فيه الشعر من بدنك ، فجعل عمرو يقرأ الشرط ولا يقف على ما وقف عليه وردان ! فلما ختم الكتاب وشهد الشهود قال له وردان: وما عمرك أيها الشيخ إلا كظمإ حمار (مثل لقصر المدة) ! هلا شرطت لعقبك من بعدك؟ فاستقال معاوية فلم يقله ، فكان عمرو لايحمل إليه من مالها شيئاً ، يفرق الأعطية في الناس ، فما فضل من شئ أخذه لنفسه).انتهى .
وفي تاريخ الطبري:4/74: (قال له معاوية مجيباً أهمك يا ابن العاص ما أهمك !! وذلك لأن عمرو بن العاص كان صالح معاوية حين بايعه على قتال علي بن أبي طالب على أن له مصر طعمةً ما بقي). ولم يتمتع بها ابن العا ص إلا سنتين وكسراً !
(مالك الأشتر بن الحارث...بن مالك بن النخع).(معجم الشعراء:1/172).(قدس الله روحه ورضي الله عنه ، جليل القدر عظيم المنزلة ، كان اختصاصه بعلي عليه السلام أظهر من أن يخفى، وتأسف أمير المؤمنين عليه السلام لموته وقال: لقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله ). (الخلاصة للعلامة الحلي ص276) .
وفي معجم رجال الحديث للسيد الخوئي:15/168: (قال الكشي: ذكر أنه لما نعي الأشتر مالك بن الحارث النخعي إلى أمير المؤمنين عليه السلام تأوه حزناً وقال: رحم الله مالكاً وما مالك ! عزَّ عليَّ به هالكاً ، لو كان صخراً لكان صلداً ، ولو كان جبلاً لكان فنداً ، وكأنه قد مني قداً). انتهى .
كان مالك من شجعان العالم ، قوي الروح والبنية طويل القامة، وكان هو وعَديُّ بن حاتم (يركب الفرس الجسام فتخط إبهاماه في الأرض).(المحبر: 113) .
صحابي عدوه في التابعين:
عدُّوه في التابعين لكن بعض العلماء ألف رسالة في إثبات صحبته للنبي صلى الله عليه وآله . (الذريعة:7/37) وفي ذلك نصوص عديدة ! لكن أكثر رواة الخلافة لم يذكروه في وفادة النخع على النبي صلى الله عليه وآله ودعائه لهم ، كما في أسد الغابة:1/61 !
* *
طمسوا دوره في حرب مسيلمة:
ذكر له أسامة بن منقذ في كتاب الإعتبار ص26 ، دوراً حاسماً في قتال مسيلمة الكذاب والمرتدين معه من بني حنيفة ، وأنه قتل فارسهم المشهور ، قال:
(فكان أبو مسيكه الأيادي مع بني حنيفة وكانوا أشد العرب شوكه ، وكان مالك الأشتر في جيش أبي بكر ، فلما تواقفوا برز مالك بين الصفين وصاح يا أبا مسيكة فبرز له فقال: ويحك يا أبا مسيكة! بعد الإسلام وقراءة القرآن ، رجعت إلى الكفر؟! فقال: إياك عني يا مالك ، إنهم يحرمون الخمر ولا صبر لي عنها .
قال: هل لك في المبارزة ؟ قال: نعم . فالتقيا بالرماح ، والتقيا بالسيوف ، فضربه أبو مسيكة فشق رأسه وشتر عينه ، وبتلك الضربه سمي الأشتر . فرجع وهو معتنق رقبه فرسه إلى رحله واجتمع له قوم من أهله وأصدقائه يبكون . فقال لأحدهم: أدخل يدك في فمي، فأدحل إصبعه في فمه فعضها مالك فالتوى الرجل من الوجع! فقال مالك: لابأس على صاحبكم ، يقال إذا سلمت الأضراس سلم الرا س! أحشوها يعني الضربة سياقاً وشدوها بعمامة ، فلما حشوها وشدوها قال: هاتوا فرسي قالوا: إلى أين قال إلى أبي مسيكة ! فبرز بين الصفين وصاح يا أبا مسيكة! فخرج إليه مثل السهم ، فضربه مالك بالسيف على كتفه فشقها إلى سرجه فقتله . ورجع مالك إلى رحله فبقي أربعين يوماً لايستطيع الحراك ، ثم أبلَّ وعوفي من جرحه ذلك).
* *
طمسوا دوره في معارك الفتوحات:
وكان له في الفتوحات دورٌ مميز ، في معارك فتح العراق وفارس ، وكان السبب في انتصار المسلمين في معركة اليرموك ! لكنهم غطوا على دوره كغيره من القادة الشيعة ! فقد روى الطبري:2/597: (عن أرطأة بن جهيش قال كان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية ، فخرج يومئذ رجل من الروم فقال من يبارز؟ فخرج إليه الأشتر فاختلفا ضربتين فقال للرومي خذها وأنا الغلام الأيادي! فقال الرومي: أكثر الله في قومي مثلك ، أما والله لولا أنك من قومي لأزرت الروم ، فأما الآن فلا أعينهم). (ورواه في تاريخ دمشق:56/379)
وذكر غير الطبري أن هذا الرومي كان فارس الروم في اليرموك ، وأنه كان كعمرو بن ود فارس العرب ، فلم يبرز اليه من المسلمين إلا مالك ، فضربه ففر جريحاً ، فذهل الروم وتغيرت كفة المعركة لمصلحة المسلمين.قال الواقدي:1/242: (وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق ، وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وخوف باسمه....فابتدر مالك ماهان....فقال له ماهان: أنت صاحب خالد بن الوليد؟ قال: لا ، أنا مالك النخعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ! فقال ماهان: لابد لي من الحرب ثم حمل على مالك ، وكان من أهل الشجاعة فاجتهدا في القتال ، فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه ، فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر ، قال: فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ، ثم فكر فيما عزم عليه فدبَّرَ نفسه وعلم أن الله ناصره ، قال والدم فائرٌ من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكاً ، وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه ! وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك إستعن بالله يعنك على قرينك ، قال مالك: فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله صلى الله عليه وآله وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعاً غير موهن فعلمت أن الأجل حصين ، فلما أحس ماهان بالضربة ولى ودخل في عسكره !
قال الواقدي:ولما ولى ماهان بين يدي مالك الأشتر منهزماً صاح خالد بالمسلمين: يا أهل النصر والبأس إحملوا على القوم ما داموا في دهشتهم ، ثم حمل خالد ومن معه من جيشه ، وحمل كل الأمراء بمن معهم ، وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر ، حتى إذا غابت الشمس وأظلم الأفق انكشف الروم منهزمين بين أيديهم ، وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا ، فقتلوا منهم زهاء من مائة ألف وأسروا مثلها..).
وقال الواقدي في ص462: (والتقى مالك الأشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم أنه من ملوكهم ، فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره).
وذكر البلاذري في فتوح البلدان:1/194، أنه كان قائداً في فتح أنطاكية .وذكر في ص630 في القادة أبا ذر والأشتر في محاصرة مدينة ساحلية..الخ. وفي:1/302 ، وما بعدها كيف خطط مالك لفتح حلب ، ثم كيف فتح حصن عزار ، واستخلف عليه سعيد بن عمرو الغنوي ، ورجع الى أبي عبيدة ، فكتب أبو عبيدة الى عمر بالنصر) .
كما أن عدداً من المصادر نصت على أن مالكاً رحمه الله جاء من معركة اليرموك مدداً للمسلمين في القادسية وشهدها . ففي طبقات ابن سعد:6/405: (أخبرنا طلق بن غنام قال شهد جدي مالك بن الحارث القادسية... وتوفي طلق بن غنام في رجب سنة إحدى عشرة ومائتين في خلافة المأمون وكان ثقة صدوقاً) .
وروى له أبو تمام في ديوان الحماسة:1/39 بيت شعر ، قال:
(وتلقنى يشتد بي أجردٌ مستقدم البركة كالراكب.. هو مالك بن الحارث أحد بني النخع والأشتر لقب له ، كان شاعراً يمانياً من شعراء الصحابة ، شهد حرب القادسية أيام عمر بن الخطاب التي كانت بين المسلمين والفرس ، وكان لعلي في حروبه مثل ما كان علي لرسول الله صلى الله عليه وآله ).
وذكر أبو الفرج في الأغاني:15/208، أنه كان في القادسية مع عمرو بن معدي كرب: (قال أبو عبيدة في رواية أبي زيد عمر بن شبة شهد عمرو بن معدي كرب القادسية وهو ابن مائة وست سنين ، وقال بعضهم بل ابن مائة وعشر ، قال: ولما قتله العلج عبر نهر القادسية هو وقيس بن مكشوح المرادي ومالك بن الحارث الأشتر). ( وكذا في معاهد التنصيص للعباسي ص429)
وفي مصنف ابن أبي شيبة:7/718: (عن الأعمش عن مالك بن الحارث أو غيره قال: كنت لاتشاء أن تسمع يوم القادسية: أنا الغلام النخعي ، إلا سمعته).
وفي المصنف:8/14، (فقال عمر: ما شأن النخع ، أصيبوا من بين سائر الناس أفرَّ الناس عنهم؟ قالوا: لا ، بل وَلُوا أعظم الأمر وحدهم).( ونحوه في الإصابة:1/196).
وهذا التعتيم يدل على تعصب رواة الخلافة ضد الأشتر والنخعيين ، لتشيعهم !
روى الطبري نفسه في:3/78 ، عن الأسود النخعي: (قال شهدت القادسية فلقد رأيت غلاماً منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلاً من أبناء الأحرار ! فقلت لقد أذل الله أبناء الأحرار) . وفي مصنف ابن أبي شيبة:8/15، أن النخع كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة ، أي ربع جيش المسلمين ، وأن ثقل المعركة كان عليهم .
وفي تاريخ الطبري:3/82 ، أنهم هاجروا من اليمن مع عوائلهم ، وزوجوا سبع مائة بنت الى المسلمين وخاصة الأنصار. (ونحوه في تاريخ دمشق:65/100، وذكر أن نصف النخع الآخر توجه الى الشام) .
* *
نفي عثمان الأشتر وزعماء الكوفة الى الشام
كانت قبيلة النخع في الكوفة ورئيسهم مالك ، لكن كان له نفوذ على عامة قبائل اليمن ، ولم يكن أكثر منه نفوذاً إلا الأشعث بن قيس ، زعيم قبائل كندة .
وكان الأشتر الناطق الرسمي باسم زعماء الكوفة الى دار الخلافة في زمن عمر وعثمان ، وقد وفد شاكياً مظالم الوالي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي الذي كان أبوه صاحب خمارة في مكة وعدواً لدوداً للنبي صلى الله عليه وآله ، وكان ابنه الوليد مدمن خمر حتى صلى الصبح ثمان ركعات ، وتقيأ خمراً في محراب مسجد الكوفة ! ففي صحيح مسلم:5/126: ( قال شهدت عثمان بن عفان وأتيَ بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ! فقال عثمان إنه لم يتقيأ حتى شربها ، فقال: يا علي قم فاجلده ، فقال علي: قم يا حسين فاجلده ، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه ، فقال، يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده ، فجلده وعليٌّ يعد).
فاستبدله عثمان بسعيد بن العاص الأموي ، فطهر سعيد المنبر وحاول أن يتألف المسلمين ، لكن تعصبه الأموي واستهتاره بالمسلمين أغضب أهل الكوفة عليه !
قال الطبري:3/365: (قدم سعيد بن العاص الكوفة فجعل يختار وجوه الناس يدخلون عليه ويسمرون عنده ، وأنه سمر عنده ليلة وجوه أهل الكوفة منهم مالك بن كعب الأرحبي ، والأسود بن يزيد ، وعلقمة بن قيس النخعيان ، وفيهم مالك الأشتر في رجال ، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان لقريش ! فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا ، بستان لك ولقومك ! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيباً إلا أن يكون كأحدنا)!
وقال الطبري:3/365 ، إن سعيد بن العاص كتب الى عثمان: (إن رهطاً من أهل الكوفة سماهم له عشرة يؤلبون ويجتمعون على عيبك وعيبي والطعن في ديننا ! وقد خشيت إن ثبت أمرهم أن يكثروا ، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلى معاوية ، ومعاوية يومئذ على الشام ، فسيرهم وهم تسعة نفر إلى معاوية ، فيهم مالك الأشتر ، وثابت بن قيس بن منقع ، وكميل بن زياد النخعي ، وصعصعة بن صوحان... أن معاوية لما عاد إليهم من القابلة وذكَّرهم ، قال فيما يقول: وإني والله ما آمركم بشئ إلا قد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي وخاصتي ! وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها ، إلا ما جعل الله لنبيه نبي الرحمة(ص)... وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس ، لم يلد إلا حازماً !
