1- حدثنا الحميدي عبدالله بن الزبير قال : حدثنا سفيان ... محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول : سمعت عمر بن الخطاب (رض) على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه .
ورد ذكر هذا الحديث في صحيح البخاري في كتاب الإيمان باب ما جاء أن الأعمال بالنية ، وكتاب العتق ، باب الخطأ والنسيان ، وكتاب مناقب الأنصار ، باب هجرة النبي ، وكتاب النكاح ، باب من هاجر أو عمل خيراً ، وكتاب الإيمان والنذور ، باب النية في الإيمان ، وأخيراً كتاب الحيل باب في ترك الحيل .
جاء في سير أعلام النبلاء للذهبي :
" الحميدي هو عبدالله بن الزبير بن عيسى بن عبيدالله بن أسامة بن عبدالله بن حميد ... الإمام الحافظ الفقيه شيخ الحرم أبو بكر القرشي الأسدي الحميدي المكي صاحب المسند " وقد طبع في جزئين والمشهور بمسند الحميدي " .
( وهذا الحديث ) أول شيء افتتح به البخاري صحيحه ، فصيَّره كالخطبة له ... لجلالة الحميدي وتقدمه ولأن إسناده هذا عزيز المثل جداً ليس فيه عنعنة أبداً ، بل كل واحد منهم صرَّح بالسماع له [1] .
وفي المسند للحميدي : كان البخاري إذا وجد الحديث عنه لا يحوجه إلى غيره من الثقة به [2] .
والحميدي من شيوخ البخاري بمكة .
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب :
وذكره ابن حبان في الثقات .
وقال الحاكم : ثقة مأمون ، قال : ومحمد بن إسماعيل إذا وجد الحديث عنه لا يحوجه إلى غيره من الثقة به [3] .
هذا هو الحميدي الثقة الثبت عند البخاري .
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء وفي الجزء الثاني عشر في ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري :
محمد بن أبي حاتم قال : قلت لأبي عبدالله كيف كان بدء أمرك ؟
قال : ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب .
فقلت : كم كان سنك ؟
فقال : عشر سنين أو أقل [4] .
ويقول الذهبي أيضاً :
أبا الهيثم الكشميهني سمعت الفربري يقول : قال لي محمد بن اسماعيل : ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصلَّيت ركعتين [5] .
ويقول : كان أبو عبدالله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام ، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام ، فكنا نقول له : إنك تختلف معنا ولا تكتب فما تصنع ؟
فقال لنا يوماً بعد ستة عشر يوماً ، إنكما قد أكثرتما علي وألححتما فاعرضا علي ما كتبتما ، فأخرجنا إليه ما كان عندنا ، فزاد على خمسة عشر ألف حديث ، فقرأها كلها عن ظهر القلب ، حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه ، ثم قال : أترون أني أختلف هدراً وأضيِّع أيامي ! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد [6] .
قال محمد بن اسماعيل يوماً : رُبَّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، ورُبَّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقلت : يا أبا عبدالله ، بكماله ؟ قال : فسكت [7] .
وخوفاً من الإطالة على القارئ أقول : إن أهل العامة يقولون بأن البخاري كان حافظاً وأنه لا ينسى ما كان يسمعه كما قرأت ذلك قبل قليل ، وما جاء في الذهبي ، فاعلم أخي الكريم بأن كل ذلك كذب محض وإليك الدليل :
قال الحميدي في مسنده عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه [8] .
لاحظ أن ما بين القوسين لم يذكره البخاري ، إذن فالبخاري كان ينسى الحديث إما برمته أو جزء منه أو شطر منه .
وأنه كان يرى جواز الرواية بالمعنى ، وكان يتصرف بالحديث ويسوقه بمعناه ، كل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أنه لم يكن حافظاً ، ومن يروي بالمعنى فإنه لم يحفظ ما سمعه ، لذا تراه يسوق الألفاظ ويتصرف فيها ، ومن يتصرف باللفظ فإن ذلك يؤدي إلى فهم الحديث بخلاف ما قصده الراوي، وأيضاً زيادة كلمة في الحديث أو نقصان جملة منه أيضاً يؤدي إلى اختلاف معناه، فكم من الأحاديث يا ترى التي بترها أو بتر منها البخاري وكم من فضيلة لأهل البيت عليهم السلام أو منقبة لهم قام البخاري ببتر جملة منها إن لم يكن الحديث بتمامه قد حذف وشطب من ذاكرة هذا الذي كان حافظاً والذي
كان يأكل في اليوم لوزتين وذلك ليصفى ذهنه ، وكان قبل أن يكتب الحديث يغتسل ثم يصلي ركعتين ومن ثم يكتب ذلك .
