يتفق الفريقان (الشيعة والسنة) على أصل هذه المسألة، فكما أنّ الشيعي يعتقد بضرورة وجود قيادة عليا للمجتمع، فكذلك السني يعتقد بها. من هذا المنطلق اكتسبت مسألة الخلافة الشكل [التاريخي والكلامي] الذي طُرحت به. فالشيعة تقول أن النبي (صلى الله عليه وآله) عين بنفسه القائد من بعده، وأعلن أنّ زمام أمور المسلمين يجب أن يكون بيد الإمام عليّ (عليه السلام)، في حين قاد أهلَ السنة اختلافُهم المنطقي إلى عدم قبول هذه الصيغة، أو على الأقل عدم قبول الشكل الذي تؤمن به الشيعة لقضية الخلافة، وذهبوا للقول أن النبي لم يعين من بعده شخصا بعينه، بل تقع على المسلمين وظيفة انتخاب القائد الذي يخلف النبي.
يتّضح من هذا السياق أن أهل السنة يقبلون أصل الإمامة أيضاً [في هذا المعني: القيادة] ويعتقدون بضرورة أن يكون للمسلمين إمام، ولكن بالصيغة المذكورة قبل قليل، في حين تختلف الشيعة معهم، وتعتقد بالإمامة بصيغة التعيين، وهي تؤمن أن النبي الأكرم هو الذي عين الإمام من بعده بوحي أوحاه الله إليه.
لو اقتصرت الإمامة على هذه الحدود، أي لو لم يتجاوز منطوق المسألة دائرة القيادة السياسية للمسلمين بعد النبي، لكنا نحن الشيعة -إنصافا- قد عددناها جزءا من الفروع ولم نرفعها إلى مستوى أصول الدين، ولقلنا أنها مسألة فرعية كالصلاة مثلاً. بيد أن الشيعة التي تعتقد بالإمامة لا تكتفي بهذا الحد، من أن عليا (عليه السلام) هو أحد أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، وأنه أفضل وأعلم وأتقى وأجدر من أبي بكر وعمر وعثمان ومئات الصحابة الآخرين حتى سلمان وأبي ذر وأن النبي عيّنه للخلافة من بعده.
كلا، لا تقف الشيعة عند هذا الحد، بل تتجاوزه إلى تخوم مسألتين أُخريين لا يقول بهما أهل السنة مطلقاً إزاء أيّ أحد، لا أنهم يعتقدون بهما ويصرفونهما عن عليّ (عليه السلام).
إحدى هاتين المسألتين هي الإمامة بمعنى المرجعية الدينية.
الإمامة بمعنى المرجعية الدينية
ذكرنا أن النبي كان مبلِّغاً للوحي، وكان الناس يرجعون إليه في سؤالهم عن تفاصيل الإسلام وما لم يرد ذكره في القرآن. والسؤال هنا: هل يساوي ما جاء في القرآن وما بلّغه النبي لعموم الناس، جميعَ ما كان الإسلام يريد بيانه من أحكام وأوامر ومعارف؟ أم أنَّ الزمان لم يسمح بالضرورة، أن يكون ما بلّغه النبي لعامّة الناس مساوياّ لجميع أحكام الإسلام؟
كان الإمام عليّ (عليه السلام) هو وصي النبيّ ( صلى الله عليه وآله) وقد علّمه الإسلام كمّاً وكيفاً، ولقّنه ما هو موجود وما ينبغي أن يكون، أو زقّه ـ على الأقلّ - كلّيات الإسلام، وربّاه في كنف تعليمه، بحيث تحوّل إلى عالم استثنائي يتميَّز على جميع أصحابه، بل غدا مثله (صلى الله عليه وآله) لا يخطئ في قول ولا يشتبه في كلام، وما من شيء لله إلاّ وهو يعرفه.
ثم عرّفه (صلى الله عليه وآله ) للأُمة، وأمر الناس بالرجوع في مسائل دينهم من بعده، إلى وصيّة وأوصيائه.
الإمامة في هذا المعني، هي في الواقع نوع من التخصص في الإسلام والبصيرة فيه. بيد انه تخصص أرفع كثيرا من تخصص المجتهد. هو تخصص من لدن الله.