قال صعصعة: كذبت ! قد ولدهم خير من أبي سفيان ، من خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له ، فكان فيهم البر والفاجر والأحمق والكيس ! فخرج تلك الليلة من عندهم ، ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلاً ثم قال: أيها القوم ردوا عليَّ خيراً أو اسكتوا ، وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهليكم وينفع عشائركم ، وينفع جماعة المسلمين ، فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم . فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله !
فقال: أوليس ما ابتدأتكم به إن أمرتكم بتقوى الله وطاعته وطاعة نبيه (ص)وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرقوا ؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي(ص) ! قال: فإني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه(ص)ولزوم الجماعة وكراهة الفرقة ، وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم ، وتعظوهم في لين ولطف.... فقال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك ! قال: من هو؟ قال من كان أبوه أحسن قدماً من أبيك، وهو بنفسه أحسن قَدماً منك في الإسلام !
فقال: والله إن لي في الإسلام قَدماً ولغيري كان أحسن قَدماً مني ، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني ، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة...الخ.) ! ( وذكر في كشف الخفاء:2/275، قول معاوية: لو ولد أبو سفيان الخلق كانوا عقلاء ، وجواب صعصعة).
ووصف الطبري في:3/365 ،آخر جلسة لمعاوية معهم ، بعد أن أمضوا مدة في الشام: (فوثبوا عليه (على معاوية بعد نقاشهم معه)فأخذوا برأسه ولحيته ! فقال: مهْ ، إن هذه ليست بأرض الكوفة ، والله لو رأى أهل الشأم ما صنعتم بي وأنا إمامهم ، ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم ، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً ! ثم قام من عندهم فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلاً ما بقيت ! ثم كتب إلى عثمان:
(لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان ، أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يملون عليهم ، ويأتون الناس زعموا من قبل القرآن ، فيشبهون على الناس! وليس كل الناس يعلم ما يريدون ، وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة ! قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم ، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشأم أن يغروهم بسحرهم وفجورهم ، فارددهم إلى مصرهم فلتكن دراهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم ، والسلام . فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة ، فردهم إليه ، فلم يكونوا إلا أطْلَقَ ألسنةً منهم حين رجعوا ! وكتب سعيد إلى عثمان يضجُّ منهم ، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرْهُمْ إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وكان أميراً على حمص ، وكتب إلى الأشتر وأصحابه: أما بعد ، فإني قد سيرتكم إلى حمص ، فإذا أتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها ، فإنكم لستم تألون الإسلام وأهله شراً ، والسلام . فلما قرأ الأشتر الكتاب قال: اللهم أسوأنا نظراً للرعية ، وأعملنا فيهم بالمعصية فعجل له النقمة ! فكتب بذلك سعيد إلى عثمان ، وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص ، فأنزلهم عبد الرحمن بن خالد الساحل ، وأجرى عليهم رزقاً).انتهى.
وقال الطبري في:3/367: (فكتب سعيد بن العاص إلى عثمان يخبره بأمرهم فكتب إليه أن سيرهم إلى الشام وألْزِمْهُمْ الدروب...). انتهى .
أقول: تدل هذه الروايات الحكومية على قوة شخصياتهم ومنطقهم ، واسترخاصهم لمعاوية وبني أمية ، وأنهم كانوا مؤمنين أصحاب ثقافة قرآنية وحديثية عبَّر عنها معاوية بقوله الجاهلي: (قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم ، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم ، فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشا أن يغروهم بسحرهم وفجورهم) ! ومعنى قول عثمان لابن خالد: ألزمهم الدروب ، أي ضعهم في الطرق التي يَغِيرُ منها الروم على المسلمين ، وهي مناطق خطرة ، لعلهم يُقتلون !
وكانت لهم قصص مع عبد الرحمن بن خالد كقصصهم مع معاوية في التبعيد الأول ، فاضطروا الى إرجاعهم الى الكوفة ! فعادوا وهم أقوى لالتفاف المسلمين حولهم ، وذهب وفد الكوفة الى المدينة برئاسة مالك الأشتر يطالبون عثمان بإصلاح الوضع وتغيير الوالي ابن العاص ، فلم يستجب عثمان وكان الوالي في المدينة ، فمنعه مالك من دخول الكوفة ، وفرض على عثمان تغييره بالقوة !
قوم صالحون يجهزون جنازة أبي ذر رحمه الله :
كان الأشتر مع مئتي راكب من اليمانيين عائدين من الحج ، فشاهدوا امرأة في الربذة على قارعة الطريق تلوِّح بثوب أسود ، وإذا بها ابنة أبي ذر الذي نفاه عثمان الى الربذة ، فأخبرتهم أنه توفي ودعتهم الى القيام بمراسم دفنه .
في اختيار معرفة الرجال:1/283: (مكث أبو ذر رحمه الله بالربذة حتى مات . فلما حضرته الوفاة قال لامرأته: إذبحي شاة من غنمك واصنعيها ، فإذا نضجت فاقعدي على قارعة الطريق ، فأول ركب ترينهم قولي ياعباد الله المسلمين هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله قد قضى نحبه ولقي ربه فأعينوني عليه وأجيبوه ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرني أني أموت في أرض غربة ، وأنه يلي غسلي ودفني والصلاة عليَّ رجال من أمتي صالحون . محمد بن علقمة بن الأسود النخعي قال: خرجت في رهط أريد الحج ، منهم مالك بن الحارث الأشتر ، وعبد الله بن الفضل التميمي ، ورفاعة بن شداد البجلي حتى قدمنا الربذة ، فإذا امرأة على قارعة الطريق تقول: يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله هلك غريباً ، ليس لي أحد يعينني عليه ، قال: فنظر بعضنا إلى بعض وحمدنا الله على ما ساق إلينا ، واسترجعنا على عظم المصيبة ، ثم أقبلنا معها ، فجهزناه وتنافسنا في كفنه حتى خرج من بيننا بالسواء ، ثم تعاونا على غسله حتى فرغنا منه ، ثم قدمنا مالك الأشتر فصلى بنا عليه ، ثم دفناه ، فقام الأشتر على قبره ثم قال: اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغير ولم يبدل ، لكنه رأى منكراً فغيره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيداً غريباً ، اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره وحرم رسولك ! قال: فرفعنا أيدينا جميعاً وقلنا: آمين . ثم قدمت الشاة التي صنعت ، فقالت: إنه قد أقسم عليكم ألا تبرحوا حتى تتغدوا ، فتغدينا وارتحلنا). انتهى .
ولكن رواة الخلافة بخلوا على مالك الأشتر وصحبه بهذا التوفيق في تجهيز أبي ذر ، فزعموا أن الذي صلى عليه عبدالله بن مسعود ! (في الحاكم وأبي نعيم وأبي عمر: ليموتن أحدكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين . وفي البلاذري: يلي دفنه رهط صالحون . وقد دفنه مالك الأشتر وأصحابه الكوفيون ، أنساب الأشراف:5/55 ، وحلية الأولياء:1/17 ، والحاكم:3/337 ، والإستيعاب:1/83 ، وقال ابن أبي الحديد:3/416: هذا الحديث يدل فضيلة عظيمة للأشتر رحمه الله وهي شهادة قاطعة من النبي بأنه مؤمن). (الغدير:9/41، بتصرف).وسبب بخلهم على الأشتر بشهادة النبي صلى الله عليه وآله أنهم يريدون أن يمدحوا عثمان بأنه تأثر لموت أبي ذر وضم ابنته الى عياله! (الطبري:3/354) .
قال في أسد الغابة:5/188: (وفي ذكر موته وصلاة عبد الله بن مسعود عليه ومن كان معه في موته ، ومقامه بالربذة ، أحاديث لانطوِّل بذكرها . وكان أبو ذر طويلاً عظيماً أخرجه أبو عمرو). انتهى. (وراجع مستدرك الحاكم:3/51).
خطبة الأشتر عند بيعة أمير المؤمنين عليه السلام
في تاريخ اليعقوبي:2/179 : (وقام صعصعة بن صوحان فقال: والله يا أمير المؤمنين ، لقد زينت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ، ولهي إليك أحوج منك إليها . ثم قام مالك بن الحارث الأشتر فقال: أيها الناس ، هذا وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء ، الحسن الغناء ، الذي شهد له كتاب الله بالإيمان ، ورسوله بجنة الرضوان . من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ، ولا الأوائل). انتهى .
ثم كان الأشتر مع أمير المؤمنين عليه السلام عضده في حربه وسلمه ، وقد تقدمت بعض مواقفه ودوره العظيم في حرب الجمل وصفين، ثم نصبه أمير المؤمنين عليه السلام والياً على الجزيرة والموصل ، فبقي فيها حتى أرسل اليه أن يستخلف أحداً ويحضر اليه فأرسله الى مصر فاستخلف شبيب بن عامر على الجزيرة). (أنساب الأشراف ص471).
رسالة الإمام عليه السلام الى أهل مصر وعهده الى مالك الأشتر:
وفي أمالي المفيد ص81: (فخرج مالك الأشتر رضي الله عنه فأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر ، وقدَّم أمير المؤمنين عليه السلام أمامه كتاباً إلى أهل مصر:
بسم الله الرحمن الرحيم ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله الصلاة على نبيه محمد وآله ، وإني قد بعثت إليك عبداً من عباد الله ، لاينام أيام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر ، من أشد عبيد الله بأساً ، وأكرمهم حسباً ، أضر على الفجار من حريق النار ، وأبعد الناس من دنس أو عار ، وهو مالك بن الحارث الأشتر ، لا نابي الضرس ولا كليل الحد ، حليم في الحذر رزين في الحرب ، ذو رأي أصيل ، وصبر جميل ، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ، فإن أمركم بالنفير فانفروا ، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا ، فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري ، فقد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم ، وشدة شكيمة على عدوكم . عصمكم الله بالهدى وثبتكم التقوى ، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته). انتهى .
أما عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر ، فهو يبلغ ثلاثين صفحة ، وهو وثيقة سياسية إدارية حقوقية ترسم للحاكم كيفية إدارة الدولة . وقد عرف قيمته بعض الحقوقيين الغربيين كما قرأت ، فجعلوه مصدراً فيما لانص قانوينياً فيه !
قتل معاوية مالك الأشتر بالسُّم
في أمالي المفيد ص82: (ولما تهيأ مالك الأشتر للرحيل إلى مصر كتب عيون معاوية بالعراق إليه يرفعون خبره ، فعظم ذلك على معاوية ، وقد كان طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها فاتته ، وكان أشد عليه من ابن أبي بكر ، فبعث إلى دهقان من أهل الخراج بالقلزم أن علياً قد بعث بالأشتر إلى مصر وإن كفيتنيه سوغتك خراج ناحيتك ما بقيت ، فاحتل في قتله بما قدرت عليه . ثم جمع معاوية أهل الشام وقال لهم: إن علياً قد بعث بالأشتر إلى مصر ، فهلموا ندعو الله عليه يكفينا أمره ، ثم دعا ودعوا معه ! وخرج الأشتر حتى أتى القلزم ، فاستقبله ذلك الدهقان فسلم عليه وقال له: أنا رجل من أهل الخراج ولك ولأصحابك علي حق في ارتفاع أرضي فانزل عليَّ أقم بأمرك وأمر أصحابك وعلف دوابك واحتسب بذلك لي من الخراج . فنزل عليه الأشتر ، فأقام له ولأصحابه بما احتاجوا إليه ، وحمل إليه طعاما دس في جملته عسلاً جعل فيه سماً ، فلما شربه الأشتر قتله ومات من ذلك ! وبلغ معاوية خبره فجمع أهل الشام وقال لهم: أبشروا فإن الله تعالى قد أجاب دعاءكم ، وكفاكم الأشتر وأماته ، فسروا بذلك واستبشروا به) !! انتهى .
وقد ذكرنا في قتل معاوية لعبد الرحمن بن خالد ، عدة مصادر لقول معاوية عندما بلغه نجاح خطته في قتل مالك الأشتر بالسم: (إن لله جنوداً من عسل)!
وفي المستطرف ص154: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي في كتاب الأمثال: ومعاوية أيضاً حين بلغه أن الأشتر سقي شربة عسل فيها سم فمات: إن لله جنوداً منها العسل). وفي ص352: (فقال معاوية: إن لله جنوداً منها العسل).