وهذا الحديث قد أخذه من الحميدي وهو الثقة عنده ، وكتبه ودونه ناقصاً فكيف إذا أخذ حديثاً من راو آخر ليس بمرتبة الحميدي ؟
أقول هذا وقد أخذت العهد على نفسي أن أتفرغ للبخاري وشيخه الحميدي وأقارن بين ما رواه الحميدي وبين البخاري الذي روى عن الحميدي، وذلك لأن في البخاري ما يقارب الثمانين حديثاً يرويها عن الحميدي ، وأنت قد رأيت وقرأت بأن أول حديث رواه البخاري عن الحميدي فيه جملة ناقصة ، والعجيب أن هذا الحديث جاء في أول الصحيح وهو أول حديث يرويه عن الحميدي فكيف بالبقية ؟ !
وقد وفقني الله لإفراد ذلك ببحث مختصر طبع في كتاب روايات الحميدي أربكت البخاري فمن شاء فليراجع ذلك وإن شئت المزيد فراجع كتابنا مناقشاتي في أحاديث أهل السنة ، ومن الله التوفيق .
2- حدثنا يحيى بن بكير ... عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حُبِّب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنَّث فيه - وهو التعبُّد الليالي ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو
في غار حراء ، فجاءه الملك فقال اقرأ ! قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ! قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال اقرأ ، فقلت ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثم أرسلني ، فقال اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، إقرأ وربك الأكرم ، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال : زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم وتحمل الكَلَّ وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى ابن عم خديجة وكان امرءاً قد تنصَّر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخاً كبيراً قد عمي فقالت له خديجة يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ مُخرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي .
قال ابن شهـاب : وأخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن أن جـابر بن عبدالله
الأنصاري قال وهو يحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه : بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زملوني زملوني ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قوله { والرجز فاهجر } فحمي الوحي وتتابع .
ورد ذكر هذا الحديث في البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب { وهل أتاك حديث موسى } ، وفي كتاب التفسير ، باب حدثنا يحيى بن بكير ، وكتاب التعبير ، باب أول ما بدئ به رسول الله .
اعلم أن من رواة هذه الرواية يحيى بن عبدالله بن بكير القرشي المصري ، فقد ضعفه النسائي وقال في موضع : ليس بثقة ، وقال فيه أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به [9] .
قبل الخوض في الحديث يجب عليك أيها القارئ الكريم أن تعلم أن عائشة ولدت بعد البعثة فأين كانت حتى تروي لنا ذلك ؟ وعمن أخذت هذه الرواية ؟
ثم أليس النبي الأكرم كان يتعبد في غار حراء قبل البعثة ؟ ألم تسأل نفسك أيها القارئ لماذا كان يذهب إلى غار حراء ؟ ألم يكن يعد نفسه لاستقبال الوحي ؟
يقول السيد جعفر العاملي في كتابه الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى
الله عليه وآله وسلم في الجزء الثاني ، طبعة دار السيرة ، بيروت :
... سائر الروايات تذكر أن جبريل قد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغطه أي عصره وحبس نفسه أو خنقه حتى بلغ منه الجهد ، أو حتى ظن أنه الموت ثم أرسله وأمره بالقراءة ، فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يعرفها فلم يقنع منه ، بل عاد فغطَّه ، ثم أرسله وهكذا ثلاث مرات ... فإننا لا نعرف ما هو المبرر لذلك كله ؟! وكيف جاز لجبرئيل أن يروِّع النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ؟! وأن يؤذيه بالعصر والخنق إلى حد أنه صلى الله عليه وآله وسلم يظن أنه الموت ، يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به ولا يرحمه ولا يلين له ! ولماذا يفعل به ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟! ولماذا صدَّقه في الثالثة ولا يصدقه في المرة الأولى أو الثانية ؟ وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كذب عليه أولاً فكيف بقي أهلاً للنبوة ؟! وإذا كان قد صدقه فلماذا لم يقتنع جبرئيل بكلامه وعاد فخنقه حتى ليظن أنه الموت ...؟!