والأئمة من هذا المنطلق هم أشخاص متخصصون في الإسلام، بيد أن تخصصهم ومعرفتهم في الإسلام لم تكن انطلاقا من عقلهم واعتمادا على فكرهم، لأن معرفة مثل هذه واختصاصا من هذا القبيل يداخله الخطأ بالضرورة، بل إن الأئمة أخذوا علوم الإسلام من النبي (صلى الله عليه وآله) بطريق غيبي نجهله.
لقد تحولت المعرفة من النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الإمام علي (عليه السلام)، ومنه بلغت الأئمة من بعده. وفي جميع أدوار الأئمة، كان هناك علم إسلامي معصوم لا يخطئ، يتحول من إمام إلى الذي يليه.
أما أهل السنة فلا يقولون بمثل هذا المقام لأي شخص. ومن ثمن لا يعتقدون في هذه المرتبة من الإمامة بوجود الإمام، لا أنهم يعتقدون بها وينفونها عن الإمام علي (عليه السلام)، ويصرفونها إلى أبي بكر.
هم لا يعتقدون بهذه المنزلة - العلم المعصوم ـ لا لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان، لا لأي واحدٍ من الصحابة بشكل عام. لذلك تراهم ينقلون في كتبهم آلاف الأخطاء في المسائل الدينية عن أبي بكر وعمر، في حين تعتقد الشيعة بعصمة أئمتهم عن الخطأ، ومن المحال - عندهم - أن يقروا للإمام بخطأ.
من بين ما يذكره أهل السنة في كتبهم أن أبا بكر قال في موطن من المواطن بعد خطأ صدر منه: إن لي شيطانا يعتريني (ونص كلام أبي بكر فيما نقله عن المؤرخون، أنه قال "إن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني" الصواعق، ص 7 الإمامة والسياسة، ج1، ص 2 شرح نهج البلاغة، ج2، ص8 وفي المصدر الأخير أنه سبق كلامه هذا بقوله: "أيها الناس إني وليتكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فإعينوني، وأن أسأت فقوموني، إن لي شيطانا يعتريني.").
وإن عمر أخطأ في موطن وقال فيه: حتى النساء أعلم من عمر (يعني حوار المرآة معه في الواقعة المعروفة في المنع عن المغالاة بصداق النساء وفي ذلك يكتب الزمخشري في (الكشاف): "وعن عمر أنه قام خطيبا، فقال: أيها الناس لا تغالوا بصداق النساء، فلو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عن الله لكان أولاكم بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشر أوقية.
فقامت إليه امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين، لم تمنعنا حقا جعله الله لنا، والله يقول (واتيتم إحداهن قنطارا) فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر" الكشاف،ج1، ص 514.
أما أبن أبي الحديد، فقد كتب: وقال مرة - يعني عمر -: "لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق النبي (صلى الله عليه وآله) إلا ارتجعت ذلك منها " فقالت له امرأة ما جعل الله ذلك لك، إنه تعالى قال " (وأتيتم أحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ) فقال: " كل الناس افقه من عمر حتى ربات الحجال، آلا تعجبون من إمام أخطأ ومن امرأة أصابت، فاضلت إمامكم ففضلته" شرح النهج، ج2، ص 113.
والواقع أن الخليفة كان كثيرا ما يعبر عن هذا المعنى، حصل ذلك في مواطن مختلفة، منها أنه مر يوما بشاب من شبّان الأنصار، وهو ظمآن فاستسقاه، فجدح له ماء بعسل، فلم يشربه، وقال: إن الله يقول: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) فقال له الفتى: يا أمير المؤمنين، إنها ليست لك ولا لأحد من أهل القبلة، اقرأ ما قبلهاويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ) فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر. (شرح النهج، ج 3، ص 96).