وفي نهاية الإرب ص4465: (وبلغ معاوية مسيره ، فدس إلى دهقان بالعريش فقال: إن قتلت الأشتر فلك خراجك عشرين سنة... فسمَّه وأتاه به فشربه فمات).
وفي تاريخ البخاري:7/311: (فقال عمرو بن العاص إن لله جنوداً من عسل).
وفي البدء والتاريخ:440: (كتب معاوية إلى دهقان العريش إن أنت قتلت الأشتر فلك خراجه عشرين سنة ، فأخرج له سويقاً وجعل فيه سماً ، فلما شربه الأشتر يبس مكانه ! فقال معاوية: لما بلغه: ما أبردها على الفؤاد ! إن لله جنوداً من عسل)!
مشهد مالك الأشتر رحمه الله في القاهرة
(لما سار الأشتر إلى مصر أخذ في طريق الحجاز فقدم المدينة فجاءه مولى لعثمان يقال له نافع وأظهر له الود ، فلم يزل معه إلى عين شمس (أعني المدينة الخراب خارج مصر بالقرب من المطرية) فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا ، وسقاه نافع العسل فمات. وهذه الرواية هي أقرب الروايات إلى الواقع ، وتؤكد صحة موضع قبره بمنطقة القلج الآن بالقرب من بلدة الخانكة ، وهذه المنطقة واقعة ضمن حدود مدينة عين شمس القديمة. وأكثر زوار مرقد مالك الأشتر من العرب والأجانب ، فشهرته محدودة وسط المصريين ، ولذلك يلقبونه بالشيخ العجمي ! وقد تم تجديد مرقده مؤخراً على أيدي طائفة البهرة الإسماعيليين ، ودفن إلى جواره شقيق شيخ البهرة . ويقع مرقده وسط بستان تحيط به مناطق زراعية بدأ الزحف السكاني يطغي عليها). (الشيعة في مصر لصالح الورداني ص108).
حجر بن عدي الكندي رحمه الله صحابي جليل: وفارس من كبار قادة الفتوحات ، كان كثير العبادة حتى وصفوه براهب الصحابة ، قال الحاكم في المستدرك:3/468: (ذكر مناقب حجر بن عدي رضي الله عنه ، وهو راهب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ) .
( وفد على النبي صلى الله عليه وآله هو وأخوه هانئ بن عدي وشهد القادسية ، وشارك في فتح الشام وهو الذي فتح مرج عذراء الذي قتل فيه ! (تاريخ الطبري:3/135 ، والغارات للثقفي:2/812 ، والمحبر لابن حبيب ص292 ، وأخبار الشعراء للمرزباني ص49 ، والمنتخب مذيل الطبري ص149، والطبقات:6/217) .
وكان قائد ميمنة المسلمين في معركة جلولاء وصفين.(الأخبار الطوال ص127)
* *
وكان في صفين قائد ميمنة علي عليه السلام : ( تاريخ الطبري:4/63). وقائد قوات كندة (تاريخ خليفة146 ، والغارات:1/51) وكان من عظماء أصحاب علي ، وأراد أن يوليه رياسة كندة ويعزل الأشعث بن قيس ، وكلاهما من ولد الحارث بن عمرو آكل المرار فأبى حجر بن عدي أن يتولى الأمر والأشعث حي). (الأخبار الطوال:ص224)
* *
وكان باراً بأمه محباً لها: فكان يرتب لها مكان نومها بيديه ، ثم ينام فيه ليطمئن أنه ممهد ! (تاريخ دمشق:12/212 ، ومكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص76)
* *
وهو أول من خرج لرد غارات معاوية: وطارد الضحاك بن قيس في غارته على مسالح العراق ، فلحقه في تدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً وقتل من أصحابه رجلان ، وحال بينهم الليل فهرب الضحاك وأصحابه ورجع حجر ومن معه) ( تاريخ الطبري:4/104)
* *
وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام بقتل حجر ظلماً: ففي تاريخ دمشق:12/226: (عن أبي الأسود قال دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل حجر وأصحابه؟ فقال: يا أم المؤمنين أني رأيت قتلهم صلاحاً للأمة وأن بقاءهم فساداً للأمة ! فقالت سمعت رسول الله(ص)يقول: سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم أهل السماء). (وفيض القدير:4/166، والغارات:2/812) .
وفي تاريخ دمشق:12/227: (عن ابن زرير الغافقي عن علي بن أبي طالب قال: ياأهل الكوفة سيقتل فيكم سبعة نفر خياركم ، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود).
وفي بحار الأنوار:39/324: عن حجر رحمه الله قال: (قال لي علي عليه السلام : كيف تصنع أنت إذا ضربت وأمرت بلعنتي؟ قلت له: كيف أصنع؟ قال: إلعني ولا تبرأ مني فإني على دين الله).
وفي مناقب آل أبي طالب:2/106: (وكذلك أخبر (أمير المؤمنين عليه السلام )بقتل جماعة منهم حجر بن عدي ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، وميثم التمار ، ومحمد بن أكثم ، وخالد بن مسعود ، وحبيب بن المظاهر وجويرية ، وعمرو بن الحمق ، وقنبر ، ومذرع ، وغيرهم ، ووصف قاتليهم وكيفية قتلهم) !
* *
يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك:
في بحار الأنوار:32/399: (وروى نصر عن عبد الله بن شريك قال: خرج حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران البراءة من أهل الشام فأرسل علي عليه السلام إليهما أن كفَّا عما يبلغني عنكما ، فأتياه فقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقين؟ قال: بلى . قالا: فلم منعتنا من شتمهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين تشتمون وتبرؤون ، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا ومن أعمالهم كذا وكذا ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر . وقلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم أحقن دماءهم ودماءنا ، وأصلح ذات بينهم وبيننا واهدهم من ضلالتهم ، حتى يعرف الحق منهم من جهله ، ويرعوي عن الغي والعدوان منهم من لج به ، لكان أحب إلي وخيراً لكم .
فقالا: يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب بأدبك) .
* *
وكان حجر يكتب عن أمير المؤمنين عليه السلام : ( ففي قال: ناولني الصحيفة من الكوة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما سمعت علي بن أبي طالب يذكر أن الطهور نصف الايمان)
* *
وكان معتمد الإمام الحسن عليه السلام : (فلما بلغ (معاوية) جسر منبج تحرك الحسن عليه السلام وبعث حجر بن عدي فأمر العمال بالمسير ، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خف معه أخلاط من الناس)(الإرشاد:2/10، ومقاتل الطالبيين ص39) .
* *
وقد فضح حجر دور الأشعث بن قيس في قتل أمير المؤمنين عليه السلام : ففي مقاتل الطالبيين ص20 (والأشعث في بعض نواحي المسجد ، فسمع حجر بن عدي الأشعث يقول لابن ملجم: النجاء النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح ، فقال له حجر: قتلته يا أعور وخرج مبادراً إلى علي) .
* *
وكان أحد الذين يحسب معاوية حسابهم: (فكتب معاوية إلى المغيرة خذ زيادا وسليمان بن صرد وحجر بن عدي وشبث بن ربعي وابن الكواء وعمرو بن الحمق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه في الصلاة).(تاريخ الطبري:4/137)
* *
وكان مع أصحابه أربعة عشر: قتل منهم خمسة مع حجر في مرج عذراء ، هم: شريك بن شداد الحضرمي ، وصيفي بن فسيل الشيباني ، وقبيصة بن ضبيعة العبسي ومحرز بن شهاب السعدي ثم المنقري ، وكدام بن حيان العنزي .
أما السابع فهو عبد الرحمن بن حسان العنزي ، وقد بعث به معاوية إلى زياد بن أبيه فدفنه في الكوفة حياً ! وقد توسط لهم الصحابة وزعماء القبائل والشخصيات عند معاوية ، فلم يقبل وساطتهم إلا في سبعة فقط فأطلقهم ، وهم:
كريم بن عفيف الخثعمي ، وعبد الله بن حوية التميمي ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء بن سمي البجلي ، والأرقم بن عبد الله الكندي ، وعتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر ، وسعيد بن نمران الهمداني . وكانت شهادة حجر في سنة 51) .(تاريخ دمشق:8/27)
* *
الموت في حب علي عليه السلام شهادة: ففي مختصر أخبار الشعراء للمرزباني ص49: (ولما قدم حجر عذراء قال: ما هذه القرية؟ فقيل: عذراء . فقال: الحمد لله ، أما والله إني لأول مسلم ذكر الله فيها وسجد ، وأول مسلم نبح عليه كلابها في سبيل الله ، ثم أنا اليوم أحمل إليها مصفداً في الحديد ! ثم قال حجر للذي أمر بقتلهم: دعني أصلي ركعتين خفيفتين ، فلما سلم انفتل إلى الناس فقال: لولا أن يقولوا جزع من الموت لأحببت أن يكونا أنفس مما كانتا ، وأيم الله لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ما هاتان بنافعتيَّ شيئاً ، ثم أخذ ثوبه فتحزم به ، ثم قال لمن حوله من أصحابه: لاتحلوا قيودي فإني أجتمع ومعاوية على هذه المحجة ! ثم مشى إليه هدبة الأعور بالسيف ، فشخص إليه حجر فقال: ألم تقل إنك لم تجزع من الموت؟ فقال: أرى كفناً منشوراً وقبراً محفوراً وسيفاً مشهوراً ، فما لي لا أجزع ! أما والله لئن جزعت لا أقول ما يسخط الرب ! فقال له: فابرأ من علي وقد أعد لك معاوية جميع ما تريد إن فعلت ! فقال: ألم أقل إني لا أقول ما يسخط الرب ! والله لقد أخبرني حبيبي رسول الله (ص) بيومي هذا ! ثم قال: إن كنت أمرت بقتل ولدي فقدمه ، فقدمه فضربت عنقه ، فقيل له: تعجلت الثكل فقال: خفت أن يرى هول السيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي عليه السلام فلا نجتمع في دار المقامة التي وعدها الله الصابرين .
ولما حمل عبد الرحمن بن حسان العنزي وكريم بن عفيف الخثعمي ، وكانا من أصحابه قال: العنزي: يا حجر لا تبعد ولا يبعد ثوابك فنعم أخو الإسلام كنت . وقال الخثعمي: يا حجر لا تبعد ولا تفقد فلقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ثم ذهب بهما فأتبعهما حجر بصره ، وقال:
ثم التفت إلى بقية أصحابه ، فرأى منهم جزعاً فقال: قال لي حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله : يا حجر تقتل في محبة عليٍّ صبراً ، فإذا وصل رأسك إلى الأرض مادت وأنبعت عين ماء فتغسل الرأس! فإذا شاهدتم ذلك فكونوا على بصائركم وقدم فضربت عنقه فلما وصل رأسه إلى الأرض مادت من تحته وأنبعت عين ماء فغسلت الرأس! قال: فجعل أصحابه يتهافتون إلى القتل ، فقال لهم أصحاب معاوية: ياأصحاب علي ماأسرعكم إلى القتل فقالوا:من عرف مستقره سارع إليه).
* *
وظهرت له كرامات في حربه وشهادته: منها أنه طال اصطفاف المسلمين والفرس بعد القادسية ، وكان الفرس على الضفة الأخرى لدجلة ، فتقدم حجر وقرأ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ . وأقحم فرسه وهو يقول باسم الله ، فعبر وعبر المسلمون على أثره ! فلما رآهم العدو قالوا: ديوان ديوان ! يعني شياطين شياطين(ديوان بالفارسية جمع ديو: الغول الشرير) فهربوا فدخلنا عسكرهم). (كرامات الأولياء اللالكائي ص152، وتفسير ابن كثير:1/419)
وعندما كان محبوساً في بستان في مرج عذراء أصابته جنابة ، فقال للسجان: أعطني من الماء شرابي اليوم وغداً لأتطهر به ، ولا أطلب منك شيئاً . قال: أخاف أن تموت عطشاً فيقول معاوية أنت قتلته ! قال: فبنى حجر حِجَاراً (شبيه الحوض) ودعا الله فأسكبت سحابة فصبت من الماء ما أراد فتطهر حجر ! فقال له بعض أصحابه: لو دعوت الله أن يخلصنا لفعل ! فقال حجر: اللهم خِرْ لنا ، ثلاثاً).
(فيض القدير:4/166، عن ابن الجنيد في كتاب الأولياء ، والغارات:2/812 ، ومختصر أخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص49) :
وقيل إن شجر ذلك البستان جفت من يوم شهادته ! (شرح الأخبار:2/171).
