الجغرافية كاذبة عندما نوقع عليها جامعة الملك فهد للبترول و المعادن ، على جبل صغير- في مدينة الظهران – تأوي مبانٍ صخرية اللون كمن تخشى شيئا ما في السماء ، بعض تلك المباني زاحفة لا تقوى على المشي فتراها متمددة بطولها على قمة الجبل ، و الأخرى واقفة تضحك على أخواتها ، هذه المباني اجتمعت ذات يوم و أطلقت على نفسها مسمى الجبل ، و لأنها تخشى الفتك .. لم تسمِ نفسها بأسماء تدل عليها ، بل أسقطت على نفسها أرقاما تعصمها من الاستهداف ، و عندما عجز شيخ المباني عن صعود الجبل نبذوه و استحقروه ، كانوا ينظرون إليه نظرة الدون و يطلقون عليه مسمى عربيا طويلا يختصره البعض إلى "الأوريا"..
القصص و الحكايا تتحدث عن أن هذا المبنى كان أول المباني وجودا ، و قد مرّ عليه أغلب الدارسين في الجامعة ، و لولا الاجتماع الغاشم لتلك المباني الرقمية لما أطلق عليه "مبنى السنة التحضيرية" ، فقد تُرك ذلك الشيخ الكبير لقمة سائغة لبني البشر ، و رضي أن يكون خادما لتلك المباني ، و كان يتمتم في بداية كل عام:
- سيد القوم خادمهم
و لا تكاد ينتهي العام الدراسي حتى يعلن أن هذا العام آخر أعوامه و أنه أوشك على الرحيل..
مبنى السنة التحضيرية يقع على بعد قرابة كيلو متر عن الجبل إلى الشرق ، و يحميه من شرقه شبك حديدي عن اختراقات الأعداء ، بينما إلى شماله تقبع بوابة الجامعة الرئيسة ، و جنوبه صحراء قاحلة طالما احتضنت أكثر السيارات الطلابية رفاهية ، و يفصل بينها وبين مطعم الجامعة شارع قصير فقط، و لم تكن تسميته بمبنى السنة التحضيرية عبثا ، فقد أخذ على عاتقه ترويض حركات الطلاب ونقلهم نقلة نوعية من محيط الدراسة الثانوية إلى الحياة الأكاديمية ، حتى إذا صعدوا الجبل تنكروا لجميله و ما عادوا إليه إلا مجبرين...
تحول "حسن" - كزملائه التحضيريين - على مدى شهر منذ توجهه مع "مصطفى" إلى الجامعة تحولا جذريا ، فقد كان في اليوم الأول يقف إلى جانب الشجرة الأزلية في الطريق الذي يشق الوسادة من المنتصف ، يرتدي ثوبا أبيضا و عيناه حمراوتان كأن لم يذق طعم النوم في الليلة البارحة ، عندما توقفت سيارة من نوع "تويوتا غراندي" بلون العنب و فتح "مصطفى" الباب و هو يهتف:
- هيا... بسرعة..
كان طابور السيارات خلف سيارة "مصطفى" يعلن التذمر عبر الأبواق ، لم يكد "حسن" يغلق الباب حتى أصدرت السيارة صوتا و خلفت أثر احتراق العجلات ، كان "حسن" يبحث في السيارة عن شيء غير مألوف ، "مصطفى" يلبس الجينز الأزرق و بلوزة بيضاء و قد سرح شعره تسريحة جديدة تناسب بشرته السمراء الداكنة ، كان يبتسم كلما التفت "حسن" باحثا في السيارة و هو يقول:
- أنا متأكد أن ثمة أمر مختلف في السيارة..
عندما وصل "مصطفى" شارع الملك عبد العزيز انعطف إلى اليسار ، باتجاه الدمام ثم لم يلبث أن انعطف يمينا عندما قرأ اللوحة المرشدة إلى الجش ، كان الطريق المؤذي إلى الجش طويلا جدا و لا يمكن لأكثر من سيارة المرور في آن واحد ، وبين الفينة و الأخرى يقف الطابور ، و يتذمر "مصطفى":
- يبدو أن علينا أن نخرج عند الخامسة لنتفادى هذا الزحام...
و بعد فترة من الصبر ، أصبح ينتظر خلو الطريق المقابل حتى ينزرق فيه بسرعة ثم يبحث عن فتحة بين السيارات المتراصة ليعود إلى مساره ، كانت مغامرة لا ينقصها الحظ وأصوات الأبواق بين الفينة و الأخرى ، عندما وصل إلى الطريق السريع و انعطف يسارا إلى الطريق القائدة للظهران أصبح يسابق السيارات ، و مرّ بمخرج سيهات ليهتف:
- هذا أول مخرج...
- مبروك على التظليل...
- أخيرا اكتشفت...
- الآن عرفت لماذا لم تفتح النافذة...
و ضحك "مصطفى" ، و لم يكد يتخطى أول مخرج للدمام حتى بدأت الفرام تعمل ، و جمد "حسن" في كرسيه ، فابتسم له "مصطفى"...
- لماذا أنتَ جامد؟
- لا... لستُ جامدا.. أفكر في الجامعة..
- لا عليك... مثلك لا يُخاف عليه...
و اشتد الزحام و بدأت السيارات تتراصص ، أصبحت السرعة القصوى تتراوح بين الثمانين و المائة كيلومتر في الساعة ، لم يتخطَ "مصطفى" مخرج الدمام الثاني حتى لحق بركب الطابور الذي يمشي على يسار الخط الأصفر ، و ازداد "حسن" جمودا ، ولم يكد "مصطفى" يتسارع ليصل لمائة و عشرين كيلومترا في الساعة حتى فرمل الذي أمامه و ضغط على المكابح بقوة ، بينما تشهد "حسن" بصوت عالي ، ثم توقفت السيارات توقفا شبه تام ، كان العرق يتصبب من "مصطفى" و أوصاله ترتعد ، هتف "حسن":
- لماذا العجلة؟ تكاد تخطف أرواحنا...
- لم يحدث شيء..
- أتنتظر حتى يحدث؟
- ...