ومما ذكروه أنّ أهل أبي بكر بكوا عليه وناحوا بعد وفاته، وكان من بين من ناح عائشة ابنته وزوج النبي. وعندما ارتفع صوت البكاء والنوح من دار أبي بكر وتناهى إلى عمر، بعث مَن ينهاهن عن ذلك. ثم بعث ثانية وهدد بتأديب النائحات بضربهم بالعصا. عندئذ أرسلت عائشة إليه ليدخل الدار. وعندما قدم عليها سألته عن الأمر، فذكر أنه سمع من النبي قوله: "إن الميت يعذّب ببكاء أهله عليه"، فذكرت عائشة لعمر أن للحديث قصة أخرى، وأنه على خطأ. ذلك أن يهوديا مات فأخذ أهله يبكون عليه، فذكر النبي أنه يعذب وأهله يبكون، ولم يقل إنه يعذب بسبب بكاء أهله عليه. فلا علاقة إذن بين القضيتين ( ذكر الفاضل في شرحه صحيح مسلم، أن روايات تعذيب الميت ببكاء الحي عليه تنتهي بجميع صيغها إلى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وقد أنكرت السيدة عائشة عليهما ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه محتجة بقول الله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
وبشأن نهي عمر عائشة وأهل أبي بكر من البكاء عليه، يذكر الطبري أن السيدة عائشة أقامت على أبيها النوح، حيث يقول: " لما توفي أبو بكر رحمه الله أقامت عليه عائشة النوح، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها فناههن عن البكاء على أبي بكر فأبين أن ينتهين، فقال عمر لهشام بن الوليد: أدخل فأخرج إلى ابنة أبي قحافة أخت أبي بكر، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر: إني أحرج عليك بيتي. فقال عمر لهشام: أدخل فقد أذنت لك. فدخل هشام فأخرج أم فروة أخت أبي بكر إلى عمر، فعلاها الدرة فضربها ضربات، فتفرق النوح حين سمعوا ذلك " الطبري ج2، ص 614، منشورات مؤسسة الأعلمي).
ثم إذا كان البكاء على الميت حراماً، فنحن - الذين نبكي - نجترح الحرام، فما ذنب الميت حتى يعذب بجريرة من يبكي عليه، وهو بريء؟
بعد أن أصغى عمر إلى عائشة عجب من الأمر، وذكر أنه لولا النساء لهلك عمر.
وذكر أهل السنة أيضا أن عمر قال في سبعين موطنا ( كناية عن كثرة المواطن وقد كانت كثيرة بالفعل): " لولا علي لهلك عمر". فقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يصحح له أخطاءه، وكان عمر يقرّ بها.
أهل السنة إذن لا يعتقدون بهذه المرتبة من الإمامة.
وتعود ماهية البحث في هذا الموضع إلى المعنى الذي يجزم بأن الوحي كان للنبي الأكرم وحده.
ونحن لا نقول بأن الأئمة (عليهم السلام) يوحى إليهم، إذ لم يوصل الإسلام إلى البشر أحد سوى النبي فقط، وكل ما كان يجب أن يعرف من الإسلام، أخبر به الله نبيه (صلى الله عليه وآله). وليست القضية أن جزءا من تعاليم الإسلام لم يُبلغ به النبي، إنما السؤال: هل بقي شيءٌ من أحكام الإسلام لم يبلغه النبي عامة الناس؟
يعتقد أهل السنة أن أحكام الإسلام، هي فقط تلك التي بلّغها النبي لأصحابه.
والذي حصل بعد ذلك هو بروز العجز في ا لمسائل التي ظهرت ولم يُرْوَ فيها شيءٌ عن الصحابة. فمن هذا الموقع بالذات أطلّت مسألة القياس، وما ذهبوا إليه من استكمال تلك الفراغات وملئها بقانون القياس، حتى قال الإمام أمير المؤمنين في ذلك: " أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقضاً فاستعان بهم على إتمامه" كما في نهج البلاغة.
أما ما تعتقد به الشيعة وتقول به، هو أن الله لم ينزل ديناً ناقصاً إلى نبيّه، وبدوره لم ينقص النبي شيئاً ممّا تبلغه من السماء، في بيانه للناس، بل بلغه النبي كاملا.