* *
وكان له أصحاب محبون له من شخصيات الإسلام وفرسانه: (سعيد بن نمران الهمداني الناعطي ، كان كاتباً لعلي عليه السلام وأدرك من حياة النبي صلى الله عليه وآله أعواماً ، وشهد اليرموك وسار إلى العراق مدداً لأهل القادسية ، وكان من أصحاب حجر بن عدي ، وسيَّره زياد مع حجر إلى الشام ، فأراد معاوية قتله مع حجر ، فشفع فيه حمزة بن مالك الهمداني فخلى سبيله). (أسد الغابة:2/316)
* *
وقتله معاوية بيد أحد كبار المجرمين: ففي تاريخ الطبري:4/190: (فشُدَّ في الحديد ثم حُمل إلى معاوية ، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته . فقال له معاوية: أمير المؤمنين ! أما والله لا أقيلك ولا أستقيلك ، أخرجوه فاضربوا عنقه ! فأخرج من عنده فقال حجر للذين يلون أمره دعوني حتى أصلى ركعتين فقالوا صله فصلى ركعتين خفف فيهما ثم قال: لولا أن تظنوا بي غير الذي أنا عليه ، لأحببت أن تكونا أطول مما كانتا ، ولئن لم يكن فيما مضى من الصلاة خير فما في هاتين خير . ثم قال لمن حضره من أهله: لا تطلقوا عنى حديداً ولا تغسلوا عنى دماً فإني ألاقي معاوية غداً على الجادة ثم قدم فضربت عنقه). (سمعت أبا داود قال: قتل حجر بن عدي على يدي أبي الأعور السلمي). (سؤالات الآجري:1/331 ، و(وبغية الطلب:5/2108)
* *
وقتل حجر في صفر سنة إحدى وخمسين هجرية: (تاريخ خليفة بن خياط ص160، وتاريخ دمشق: 8/ 27، وقيل سنة 53: مستدرك الحاكم:3/468، ومعارف ابن قتيبة ص178).
* *
واعترف معاوية بقتل حجر ، وأصيب بالهلوسة بإسمه: فكان يقول: (ما قتلت أحداً إلا وأنا أعرف فيمَ قتلتُه وما أردت به ! ما خلا حجر بن عدي ، فإني لا أعرف فيما قتلته !).(تاريخ دمشق:12/231) وأصيب معاوية قبل موته بالهذيان والهلوسة باسم علي عليه السلام وحجر وعمرو بن الحمق ، كما تقدم .
* *
ولم يلعن حجر عليا عليه السلام رغم التهديد: ففي شرح النهج:4/58: (وأمر المغيرة بن شعبة وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية حجر بن عدي أن يقوم في الناس فليلعن علياً ! فأبى ذلك فتوعده فقام فقال: أيها الناس ، إن أميركم أمرني أن ألعن علياً فالعنوه ! فقال أهل الكوفة: لعنه الله وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد). وفي اختيار معرفة الرجال:1/319 ، أنه قال مثل ذلك عندما طلب منه حاكم اليمن لعن علي عليه السلام في صنعاء) !
وقال في الغدير:9/119: (قاموا إليهم فقالوا: تبرؤون من هذا الرجل(أي علي عليه السلام ) ! قالوا: بل نتولاه ونتبرأ ممن تبرأ منه . فأخذ كل رجل منهم رجلاً وأقبلوا يقتلونهم واحداً واحداً حتى قتلوا ستة). راجع:تاريخ الطبري: 6/141 ، تاريخ ابن عساكر:2/370 ، الكامل لابن الأثير:3/202 ، تاريخ ابن كثير: 7/49 ، والأغاني لأبي الفرج:2/16).
* *
وقد اعترض الإمام الحسين عليه السلام على معاوية: وعائشة ، وعامة الصحابة ، والعلماء .
في الإحتجاج:2/19: (عن صالح بن كيسان قال: لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي عليه السلام فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك ؟ فقال عليه السلام : وما صنعت بهم ؟ قال: قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم . فضحك الحسين عليه السلام ثم قال: خصمك القوم يا معاوية ، لكننا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم ! ولقد بلغني وقيعتك في علي وقيامك ببغضنا ، واعتراضك بني هاشم بالعيوب ، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك ، ثم سلها الحق عليها ولها ، فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر عيبك فيك ، وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترن غير قوسك ، ولا ترمين غير غرضك ، ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب ، فإنك والله لقد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه ولا حدث نفاقه ، ولا نظر لك ! فانظر لنفسك أو دع). انتهى .
ويقصد الإمام عليه السلام عمرو المعاص ، ومعناه أن دوره أساسي في خطط معاوية !
وقالت له عائشة: (يا معاوية أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه؟ قال: لست أنا قتلتهم ، إنما قتلهم من شهد عليهم)! (تاريخ الطبري:4/208 ، والإستيعاب:1/331 ، وفي طبعة 238، والسيرة الحلبية:3/163، والروض الأنف:3/366 ،وفي طبعة ص643 وفيه: ( فقال أوَأنا ؟! إنما قتلهم من شهد عليهم) !! ونحوه: أنساب الأشراف ص1265 . وفي الطبقات:6/219، أن عائشة بعثت رسالة الى معاوية ، واعتذرت الرواية بأنها وصلت بعد تنفيذه الإعدام !
وفي تاريخ دمشق:12/228: (وكان ابن عمر في السوق فنعي له حجر ، فأطلق حبوته وقام وغلبه النحيب) .
وقال ابن سيرين: (أربع خصال كن في معاوية ، لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ! واستخلافه بعده ابنه سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير . وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله(ص) : الولد للفراش وللعاهر الحجر . وقتله حجراً وأصحاب حجر ، فيا ويلاً له من حجر ! ويا ويلاً له من أصحاب حجر !). انتهى.
واتفقوا على أن العرب ذلت بعد قتل حجر صبراً: ففي تاريخ الطبري: 4/216: (أن الربيع بن زياد ذكر يوما بخراسان حجر بن عدي فقال لا تزال العرب تقتل صبرا بعده ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبراً ولكنها أقرت فذلت)!
* *
وهدم زياد دار حجر بأمر معاوية: فقد ذكر الطبري:4/536 ، أن المختار طلب محمد بن الأشعث لأنه من قتلة الحسين عليه السلام فهرب (فبعث إلى داره فهدمها وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي وكان زياد بن سمية قد هدمها).
* *
وأوصى حجر أن يدفنوه بثيابه ودمائه: في مصنف ابن أبي شيبة:3/139: (قال حجر بن عدي لمن حضره من أهل بيته: لا تَغْسلوا عني دماً ولا تُطلقوا عني حديداً ، وادفنوني في ثيابي ، فإني ألتقي أنا ومعاوية على الجادة غداً !). ( ونحوه في تاريخ دمشق:12/225).(أدفنوني في ثيابي فإني أبعث مخاصماً).(الطبقات:6/219).
* *
وقالت الشعراء في رثاء حجر الشهيد الصحابي: ففي الطبقات:6/220: (وقد كانت هند بنت زيد الأنصارية وكانت شيعية ، قالت حين سير بحجر إلى معاوية:
ترفع أيها القمر المنير ترفع هل ترى حجرا يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ليقتله كما زعم الخبير
تجبرت الجبابر بعد حجر وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولا كأن لم يحيها يوما مطير..الخ.
(والبحار:32/578 ، و:38/22، وتجد كثيراً من الشعر في أمهات المصادر كالطبري وابن عساكر)
* *
كانت له شعبية واسعة في الكوفة ولكنها لم توظف جيداً:
يتساءل المتأمل في شخصية حجر المحبوبة ونفوذه الواسع على قبائل كندة الكبيرة ، المنتشرة في العراق والشام ! وعلى أوساط أخرى من القبائل ، ويتعجب كيف استطاع زياد بن أبيه أن يعتقله مع بضعة عشر زعيماً من وسط قبائلهم ، ويرسلهم مقيدين الى معاوية ، ثم كيف استطاع معاوية أن يقتل نصفهم ، ولم يقبل الوساطات الواسعة إلا في نصفهم؟ ولم تحدث لذلك ردة فعل تذكر ؟!
والجواب: أنه كانت توجد عوامل متعددة ونقاط ضعف في موقف حجر وأصحابه ، لايتسع المجال لدراستها ، وهذه خلاصة أحداث اعتقالهم:
في تاريخ الطبري:4/191: (قال: كنت في شرط زياد ، فقال زياد: لينطلق بعضكم إلى حجر فليدعه . قال فقال لي أمير الشرطة وهو شداد بن الهيثم الهلالي: إذهب إليه فادعه ، قال: فأتيته فقلت: أجب الأمير . فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة ! قال فرجعت إليه فأخبرته ، فأمر صاحب الشرطة أن يبعث معي رجالاً ، قال فبعث نفراً قال فأتيناه فقلنا أجب الأمير، قال: فسبونا وشتمونا ، فرجعنا إليه فأخبرناه الخبر ! قال: فوثب زياد بأشراف أهل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون بأخرى ؟! أبدانكم معي وأهواؤكم مع حجر ؟! هذا الهجهاجة الأحمق المذبوب ! أنتم معي وإخوانكم وأبناؤكم وعشائركم مع حجر هذا والله من دحسكم وغشكم والله لتظهرن لي برأتكم أو لآتينكم بقوم أقيم بهم أودكم وصعركم ! فوثبوا إلى زياد فقالوا: معاذ الله سبحانه أن يكون لنا فيما ههنا رأى إلا طاعتك وطاعة أمير المؤمنين ! وكل ما ظننا أن فيه رضاك وما يستبين به طاعتنا وخلافنا لحجر ، فمرنا به ! قال: فليقم كل امرئ منكم إلى هذه الجماعة حول حجر ، فليدع كل رجل منكم أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته ، حتى تقيموا عنه كل من استطعتم أن تقيموه ، ففعلوا ذلك فأقاموا جُلَّ من كان مع حجر بن عدي ! فلما رأى زياد أن جل من كان مع حجر أقيم عنه ، قال لشداد بن الهيثم الهلالي ويقال هيثم بن شداد أمير شرطته: إنطلق إلى حجر فإن تبعك فأتني به وإلا فمر من معك فلينتزعوا عمد السوق ، ثم يشدوا بها عليهم حتى يأتوني به ويضربوا من حال دونه ! فأتاه الهلالي فقال: أجب الأمير ، قال فقال أصحاب حجر: لا ولا نعمة عين لا نجيبه ! فقال لأصحابه شدوا على عمد السوق فاشتدوا إليها فأقبلوا بها قد انتزعوها ، فقال عمير بن يزيد الكندي من بني هند وهو أبو العمر طه: إنه ليس معك رجل معه سيف غيري ، وما يغني عنك ! قال فما ترى؟ قال قم من هذا المكان فالحق بأهلك ، يمنعك قومك !
فقام زياد ينظر إليهم وهو على المنبر ، فغشوا بالعمد فضرب رجل من الحمراء يقال له بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع ، وأتاه أبو سفيان بن عويمر والعجلان بن ربيعة وهما رجلان من الأزد فحملاه ، فأتيا به دار رجل من الأزد يقال له عبيد الله بن مالك ، فخبأه بها فلم يزل بها متوارياً حتى خرج منها!.... قال فلما ضرب عمراً تلك الضربة وحمله ذانك الرجلان ، انحاز أصحاب حجر إلى أبواب كندة ، ويضرب رجل من جذام كان في الشرطة رجلاً يقال له عبد الله بن خليفة الطائي بعمود فضربه ، ضربة فصرعه....وينتزع عموداً من بعض الشرط فقاتل به وحمى حجراً وأصحابه حتى خرجوا من تلقاء أبواب كندة وبغلة حجر موقوفة فأتى بها أبو العمرطة إليه ثم قال اركب لا أب لغيرك ، فوالله ما أراك إلا قد قتلت نفسك وقتلتنا معك ! فوضع حجر رجله في الركاب فلم يستطع أن ينهض فحمله أبو العمرطة على بغلته ووثب أبو العمرطة على فرسه فما هو إلا أن استوى عليه حتى انتهى إليه يزيد بن طريف المسلى وكان يغمز ، فضرب أبا العمرطة بالعمود على فخذه ويخترط أبو العمرطة سيفه فضرب به رأس يزيد بن طريف فخر لوجهه ، ثم إنه برأ بعد....