- لن أركب معك إذا لم تغير طريقة قيادتك...-
هههه
بعد ربع ساعة من الدبيب مرّا بحادث شمل أربع سيارات و بينما "حسن" يهتف:
- يا دافع البلا يا الله..
كان مصطفى يتأسف لصاحب السيارة الغراندي المصدومة:
- مسكين... تبدو نظيفة... الله يعوض عليه... لا يستحق...
عندما وصلا إلى مخرج "ميناء الملك عبدالعزيز ، انعطفا معه ثم لم يلبثا أن دخلا في مخرج آخر يصحح مسارهما ، ليجد "مصطفى" فسحة من الطريق يمارس لعبة السرعة فيها و لم يكد صوت الجرس يدق منبها بالسرعة حتى صرخ "حسن":
- هذه آخر مرة أركب معك فيها...
هدأ "مصطفى" سرعة سيارته و اعتذر ، كانا قد وصلا مخرج البوابة الرئيسة و لم تمضِ دقيقة أخرى حتى وصلا إلى مبنى السنة التحضيرية ، و ترجل "حسن" و هو يتنفس الصعداء...
دخلا بوفيه السنة التحضيرية فوجدا ورقة معلقة بأرقام الطلاب و موقع استلام الجداول مع وقت الاستلام ، بحث "مصطفى" في الورقة ثم هتف:
- أنا جدولي في غرفة 103 بعد عشر دقائق..
بينما أخرج "حسن" بطاقته الجامعية ليقارن بين الأرقام فخطفها "مصطفى":
- أنت في غرفة 110 و كذلك بعد عشر دقائق...
- أين غرفة 110؟
رفعا رأسيهما ، لم يكن في البوفيه سوى بعض الطلاب الذين يبدو عليهم أنهم من خارج القطيف ، جميعهم يرتدون الثياب البيضاء و الشمغ الحمراء و بعضهم يرتدون العقال بينما البعض الآخر يمسك في يده سواك ، ذهب "مصطفى" للبائع في البوفيه يسأله:
- أين نستلم الجداول؟
- في الفصول الدراسية..
- أين الفصول الدراسية؟
- اخرج من هذا الباب ، ستجد مصعدا أمامك لكن لا تطلبه بل أخرج من الباب الذي على يمينك ، ستجد مبنى أمامك ، هناك ستجد الفصول الدراسية...
- رحم الله والديك..
[color="navy"]- و والديك... من أين الأخ؟[/COLOR
]- من القطيف.. و أنت؟
- من سيهات
- تشرفنا...
- أهلا و مرحبا..
خرج "مصطفى" يتبعه "حسن" إلى حيث أرشدهما البائع ، و هناك توقفا بين مبنيين ، رغم أن البائع قد وصف المبنى بوضوح إلا أنه لا يعلم أنه يوجد مبنى آخر لمادة الاستماع ، فوقفا حائرين ثم وجدا أكثر من طالب يدخل المبنى الكبير فدخلاه ، لم يبق أكثر من ثلاث دقائق على تسليم الجداول ، و بقي عليهما معرفة أين فصولهما ، وجد "حسن" فصله بسرعة إذ كان الفصل رقم 110 على يمين المدخل تماما ، ثم أصبح الرقم يتزايد فعاد "مصطفى" أدراجه يبحث عن فصله حتى وجده قريبا من الباب المؤذي للشارع المسمى بالحزام...
تتكون مباني السنة التحضيرية من مبنى الإدارة حيث البوفيه في الطابق الأول و مكاتب المدرسين في الطابق الثاني و الثالث و مكتب العميد في الطابق الثالث و قاعة المذاكرة و المصلى في الطابق الرابع ، و مبنى الفصول الدراسية كما وصفها البائع ، تقع إلى الشمال من مبنى الإدارة ، و يحدها من الجنوب مواقف المدرسين و من الشمال الصحراء التي يقف فيها الطلاب و إلى غربها الحزام ثم بقعة جرذاء و إلى شرقها مبنى الورش حيث تخصص ساعتين في الأسبوع لكل طالب كي يتعلم بدائيات حرفة ، و أمام المبنى الرئيس للفصول يربض كالكلب مبنى المختبرات السمعية أو مبنى مادة الاستماع ، أما إلى شرق مبنى الإدارة فتقع عدة مباني مؤقتة "بورتبلات" آخرها قبل السور مبنى الكمبيوترات أما إلى جنوب مبنى الإدارة فتقع مواقف مدرسين و موظفين بينما جنوب المباني المؤقتة يتقسم الطلاب تلك المواقف مع المدرسين و هناك أوقف "مصطفى" سيارته
بعد أن استلم "حسن" جدوله انضم إلى طابور طويل يقود إلى مكتب توزيع الكتب الدراسية عبر قاعة المحاضرات الكبيرة ، كان عليه أن يسلك درب الأفعى كي يصل بعد ربع ساعة إلى المرشدين الذين يقدمون التقويم الدراسي و مفكرة بها أرقام مهمة و بعض الإرشادات ، ثم وقف أمام موزع الكتب الذي يتأكد من عدد الكتب فيسلمها لـ "حسن" ويختم جدوله ، و انتهي "حسن" عند آخر المطاف بشخص آخر يتأكد من تطابق الكتب مع الجدول ، خرج "حسن" من الباب ليجد نفسه أمام البوفيه ، كان "مصطفى" يجلس أمام طاولة يقلب الكتب الإنجليزية باهتمام عندما وضع "حسن" رزمة الكتب على الطاولة و هو يهتف:
- هل سنحمل هذا الكتاب الأزرق الثقيل كل يوم؟
- ربما...
ثم أردف "مصطفى":
- لقد جعت... أتريد شيئا من البوفيه...
- سأذهب معك..
- و الكتب؟؟
- ماذا يبيعون؟
- سأجلب لك فطيرة جبن من مخابز العيد وعصير..
