إن مَثَل من يريد فتح ميادين العبودية للحق ، كمَثَل من يريد أن يقتحم صفّـاً متراصاً من الشياطين يرونه ولا يراهم ..فالحل الوحيد في هذا الموقف الرهيب هو أن ( يُشهر ) سلاحه ، بما يفهم منه أنه صادق في المواجهة ، ثم ( يقتحم ) الميدان عاملاً بقاعدة: { إذ هبت أمراً فقع فيه ، فإن شدة توقّـيه شر مما أنت فيه }..ثم ( ينتظر ) بعد ذلك كله جنود الملائكة المسومين ، تحيط به من كل حدب وصوب ، وكيف تستطيع الشياطين صبراً ، أمام جنود الرحمن الموكّلة بالنصر والفتح ؟!..والمهم في هذا النصر ، هي مواصلة السير بعد اقتحام السد ، وإلا فإن التباطؤ والركون إلى النصر الأول ، مما قد يوجب اجتماع فلول الشياطين المنهزمة لاستدراك الهزيمة ، كما حصل في هزيمة أُحد بعد فتح بدر .
اعلم أن السالك سبيل الله ، والمتوجّه لما عند الله يجب عليه أمور حتى لا ينقطع عليه الطريق ، فإنّ أدلاّء هذا الطريق وهم أهل البيت عليهم السلام قد أرشدوا إلى أمور من عرفها سهل عليه ، وإلا انقطع به الطريق ، ورجع إلى خلفٍ رجوع القهقرى.
الاول : أن يعرف أن الخير كله عند الله ، فلا يلتمس الخير إلا عنده ، ولا يطلب من سواه.
فإذا عاشرت الخلق وباشرتهم فليكن ذلك طلبا لما عند الله، وابتغاء لرضا الله ، بأن يكون همّك الإحسان إليهم ، وإدخال النفع عليهم ، فإنّ الخلـق عيـال الله ، وأحب الخلق إلى الله من أدخل النفع على عيــال الله . [ الكافي : 2/131 ] .. كما في أخبار أهل البيت(ع).
إنّ هذا المعنى قد يغيب عن قلوب الكثيرين حتى من الخواص .. فإنهم عند الإحسان إلى الخلق يعيشون حالة لا شعورية من المنّة على من أحسنوا إليه ، ويبدو ذلك من خلال فلتات ألسنتهم ولحظات عيونهم .. فهذا المعنى الذي ذكره المؤلف من مقتضيات المعرفة العميقة بحقّ الله تعالى وبحقّ من أمر الله تعالى بصلتهم .. كما أنها من مقتضيات الرقابة الدقيقة ، لما يدور في خبايا النفوس ، فإنّ القلب لا يصير محطةً لأنوار الملكوت إلا إذا تخلى حتى عن هذه الشوائب الخفيّة ، التي هي بمثابة السيئات عند المقربين وإن كانت تبدو بصورة الحسنات عند الأبرار .
فإذا أردت المرتبة العليا بأن تكون أحب الخلق إلى الله على ما اقتضاه الحديث الشريف ، فاتقن هذه المقدمة أولا ً، وهي أن تعلم بأن انتفاعك منهم بهذا الطريق أعظم من نفعك لهم ، حيث أنك بسببهم توصلّت إلى أن تكون أحب الخلق إلى الله ، فلا تطلب منهم نفعاً غير هذ ا، واقطع النظر عن كل ما سواه .. فما وراء عبادان قرية.
فإذا كان أصل معاشرتك لأجل أن تنفعهم ، ويصل منك الإحسان إليهم فوطّن نفسك أولاً على تحمل الإساءة منهم ، وعدم مكافأتهم بها ، وهذا أول إحسان منك إليهم.
ثم إذا وطّنت نفسك على أن لا تكافئ المسيء بإساءته فلا تقنع بذلك ، فإنك تريد الاقتداء بأهل بيت سجيتهم الإحسان إلى من أساء إليهم ، والعفو عمن ظلمهم ، والوصل مع من قطعهم ، والإعطاء لمن حرمهم
فلا بدّ لك من توطين نفسك على أن تتمنى أن يسيء إليك أحد ثم تحسن إليه ، حتى تتوصل بسببه إلى تحصيل فضيلة الإحسان إلى من أساء إليك ، فتُحصّل التأسي بالنبي (ص) وأهل بيته (ع) حيث إن سجيتهم ذلك ، وقد قال مولانا أمير المؤمنين (ع): إن أحب الخلق إلى الله المتأسي بنبيه . نهج البلاغة : الخطبة 160..