ثم وصفت روايات الطبري وغيره ، لجوء حجر الى النخع ثم الى الأزد ، ثم كيف أخذوا له أماناً من ابن زياد أن لايقتله ، بل يبعثه الى معاوية ! وكيف جاؤوا به الى ابن زياد فأهانه وسجنه ، وتتبع أصحابه فقبض على أكثرهم ، وفر الباقون!
ثم كيف كتب شهادة زور على حجر وأشهد الزعماء والقضاة عليها ثم استحسن شهادة أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ، فأمرهم أن يشهدوا عليها ، وهي!
(هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين ، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة وفارق الجماعة ، ولعن الخليفة ودعا إلى الحرب والفتنة ، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة وخلع أمير المؤمنين معاوية ، وكفر بالله عز وجل كفرة صلعاء ! فقال زياد على مثل هذه الشهادة فاشهدوا أما والله لأجهدن على قطع خيط عنق الخائن الأحمق !
فشهد رؤوس الأرباع على مثل شهادته وكانوا أربعة ، ثم إن زيادا دعا الناس فقال: إشهدوا على مثل شهادة رؤوس الأرباع ، فقرأ عليهم الكتاب فقام أول الناس عناق بن شرحبيل بن أبي دهم التيمي تيم الله بن ثعلبة ، فقال بينوا اسمى فقال زياد ابدؤا بأسامي قريش ، ثم اكتبوا اسم عناق في الشهود ، ومن نعرفه ويعرفه أمير المؤمنين بالنصيحة والاستقامة ، فشهد إسحاق بن طلحة بن عبيد الله وموسى بن طلحة ، وإسماعيل بن طلحة بن عبيد الله ، والمنذر بن الزبير ، وعمارة ابن عقبة بن أبي معيط ، وعبد الرحمن بن هناد ، وعمر بن سعد بن أبي وقاص وعامر بن مسعود بن أمية بن خلف ، ومحرز بن جارية بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس ، وعبيد الله بن مسلم بن شعبة الحضرمي ، وعناق بن شرحبيل بن أبي دهم ، ووائل ابن حجر الحضرمي ، وكثير بن شهاب بن حصين الحارثي وقطن بن عبد الله بن حصين ، والسري بن وقاص الحارثي وكتب شهادته وهو غائب في عمله ، والسائب والأقرع الثقفي ، وشبيب بن ربعي ، وعبد الله بن أبي عقيل الثقفي ، ومصقلة بن هبيرة الشيباني ، والقعقاع بن شور الذهلي ، وشداد بن المنذر بن الحارث بن وعلة الذهلي ، وكان يدعى ابن بزيعة فقال ما لهذا أب ينسب إليه ألقوا هذا من الشهود فقيل له:إنه أخو الحصين وهو ابن المنذر ، قال: فانسبوه إلى أبيه ، فنسب إلى أبيه ، فبلغت شدادا فقال ويلي على ابن الزانية أو ليست أمه أعرف من أبيه والله ما ينسب إلا إلى أمه سمية ! وحجار بن أبجر العجلي ، فغضبت ربيعة على هؤلاء الشهود الذين شهدوا من ربيعة وقالوا لهم: شهدتم على أوليائنا وخلفائنا ! فقالوا: ما نحن إلا من الناس ، وقد شهد عليهم ناس من قومهم كثير ، وعمرو بن الحجاج الزبيدي ، ولبيد بن عطارد التميمي ومحمد بن عمير بن عطارد التميمي ، وسويد بن عبد الرحمن التميمي من بنى سعد ، وأسماء بن خارجة الفزاري كان يعتذر من أمره ، وشمر بن ذي الجوشن العامري ، وشداد ومروان ابنا الهيثم الهلاليان ، ومحصن بن ثعلبة من عائذة قريش والهيثم بن الأسود النخعي ، وكان يعتذر إليهم ، وعبد الرحمن بن قيس الأسدي والحارث ، وشداد ابنا الأزمع الهمدانيان ثم الوادعيان ، وكريب بن سلمة بن يزيد الجعفي ، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي ، وزحر بن قيس الجعفي وقدامة بن العجلان الأزدي ، وعزرة بن عزرة الأحمسي ، ودعا المختار بن أبي عبيد وعروة ابن المغيرة بن شعبة ليشهدوا عليه فراغا ، وعمر بن قيس ذي اللحية وهانئ بن أبي حية الوادعيان.
فشهد عليه سبعون رجلا فقال زياد: ألقوهم إلا من قد عرف بحسب وصلاح في دينه فألقوا حتى صيروا إلى هذه العدة ، وألقيت شهادة عبد الله بن الحجاج التغلبي ، وكتبت شهادة هؤلاء الشهود في صحيفة ، ثم دفعها إلى وائل بن حجر الحضرمي وكثير بن شهاب الحارثي ، وبعثهما عليهم وأمرهما أن يخرجا بهم وكتب في الشهود شريح بن الحارث القاضي وشريح بن هانئ الحارثي . فأما شريح فقال: سألني عنه فأخبرته أنه كان صواماً قواماً ، وأما شريح بن هانئ الحارثي فكان يقول: ما شهدت ولقد بلغني أن قد كتبت شهادتي فأكذبته ولمته! وجاء وائل ابن حجر وكثير بن شهاب فأخرج القوم عشية وسار معهم صاحب الشرطة حتى أخرجهم من الكوفة ، فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره وهى في جبانة عرزم ، فإذا بناته مشرفات فقال لوائل وكثير: ائذنا لي فأوصى أهلي فأذنا له فلما دنا منهن وهن يبكين سكت عنهن ساعة ، ثم قال: اسكتن فسكتن فقال: اتقين الله عز وجل واصبرن فإنى أرجو من ربى في وجهي هذا إحدى الحسنيين إما الشهادة وهى السعادة ، وإما الانصراف إليكن في عافية ، وإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مؤنتكن هو الله تعالى ، وهو حي لا يموت ، أرجو أن لا يضيعكن وأن يحفظني فيكن ، ثم انصرف فمر بقومه فجعل القوم يدعون الله له بالعافية ، فقال: إنه لمما يعدل عندي خطر ما أنا فيه هلاك قومي يقول حيث لا ينصرونني وكان رجا أن يخلصوه). انتهى .
ويظهر من الرواية التالية أن حجراً كان يقف في وجه المغيرة والي معاوية بقوة جمهوره ، فيتراجع المغيرة ! قال البلاذري في أنساب الأشراف ص 1256:
(وروي أن المغيرة لما شتم علياً وقام إليه حجر بن عدي قال له: والله لئن عدت لمثلها لأضربن بسيفي هذا ما ثبت قائمة في يدي ! فكتب المغيرة بذلك إلى معاوية فكتب إليه معاوية: إنك لست من رجاله فداره ، فقال زياد: يا ابن الأدبر أتظن أني كالمغيرة إذ كتب أمير المؤمنين إليه بما كتب به فيك؟ أنا والله من رجالك ورجال من يغمرك رأياً وبأساً ومكيدةً ! وكان زياد قد كتب إلى معاوية في حجر إنه وأصحابه يردون أحكامي وقضاياي ، وكتب يستأذنه في قتله فكتب إليه: ترفق حتى تجد عليه حجة ، فكتب إليه: إني قد وجدت على حجر أعظم الحجة: خلعك وشهد الناس عليه بذلك ). انتهى .
11- قتله الصحابي عمرو بن الحَمِق الخزاعي رحمه الله
قال ابن منظور في لسان العرب:10/69: (والحَمِق: الخفيف اللحية ، وبه سمي عمرو بن الحَمِق ، قتله أصحاب معاوية ، ورأسه أول رأس حمل في الإسلام).
وفي تاج العروس:6/323: ( والحَمِق ككتِف: الخفيف اللحية . عن ابن دريد ، وبه سمي الرجل (عمرو بن الحمق صحابي) وهو ابن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن رزاح بن عمرو بن سعد بن كعب الخراعي رضي الله عنه ، هاجر بعد الحديبية . يقال إنه هرب في زمن زياد إلى الموصل فنهشته حية فمات . وفي اللسان قتله أصحاب معاوية ، ورأسه أول رأس حمل في الإسلام .
وقال ابن الكلبي في نسب خزاعة: قتله عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بالجزيرة . قلت: روى عنه جبر بن نفير . وقد يقال فيه عمرو بن الحمق بالضم فالفتح ! وقال أبو نعيم: هو تصحيف والصواب ما تقدم ! ودكر الحافظ في فتح الباري الوجهين وقال إنه يحتمل فتأمل). انتهى .
أقول: ما قرأته من الزبيدي يمثل خلاصة موقفهم من هذا الصحابي الجليل ، ابتداء من إسمه (الحَمِق) بكسر الحاء ومعناه خفيف اللحية ، فجعلوه بضم الحاء بمعنى الأحمق ! ويقول عالمهم الكبير ابن حجر: وهو محتمل !
الى قتله بأمر معاوية ، فقالوا نهشته حية فمات ! ولو أمكنهم أن يقولوا إن الرأس الذي أرسل الى معاوية لم يكن رأسه ، لأن الحية أكلت رأسه ، لفعلوا !
ذلك أن عمرو بن الحمق رحمه الله شيعي متشدد ، ومن قبيلة خزاعة الحليفة لبني هاشم قبل الإسلام وبعده ! وكان مع الأشتر وحجر بن عدي من المعترضين على ولاة عثمان في الكوفة ، وقد أبعده عثمان الى الشام ثم الى حمص !
وكان معروفاً في مصر ، فلعله شارك في فتحها وفي معركة ذات الصواري البحرية مع الروم ، وقد جاء مع وفد مصر الى دار الخلافة معترضين على واليهم الأموي ، وكان معهم في محاصرتهم لعثمان ، وقالوا إنه اشترك في قتله !
ثم كان قائداً في حروب علي عليه السلام وقد أخذ في صفين راية خزاعة بعد أن قتل زعيمها الصحابي الجليل بديل بن ورقاء وابنه عبدالله .
وهذه النقاط كافية عندهم لذمه ، وتحليل دمه لمعاوية حتى لو كان صحابياً ! فقيمة الصحابي عندهم بقدر ما يخدم زعماءهم !
خزاعة الخير حلفاء بني هاشم لايحبها بنو أمية ولا تحبهم:
(كانت خزاعة حلفاء بني هاشم بن عبد مناف إلى عهد النبي(ص)وكان بنو بكر حلفاء قريش). (فتح الباري:12/181) . أي حلفاء بني أمية وقريش المشركة !
(وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي(ص)أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة ، فاستمروا على ذلك في الإسلام). (فتح الباري:5/246).
وفي أنساب الأشراف للبلاذري ص46:
(وكانت نسخة كتابهم: باسمك اللهم ، هذا ما تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة ومن معهم من أسلم ومالك ابني أفصى بن حارثة ، تحالفوا على التناصر والمؤاساة ما بلَّ بحر صوفةً ، حلفاً جامعاً غير مفرق الاشياخ على الاشياخ ، والاصاغر على الأصاغر ، والشاهد على الغائب ، وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد ، ولا ينقض ولا ينكث ، ما شرقت شمس على ثبير ، وحنَّ بفلاة بعير ، وما قام الأخشبان ، وعمر بمكة إنسان ، حلفَ أبدٍ لطول أمد ، يزيده طلوع الشمس شداً ، وظلام الليل سداً ، وإن عبد المطلب وولده ومن معهم دون سائر بني النضر بن كنانة ، ورجال خزاعة متكافئون متضافرون متعاونون . فعلى عبد المطلب النصرة لهم ممن تابعه على كل طالب وتر ، في بر أو بحر أو سهل أو وعر . وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معهم ، على جميع العرب ، في شرق أو غرب ، أو حَزَن أو سَهَب . وجعلوا الله على ذلك كفيلاَ ، وكفى به حميلاَ ....
هذا الحلف هو الذي عناه عمرو بن سالم الخزاعي حين قال لرسول الله(ص) :
لاهمَّ إني ناشدٌ محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا). انتهى .
وكانت خزاعة الى جانب النبي صلى الله عليه وآله ثم الى جانب أهل بيته^ ، وكان دورها بارزاً في حروب علي عليه السلام . ولما رأى معاوية زعيمهم الصحابي الجليل بديل بن ورقاء الخزاعي حمل في فرسان خزاعة على مركزه بصفين ، وهو لابسٌ درعين وحاملٌ سيفين ، فاضطرَّ معاوية الى التراجع وتغيير مكانه ، وقال: (والله لو استطاعت نساء خزاعة لقاتلتنا فضلاً عن رجالها)! (تاريخ الطبري:4/16، وأسد الغابة:3/124).
