أخرج فقيه الحنابلة إبراهيم بن علي بن محمد الدينوري في كتابه نهاية الطلب وغاية السؤول في مناقب آل الرسول بإسناده عن طاووس عن ابن عباس في حديث طويل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للعباس رضى الله عنه إن الله قد أمرني بإظهار أمري وقد أنبأني واستنبأني فما عندك؟ فقال له العباس رضي الله عنه: يا بن أخي تعلم أن قريشاً أشد الناس حسداً لولد أبيك، وإن كانت هذه الخصلة كانت الطامة الطماء والداهية العظيمة ورمينا عن قوس واحد وانتسفونا نسفاً، صلتا ولكن قرب إلى عمك أبي طالب فإنه كان أكبر أعمامك إن لا ينصرك لا يخذلك ولا يسلمك، فأتياه، فلما رآهما أبو طالب قال: إن لكما لظنة وخبراً، ما جاء بكما في هذا الوقت؟ فعرفه العباس ما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أجابه به العباس، فنظر إليه أبو طالب وقال له: أخرج يا بن أخي فإنك الرفيع كعباً، والمنيع حزباً، والأعلى أباً، والله لا يسلقك لسان إلا سلقته ألسن حداد، واجتذبته سيوف حداد، والله لتذلن لك العرب ذل البهم لحاضنها، ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً، ولقد قال: إن من صلبي لنبياً، لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به.
قال الأميني ( رحمه الله): أترى أن أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مطمئناً به؟ وينشط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا التنشيط لأول يومه، ويأمره بإشهار أمره والإشادة بذكر الله، وهو مخبت بأنه هو ذلك النبي الموعود بلسان أبيه والكتب السالفة، ويتكهن بخضوع العرب له، أتراه سلام الله عليه يأتي بهذه كلها ثم لا يؤمن به؟ إن هذا إلا اختلاف.
ذكر ابن سعد الواقدي في الطبقات الكبرى (1 / 186) طبع مصر و (ص 135) طبع ليدن
حديث ممشى قريش إلى أبي طالب في أمره صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن قال: فاشمأزوا ونفروا منها ـ يعني من مقالة محمد ـ وغضبوا وقاموا وهم يقولون: اصبروا على آلهتكم، إن هذا لشيء يراد، ويقال المتكلم بهذا عقبة بن أبي معيط. وقالوا: لا نعود إليه أبداً، وما خير من أن نغتال محمداً. فلما كان مساء تلك الليلة فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاء أبو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب ثم قال: ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة، ثم ليتبعني إذا دخلت المسجد، فلينظر كل فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية ـ يعني أبا جهل ـ فإنه لم يغب عن شر إن كان محمد قد قتل، فقال الفتيان: نفعل، فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال؛ فقال: يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفاً. فقال أبو طالب: لا أدخل بيتي أبداً حتى أراه؛ فخرج زيد سريعاً حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيت عند الصفا ومعه اصحابه يتحدثون فأخبر الخبر فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بي طالب، فقال: يا بن أخي أين كنت؟ أكنت في خير؟ قال: نعم. قال: ادخل بيتك، فدخل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلما أصبح أبو طالب غدا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ بيده فوقف به على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون فقال: يا معشر قريش هل تدرون ما هممت به؟ قالوا: لا. فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان: اكشفوا عما في أيديكم فكشفوا، فإذا كل رجل منهم معه حديدة صارمة فقال: والله لو قتلتموه ما بقيت منكم أحداً. حتى نتفانى نحو وأنتم، فانكسر القوم وكان أشدهم انكساراً أبو جهل.