ثم لماذا يرجع مرعوباً خائفاً ؟ ألم يكن باستطاعته أن يلطمه ... ! كما فعل موسى بملك الموت ... ؟!
ويقول : كيف يجوز إرسال نبي يجهل نبوة نفسه ويحتاج في تحقيقها إلى الاستعانة بامرأة أو نصراني ؟!
ألم تكن هي فضلاً عن ذلك النصراني أجدر بمقام النبوة من ذلك الخائف المرعوب الشاك ؟!
وحتى لو قبلنا ذلك فمن أين علم أن تلك المرأة وذلك الرجل قد صدقاه وقالا الحقيقة ؟!
ولماذا لم يستطع هو أن يدرك ما أدركته تلك المرأة وذلك النصراني ؟!
أم يعقل أن يكون كلاهما أكبر عقلاً وأكثر معرفة بالله وتفضلاته منه ؟!
وإذا جاز أن يرتاب هو مع معاينته لما يأتيه من ربه فكيف ينكر على من ارتاب من سائر الناس مع عدم معاينتهم لشيء من ذلك ؟!
... وأيضاً كيف يبعث الله رجلاً قبل أن يربيه تربية صالحة ويعدّه إعداداً تاماً بحيث يستطيع أن يكون في مستوى الحدث العظيم الذي ينتظره ؟!
نعم ، كيف أهمله هكذا حتى إنه حين بعثته ليبدو مذعوراً خائفاً ظاناً بنفسه الجنون ... .
وأين ذهبت عن ذاكرته تلك الكرامات التي كان يواجهها دون أحد كتسليم الشجر والحجارة عليه والرؤيا الصادقة ؟!
ويقول - والحديث لا زال للسيد العاملي - : والذي نطمئن إليه هو أنه قد أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في غار حراء فرجع إلى أهله مستبشراً مسروراً بما أكرمه الله به مطمئناً إلى المهمة التي أوكلت إليه .
وسئل عليه السلام – أي الإمام الصادق عليه السلام – كيف علمت الرسل أنها رسل ؟
قال : كشف عنهم الغطاء ، وقال الطبرسي : إن الله لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيرة والآيات البينة الدالة على ما يوحى إليه ، إنما هو من الله تعالى
فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق .
ويقول : لماذا الكذب والافتعال إذن ...
نرى أن افتعال تلك الأكاذيب يعود لأسباب أهمها :
إن حديث الوحي هو من أهم الأمور التي يعتمد عليها الاعتقاد بحقائق الدين وتعاليمه وله أهمية قصوى في إقناع الإنسان بضرورة الاعتماد في التشريع والسلوك والاعتقاد والإخبارات الغيبية وكل المعارف والمفاهيم عن الكون وعن الحياة على الرسل والأنبياء والأئمة والأوصياء وله أهمية كبرى في إقناعه بعصمة ذلك الرسول وصحة كل مواقفه وسلوكه وأقواله وأفعاله ...
... نستطيع أن نعرف سر محاولات أعداء الإسلام الدائبة للتشكيك في اتصال نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله بالله تعالى ، فافتعلوا الكثير مما رأوه مناسباً لذلك من الوقائع والأحداث التي رافقت الوحي في مراحله الأولى أو حرَّفوه وحوَّروه حسب أهوائهم وخططهم ومذاهبهم ... .
ويقول العاملي : فإننا نستطيع أن نتهم يد أهل الكتاب في موضوع الأحداث غير المعقولة التي تنسب زوراً وبهتاناً إلى مقام نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حين بعثته ... كما أنه لا بد أن يحتاج نبينا صلوات الله عليه وآله إليهم لإمضاء صك نبوته ! وتصديق وحيه ! ويكون مديناً لهم ! وعلى كل مسلم أن يعترف بفضلهم وبعمق وسعة اطلاعهم ومعرفتهم بأمور لا يمكن أن تعرف إلا من قبلهم ! فكان اختراع هذا الدور لورقة ! ... فليس غريباً أن نجد ملامح هذه القصة موجودة في العهدين ، فقد جاء في الكتابين الذين يطلق
عليهما اسما التوراة والإنجيل أن دانيال خاف وخر على وجهه وزكريا اضطرب ووقع عليه الخوف ويوحنا سقط في رؤياه كميِّت وعيسى تغيَّرت هيئة وجهه وبطرس حصلت له غيبوبة وإغماء ... ولكن ذلك لا يعني أننا ننكر ثقل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم ... ولكننا ننكر اضطرابه وخوفه ... [10] .