ولكن الصيغة الكاملة للأحكام التي بلغها النبي لم تكن تساوي ما كان قاله لعامّة الناس، ومن ثم فإن ما كان بلغ عامة الناس لم يكن يعبر عن الصيغة الكاملة للأحكام التي أوحيت إليه من عند الله، بل اختصّ بصيغة الأحكام الكاملة التي جاءت من عند الله، تلميذه الخاص (على بن أبي طالب) وقد أمره أن يبينها للناس.
(ثم الكثير من الأحكام لم تظهر موضوعاتها في عصر النبي أصلا، وإنما سُئل عنها بعد ذلك).
من هذا الموقع تطل مسألة العصمة، إذ تذهب الشيعة للقول: ما دام لا يمكن أن ينفذ الخطأ إلى قول النبي عمدا أو سهوا، ولا يجوز عليه الاشتباه، فكذلك الحال بالنسبة لتلميذه الخاص، إذ لا يمكن له أن يخطئ أو يشتبه. فكما أن النبي مسدد بشكل من الأشكال بالتسديد الإلهي، كذلك يكون تلميذه الخاص هذا مسددا بالتسديد الإلهي أيضا.
للإمامة درجة ومرتبة ثالثة، هي ذروة مفهوم الإمامة. وكتب الشيعة مليئة بهذا المفهوم للإمامة، الذي يُعَدّ وجها مشتركا بين التشيّع والتصوّف.
وعندما نقول إن هذه المرتبة من الإمامة تعبر عن مفهوم مشترك، لا ينبغي أن يساء الفهم، إذ يمكن - لكم - أن تواجهوا في هذا المضمار كلام المستشرقين الذين يطرحون المسألة كذلك.
المسألة التي تعكسها هذه المرتبة من الإمامة عُرِضَ لها في أوساط العرفاء بصورة مكثفة، كما عرفها التشيع منذ صدر الإسلام. ومازلت أذكر أن هنري كوربان سأل العلامة الطباطبائي في حوارٍ له معه قبل عشر سنوات، فيما إذا كان الشيعة قد أخذوا هذا المفهوم من المتصوّفة، أم أخذه المتصوّفة من الشيعة؟ كان يريد أن يقول أن أحد الطرفين أخذ من الآخر. وعندئذ ذكر له العلامة الطباطبائي أن المتصوّفة هم الذين أخذوا من الشيعة، لأنه كان متداولاً في أوساط الشيعة في وقت لم يكن قد تبلور فيه التصوّف، ولم تكن قد شاعت في أوساطة مثل هذه المسائل، ثم نفذ بعد ذلك وبرز في أوساطهم.
نستنتج مما مرّ، أنه إذا كان - ولا بد أن يكون - أحدهما قد أخذ من الآخر، فإن المتصوّفة هم الذين أخذوا من الشيعة.
المفهوم الذي نعنيه في هذا المجال يتمثل بمسألة الإنسان الكامل، أو بتعبير آخر "حجّة العصر".
لقد ارتكز منحى العرفاء والمتصوّفة على مسألة الإنسان الكامل كثيرا. فمولوي (مولوي شاعر عرفاني) يقول: "إن لكل عصر وليّاً قائماً"، وإنّ في كل عهد إنساناً كاملاً، يكون حاملاً للمعنوية الإنسانية العامة، ولا يخلو زمان أبدا من الوليّ الكامل الذي يعبر عنه أحيانا بالقطب.
يعتقد هؤلاء أن للولي الكامل الذي ينطوي على (صفات) الإنسانية بشكل تامّ وكامل، مقاماتٍ بعيدة كل البعد عن أذهاننا. من بين المقامات التي تذكر له، تسلّطه على الضمائر أي القلوب، انطلاقا من كونه روحا كلية يحيط بجميع الأرواح. وفي هذا المجال يشير مولوي إلى قصة إبراهيم الأدهم، وهي قصة أسطورية. وقد توسل مولوي بذكر الأساطير للتعبير عن أفكاره.
لم يكن هدف مولوي أن ينقل وقائع التاريخ، بل هو ينقل الأسطورة ليعبر من خلالها عن فكرته. وفي سياق ذلك يذكر أن إبراهيم الأدهم مر إلى جوار بحر، فرمى فيه إبرة، ثم طلب الإبرة فأطلت الأسماك برؤوسها على سطح البحر وفي فم كل واحدة منها إبرة.