- O.K
أمسك "حسن" جدوله يحاول أن يفك طلاسمه ، و انضم له "مصطفى" بعد أن جلب الفطائر و العصير ، لكن محاولاتهما باءت بالفشل ، فرفع "مصطفى" رأسه بحثا عن شخص يساعده ، كان البوفيه يعكس حالة اللا تجانس بين المجتمع السعودي ، طاولة تحلق حولها مجموعة ترتدي الثياب البيضاء و تسدل الشمغ الحمراء بينما أغلبهم يطلقون اللحية ، طاولة أخرى يجلس عليها شباب يرتدون ثيابا غربية في أحسن هندام و بأيديهم جوالات مستعدة لإطلاق الموسيقى في أقرب لحظة ، و طاولة اختلط فيها الثوب الأبيض الحاسر و البنطلون الفضفاض مع القميص مع الجينز و "البلوزة" ، اللهجة القطيفية تشجع "مصطفى" على التحدث إليهم ، نهض من مكانه و لم يكد يصل حتى صافحهم جميعا و هو يهتف :
- من أي القرى أنتم؟
- أنا "صالح" من القديح... و أنا "سعيد" من القديح أيضا... و أنا "محمد" من العوامية و أنا "حيدر" من العوامية ... أنا من التوبي و اسمي "سيد هاشم"...
[color="navy"]- تشرفنا... أنا "مصطفى" من الوسادة..[/COLOR
]- أهلا بك..
- هل فككتم طلاسم الجدول ياشباب؟
سأل "حيدر" بابتسامة:
- أين جدولك؟
سلم "مصطفى" جدوله لـ "حيدر" الذي لم يلبث أن هتف:
- جدولك ممتاز... فترة صباحية و الرياضيات بين الحصص... لكن عندك الرياضة يومي السبت و الإثنين تنتهي عند الخامسة... الله يعينك... الورشة يوم الأحد بين الحصص كذلك... أنت أفضل جدول حتى الآن..
- لكن كيف عرفت ذلك؟
أمسك "حيدر" الجدول و بدأ يشرح لـ "مصطفى" كيف يقرأ الجدول و معنى الرموز و أرقام الفصول ، فشكره "مصطفى" وعاد ليطبق ما تعلمه على جدول "حسن"...
كان الاختلاف بين جدول "مصطفى" و "حسن" في وقت الورشة و الرياضة ، فرياضة حسن يومي الإثنين و الأربعاء بين حصص اللغة الإنجليزية ومادة الورشة يوم السبت بعد حصص اللغة ، أي أن عليه قضاء يوم الإثنين فقط منتظرا انتهاء "مصطفى" من حصة الرياضة...
كلما تقدمت الأيام في السنة التحضيرية كلما طرأ تغييرا في بعض الأمور ، فالمجتمع الذي أتى فرادى أو جماعات صغيرة أصبح تكتلات وفقا للمدينة ، و الشباب المرح الذي جاء بنشوة الثانوي بدأ يركد و يسأم من طول اليوم الدراسي ، الأشكال بدورها قد تصرفت جذريا مع أول مكافأة طلابية ، و هذا ما حدث لـ"حسن" ، لم يكن "حسن" يتحدث مع أحد سوى "مصطفى" أو يرد على التحايا دون التعمق ، يجلس متى استطاع وحيدا كأنه يخشى التعرف على الآخرين ، و يبقى صامتا عندما يضطر للجلوس مع مجموعة من الشباب ، أما ثيابه فقد تغيرت بعد أول مكافأة وكذلك قصة شعره التي أعطته مظهرا جذابا...
كان أول أسبوع يرتدي فيه ملابسه الجديدة حافلا بتعليقات "مصطفى" الاستفزازية ، وكان يجيبها بابتسامة أو صمت ، كان آخرها يوم الأربعاء في طريق العودة ، كان "مصطفى" يسأله:
- ماذا مكتوب في الصحيفة؟
- أي صحيفة؟
- الصحيفة التي تلبسها...
- ...
في منتصف الطريق سأل "حسن":
- أين كتابك الرياضيات؟
- أتوقع أنه في المقعد الخلفي... لا... لقد نسيته على الطاولة...
لم تمضِ دقيقة حتى خالف "مصطفى" معاهدته بعدم تجاوز السرعة ، و بدأ يسابق السيارات و ينتقل من مسار إلى مسار ، و "حسن" جامد في مقعده يقرأ الفاتحة و يهلل ويكبر ، و كلما ضغط "مصطفى" مكابحه صرخ "حسن":
- بسم الله الرحمن الرحيم...
فصرخ "مصطفى" في وجهه..
- اصمت... سوف تصل سالما...
وبقي "حسن" صامتا حتى وصل المنزل و هو لا يصدق....
يقف إلى جانب الشجرة الأزلية ، يلبس نفس الثوب الذي ارتداه أول يوم في الجامعة ، ينتظر "مصطفى" لكنه ينتظره هذه المرة و هو يستمع إلى التلاوة ، و صوت الناعي بين الفينة و الأخرى يهتف من مسجد الإمام المهدي "عج":
- من أراد الأجر و الثواب فاليحضر لتشييع المرحوم الشاب...
يغيب ذهنه عندما يسمع اسم "مصطفى" ، يمر طيفه أمام "حسن" ، الفتى الأسمر الذي لا يكاد يعرف سواه في الجامعة ، التويوتا التي نذر لها نصف مكافأته ، السرعة و الهدوء ، ماذا مكتوب في الصحيفة؟ أين كتابك الرياضيات؟
- تركته على الطاولة...
أبناء "الوسادة" يلبسون البياض و يستندون إلى الجدار ، يقف "حسن" إلى جانب الشجرة الأزلية ، ينتظر قدوم "مصطفى" في سيارة مظللة كما يحب "مصطفى" لكنها بيضاء هذه المرة ، و سيفتح الباب لكنه لن يهتف "بسرعة" هذه المرة ، سينزله رجلان يلبسان البياض و سيتدافع الشباب لحمله على الأعناق ، ينتظر "حسن" تحت الشجرة الأزلية ، و تمر سيارة الأسعاف ليقف خلفها طابور من السيارات التي لا تتذمر هذه المرة بل تتحرك شفاه أصحابها في تلاوة لسورة الفاتحة....