فقاتل بديل بن ورقاء رحمه الله حتى جرح ، فأخذ الراية ابنه عبدالله فتقدم وهو يقول: أضربكم ولا
أرى معاويهْ الأبرجِ العين العظيم الحاويهْ
هوت به في النار أمٌّ هاويهْ جاوره فيها كلابٌ عاويهْ
فهجموا عليه فقتلوه ، فأخذها عمرو بن الحمق قائلاً:
جزى الله فينا عصبة أي عصبة حسان وجوه صُرِّعوا حولَ هاشم
وقاتل أشد قتال). (مناقب آل أبي طالب:2/357)
وكان عمرو بن الحمق من شخصيات خزاعة ورؤسائها ، ومن الصحابة المميزين عند النبي صلى الله عليه وآله ، لكن كل ذلك لايغفر له عندهم معارضته لعثمان في الكوفة ومصر ، ومجيؤه في الوفد المصري وضغطهم على عثمان لتغيير واليهم ، ثم محاصرتهم له ، واتهامه بالمشاركة في قتل عثمان !
وهذا هو السبب فيما تجده فيه من الغمز واللمز في أكثر مصادرهم ، أو تهوين أمره ، أو حذفه كلياً من تراجم الصحابة ، كما فعل إمامهم الذهبي !!
عمرو بن الحمق من جنود الله الخاصين:
اتفق الرواة على أن إسلام عمرو بن الحمق كان بمعجزة من النبي صلى الله عليه وآله ، وأنه أرسل سرية وأخبرهم أنهم سيصادفونه ، وأوصاهم أن يبلغوه من أهل الجنة !
روى الطبراني في الأوسط:4/239: (سمعت عمرو بن الحمق يقول: بعث رسول الله ( ص) بسرية فقالوا يا رسول الله إنك تبعثنا وليس لنا زاد ولا لنا طعام ، ولا علم لنا بالطريق ! فقال: إنكم ستمرون برجل صبيح الوجه يطعمكم من الطعام ويسقيكم من الشراب ، ويدلكم على الطريق ، وهو من أهل في الجنة ! فلما نزل القوم عليَّ جعل يشير بعضهم إلى بعض وينظرون إليَّ فقلت: ما بكم يشير بعضكم إلى بعض وتنظرون إلي؟ فقالوا: أبشر ببشرى الله ورسوله فإنا نعرف فيك نعت رسول الله (ص) ، فأخبروني بما قال لهم ، فأطعمتهم وهريقوا وزودتهم ، وخرجت معهم حتى دللتهم على الطريق ، ثم رجعت إلى أهلي فأوصيتهم بإبلي ، ثم خرجت إلى رسول الله(ص)فقلت ما الذي تدعو إليه ؟ فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان . فقلت: إذا أجبناك إلى هذا فنحن آمنون على أهلنا ودمائنا وأموالنا؟ قال: نعم . فأسلمت ورجعت إلى قومي فأخبرتهم بإسلامي ، فأسلم على يدي بشر كثير منهم ، ثم هاجرت إلى رسول الله (ص)بينما أنا عنده ذات يوم فقال لي: يا عمرو هل لك أن أريك آية الجنة يأكل الطعام ويشرب الشراب ويمشي في الأسواق ؟ قلت: بلى نعم بأبي أنت وأمي ، قال: هذا وقومه آية الجنة ، وأشار إلى علي بن أبي طالب . وقال لي: يا عمرو هل لك أن أريك آية النار يأكل الطعام ويشرب الشراب ويمشي في الأسواق ؟ قلت: بلى بابي أنت وأمي ، قال: هذا وقومه آية النار وأشار إلى رجل !!
فلما وقعت الفتنة ذكرت قول رسول الله (ص) ففررت من آية النار إلى آية الجنة . وترى بني أمية قاتلي بعد هذا ؟قلت: الله ورسوله أعلم . قال: والله لو كنت في جحر في جوف جحر لاستخرجني بنو أمية حتى يقتلوني ! حدثني به حبيبي رسول الله (ص)أن رأسي تحتز في الإسلام وتنقل من بلد إلى بلد)! انتهى .
وقد ذكرت مصادرنا عنه ما أهمله غيرها: ففي الاختصاص ص16: ( فأقمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ما أقمت وغزونا معه غزوات وقبض الله رسوله صلى الله عليه وآله ).
وفي الهداية لابن حمدان الخصيبي ص154، ومدينة المعاجز:3/179 ، بسنده عن
عن جابر بن عبدالله الأنصاري في في قصة إسلامه من حديث مفصل جاء فيه: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله سرية فقال لهم: تصلون ساعة كذا وكذا من الليل أرضاً لاتهتدون فيها سيراً ، فإذا وصلتم إليها فخذوا ذات الشمال فإنكم تمرون برجل فاضل خير في ساقية ، فتسترشدونه فيأبى أن يرشدكم حتى تأكلوا من طعامه ، ويذبح لكم كبشاً فيطعمكم ، ثم يقوم معكم فيرشدكم الطريق فاقرؤوه مني السلام وأعلموه أني قد ظهرت في المدينة . فمضوا ، فلما وصلوا إلى الموضع في الوقت ضلوا ، فقال قائل منهم:ألم يقل لكم رسول الله صلى الله عليه وآله : خذوا ذات الشمال ، ففعلوا فمروا بالرجل الذي وصفه رسول الله لهم فاسترشدوه الطريق فقال: إني لا أرشدكم حتى تأكلوا من طعامي ، فذبح لهم كبشاً فأكلوا من طعامه ، وقام معهم فأرشدهم الطريق وقال لهم: أظهر النبي بالمدينة ؟ فقالوا: نعم ، فأبلغوه سلامه فخلَّف في شأنه من خلَّف ، ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عمرو بن الحمق الخزاعي).. وقالت الرواية إنه ( لبث مع النبي صلى الله عليه وآله ما شاء الله ، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وآله : (إرجع إلى الموضع الذي هاجرت إليَّ منه ، فإذا نزل أخي أمير المؤمنين الكوفة وجعلها دار هجرته فأته).
وفي الاختصاص ص15، تصريح بأن آية النار التي أراه إياها النبي صلى الله عليه وآله معاوية !
عاش ثمانين سنة ولم تشب منه شعرة !
في مصنف ابن أبي شيبة:7/437: (عن يوسف بن سليمان عن جده عن عمرو بن الحمق أنه سقى النبي(ص)لبناً فقال: اللهم أمتعه بشبابه ، فلقد أتت عليه ثمانون سنة لا يرى شعرة بيضاء). (وتاريخ دمشق:45/496 و497 ، وأسد الغابة:4/100، والأذكار النووية ص 238، وتهذيب الكمال:21/598 . ومن مصادرنا: الخرائج والجرائح:1/52 ، ومناقب آل أبي طالب:1/74) .وكانت شهادته رحمه الله سنة إحدى وخمسين ، فيكون عمره عند البعثة ست عشرة سنة ، وعندما أسلم في غزوة الحديبية كما روي ستاً وثلاثين سنة .
بعدك يا علي.. جاءت سنوات المطاردة والتشرد !
بمجرد أن سيطر معاوية على الأمة بالصلح مع الإمام الحسن عليه السلام وأعلن نقضه لكل بنوده ، ومنها بند العفو العام ، وأن كل شرط شرطه للإمام الحسن عليه السلام فهو تحت قدمه.. بدأ حملته بمطاردة شخصيات الشيعة ، وكان من أولهم عمرو بن الحمق ، الذي فرَّ منه فاعتل ففرَّ منه فأمر معاوية باعتقال زوجته وإرسالها الى الشام ، فسجنها !
قال ابن طيفور في بلاغات النساء ص59: (حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن الزهري وسهل بن أبي سهل التميمي ، عن أبيه قالا: لما قتل علي بن أبي طالب بعث معاوية في طلب شيعته فكان في من طلب عمر بن الحمق الخزاعي فراغ منه ، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد فحبسها في سجن دمشق سنتين ، ثم إن عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمر بن الحمق في بعض الجزيرة ، فقتله وبعث برأسه إلى معاوية وهو أول رأس حمل في الاسلام ، فلما اتى معاوية الرسول بالرأس بعث به إلى آمنة في السجن ، وقال للحرسي إحفظ ما تكلم به حتى تؤديه إليَّ واطرح الرأس في حجرها)!! انتهى .
عمرو بن الحمق من نوع أويس القرني
من المتفق عليه بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله بشَّرَ أمته بأويس القرني رحمه الله ، وشهد بأنه من كبار الشفعاء في الآخرة ، وقالت أكثر المصادر إنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وآله !
ومن المتفق عليه أن أويساً لم يشترك في حروب الفتوحات ، بل جاء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسكن الكوفة حتى إذا تسلم الخلافة علي عليه السلام بايعه على الموت وشارك في حرب الجمل ثم في صفين ، واستشهد ! وهذا يفتح الباب على نوعية من عباد الله وجنوده ، لهم برنامجهم وتكليفهم الخاص . وأقدر أن منهم حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، ورشيد الهجري ، وميثم التمار !
خاصة أنا لانجد لعمرو ذكراً في حروب الفتوحات ، مع كثرة الخزاعيين الذين شاركوا في الفتوحات وسنه المناسب وشجاعته ! إلا سفره الى مصر الذي يوجب احتمال أن يكون شارك في فتحها وفي معركة ذات الصواري كما فعل زميلاه محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة .
ومما يؤيد رأينا بأنه كأويس التعامل الخاص للنبي صلى الله عليه وآله ولعلي عليه السلام معه ، وإراءه النبي صلى الله عليه وآله إياه آية الجنة وآية النار! والمعجزات التي ظهرت للنبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام فيه ، والكرامات التي ظهرت له ، ووقد روت مصادرنا عدداً منها ، ومنها أن غلامه ، ورفيقه في فراره الى الموصل رفاعة بن شداد ، كانا من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام المستشهدين بين يديه ، وهو مقام عظيم لايوصف !
وفي الاختصاص ص3: (ومن أصفياء أصحابه: عمرو بن الحمق الخزاعي عربي وميثم التمار وهو ميثم بن يحيى مولى ، ورشيد الهجري ، وحبيب بن مظاهر الأسدي ، ومحمد بن أبي بكر). انتهى .
وفي الاختصاص ص14: (عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه رفعه قال: قال عمرو بن الحمق الخزاعي لأمير المؤمنين عليه السلام : والله ما جئتك لمال من الدنيا تعطينيها ولا لالتماس السلطان ترفع به ذكري إلا لأنك ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وأولى الناس بالناس وزوج فاطمة سيدة نساء العالمين÷وأبو الذرية التي بقيت لرسول الله صلى الله عليه وآله وأعظم سهماً للإسلام من المهاجرين والأنصار .
والله لو كلفتني نقل الجبال الرواسي ، ونزح البحور الطوامي أبداً حتى يأتي عليَّ يومي وفي يدي سيفي أهزُّ به عدوك وأقوِّي به وليك ، ويعلو به الله كعبك ويفلج به حجتك ، ما ظننت أني أديت من حقك كل الحق الذي يجب لك علي! فقال أمير المؤمنين عليه السلام : اللهم نور قلبه باليقين واهده إلى الصراط المستقيم ، ليت في شيعتي مائة مثلك) . انتهى.
وهذا يشبه قول أويس رحمه الله لأمير المؤمنين عليه السلام في صفين: ( جاء رجل عليه قباء صوف ، متقلد سيفين فقال: هلمَّ يدك أبايعك . فقال عليه السلام : على مَ تبايعني؟قال: على بذل مهجة نفسي دونك) ! (خصائص الائمة 53) .