ومسألة الولاية تطرح عادة في الاعتقاد الشيعي بهذا المعنى نفسه، ولكن على نحو مكثف جدا. فهي تطرح بمعنى - أن يكون الولي- حجة الزمان، بحيث لا يكون ثمة زمان خالٍ من الحجة أبدا "ولولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها". ومؤداه أن الأرض لم تخل ولن تخلو من الإنسان الكامل أبدا. ويعتقد الشيعة أن هذا الإنسان الكامل ينطوي على مقامات ودرجات كثيرة. ونحن في أغلب التحيات والزيارات التي نقرأها، نقر بمثل هذه الولاية ونعترف بهذه الإمامة، أي أننا نعتقد أن للإمام مثل هذه الروح الكلية.
نحن نقول في الزيارة التي نقرأها جميعا باستمرار، وهي جزء من أصول التشيع: "أشهد أنك تشهد مقامي وتسمع كلامي وترد سلامي". نحن نخاطبه بهذا الكلام وهو ميت، ولا فرق بالنسبة لنا- في تحلّيه بهذا المقام - بين حياته ومماته. وهذا لا يعنى أنه لم يكن كذلك في حياته، وأنها من مختصاته بعد مماته.
فأقول- مثلا-:" السلام عليك يا علي بن موسى الرضا" ثم أشهد له وأعترف أنه يسمع كلامي، ويردّ سلامي.
أما أهل السنة- من غير الوهابيين - فلا يعتقدون بمثل هذا المقام إلاّ للرسول الأكرم فقط، ولا يقولون بمثل هذا العلوّ والإحاطة الروحية في الدنيا، إلاّ للنبي وحده. أما نحن الشيعة فتعدّ هذه العقيدة من أصول مذهبنا، نعتقد بها على الدوام.
يتضح مما مر أن الإمامة على ثلاث درجات، إذا لم نفكك فيما بينها، سنقع في إشكالات أثناء ممارسة الاستدلال في هذا المجال.
ويترتب عليها أن للتشيع ثلاث مراتب أيضا. فبعض الشيعة يعتقد بالإمامة بمعنى كونها قيادة اجتماعية فقط. هؤلاء يقولون أن النبي (صلى الله عليه وآله) عين عليا (عليه السلام) قائدا من بعده، وأن أبا بكر وعمر وعثمان تقدّموا لهذا الموقع من عند أنفسهم - خلافا لمراد النبي - هؤلاء شيعة بهذا المقدار، أما في المسألتين الأخريين، فهم إما لا يعتقدون بهما أو يسكتون عنهما.
البعض الآخر يعتقد بالمرتبة الثانية للإمامة يقول بهذا، بيد أنه لا يصل إلى الثالثة. ومما يقال بهذا الشأن أن المرحوم السيد محمد باقر درجئي أستاذ السيد البروجردي في إصفهان، كان ينكر المرتبة الثالثة، فقد كان يعتقد بالإمامة إلى مرتبتها الثانية ولم يتجاوزها إلى ما بعدها.
أما أكثرية الشيعة وعلماؤهم فقد كانوا يعتقدون بالمرحلة الثالثة أيضا.
إذا أردنا أن ندخل في بحث الإمامة فعلينا أن نفعل ذلك انطلاقا من ثلاث مراحل، هي: الإمامة في القرآن، الإمامة في السنّة، وبحث الإمامة بحسب العقل.
في المرحلة الأولى يجب علينا أن نبحث فيما إذا كان لآيات القرآن في باب الإمامة دلالة على الإمامة التي تقول بها الشيعة أم لا؟ وإذا كان لها دلالة على الأمر فهل تعنى بالإمامة بمعنى كونها قيادة سياسية واجتماعية فقط، أم أنها تمتد لتشمل الإمامة في معنى كونها مرجعية دينية، بل وكونها ولاية معنوية أيضا.