لا يختلف توزيع الجداول في الجبل كثيرا ، أرقام معلقة حسب الدفعة على أبواب مبنى الكيمياء أو كما هو مسجل في السجل الأكاديمي "مبنى أربعة" تبين موقع و وقت استلام الجدول لكل طالب ، لكن نظام الجدول في الجبل يختلف اختلافا جذريا عن السنة التحضيرية ، فكل طالب ينظم جدوله كما يتوافق مع طريقته الخاصة إن كان ثمة متسع ، فلا تكاد الساعة الثانية عشر ظهرا من يوم الأربعاء تأتي حتى يقل عدد الطلاب في الجبل تسعين بالمائة...
كان "عبد الله" يدرس في المرحلة الثالثة من مراحل الجبل ، هذه المرحلة التي يصعب بعدها التحول عن التخصص إلى درجة المستحيل ، كان قد سلك طريقه في دراسة الهندسة الكهربائية التطبيقية و وضع جدوله على أن ينتهي عند الثانية ظهرا كل يوم عدا الثلاثاء حيث يقضي ثلاث ساعات في المعمل ، انتهى "عبد الله" من مادة التحكم ثم انطلق بحذر إلى القطيف ، لم تتجاوز سرعته الثمانين امتثالا لحكم المطر الذي أرهب حركة السير بين كر و فر ، قطع الطريق الذي يستغرق خمس و أربعون دقيقة في ساعة و نصف توقف خلالها عدة مرات...
عندما دخل "عبد الله" المنزل كان صوت الموسيقى يهز الأركان ، هتف بحنك:
- أماه...
ثم تتبع الصوت الذي أثار حفيظته ، كان الصوت ينبعث من غرفة أخته "عبير" ، وقف أمام الباب ليوسعه طرقا ، لم يتمالك أعصابه ففتح الباب و وقف مصالبا يديه...
الأغنية الصاخبة تصم أذن "عبير" وهي تمارس رياضة الرقص المفضلة لذيها ، تراقب حركاتها في المرآة المثبتة أمامها ، تبدو راقصة حقيقية ، تغرق في أحلامها ...
" آه... كم أنا رائعة ، أبدو كراقصة بارعة ، لولا قيود هذا المجتمع التافه لأصبحت المفضلة في الساحة الغنائية ، لن أرقص الرقص العربي ، الرقص العربي سيبقى متخلفا كالناطقين به ، أتمنى أن أرقص على أنغام تبعث في نفسي الحرية ، أن أشعر بأنوثتي ... آه لو يصبح اسمي آنا و أختفي من العالم العربي ، أن أصبح نجمة بوب مشهورة ، ليت حلمي يتحقق"
انتبهت على جسد أخيها "عبد الله" المتصلب أمامها ، نزعت سماعة الأذن عن رأسها ، تأملته بغيض ، كان الشرر يتطاير من عينيه ، لم ينبس ببنت شفه ، عاجلته بطريقة متعجرفة :
- خيراً... ألا توجد خصوصيات في المنزل؟... أم أن الجامعة الراقية لم تعلمك أساليب الأدب؟... لماذا لم تطرق الباب؟
- إن كان تضعين لنفسكِ احتراما فالأولى أن تصمتي... كاد الباب أن ينكسر من شديد الطرق لكن العبث الذي في أذنيكِ يصمهما... كأنكِ في مرقص...
- احترم حالك... يبدو أنك أصبحت رجلا... هذه الرجولة لا تحكمني... ستحكم بها تعيسة الحظ في المستقبل...
- أنت الكلام معكِ ضائع...
رفع يده ليضربها ، قاومته فخففت الضربة ، خرجت من الغرفة تستغيث بأمها ، تبعها للصالون ، احتمت خلف أمها و هي تبكي ، الاحترام يلزمه الصمت ، كان صدره يعلو و يهبط من الغضب ، صاحت به أمه :
- نعم؟ ماذا هناك؟
سبقته "عبير" بالشكوى:
- لم أره إلا و قد دخل الغرفة ثائرا... كاد أن يقتلع الباب...
- لقد طرقت الباب حتى تعبت... لكنها كانت مندمجة مع قمة الانحطاط...
- هذه حرية شخصية... إذا أصبحت والدي أو أمي عندها تكلم...
تدخلت الأم:
- دائما أخبرك بأنك لست مسؤولا إلا عن نفسك... أختك مسؤوليتي أنا فقط... هذه شخصيتها و هي حرة في ذلك... إذا لم يعجبك الرقص... فلا ترقص... لن تجبرك على الرقص...
- لكن...
- لكن ماذا؟... انتهى الأمر... ثم إذا طرقت الباب ولم يفتح لك فارجع... أم لم يعلمك الشيخ أن هذا من الأدب؟
- ...
بحث "عبد الله" في جيوبه بعصبية ثم فرّ من المنزل ، و ضاعت مناشدات أمه في الهواء ، كان الخوف يتسلل إلى قلب الأم بصمت ، بدد هواجسها صوت السيارة و هي تبتعد عن الفيلا...
الله" تتأسف على ابنها الشاب ، جلست على الأريكة و علامات الأسى تغتال الهدوء في وجهها ، كانت "عبير" قد سبقتها للجلوس ، ساهمة الفكر تمضغ العلكة ، يبدو أنهما يفكران في قضية ما ، كسرت "عبير" برهة من الصمت عندما قالت:
- ابنكِ هذا رجعي... هذه الحقيقة..
- لا تفتحي الجرح يا "عبير"... إن أمره يؤرقني كل ليلة... أفكاره كأنه ابن خمسين سنة... ما كأنه ابن العشرين..
صمتت "عبير" ثم أردفت بتردد:
- أقترح... أن ترسلوه للدراسة في الخارج... لن يتقدم مادام يعيش في هذه البيئة المنغلقة...
- أتمنى أن يوافق... كم حدثته في الأمر لكنه يرفض الفكرة من أساسها...
- لا عجب في ذلك... عقله المنغلق يمنعه من السفر للخارج... لا يقبل أن أمارس حريتي في المنزل.. ماذا تتوقعين منه؟ أظنه سيطالبك بتحجب الأمريكيات جميعهن كي يدرس هناك..