لفظ آخر
وأخرج الفقيه الحنبلي إبراهيم بن علي بن محمد الدينوري في كتابه نهاية الطلب بإسناده عن عبد الله بن المغيرة بن معقب، قال: فقد أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فظن أن بعض قريش اغتاله فقتله، فبعث إلى بني هاشم فقال: يا بني هاشم أظن أن بعض قريش اغتال محمداً فقتله، فليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة وليجلس إلى جنب عظيم من عظماء قريش، فإذا قلت: أبغي محمداً. قتل كل منكم الرجل الذي إلى جانبه. وبلغ رسول الله جمع أبي طالب وهو في بيت عند الصفا، فأتى أبا طالب وهو في المسجد، فلما رآه أبو طالب أخذ بيده ثم قال: يا معشر قريش، فقدت محمداً فظننت أن بعظكم أغتاله فأمرت كل فتى شهد من بني هاشم أن يخذ حديدةً ويجلس كل واحد منهم إلى عظيم منكم، فإذا قلت: أبغي محمداً قتل كل واحد منهم الرجل الذي إلى جنبه، فاكشفوا عما في أيديكما يا بني هاشم فكشف بنو هاشم عما في أيديهم فنظرت قريش إلى ذلك فعندها هابت قريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أنشأ أبو طالب:
ألا أبلغ قريشاً حيث حلت * وكل سرائر منها غرور
فإني والضوابح عاديات ) * وما تتلو السفاسرة الشهور
لآل محمد راعٍ حفيظ * وود الصدر مني والضمير
فلست بقاطع رحمي وولدي * ولو جرت مظالمها الجزور
أيأمر جمعهم أبناء فهر * بقتل محمد والأمر زور
فلا وأبيك لا ظفرت قريش * ولا أمت رشاداً إذ تشير
بني أخي ونوط القلب مني * وأبيض ماؤه غدق كثير
ويشرب بعده الولدان رياً * وأحمد قد تضمنه القبور
أيا بن الأنف أنف بني قصي ( * كأن جبينك القمر المنير
لفت نظر:
قال شيخنا العلامة المجلسي في البحار (9 / 31):
روى جامع الديوان ـ يعني ديوان أبي طالب ـ نحو هذا الخبر مرسلاً ثم ذكر الأشعار هكذا…
فذكر الأشعار وفيها زيادة عشرين بيتاً على ما ذكر، وهي لا توجد في الديوان المطبوع لسيدنا أبي طالب.
لفظ ثالث:
وقال السيد فخار بن معد في كتابه الحجة (ص 61): وأخبرني الشيخ الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن محمد ابن الجوزي المحدث البغدادي ـ وكان ممن يرى كفر أبي طالب ويعتقده ـ بواسط العراق سنة إحدى وتسعين وخمسمائة بإسناد له إلى الواقدي،
قال: كان أبو طالب بن عبد المطلب لا يغيب صباح النبي ولا مساءه، ويحرسه من أعدائه ويخاف أن يغتالوه فلما كان ذات يوم فقده فلم يره وجاء المساء فلم يره وأصبح الصباح فطلبه في مظانه فلم يجده فلزم أحشاءه وقال: واولداه، وجمع عبيده ومن يلزمه في نفسه فقال لهم: إن محمداً قد فقدته في أمسنا ويومنا هذا ولا أظن إلا أن قريشاً قد اغتالته وكادته وقد بقي هذا الوجه ما جئته، وبعيد أن يكون فيه واختار من عبيده عشرين رجلاً، فقال: امضوا وأعدوا سكاكين وليمض كل رجل منكم وليجلس إلى جنب سيد من سادات قريش، فان أتيت ومحمد معي فلا تحدثن أمراً وكونوا على رسلكم حتى أقف عليكم، وإن جئت وما محمد معي فليضرب كل منكم الرجل الذي إلى جانبه من سادات قريش. فمضوا وشحذوا سكاكينهم حتى رضوها، ومضى أبو طالب في الوجه الذي أراده ومعه رهطه من قومه فوجده في أسفل مكة قائماً يصلى إلى جنب صخرة فوقع عليه وقبله وأخذ بيده وقال: يا بن أخ قد كدت أن تأتي على قومك، سر معي، فأخذ بيده وجاء إلى المسجد وقريش في ناديهم جلوس عند الكعبة، فلما رأوه قد جاء ويده في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: هذا أبو طالب قد جاءكم بمحمد إن له لشأناً، فلما وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده: أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كل واحد منهم ما في يده. فلما رأوا السكاكين قالوا: ما هذا يا أبا طالب؟ قال: ما ترون؛ إني طلبت محمداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم، فأمرت هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم: إن جئت وليس محمد معي فليضرب كل منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذني فيه، ولو كان هاشمياً، فقالوا: وهل كنت فاعلاً؟ فقال: أي ورب هذه وأومى إلى الكعبة، فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وكان من أحلافه: لقد كدت تأتي على قومك؟ قال هو ذلك. ومضى به وهو يقول:
إذهب بني فما عليك غضاضة * إذهب وقر بذاك منك عيونا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسد في التراب دفينا
ودعوتني وعملت أنك ناصحي * ولقد صدقت وكنت قبل أمينا
وذكرت ديناً لا محالة أنه * من خير أديان البرية دينا
فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والاستعطاف وهو لا يحفل بهم ولا يلتفت إليهم.
قال الأميني: هذا شيخ الأبطح يروقه أن يضحي كل قومه دون نبي الإسلام وقد تأهب لأن يطأ القوميات كلها والأواصر المتشجة بينه وبين قريش بأخمص الدين، فحياها الله من عاطفة إلهية، وآصرة دينية هي فوق أواصر الرحم.