نكتفي بهذا القدر وذلك خوفاً من الإطالة على القارئ .
3- ... إبراهيم بن سعد ... عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قُمُص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره ، قالوا فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : الدين .
من رواة هذه الرواية إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزهري ، وقد ذكره ابن عدي في كتابه الكامل في ضعفاء الرجال [1] .
قال الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد : قدم إبراهيم بن سعد الزهري العراق سنة أربع وثمانين ومائة ، فأكرمه الرشيد وأظهر بره ، وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله ، وأتاه بعض أصحاب الحديث ليسمع منه أحاديث الزهري فسمعه يتغنى فقال : لقد كنت حريصاً على أن أسمع منك ، فأما الآن فلا سمعت منك حديثاً أبداً ، فقال : إذن ، لا أفقد إلا شخصك ، عليَّ عليَّ إن حدثت ببغداد ما أقمت حديثاً حتى أغني قبله ! وشاعت عنه هذه ببغداد ! فبلغت
الرشيد فدعا به فسأله عن حديث المخزومية التي قطعها النبي صلى الله عليه وسلم في سرقة الحلي ، فدعا بعود فقال الرشيد : أعود المجمر ؟! قال : لا ، ولكن عود الطرب ... [2] !!
ورد هذا الحديث في البخاري في كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب عمر ، وفي كتاب التعبير ، باب القميص في المنام ، وباب جر القميص .
يقول ابن حجر في شرحه :
إنما أوله النبي صلى الله عليه وسلم بالدين ، لأن الدين يستر عورة الجهل ، كما يستر الثوب عورة البدن [3] !
أقول :
جاء في صحيح مسلم ( كتاب الحيض - باب التيمم ) : ... أن رجلاً أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماءً ، فقال : لا تصل ، فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعَّكت في التراب وصليت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ، فقال عمر : اتق الله يا عمار ، قال : إن شئت لم أحدِّث به .
وأقول :
كيف يكـون هذا القميص ساتـراً للجهل في حين أن عمر يجهل حكم
الجنب؟!
وكيف يكون عمر فقيهاً وعالماً بأحكام الدين كما في رواية البخاري ويفتي بترك الصلاة الواجبة عند فقدان الماء ؟!
ألم يقرأ كتاب الله عز وجل حيث يقول : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً } النساء / 43 .
فالصلاة التي هي عمود الدين والصلة بين العبد وربه لا تسقط بأي حال من الأحوال ، فالفقهاء يفتون بأنه من لم يستطع الصلاة واقفاً صلاها جالساً ، ومن لم يستطع أن يصلي جالساً عليه أن يصلي راقداً ، ومن لم يستطع فعليه أن يركع ويسجد برمش عينيه .
أما عمر فيريد من الرجل أن لا يصليها ! فيتبين لنا أن عمر لم يكن عالماً بمسائل الدين والشرع ، فكيف نوفق بين رواية البخاري وفتوى عمر لذلك الرجل .
وعمر بجهله لهذا الحكم يؤكد لنا بأنه لا شك أنه ردَّد هذه العبارة مرات عديدة ( لو لا علي لهلك عمر ! ) ولو أن ابن تيمية يدعي بأن عمر قال ذلك مرة واحدة : ( لو لا علي لهلك عمر ... لا يعرف أن عمر قاله إلا في قضية واحدة ) [4] .
باب { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }
4- ... عن الأحنف بن قيس قال : ذهبت لأنصر هذا الرجل فلقيني أبو بكرة ، فقال : أين تريد ؟ قلت : أنصر هذا الرجل ، قال : ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . فقلت : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصاً على قتل صاحبه .
ورد هذا الحديث في البخاري في كتاب الديات ، باب قول الله { ومن أحياها } ، وكاب الفتن ، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما .
يقول ابن حجر :
قوله ( ذهبت لأنصر هذا الرجل ) : يعني علياً .
وكان الأحنف أراد أن يخرج بقومه إلى علي بن أبي طالب ليقاتل معه يوم الجمل ، فنهاه أبو بكرة ، فرجع وحمل أبو بكرة الحديث على عمومه في كل مسلمين التقيا بسيفيهما حسماً للمادة وإلا فالحق أنه محمول على ما إذا كان القتال منهما بغير تأويل سائغ .
ويقول : واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ، ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد ، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد ، بل ثبت
أنه يؤجر أجراً واحداً وأن المصيب يؤجر أجرين !
ويقول أيضاً :
ومن ثم كان الذين توقفوا عن القتال في الجمل وصفين أقل عدداً من الذين قاتلوا وكلهم متأول مأجور إن شاء الله [5] !!
أقول :
إذن المعركة التي دارت رحاها بين الإمام علي عليه السلام وبين عائشة يوم الجمل كانت بتأويل سائغ ! فما مصير القتلى من كلا الجانبين ؟! وهل كلهم في النار كما يتبين لنا من ذلك الحديث ؟ وما مصير المقتول المبشر بالجنة كطلحة بن عبيدالله التميمي الذي يعتبر من العشرة المبشرين بالجنة عند العامة ؟!
إعلم أخي الكريم بأن عدد قتلى معركة الجمل ما بين ثمانية عشر ألف إلى ثلاثين ألف قتيل ! فهل ذهبت دماء هؤلاء هدراً وكان ذلك بتأويل سائغ من قبل عائشة وطلحة ؟!
وطلحة هذا كان مبشراً بالجنة وقد قتل في هذه المعركة فما مصيره ؟!
هذا بالإضافة إلى مصير القاتل ؟!
فكيف نوفق بين ما جاء في الحديث وما نقرأه في كتب السيرة والتأريخ ؟
وهل لقاتل طلحـة أجران ؟! وذلك لأنه اجتهد فأصاب ! أم أن لطلحـة أجريـن ولقاتلـه واحد ؟! فما هذه الموازين المختلـة ؟ ثم من الذي يحق له
الاجتهاد ؟ وهل كل من هب ودب يجوز له أن يجتهد .
فعملية الاجتهاد في جميع الأمور سوف تخلق جواً من الفوضى بين الصحابة والمسلمين عموماً ، ولماذا دائماً يكون التأويل من خصوم الإمام عليه السلام ، ولماذا لم ينسبوا ذلك لأبي ذر مثلاً عندما خالف عثمان ؟! فسيَّرَه عثمان إلى الشام فخالف معاوية أيضاً ، فأرجعه إلى المدينة إلى أن أبعده عثمان إلى الربذة ، فمات غريباً وحيداً !
فالسؤال : لماذا لم يقولوا أن أباذر اجتهد وتأول في مخالفته مع السلطة فأخطأ أو فأصاب في ذلك ؟ لماذا لا نقرأ ذلك في بطون الكتب مثلما ذكرنا ؟!
أعود وأقول :
نعم ! إن العامة أولوا الحديث بهذه الكيفية وذلك لإخراج بعض الصحابة من وحل التاريخ .
يقول ابن حجر : واحتج ... من لم ير القتال في الفتنة ، أي أن الصحابة تسمي تلك المعركة بالفتنة ، لذا ترى سعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر وأمثال هؤلاء لم ينصروا الحق وكانوا ممن قعدوا عن القتال ، فالفتنة ليست معركة الجمل ومقاتلة عائشة الإمام عليه السلام فقط ، بل الأنكى من ذلك أن أبا بكرة بالإضافة إلى الأحنف لم يعرفوا الحق من الباطل ، فهذه الفتنة أعظم من تلك المعركة ، ومن جلس في داره كابن عمر وسعد فهؤلاء الصحابة الذين كانوا ملاصقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينصروا الحق واختلطت الأمور عليهم حتى أصبح الصحابي لا يعرف يمينه من شماله ، ألا يعتبر ذلك من
أعظم المحن والفتن ؟!