- كم أنا خائفة عليه...
- أشعر أنه مسكين... أشك أن أحدا ما قد عبث بفكره...
- ...
نهضت "عبير" تخفي سعادة الانتصار و هي تقول:
- أنا عائدة إلى غرفتي... أريد أن أستمع للموسيقى قبل أن يأتي المفتي... أتأمريني بشيء؟
- اجلبي الصحيفة في طريقك...
************
في سيارة تويوتا كامري بيضاء كان يجلس فتى فاتح البشرة ، حسن الوجه ، تزين وجهه لحية خفيفة منسقة ،يكاد أن يتفجر من الغيض ،و كانت تسير الهوينة جائبة طرق القطيف كأنها تستمتع ببقع الماء التي خلفها المطر ، كان ذلك الفتى "عبد الله" يتنقل بين القرى ، يمرّ على بيوت الكثير من أصحابه و معارفه ، لا يريد إقحام أحد في معاناته ، لم يكف عن الغرق في بحر التفكير :
" كيف يمكن لأمي و أختي أن يتحللا بهذه الدرجة ، لم يبق من فساد البنت شيء ، لم يبق إلا أن تدخل البيت بصحبة أصدقائه و تقيم حفلة طرب يحضرها الجنسان ، أعوذ بالله... لماذا أمي تقف إلى جانبها ؟؟ أحقا هما على حق؟؟ أي رياضة هذه ؟؟ لماذا المجون و الرقص يلحق بالرياضة؟؟ أستغفر الله... "
كان الغضب يتدرج في الهبوط ، بدأ يعود لهدوئه الطبيعي ، كان قد وصل حي "الوسادة" بعد مغيب الشمس، السيارات شبه متوقفة ، ثمة شيء في الطريق ، فتح النافذة و إذا صوت الناعي يهلل الله و يذكر الموت ، ركن سيارته إلى جانب الطريق ، كان الجمع غفيرا جدا ، الشباب يسيرون منكسو الرؤوس ، أسرع للمشاركة في التشييع ، صفّ في أقرب مكان لحمل الجنازة ، أصوات تعتلي بين الفينة و الأخرى تسأل قراءة الفاتحة ، لهج لسانه يتلاوة أم الكتاب ، كان يتصفح بعض الوجوه فيراها مألوفة ، قد لا يعرفها شخصيا لكنه يراها دائما ، لامست يده النعش ، تمتم بخشوع :
- سلم الميت إلى رحمة الله ... سلم الميت إلى عفو الله... رحمك الله يا عبد الله
سمع التلقين بوجدانه ، يشعر أن كل ذرة بجسمه تهتز ، كله آذان صاغية ، المشاعر تختلج داخله ، يشعر برغبة في البكاء ، يردد بين الفقرة و الأخرى " لطفك يا رب... رحمتك الواسعة" ، الموت الشبح المخيف يراه أمامه ، أهيل التراب و أصوات البكاء تفتت الصخر ، صُب الماء على القبر ، تحلق المشيعون حول القبر جماعة بعد جماعة يقرأون الفاتحة و يترحمون على الميت ، وضع يده على تراب القبر الندي ، تلا السورة و انقلب عائدا إلى سيارته ، قريبا من المقبرة كان رجلا يقص على آخر خبر الميت :
- عمره 18 عام... أصله من باب الشمال.. ساكن في الوسادة... يدرس في البترول... الله يرحمه... المطر السبب... الحوادث اليوم لا تحصى...
كان هذا سبب شكه في معرفة تلك الوجوه المشيعة ، إذاً... هو زميل دراسة لم يلتق به سابقا ، رحمه الله ...
على مقربة من سوق الدجاج في منطقة البحر تقع فيلا متحيرة بين الحداثة و القدم ، تطل بوابتها على الجنوب حيث حديقة خضراء تمركز في وسطها أرجوحة ، و رغم أن منطقة البحر تتمتع بالحميمية بين بيوتها ، أبت تلك الفيلا إلا أن تجاور التراب من كل جانب عدا بوابتها ، كانت تلك الفيلا من أول البيوت إدخالا للتصميم الأمريكي في المنطقة ، يتألف الطابق العلوي من غرفة جلوس تنفتح على المطبخ و قاعة الطعام ذات الطاولة و الكراسي الأربعة ، أما الطابق العلوي فقد تألف من ثلاث غرف ، غرفة رئيسة و أخرتان متساويتان في الحجم ، تقطن الغرفة الكبرى "أم عبد الله" بينما تشغل "عبير" غرفة و يسكن "عبد الله" أخرى...
الغريب في هذه الفيلا أنّ دخول العاملة الأجنبية إليها أمرا محرما منذ أن تناقشت "أم عبد الله" مع المرحوم "أبو عبد الله" في شأن البيت و اتفقا أن أهم المبادئ أن لا يشاركهما المنزل غريب...
لم تكن "أم عبد الله" إمرأة تنتمي لجيلها ، فقد كانت إحدى عشر فتيات تمردن على الطوق و الحصار القائل بأن إكمال التعليم للمرأة خارج عن حدود الأدب ، بل لا تزال تفتخر بأنها من أوائل النساء اللاتي نلن الشهادة الثانوية من الدمام ، و لم تتزوج إلا بعد حصولها على البكالريوس ، كانت تؤمن أن الزواج لا يأتي إلا بعد الحب ، لكنها عندما تعدت الثالثة و العشروين و لم تلتقِ بمن تحب في ظل القيود الاجتماعية ، قبلت بـ "أبي عبد الله" الذي يكبرها بخمس عشرة سنة ، كان يعتبر تاجرا طموحا يمتلك بعض العقار و المحلات مع عمله في أرامكو السعودية ، لكنه رحل عن الدنيا ملقيا على كاهلها مسؤولية تربية "عبد الله" و "عبير" عندما كان "عبد الله" في الصف الثاني الابتدائي...