وفي الهداية لابن حمدان الخصيبي ص155، ومدينة المعاجز:3/179:
(فانصرف عمرو بن الحمق إلى شأنه ، حتى إذا نزل أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أتاه فأقام معه في الكوفة ، فبينا أمير المؤمنين عليه السلام جالس وعمرو بين يديه فقال له: يا عمرو ألك دار؟ قال: نعم ، قال: بعها واجعلها في الأزد ، فإني غداً لو قد غبت عنكم لطُلبت فتتبعك الأزد ، حتى تخرج من الكوفة متوجهاً نحو الموصل ، فتمر برجل نصراني مقعد فتقعد عنده فتستسقيه الماء فيسقيك ويسألك عن شأنك فتخبره ، فادعه إلى الإسلام فإنه يسلم ، فإذا أسلم فامرر بيدك على ركبتيه فإنه ينهض صحيحاً مسلماً ويتبعك . وتمر برجل محجوب جالس على الجادة فتستسقيه الماء فيسقيك ، ويسألك عن قصتك وما الذي أخافك وممَّ تتوقى؟ فحدثه بأن معاوية طلبك ليقتلك ويمثل بك لايمانك بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وطاعتك في ولايتي ، ونصحك لله تعالى في دينك ، فادعه إلى الإسلام فإنه يسلم ، فامرر يدك على عينيه فإنه يرجع بصيراً بإذن الله تعالى ، فيتبعانك ويكونا معك ، وهما اللذان يواريان جثتك في الأرض. ثم تصير إلى الدير على نهر يدعى بدجلة ، فإن فيه صديقاً عنده من علم المسيح عليه السلام ما تجده لك أعون الأعوان على سرك ، وما ذاك إلا ليهديه الله لك ، فإذا أحست بك شرطة ابن أم الحكم وهو خليفة معاوية بالجزيرة ، ويكون مسكنه بالموصل ، فاقصد إلى الصديق الذي في الدير في أعلى الموصل فناده فإنه يمتنع ، فاذكر اسم الله الذي علمتك إياه فإن الدير بتواضع لك حتى تصير في ذروته ، فإذا رآك ذلك الراهب الصديق قال لتلميذ معه: ليس هذا أوان المسيح هذا شخص كريم ، ومحمد قد توفاه الله ، ووصيه قد استشهد بالكوفة ، وهذا من حواريه . ثم يأتيك ذليلاً خاشعاً فيقول لك: أيها الشخص العظيم قد أحلتني لما لم أستحقه فبم تأمرني؟ فتقول له: أستر تلميذيَّ هذين عندك وتشرف(إصعد) على ديرك هذا فانظر ماذا ترى ، فإذا قال لك: إني أرى خيلاً غائرة نحونا فخلف تلميذيك عنده ، وانزل واركب فرسك واقصد نحو غار على شاطئ الدجلة تستتر فيه فإنه لابد من أن يسترك ، وفيه فسقة من الجن والإنس ، فإذا استترت فيه عرفك فاسق من مردة الجن يظهر لك بصورة تنين فينهشك نهشاً يبالغ في إضعافك ، ويفر فرسك فتبدر بك الخيل فيقولون: هذا فرس عمرو ، ويقفون أثره فإذا أحسست بهم دون الغار فأبرز إليهم بين دجلة والجادة ، فقف لهم في تلك البقعة فإن الله تعالى جعلها حفرتك وحرمك ، فالقهم بسيفك فاقتل منهم ما استطعت حتى يأتيك أمر الله ، فإذا غلبوك حزوا رأسك وشهروه على قناة إلى معاوية ، ورأسك أول رأس يشهر في الإسلام من بلد إلى بلد . ثم بكى أمير المؤمنين عليه السلام وقال: بنفسي ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وثمرة فؤاده ، وقرة عينه ابني الحسين ، فإني رأيته يسير وذراريه بعدك يا عمرو من كربلاء بغربي الفرات إلى يزيد بن معاوية ! ثم ينزل صاحبك المحجوب والمقعد فيواريان جسدك في موضع مصرعك ، وهو من الدير والموصل على مائة وخمسين خطوة من الدير). انتهى .
ومهما أوردنا على هذ القصة من إشكالات ، فهي تدل على أنه رحمه الله آوى الى دير في قلة جبل ، وأنه سلم نفسه الى حاكم الموصل بأمان . وهو ينسجم مع مع رسالة الإمام الحسين عليه السلام الى معاوية التي جاء فيها:
(ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة ، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في الله لومة لائم ؟ ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة ، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، ولا بإحنة تجدها في نفسك ؟!
(أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه وصفرت لونه؟ بعدما آمنته ، وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل ! ثم قتلته جرأة على ربك واستخفافاً بذلك العهد ؟!) . (اختيار معرفة الرجال:1/252).
ومعناه أن الإمام عليه السلام يذكر معاوية في قضية حجر وأصحابه بمواثيقه في عهد الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام ، الذي نص على العفو العام ، ووقف كل أنواع الملاحقات لشيعة علي عليه السلام ! بينما يذكره في قضية عمرو بن الحمق بأمان أعطوه له ومواثيق وعهود مؤكدة ، ثم نكثوها ! وهذا يكذب روايتي أتباع السلطة بأنه لدغته حية فمات ، أو أنهم قبضوا عليه بدون عهد ولا أمان !
بعث زياد رأسه الى معاوية وصلبه وطافوا به !
قال في الطبقات:6/25: (عن الشعبي قال أول رأس حمل في الاسلام رأس عمرو بن الحمق).( ونحوه في تاريخ خليفة:ص146، والتاريخ الصغير للبخاري :1/131، , والثقات لابن حبان:3/275 ، , وتاريخ دمشق:45/496 ، ,503، و:69/40، وأسد الغابة:4/100، وتاريخ اليعقوبي:2/231 ، والمنتخب من مذيل الطبري ص46 ، ومصنف ابن أبي شيبة:8/357 ، والأوائل لابن أبي عاصم ص71 ، شرح وشرح النهج:2/289 ، ومجمع الزوائد:9/406 ، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن عبد الملك المسعودي وهو ضعيف ، لكن رواه الطبراني في كتاب الأوائل ص107: باب أول من أهدى في الإسلام: حدثنا إبراهيم بن شريك الأسدي ، حدثنا شهاب بن عباد ، حدثنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن هنيدة بن خالد الخزاعي قال: أول رأس أهدي في الإسلام رأس عمرو بن الحمق ، أهدي إلى معاوية. إسناد حسن رجاله ثقات غير شهاب بن عباد ، قال الدارقطني: صدوق زائغ) . والغريب ما قاله الصالحي في سبل الهدى:4/87: (وأول مسلم حمل رأسه عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه . وأما ما رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري قال: لم يحمل)!! ورواه العديد من مصادرنا ، منها: اختيار معرفة الرجال:1/248 .
وفي الغدير:11/44: (قال النسابة أبو جعفر محمد بن حبيب في كتاب المحبر ص 490: ونصب معاوية رأس عمرو بن الحمق الخزاعي وكان شيعياً ، ودير به في السوق . وكان عبد الرحمن بن أم الحكم أخذه بالجزيرة . وقال ابن كثير: فطيف به في الشام وغيرها)!!
أسروه وقتلوه ، ثم قالوا لدغته حية ومات !
في تاريخ دمشق:45/496: (كان أول رأس أهدي في الإسلام رأس عمرو بن الحمق ، أصابته لدغة فتوفي ، فخافت الرسل أن يتهموا به فقطعوا رأسه فحملوه إلى معاوية)!! ونحوه في: 45/503 ، وقال في أسد الغابة:4/100: (قال سفيان أرسل معاوية ليؤتى به فلدغ ، وكأنهم خافوا أن يتهمهم ، فأتوا به) !
لكن ثقاتهم كذبوا ذلك وقالوا إنهم قتلوه بأمر معاوية ، بتهمة أنه طعن عثمان:
قال الطبري في تاريخه:4/197: (فحبس (زياد حجراً)عشر ليال وزياد ليس له عمل إلا طلب رؤساء أصحاب حجر ، فخرج عمرو بن الحمقى ، ورفاعة بن شداد حتى نزلا المدائن ، ثم ارتحلا حتى أتيا أرض الموصل ، فأتيا جبلا فكمنا فيه ، وبلغ عامل ذلك الرستاق أن رجلين قد كمنا في جانب الجبل ، فاستنكر شأنهما وهو رجل من همدان يقال له عبد الله بن أبي بلتعة ، فسار إليها في الخيل نحو الجبل ، ومعه أهل البلد فلما انتهى إليهما خرجا .
فأما عمرو بن الحمق فكان مريضاً وكان بطنه قد سقي فلم يكن عنده امتناع وأما رفاعة بن شداد وكان شاباً قوياً فوثب على فرس له جواد فقال له: أقاتل عنك ؟ قال: وما ينفعني أن تقاتل، أنج بنفسك إن استطعت ، فحمل عليهم فأفرجوا له ، فخرج تنفر به فرسه ، وخرجت الخيل في طلبه وكان رامياً ، فأخذ لا يلحقه فارس إلا رماه فجرحه أو عقره ! فانصرفوا عنه !
وأخذ عمرو بن الحمق فسألوه من أنت ؟ فقال من إن تركتموه كان أسلم لكم وإن قتلتموه كان أضر لكم ! فسألوه فأبى أن يخبرهم ، فبعث به ابن أبي بلتعة إلى عامل الموصل وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي ، فلما رأى عمرو بن الحمق عرفه ، وكتب إلى معاوية بخبره ، فكتب إليه معاوية إنه زعم أنه طعن عثمان بن عفان تسع طعنات بمشاقص كانت معه ، وإنا لا نريد أن نعتدي عليه فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان ! فأخرج فطعن تسع طعنات ، فمات في الأولى منهن أو الثانية). انتهى .
قبل قتله بأربع سنوات منع ابن زياد الناس من التردد الى بيته:
(لما قدم زياد الكوفة أتاه عمارة بن عقبة بن أبي معيط فقال: إن عمرو بن الحمق يجتمع إليه من شيعة أبى تراب ! فقال له عمرو بن حريث: ما يدعوك إلى رفع ما لا تيقنه ولا تدرى ما عاقبته ؟ فقال زياد: كلاكما لم يصب ! أنت حيث تكلمني في هذا علانية ، وعمرو حين يردك عن كلامك ! قوما إلى عمرو بن الحمق فقولا له: ما هذه الزرافات التي تجتمع عندك ؟! من أرادك أو أردت كلامه ففي المسجد)!! (في تاريخ الطبري:4/175، وتاريخ دمشق:45/498)
أقول: يبدو أن مطاردة معاوية الأولى التي نص عليها ابن طيفور وكانت بعد الصلح مباشرة ، قد انتهت الى حل في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة ، وأن عمو بن الحمق عاد الى منزله وقبيلته في الكوفة ، فلما تولى زياد الكوفة بعد موت المغيرة سنة 48 ، بدأ بالتضييق عليه ، ثم أراد القبض عليه ففرَّ منه ، واعتقل زوجته ، ربما ثانيةً ، وأرسلها الى معاوية !
زاهر صاحب عمرو بن الحمق من شهداء كربلاء
قال السيد الخوئي في معجم رجال الحديث:8/221: ( زاهر صاحب عمرو بن الحمق: من أصحاب الحسين عليه السلام (رجال الشيخ) . استشهد معه عليه السلام في واقعة كربلاء ، ذكره أرباب المقاتل ، ومسلم عليه في الزيارة التي خرجت من الناحية المقدسة للشهداء وفي الزيارة الرجبية . وهو جد محمد بن سنان ، ذكره النجاشي في ترجمة محمد بن سنان . وعد ابن شهرآشوب زاهر بن عمرو مولى بن الحمق ، من المقتولين من أصحاب الحسين عليه السلام ، في الحملة الأولى . المناقب: الجزء4 ، باب إمامة أبي عبد الله عليه السلام ، أوائل الثلث الأخير من فصل في مقتله عليه السلام . أقول: الظاهر أن في النسخة تحريفاً ، والصحيح: زاهر مولى عمرو بن الحمق). انتهى .
وقال السيد الأمين في أعيان الشيعة:7/41: ( زاهر صاحب عمرو بن الحمق استشهد بكربلاء سنة 61 . ذكره الشيخ في رجاله في أصحاب الحسين عليه السلام . وقال النجاشي وغيره في ترجمة محمد بن سنان الزاهري إنه من ولد زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي ، وفي أبصار العين زاهر بن عمرو الكندي كان بطلاً مجرباً وشجاعاً مشهوراً ومحباً لأهل البيت معروفاً . قال أهل السير إن عمرو بن الحمق لما قام على زياد ، قام زاهر معه وكان صاحبه في القول والفعل ، ولما طلب معاوية عمرواً طلب معه زاهراً فقتل عمراً وأفلت زاهر ، فحج سنة ستين فالتقى مع الحسين عليه السلام فصحبه وحضر معه كربلاء . قال السروري: قتل في الحملة الأولى). انتهى.
رووا عنه قليلاً وأبهموا ما رووه ؟!
في مجمع الزوائد:6/285: (عن عمرو بن الحمق قال سمعت رسول الله(ص) يقول: من أمن رجلاً على دمه فقتله فأنا برئ من القاتل وإن كان المقتول كافراً رواه الطبراني بأسانيد كثيرة وأحدها رجاله ثقات). انتهى.( ورواه الحاكم:4/353 ، وصححه ، وكذا الطيالسي ص181 ، وأحمد:5/223و436 ، وغيرهم).