يقول الشعراوي في تفسيره : لا توجد معركة بين حقين ، أما الباطل فتوجد معركة بين باطل وباطل ، وبين حق وباطل ، لأنه لا يوجد إلا حق واحد ، أما الباطل فكثير ، والمعارك بين الحق والباطل تنتهي بهزيمة الباطل بسرعة [6] .
فاحكم بنفسك أيها العامي ، فالحق واحد والباطل كثير ، فعلي عليه السلام عند كافة المسلمين من أهل الجنة ، وطلحة والزبير من أهل الجنة عند العامة فقط ، فأين يكون الحق وأين يكون الباطل .
ويقول صاحب المستدرك :
... على مع القرآن والقرآن مع علي لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض .
ويقول أيضاً :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رحم الله علياً ، اللهم أدر الحق معه حيث دار [7] .
يقول الألباني : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب [8] تخرج فينبحها كلاب الحوأب ، يقتل عن يمينها وعن
يسارها قتلى كثير ثم تنجو بعدما كادت [9] .
ويقول الألباني : رجاله ثقات .
ويقول أيضاً : أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب [10] .
... أن عائشة لما أتت الحوأب سمعت نباح الكلاب فقالت : ما أظنني إلا راجعة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنـا ( فذكره ) ، فقال لها الزبير : ترجعين ! عسى الله عز وجل أن يصلح بك بين الناس .
يقول الألباني :
وجملة القول أن الحديث صحيح الإسناد ولا إشكال في متنه !
ويقول : ولا نشك أن خروج أم المؤمنين كان خطأ من أصله ، فلذلك همَّت بالرجـوع حين علمت بتحقُّـق نبـوءة النبي صلى الله عليه وسلم عند الحوأب ، ولكن الزبير ... أقنعها بترك الرجوع بقوله عسى الله أن يصلح بك بين الناس ، ولا نشك أنه كان مخطئاً في ذلك أيضاً .
والعقل يقطع بأنه لا مناص من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ! ولا شك أن عائشة ... هي المخطئة لأسباب كثيرة وأدلة واضحة ومنها ندمها على خروجها ... [11] .
ويقول أيضاً : قالت عائشة لابن عمر : يا أبا عبدالرحمن ما منعك أن تنهاني عن مسيري ؟ قال : رأيت رجـلاً غلب عليك – يعني ابن الزبير – فقالت : أما والله لو نهيتني ما خرجت [12] .
لاحظ أن عائشة تؤنب ابن عمر في حين أن الله تعالى أمرها أن تقـر في بيتها ، هذا بالإضافة إلى أن النبي الأكرم قد حذرها من ذلك أيضاً ! فرواية كلاب الحوأب ما هي إلا ناقوس خطر أراد
رسولنا الأكرم بذلك أن يحذرها والصحابة من هذا اليوم ويذكرهم أيضاً بأن الصحبة لا تكفي إذا انقلبوا على أعقابهم القهقرى .
باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر
5- ... قال ابراهيم التيمي : ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذِّباً .
وقال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل ، ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق ، وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى : { ولم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون } .
يقول ابن حجر في شرحه للحديث :
إن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان .
أقول :
نعم .. إن المؤمنين متفاوتون في درجات الإيمان ، فمنهم من وصل إلى درجة اليقين ، ومنهم من وصل إلى درجة عين اليقين ، ومنهم ومنهم ... ولكن الحديث يدور حول النفاق والمنافقين ، والمؤمنون خارجون عن هذه الدائرة ، فالحديث واضح وجلي بأن هؤلاء الثلاثين صاحبياً كانوا يخافون النفاق على أنفسهم .
إذن ، لابد أن في الصحابة من كان منافقاً حتى خاف هؤلاء أن يصل إلى درجتهم الدنيئة ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ليس كل الصحابة عدولاً ، والشاهد على ذلك ما تقوله العامة بتعريف الصحابي .
يقول ابن الأثير الجزري في أسد الغابة في معرفة الصحابة :
والأصح ما قيل في تعريف الصحابي أنه من لقي النبي صلى الله عليه وسلم في حياته مسلماً ومات على إسلامه [13] .
إذن ، فعبدالله بن أبي بن سلول هذا المنافق يُدرج مع الصحابة .