نشأت "عبير" ضمن إطار واسع من الحرية و اللامسؤولية ، كانت الفتاة التي لاتعرف معنى لكلمة خطأ أو ممنوع ، رغباتها موفرة دائما و حركاتها مقبولة ، لكن الفتاة التي تملك كل شيء تريده تملك كذلك قلبا مرهفا شاعريا ، كان القلم صديقها منذ أن أحبت مدرسة اللغة العربية في المتوسطة ثم استمر معها تكتب الخواطر الأدبية و تنشرها في بعض المجلات ، و تعشق الموسيقى بشتى أنواعها...
أما "عبد الله" فقد وجد في المسجد ما افتقده في المنزل ، لا يدع فرصة يتمكن فيها من صلاة الجماعة حتى كان في أوائل الداخلين للمسجد ، بدأ التردد على المسجد عندما كان في الصف الأول المتوسط ، يدخل مسجد الإمام علي عليه السلام الرحب الهادئ ، تطمئن نفسه و يشعر أنه في روضة روحانية تجذبه بقوة مغناطيسية لا تقاوم ، ثم انطلق يستعذب كل مسجد و يقتطف من كل الثمار الزاكية ، و لم يصل إلى الصف الأول ثانوي حتى ألف مسجد الإمام الخوئي في منطقة البستان ، كان المسجد الذي استحوذ على فكره و روحه بأنشطته و عذوبة الصلاة فيه ، و لم تعترض "أم عبد الله" في بادئ الأمر لإيمانها بالديموقراطية و الحرية الشخصية ، لكن "عبد الله" بدأ التمرد و المعارضة لكثير من الأمور التي تمارسها "عبير" لتبدأ الأم بالقلق من مصير هذا الابن الذي يعارض كثيرا و يصمت عندما تتكلم و لا يناقش أبدا...
عندما خرج "عبد الله" من المنزل كانت حركة لا سابق لها ، يبدو أنه على وشك الانفجار ، و عندما أمسكت "أم عبد الله" بالصحيفة لم تكد تكمل قراءة سطرين حتى بدت ابتسامته تلوح لها من بين السطور ، كأن الصورة تؤنبها لأنها تركته يخرج غضبانا ، أغلقت الصحيفة و صعدت إلى غرفتها تارة تقرعها ذهابا و عودة ، و أخرى تقف إلى جانب النافذة ، وبين الفينة و الأخرى تقرأ الوقت من ساعتها اليدوية ، تهبط إلى الطابق الأرضي ثم تعود إلى غرفتها ، بدأت الموسيقى المنبعثة بصخب من غرفة "عبير" تزعجها ، لم تتمالك أعصابها ، طرقت باب غرفة "عبير" ثم فتحته فتوقفت "عبير" عن الرقص مندهشة ، لم تكن أمارات وجه "أم عبد الله" تبشر بخير ، حملقت "عبير" في وجه أمها بخوف ، هتفت الأم:
- أنتِ السبب... إذا حصل مكروه لـ "عبد الله" أنتِ السبب...
- لماذا أنا السبب؟.. لم أفتح له الباب و لم أحثه على الخروج... لقد خرج بنفسه...
- حمقاء... أنا من ناصرتكِ أغبى منكِ... أضعت ولدي... من يدري ماذا حدث له... أنا السبب... أنتِ...
أحست "عبير" أن أمها بحاجة لكلمات تهدئها ، اقتربت منها و حظنتها وهي تهمس:
- أماه... لا تعي اليأس يتسرب إليكِ... أخي سليم معافى... ربما ذهب إلى أحد أصحابه..
- أتمنى أن يكون كذلك... لكن قلبي يخبرني بأن شيئا ما حدث له...
قطع رنين الهاتف حديثهما ، انطلقت "أم عبد الله" لترفع السماعة ، كان قلبها يسبق صوتها و هي تهتف:
- ألو..
- أهلا "أم عبد الله"... كيف الأحوال؟
- أهلا "أم محمود"... هل تعلمين شيئا عن "عبد الله" ؟
- لا... لماذا... خيرا إن شاء الله؟
- غضب من كلامي و خرج...
- لا تقلقي يا "أم عبد الله"... ما به إلا خيرا إن شاء الله...
- أتمنى ذلك يا "أم محمود"...
- لحظة... من فضلك يا "أم عبد الله"...
كانت البرهة التي طلبتها "أم محمود" قد أعادة المخاوف لقلب " أم عبد الله" ، أخذت تلهج بذكر الله و الدعاء بالحفظ ، قطعت "أم محمود" شرودها:
- ألم تعلمي بالخبر يا "أم عبد الله"؟
- ماذا هناك؟
- يقول "محمود" أن شاب من جامعة البترول قد توفي في حادث على طريق الظهران...
- ...
- "أم عبد الله".... "أم عبد الله"... ما بكِ يا" أم عبد الله"...
ألقت "أم عبد الله" السماعة على الأرض و أطلقت صرخة أرعبت قلب "عبير" و بدأت على إثرها "أم عبد الله" المناحة على ابنها...
- مات يا "عبير"... مات... الشباب مات... لم أفرح بهِ يا "عبير"... في جذوة شبابه... قتله الحديد يا "عبير"... يالله...
- لا...
انقلبت الفيلا إلى مأتم ، الصراخ من الأم و ابنتها ، الهستيرية تسيطر على تصرفاتهما ، كل واحدة تلوم نفسها ، بعد ساعة من الصراخ دق جرس الباب لتنظم "أم محمود" إلى "أم عبد الله" و"عبير"... كلما هدأت إحداهن أثارتها الأخرى ، و بعد ساعة أخرى دخل "عبد الله" الفيلا متعجبا من هذا الصراخ العجيب ، عندما فتح باب الصالة اختفى الصراخ و فغرت " أم عبد الله" فاهها ثم انخرطت عبير في حالة ضحك هستيرية....
الساعة السادسة صباحا ، المنبه يصرخ و يسكته "حسن" بلكمة لا إرادية ، يتقلب يمينا و شمالا ، التحف بغطائه ثم تكور و انقلب على بطنه كمن يحاول أن يمنع البرودة من التسلل إلى جسده ، قام "حسين" متثائبا و دخل الحمام و "حسن" يصارع لعله يحظى بغفوة مشبعة ، جاءت "أم حسن" تتثاءب لتقف على الباب وهي تعنفه :
- قم يا "حسن" ، يكاد البيت أن يهوي من صوت المنبه و أنت لا تزال نائم ، لم يبق سواك..