عندما ننتهي من بحث الإمامة في القرآن ننتقل لبحثها في سنة النبي (صلى الله عليه وآله) لنلمس ما جاء بشأنها، ثم ننتقل بعدئذ لتحليلها في ضوء النظر العقلي، كي نرى حكم العقل وماذا يقبل من مراحلها الثلاث. فهل تراه يحكم لصالح أهل السنة في المرتبة التي تكون فيها قيادة اجتماعية، فيرشد إلى أن خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) يجب أن ينتخب بالشورى من قبل المجتمع، أم تراه يحكم بوجوب أن يعين النبي بنفسه خليفته من بعده؟
ثم نتابع العقل بشأن ما يحكم به في المسألتين الأخريين.
حديث في باب الإمامة
قبل أن نتوفر على ذكر آيات القرآن حول الإمامة، أنقل إليكم حديثا معروفا يرويه الشيعة والسنة معا. وحين تتفق كلمة الفريقين - في العادة - على رواية حديث، فلا يجوز النظر لذلك كشيء هامشي صغير، لأن اتفاق الشيعة والسنة على روايته بطريقين، هو تقريبا علامة على صدوره القطعي من النبي الأكرم أو من الإمام.
هناك فرق بين عبائر الحديث في رواية الفريقين، بيد أن مضمونه واحد - تقريبا - بين الاثنين. فنحن الشيعة نرويه - على الأغلب - بهذه الصيغة: "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية". (دلائل الصدوق، ص6، 13) وكلمات الحديث تتسم بالكثافة والشدة الشديدة [في المؤدى والدلالة] لأن الناس في الجاهلية كانوا مشركين، ولم تكن لهم عقيدة في التوحيد والنبوة.
ورد الحديث كثيرا في كتب الشيعة، وهو يتسق مع أصولهم ويتطابق معها تماما. فالحديث ورد في "الكافي" أهم كتب الحديث عند الشيعة.
بيد أن المهم هو توفر كتب أهل السنة عليه، فقد نقلته كتبهم الحديثية بصيغة:
"من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية" ( مسند أحمد)، كما ورد بصيغة أخرى، هي:"من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" (صحيح مسلم ج3،ص 1478).
ورووه كثيرا بالصيغة التي يرويها الشيعة أيضا، كما روي عنهم بصيغة "من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية".
لقد وردت عبارات الحديث بصيغة مكثفة تدلل على الاهتمام الكبير الذي كان يوليه النبي الأكرم لمسألة الإمامة.
لقد انطلق من يعتقد في معنى الإمامة أنها قيادة اجتماعية فقط، من تأكيد النبي الأكرم مسألة القيادة بهذا النحو، حيث رفعها إلى مستوى تكون الأمة التي تفتقد إلى القائد والإمام، أمة تموت على شرعة الجاهلية ونهجها، وذلك لأن للتفسير الصحيح لأحكام الإسلام والتنفيذ السليم لها وثيق الصلة بصحة خط القيادة وبارتباط المجتمع ارتباطاً وثيقاً بالقائد.
فليس الإسلام ديناً فردياً، ليصحّ للإنسان الاجتزاء فيه بقوله: أعتقد بالله وبالنبي ولا شأن لي بالبقية. كلا، بل يجب عليك بالإضافة إلى إيمانك بالله وبالرسول، أن تبحث بالضرورة عن القائد في هذا الزمن وتعرفه، كي تمارس نشاطك - حتما - في إطار قيادته.
أما من يحمل الإمامة كمرجعية دينية، فتراه ينطلق من معنى هذا الحديث في تأكيد أن من يريد أن يلتزم بالدين يجب عليه أيضا أن يعرف الشخص الذي تنتهي إليه مرجعية هذا الدين، فيعرف من أين يأخذ دينه. أما أن يؤمن الإنسان بالدين، ويستقيه من مصدر يضاد هذا الدين، فذاك - بلا ريب - عين الجاهلية. نصل الآن إلى من يسمو بالإمامة إلى مستوى كونها ولاية معنوية، إذ نراه يقدم مدلول الحديث بقراءةٍ مؤدّاها أنّ هذا الحديث يريد أن يقول بأنّ الإنسان الذي لا يتجه نحو وليّ كامل، يكون كمن مات في الجاهلية.
لقد تناولت هذا الحديث أولاً لتواتره، وقد كان هدفي أن يبقى في أذهانكم إلى أن نعود للبحث فيه مجددا.