هذا المنافق الذي نزل في شأنه آيات تنهي النبي الأكرم من الصلاة عليه ، وهذا ينفي ما تدعيه العامة بأن الصحابة كلهم عدول ولا يجوز الطعن في أحد
منهم ، فالمنافق لا يكون عادلاً .
يقول ابن حجر في عدالة الصحابة ومرتبتهم :
للصحابة (رض) أجمعين خصيصة وهي أنه لا يُسأل عن عدالة أحد منهم ، وذلك أمر مُسلَّم به عند كافة العلماء لكونهم على الإطلاق معدَّلين بنصوص الشرع من الكتاب والسنة وإجماع من يُعتدُّ به في الإجماع من الأمة [14] .
أقول :
ألم يقل عمر ويعارض النبي الأكرم عندما أراد أن يصلي على ابن أبي بن سلول حين قال : أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين ؟ [15] .
لاحظ كلمة ( المنافقين ) ، وعبدالله بن أبي بن سلول صحابي وكذلك خيانة حاطب بن أبي بلتعة وبعد وصول الخبر إلى النبي الأكرم بأن حاطباً هذا قد أخبر المشركين بتجهيز النبي الأكرم إليهم ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق ! وحاطب هذا بدري ، فهل يا ترى أن عمر قد كفر بعد قوله لهذا الصحابي ونعته بالمنافق ؟!
راجع ذلك إن شئت في البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الفتح .
وكذلك أيضاً علم حذيفة بن اليمان بأسماء اثنا عشر منافقاً وقد سمي حذيفة بصاحب سر رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ، والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة لا يسعنا إيرادها خوف الإطالة .
الخلاصة :
إن العامة لا تلتزم بعصمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعتقد بإمكان صدور الخطأ والزلل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، في حين أنهم لا يقبلون من أحد أن يطعن في الصحابة وينكرون ذلك عليه ، وبهذا فقد نسبوا العصمة للصحابة من حيث لا يشعرون ، هذا بالإضافة إلى أنهم يحاولون إيجاد العذر لما صدر منهم من أخطاء وزلات وجرائم ، كقولهم : إذا أصاب الصحابي فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ، أي أنه مجتهد ، فإن أصاب أو فأخطأ فهو مأجور في كلا الحالتين !!
وهذا يفتح الباب على مصراعيه لمن يريد الكيد بالإسلام والمسلمين ، والتأريخ يشهد بصحة ذلك ، فمعركة الجمل راح ضحيتها على أقل التقادير كما في كتب المغازي والتأريخ ثمانية عشر الف قتيل من كلا الجانبين من جيش الإمام عليه السلام خمسة آلاف قتيل ومن جيش عائشة ثلاثة عشر ألف قتيل ، كل هذه الدماء سفكت باجتهاد من عائشة وطلحة .
(97) ج1 ، ص246 ، ترجمة 77 ، ط دار الفكر ، بيروت .
(98) ج6 ، ص84 ، ترجمة 3119 ، دار الكتاب العربي ، بيروت .
(99) فتح الباري ، ج12 ، ص480 ، حديث 7009 ، كتاب التعبير ، باب جر القميص في المنام .
(100) منهاج السنة النبوية ، ج4 ، ص161 ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت .
(101) فتح الباري ، ج13 ، ص42-43 ، حديث 7083 ، كتاب الفتن ، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما .
(102) لمحمد متولي الشعراوي ، ج8 ، ص654 ، ط1412هـ ، أخبار اليوم .
(103) ج3 ، ص124 ، ذكر إسلام أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه ، ط مكتبة المطبوعات الإسلامية ، بيروت .
(104) الأدبب : أي الأدب ، وهو الجمل الكثير وبر الوجه .
(105) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ج1 ، القسم 2 ، ص853 ، حديث 474 ، ط 1415هـ ، مكتبة المعارف ، الرياض .
(106) الحوأب : ماء قريب من البصرة على طريق مكة .
(107) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ج1 ، القسم 2 ، ص846-854 ، حديث 474 .
(108) نفس المصدر السابق ، ص854 .
(109) أسد الغابة للجزري ، ج1 ، ص10 ، الصحابي عند علماء الحديث ، ط دار الكتب العلمية ، بيروت .
(110) الإصابة في تمييز الصحابة ، ج1 ، ص17 ، مقدمة التحقيق .