- أماه... دعيني أنام...
- قم لتبحث لك عن ابن الحلال الذي يوصلك الجامعة... قم يا "حسن"...
جملة "أم حسن" الأخيرة أيقضت داخله الهواجس و الحسابات التي أرقته أغلب ليلته تلك ، نهض كأنه قد رشح وجهه بالماء البارد فجأة ، ضم يديه إلى صدره ، مشى إلى الحمام ، وقف ينتظر عند الباب ، الدقائق تتسرب ، الصبر ينفذ بتصرم الوقت و بانتظار المجهول ، طرق الباب طرقا قويا متواصلا كادت له المثبَّتَات أن تجيب متهاوية ، لا صوت بشري يأتي من الداخل فيصبره ، و لا أحد يخرج من الباب فيريحه ، الصوت الوحيد الذي يخر في أذنه هو خرير الماء ينسكب على بدن أحدهم في الداخل ، أعاد الطرق فسكت الماء ، أراد أن يطرق مرة أخرى ففتح الباب و خرج "حسين" مئتزرا منشفة جسمه و البخار يخفي ملامح الحمام ، صرخ في وجه أخيه :
- أخرتنا... ألم تجد وقتا مناسبا للاستحمام سوى الصباح؟
حملق "حسين" في وجه أخيه برهة ثم مضى إلى الغرفة و أغلق بابها دون أن ينبس ببنت شفة ، فزجّ "حسن" نفسه في الحمام ثم لم يلبث أن خرج ليكرر الانتظار عند باب الغرفة ، عندما خرج "حسين" من الغرفة ودّ "حسن" لو يجمع كفه و يهوي على صفحة وجه أخيه ، لكنه دخل الغرفة و هو يشتم و يتوعد...
عند الساعة السابعة إلا ربع صباحا كان "حسن" يمشي باتجاه "طريق الملك عبد العزيز" لعله يجد من يقله إلى الجامعة ، السيارات تسير دون توقف ، يلحظ الوجوه الناعسة البائسة فيزداد يأسا ، يحدث نفسه بعدم التعرض لـ "هدى" مرة أخرى ، فدعوتها المستجابة هي السبب في وقوفه الآن يستعطف أحدهم ليحمله معه في طريقه ، أظهر كتبه الجامعية لتكون علامة على وجهته ، تذكر "مصطفى" زميل الدراسة منذ الطفولة ، لم يكن صديقه المفضل ، بل أن علاقته به كانت سطحية حتى دخلا الجامعة فدعته الحاجة للاتكال عليه في مواصلاته ، في جامعة الملك فهد للبترول و المعادن تفعل السنة التحضيرية فعلتها في تقريب البعيد و ربما إبعاد القريب ، و تحسين العلاقات ، تكشف اللثام عن التكافل الاجتماعي و التعاطف و الرحمة ، في السنة التحضيرية تحسب أن زملائك من القطيف هم أهلك للتلاحم الذي يجمعهم إلا ما نذر ، و في السنة التحضيرية تتبدد كل النظرات و تنعكس كل الإشاعات و البدع التي تشوه سمعة كل قرية ، و في السنة التحضيرية تكتشف أن جميع الطلاب ينتمون للقرية فيأخذون من القرية طيبتها و تواضعها و بساطتها و حبها للخير و البدل و العطاء ، فلا يمضي شهر إلا و التجمعات القطيفية التي تحمل مزيجا من القرى قد اجتمعت في أماكن معينة من المبنى العجوز ، هذا التلاحم قد يكون سببا في طرد عدد كبير من الطلاب لعدم تمكنهم من المذاكرة ، وقد يؤمن لآخرين الطريقة التي تجعلهم يرتقون كل المراقي و يتفوقون ، عندما تسأل أحد الذين درسوا في جامعة البترول عن أجمل مرحلة في مسيرته فإنه سيتنهد و يذكر السنة التحضيرية بخير ، "حسن" كان من الناذرين في الجامعة ، فقد غلف نفسه بعزلة و علاقات محددة ، فلم يتصل إلا بـ "مصطفى" اتصالا قويا ، و بآخرين معه في الفصول بعلاقة محدودة جدا لا تتعدى الفصل و لا تتجاوز المبنى الدراسي ، و قد قضى "مصطفى" نحبه ، بكى "حسن" أيام العزاء بحرقة ، ليس لأن "مصطفى" يقله دائما للجامعة ، بل أن هذا الموضوع كلما راوده طرده من فكره ، فقد كان بكاء "حسن" على "مصطفى" بكاء من اكتشف شخصا طيبا محبا كريما يحمل من المشاعر أعذبها و من الصفات أسماها ، أحب "حسن" "مصطفى" رغما عنه ، و عندما أحبه اختاره الله ليفجع به "حسن" ، و هاهو الآن يقف في الطريق يتذكر "مصطفى" و "هدى" و دعائها و يتأسف على ما بذر منه فجنى ثماره سريعا...
************
أوصل "عبد الله" أخته "عبير" إلى المدرسة في الوسادة و انعطف جنوبا ليلحق بمحاضرته ، اتساع الوقت تجعله لا يأبه بازدحام الشوارع و تراصص السيارات ، عندما مر على طالب يحمل بين يديه كتب جامعية و رآه يطلب منه بيده أن يقله معه بدت الصورة ضبابية بعض الشيء ، يعلم أنه من طلاب السنة التحضيرية لكنه رآه في مكان ما ، بل أنه صافحه بيده ، بعد أن تجاوزه بأمتار توقف جانبا ليحمله معه و فكره يبحث عن وجه ذلك الشاب المألوف في ذاكرة المواقف ، عندما ركب الشاب السيارة و ألقى السلام شعر أن صوت الشاب مبحوحا كمن قضى أياما في البكاء ، المشكلة في أنه لا يتذكر أين لقيه ، لكنه يعلم أنه رآه ، و مضت برهة من الصمت بينهما حتى قطعه سؤال "عبد الله" :
- أنا "عبد الله" من القلعة.. أسكن منطقة البحر
- أنا "حسن" من باب الشمال... أسكن حي الوسادة...