أقول: رووا هذا الحديث وأكثروا روايته ، ولم يذكروا مناسبته ، وأنها احتجاج على معاوية ، كما تشير رسالة الإمام الحسين عليه السلام اليه .
حديثه في مدح مصر لم يقبله رواة السلطة
روى الحاكم في المستدرك:4/448: (عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ستكون فتنة أسلم الناس فيها أو قال لخير الناس فيها الجند الغربي ، فلذلك قدمت مصر . هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه) .
ورواه الطبراني في المعجم الأوسط:8/315 ، وبخاري في التاريخ الكبير:6/313 ، وفي مجمع الزائد:5/281، وقال: (رواه البزار والطبراني من طريق عميرة بن عبد الله المغافري وقال الذهبي لا يدى من هو). انتهى .
وطبيعي أن لايعجبهم تفضيل جند مصر في صدر الإسلام على جند الشام ، لأن جند مصر جاؤوا معترضين على عثمان وحاصروه ، وهم يريدون تفضيل جند معاوية في الشام ، وقد صححوا رواية معاوية وكعب الأحبار في تفضيل الشام وأهلها على العالمين !
أما السيوطي المصري فقال في شرحه لمسلم:4/513: (لا يبعد أن يراد بالمغرب مصر فإنها معدودة في الخط الغربي بالاتفاق ، وقد روى الطبراني والحاكم وصححه عن عمرو بن الحمق قال قال رسول الله(ص) :تكون فتنة أسلم الناس فيها الجند الغربي . قال بن الحمق: فلذلك قدمت عليكم مصر . وأخرجه محمد بن الربيع الجيزي في مسند الصحابة الذين دخلوا مصر ، وزاد فيه: وأنتم الجند الغربي ، فهذه منقبة لمصر في صدر الملة ، واستمرت قليلة الفتن معافاة طول الملة ، لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار ، وما زالت معدن العلم والدين ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال ، ولا بلد الآن في سائر الأقطار بعد مكة والمدينة يظهر فيها من شعائر الدين ما هو ظاهر في مصر).انتهى .
12- قتله الصحابية زوجة عمرو بن الحمق المؤمنة البليغة
أرسل زياد بن أبيه شرطته في الكوفة للقبض على عمرو بن الحمق الخزاعي رحمه الله قبل سنتين من شهادته ففرَّ منه ، وتدل النصوص والقرائن على أن عمرواً عاش هاتين السنتين متخفياً في منطقة الموصل وجبالها ! وقد يكون تخفى فيها في تشريده الأول أيضاً ، عملاً بوصية أمير المؤمنين عليه السلام له .
فألقى ابن زياد القبض على زوجته آمنة بنت الشريد ، وأرسلها الى معاوية فحبسها في الشام سنتين ، ثم أرسل اليها برأس زوجها الى السجن !
وفي ذلك دلالة على أن شخصية آمنة كانت مميزة ، لقوة إيمانها وبلاغتها ، وأن معاوية خاف من تأثير لسانها في الناس فحبسها .
ولا يبعد أن يكون معاوية رآها وكلمها فأجابته بكلامها البليغ القاصع ، فأمر أن تلقى في السجن ! ثم أراد أن ينتقم منها فأرسل اليها رأس زوجها !
وهذا الأسلوب في معاملة النساء يستنكره العرب لأنه يخالف أصول تعاملهم مع المرأة ، ومع حرمة جثمان المقتول ! فلا بد أن يكون عرقاً يهودياً في معاوية ، يكذب ما يحاول أن يظهره من حلم أو تحلَّم ! بل قد تكون هذه المرة الثانية لحبسه زوجة عمرو ، كما أشرنا !
قال الزركلي في الأعلام:1/26: (آمنة بنت الشريد ، زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي: فصيحة من أهل الكوفة . اشتهرت بخبر لها مع معاوية ، وكان قد حبسها في سجن دمشق سنتين ، لفرار زوجها ثم قتل زوجها وجئ برأسه إليها فألقوه في حجرها ، فدعت على معاوية ، فطلبها وسألها فلم تنكر ما قالت ، فأمرها بالخروج فخرجت ، وقال: يحمل إليها ما يقطع به لسانها عني ويخف بها إلى بلدها. فلما أعطيت ما أمر لها به قالت: يا عجبي لمعاوية يقتل زوجي ويبعث إلي بالجوائز ! ورحلت تريد الكوفة فماتت بالطاعون بحمص). ( الديارات114 وأعلام النساء:1/4).
وفي نهاية ابن كثير:8/52: (فقطع رأسه فبعث به إلى معاوية ، فطيف به في الشام وغيرها ، فكان أول رأس طيف به . ثم بعث معاوية برأسه إلى زوجته آمنة بنت الشريد وكانت في سجنه فألقي في حجرها ، فوضعت كفها على جبينه ولثمت فمه وقالت: غيبتموه عني طويلا ، ثم أهديتموه إلي قتيلا فأهلا بها من هدية غير قالية ولا مقلية). انتهى .
وقال ابن طيفور في بلاغات النساء ص59: (فلما أتى معاوية الرسول بالرأس بعث به إلى آمنة في السجن ، وقال للحرسي: إحفظ ما تتكلم به حتى تؤديه إليَّ ، واطرح الرأس في حجرها ! ففعل هذا فارتاعت له ساعة ثم وضعت يدها رأسها وقالت: واحزناً لصَغَره في دار هوان وضيق من ضيمة سلطان . نفيتموه عني طويلاً وأهديتموه إلي قتيلاً ! فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية وأنا له اليوم غير ناسية !
إرجع به أيها الرسول إلى معاوية فقل له ولا تطوه دونه: أيتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنبك !
فرجع الرسول إلى معاوية فأخبره بما قالت ، فأرسل إليها فأتته وعنده نفر فيهم أياس حسل أخو مالك بن حسل ، وكان في شدقيه نتوء عن فيه لعظم كان في لسانه ، وثقل إذا تكلم ! فقال لها معاوية: أأنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني؟ قالت: نعم غير نازعة ، ولا معتذرة منه ، ولا منكرة له ، فلعمري لقد اجتهدت في الدعاء إن نفع الاجتهاد ، وإن الحق لمن وراء العباد ، وما بلغت شيئاً من جزائك ! وإن الله بالنقمة من ورائك ! فأعرض عنها معاوية ، فقال أياس: أقتل هذه يا أمير المؤمنين ، فوالله ما كان زوجها أحق بالقتل منها! فالتفتت إليه فلما رأته ناتئ الشدقين ثقيل اللسان قالت: تباً لك! ويلك بين لحيتيك كجثمان الضفدع ، ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجي بالأمس ! إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ . (القصص:19) فضحك معاوية ثم قال: لله درك أخرجي ، ثم لا أسمع بك في شئ من الشام ! قالت: وأبي لأخرجن ثم لا تسمع بي في شئ من الشام ، فما الشام لي بحبيب ولا أعرج فيها على حميم ، وما هي لي بوطن ، ولا أحن فيها إلى سكن ! ولقد عظم فيها دَيْني وما قرَّت فيها عيني ! وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة !
فأشار إليها ببنانه أخرجي ، فخرجت وهي تقول: واعجبي لمعاوية يكف عني لسانه ويشير إلى الخروج ببنانه ! أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد سديد ، أوجع من نوافذ الحديد ! أو ما أنا بابنة الشريد ! فخرجت وتلقاها الأسود الهلالي وكان رجلاً أسود أصلع أسلع أصعل ، فسمعها وهي تقول ما تقول فقال: لمن تعني هذه أ لأمير المؤمنين تعني عليها لعنة الله ! فالتفتت إليه فلما رأته قالت: خزياً لك وجدعاً ، أتلعنني واللعنة بين جنبيك ، وما بين قرنيك إلى قدميك ! إخسأ يا هامة الصعل ووجه الجعل ، فأذلل بك نصيراً ، وأقلل بك ظهيراً ! فبهت الأسلع ينظر إليها ، ثم سأل عنها فأخبر ، فأقبل إليها معتذراً خوفاً من لسانها ، فقالت: قد قبلت عذرك وإن تعد أعد ، ثم لا أستقيل ولا أراقب فيك ! فبلغ ذلك معاوية ، فقال: زعمت يا أسلع أنك لا تواقف من يغلبك ! أما علمت أن حرارة المتبول ليست بمخالسة نوافذ الكلام ، عند مواقف الخصام ! أفلا تركت كلامها قبل البصبصة منها والإعتذار إليها ؟ قال: إي والله يا أمير المؤمنين لم أكن أرى شيئاً من النساء يبلغ من معاضيل الكلام ما بلغت هذه المرأة ، حالستها فإذا هي تحمل قلباً شديداً ولساناً حديداً وجواباً عتيداً ، وهالتني رعباً وأوسعتني سباً .
ثم التفت معاوية إلى عبيد بن أوس فقال: إبعث لها ما تقطع به عنا لسانها ، وتقضي به ما ذكرت من دينها ، وتخفُّ به إلى بلادها . وقال: اللهم اكفني شر لسانها !
فلما أتاها الرسول بما أمر به معاوية قالت: يا عجبي لمعاوية يقتل زوجي ، ويبعث إلي بالجوائز ! فليت أبي كرب سدَّ عني حرَّ صلته ، خذ من الرضعة ما عليها !
فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة ، فمرت بحمص فقتلها الطاعون ! فبلغ ذلك الأسلع فأقبل إلى معاوية كالمبشر له فقال له: أفرخ روعك يا أمير المؤمنين ، قد استجيبت دعوتك في ابنة الشريد ، وقد كفيتَ شر لسانها ! قال: وكيف ذلك ؟ قال: مرت بحمص فقتلها الطاعون ! فقال له معاوية: فنفسك فبشر بما أحببت ، فإن موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك ! ولعمري انتصفت منها حين أفرغت عليك شؤبوباً وبيلاً ! فقال الأسلع: ما أصابني من حرارة لسانها شئ إلا وقد أصابك مثله أو أشد منه). (ونحوه في تاريخ دمشق:69/40 ، والاختصاص ص15 ، وأسد الغابة:4/101، مختصراً ، ومواقف الشيعة للأحمدي:1/405 ، وغيرها).
أقول: في كل نسخ الرواية (فليت أبي كرب سدَّ عني حرَّه صله ، خذ من الرضعة ما عليها ) ! وقد سمت معاوية بأبي الكرب ، وهو كنية تبع الذي غضب على أهل المدينة فأرسل على زعمائها وكانت أساميهم (زيد)( جاء رسوله قال الأزياد : إنما أرسل إلينا ليملكنا على أهل يثرب فقال أحيحة : والله ما دعاكم لخير ! وقال:
ليت حظي من أبي كَرَبٍ أن يردَّ خيرُه خَبَلَهْ . فذهبت مثلاً). ( الأغاني ص3322 ، وجمهرة الأمثال:ص316 ، ومجمع الأمثال ص649 ، وسيرة ابن هشام:1/ 12 , والمعاني لابن قتيبةص310) ، والمعنى: ليت معاوية أبا المصائب والكرب ، سدَّ عني حرَّ صلته وجائزته ولم يبعثها ! لكن خذ في الجدب الحليب ولو قل ، بمعنى خذ من البخيل صلته القليلة .
هذا ، والذي يقرأ معاوية ، يطمئن بأنه هو الذي قتل آمنة بنت الشريد ! فقد دعا على الأشتر بنحو دعائه عليها ، بعد أن دبَّر من يسقيه السم ! ودعا بنحو ذلك على عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقتله بعد مدة وجيزة !
وقال له حاشيته كما قالوا هنا: (قد استجيبت دعوتك في ابنة الشريد ، وقد كفيتَ شر لسانها )! وهذه العبارة الأخيرة من جلوازه الأسلع عن أزمة معاوية من شر لسانها !
فقد حبسها وزوجها مطارد خوفاً من تأثيرها في الناس ببلاغة لسانها ، فكيف يطلق سراحها بعد أن قتل زوجها وصارت أكثر حرقة وبلاغة !
إن هذا يدلك على أنها أطلقها ليرسل اليها السم في الشام إن أمكن وإلا ففي حمص بلد واليه عليها ابن أثال وأولاده وقومه اليهود أو النصارى المتخصصين بالقتل بالسم الموظفين عند معاوية ، وقد تقدم أن أبن أثال قتل ابن خالد بالسم!
رحم الله آمنة بنت الشريد ، وحشرها مع الصديقة الطاهرة الزهراء عليها السلام ،
لأنها استشهدت في دفاعها عن زوجها أمير المؤمنين وذريتها المعصومين صلوات الله عليهم .