فتحصل بإساءته إليك ومقابلتك له بالإحسان على هذا المقام العالي أولا ً، ثم أنك مع فقرك ولؤمك وحاجتك ، إذا كافأت المسيء بالإحسان فالله سبحانه وتعالى بكرمه وغناه أولى على أن يكافئك على الأعمال السيئة بالإحسان ، فتحصل لك الحجة على إكرامه بذلك ثانياً.
بل هو سبحانه إنما أمرك بالإحسان إلى من أساء إليك ، لينبّهك على أنك فعلت ذلك فأنا أولى بذلك منك ، وأنت أحوج إلى إجراء المعاملة هذه معك ، فأمرك بأن تجري هذه المعاملة.
ونفع هذه المعاملة العائد لك أعظم من النفع الذي أمرتك بأن توصله إلى من أحسنت المعاملة معه ، فلو أنك نظرت بعين البصيرة لرأيت إساءته إليك ، حيث أوصلك إلى هذه المقامات إحساناً يستحق الشكر عليه ، فضلاً عن المجازاة له بالإساءة.
(( 127))
إن أول درس في الخلق، بعد درس الطاعة والمعصية، هو درس (التوبة) والإنابة.. فكما أن القرآن الكريم يعرض صورة المعصية الأولى وهي معصية الشيطان، ومن ثم معصية آدم التي لا تتنافى مع عصمته، فكذلك يعرض صورة التوبة الأولى، وهو عفوه عن آدم بعد تلقّيه الكلمات من عنده.. ومن ذلك يُـعلم أن الحق إذا أراد أن يتوب على عبده (هيّـأ) له الأسباب، كما تلقى آدم من ربه الكلمات التي أعانته على التوبة، فالدعوة إلى التوبة والرجوع السريع إلى الحق المتعال، قارنت شروع المسيرة البشرية على وجه الأرض، ولا غنى عن ذلك مع (اختلاف) رتب الخلق.. وقد روي أنه بعدما لُـعن إبليس، وطلب الإمهال إلى قيام الساعة، قال إبليس: وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح.. فقال تعالى: (وعزتي وجلالي، لا مَـنعته التوبة ما دام فيه الروح).
إنّ هذا القول من آثار تبدل نظرة السالك إلى الوجود وحركة الحياة ، ومن هنا كانت المعرفة والبصيرة المقدمة الأولى للسير نحو الكمال .. فانظر كيف أنّ السالك يحوّل الخصومة التي تحمل في طيّاتها الكثير من الظلمة والظلامة إلى أداة للتقرب إلى المولى الحق ، فيثبت العبد فيها أنه عبدٌ لمولاه في كل حركاته وسكناته ، وخاصةً عند إثارة دواعي الغضب أو الشهوة فإنهما من مزال أقدام العوام والخواص ، ولطالما كانا من موجبات الإبتلاء الدائم ، إما بالجحيم أو بنار البعد عن الحقّ ، والذي لا تقلّ إحراقاً عن سابقتها عند من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
إن من مصادر المعرفة ( الوحي ) وهو كشف الحقيقة كشفا مباشرا مجاوزا للحس ومقصورا على من اختارته يد العناية الإلهية ..و( العقل ) وهو في اللغة الحَجْر والـنَّهْي ، وصار شبيها بعقال الناقة في أنه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل ، كما يمنع العقال الدابة من الشرود ..و( الإلهام ) وهو إلقاء الحق في نفس الإنسان أمراً يبعثه على الفعل أو الترك ، بلا اكتسابٍ أو فكرٍ وهو وارد غيبـي ..و( الحس ) وهو إعمال أدوات المعرفة الطبيعية في كشف مجاهل عوالم المحسوسات المرئية وغير المرئية ..والمصادر الثلاثة الأخيرة للمعرفة ، متاحةٌ للجميع بشروطها المتناسبة مع كل واحدة منها .