اتضحت الصورة في ذهن "عبد الله" ، تبدو الخيوط متصلة شيئا ما ، الوسادة و الصوت المبحوح و السنة التحضيرية ، بعد برهة من الصمت عاد "عبد الله" ليسأل بتردد:
- أ تسمح لي بسؤال...
- تفضل...
- هل كان عندكم مجلس عزاء؟
- نعم... توفي صديقي في حادث..
لجم لسان "عبد الله" ، إذاً هو ذلك الشاب الذي لم ينقطع عن البكاء و هو يسير خلف الجنازة ، ما أغرب الصدف ! لم يكن في حسبانه أن يشترك في التشييع لولا مشادة كلامية مع أمه ، و لم يكن في ذهنه أنه سيقف ليقل صديق المتوفى يوم السبت الذي يتلو الحادث ، الجلوس مع مثكول إحساس بالمصيبة ، كيف يسري عن ذلك الشاب الذي تبدو المشاهد أمام عينيه طرية ، بحث عن حديث بعيدا عن الصديق الراحل لرفيقه ، سأل:
- كيف الدراسة في السنة التحضيرية؟
- الحمد لله ، على ما يرام..
- أشعر أنكَ انطوائي بعض الشيء
أحس "حسن" أن الشاب الذي أقله يملك شيئا من اكتشاف الشخصيات ، سأله بحذر:
- و كيف عرفت ذلك؟
- الطالب في السنة التحضيرية عادة لا يقف في الطريق بحثا عمن يقله ، الطلاب يعرفون بعضهم البعض و هم متعاونون...
- لا أعرف أحدا يملك سيارة سوى المرحوم..
- أصبحت تعرفني الآن... و سوف أوصلك في طريق الذهاب...
- لا أريد أن أكلف عليك...
- ليس في ذلك تكليف... أنا أوصل أختي المدرسة الثانوية في الوسادة... و أنت في طريقي...
و ساد الصمت إلى أن وصلا مبنى السنة التحضيرية فكتب "عبد الله" رقم هاتفه و أعطاه لـ"حسن" فشكره و ودعه إذ لم يبق على الدرس الأول إلا بضع دقائق ...
كل شيء كئيب ، الفصل الدراسي و المدرس الأبله الذي جاء بشهادة أنه أجنبي ، المحاولات البهلوانية التي يفعلها لتضيع الحصة ، الضحكات المنطلقة بلا معنى هنا وهناك ، العيون التي تسترق النظر لوجه "حسن" و هو ساهم الفكر ، أصعب أمر هو أن تشعر بأن الآخرون يحملون لك الشفقة في نظراتهم ، يود لو يكسر ذلك الوضع و يود لو يبقى ، الموت الرهيب يخرس الألسن و يكتم الأنفاس ، أن تتصور ذلك الشاب الحيوي الذي يتنقل في أرجاء الأوريا و قد اختطفه من لا يرجعه ، ثم ترى من يلازمه في الذهاب و الإياب فيتولد عندك شعور بالحزن ، انتهت الفترة الثانية و حصة الرياضيات فبدأت ساعتان من الفراغ ، كان "حسن" عملي جدا ، من القلائل الذين يعدون الوقت من ذهب فلا يفوته أن يقسم ذلك الوقت إلى نصف ساعة فطور و تأمل و ساعة من الاستذكار و إكمال الواجبات و نصف ساعة للصلاة و التنقلات ، كانت الساعة الحادية عشر هذه المرة مختلفة ، كان قد اعتاد على أن لا يلتفت يمينا أو شمالا يخرج حاملا كتابين هزيلين جدا و يجدّ الخطى صوب البوفيه ، أما اليوم فقد رفع رأسه والتقت عيناه بأعين أبناء البلد ، كان يقرأ الحزن و الشفقة و يجرع الحزن و الغصة و المرارة ، لم يجرؤ أحد أن يحدثه أو يربت على كتفه معزيا ، المسافة بينه و بين الآخرين متسعة ، عندما دخل البوفيه كان الصخب عاليا جدا ، النكات و الضحك و الإستهزاء و ما أن أطل من بابها الغربي حتى حلّ الصمت كأن ملك الموت قد مرّ عليهم ، الهدوء و الحزن و الأسى و الأعين المتشفقة التي تشيعه إلى الركن الأعزل ، لم يضع الكتابين على الطاولة بل رجع أدراجه ليخرج من الباب الذي دخل منه و يضغط على زر استقطاب المصعد ، كان يفكر في حالة الهدوء الذي أصاب القوم ، لاحظ أنه لا يوجد في البوفيه سوى أهل القطيف فقط ، ربما لأنها و قاعة المذاكرة المأوى الوحيد لهم بعد أن تنكرت لهم غرف السكن و منعوا من السكن داخل الحرم الجامعي ، الروايات تدعي أن القصد من منعهم عن السكن هي مخطط للتقليل من كثافتهم فوق الجبل رغم أن السبب الظاهري هو عدم اتساع السكن لاحتواء الطلاب جميعهم ، طلاب السنة التحضيرية من خارج القطيف ينقسمون إلى قسمين رئيسين ، الأول هم من يدرسون دون الحاجة للدراسة أو من جذبتهم مظاهر المدينة الجذابة و هؤلاء يقضون تسكعهم في مجمع الراشد التجاري ليغذوا أنظارهم بالأجنبيات أو في القهوة ليغذوا أنفاسهم بأنواع التدخين ، القسم الآخر هم من يسمون بآلات دراسية بحتة ، يخرجون من الغرفة للدراسة و يخرجون من الدراسة للغرفة ، لا وقت للمظاهر أو العلاقات أو غيرها ، أما أهل القطيف فينقسمون إلى ثلاث مجموعات ، مجموعة تتسكع في البوفيه لتعرف الداخل و الخارج ، و مجموعة تتسكع في قاعة كبيرة في الطابق الرابع خصصت للمذاكرة حيث يتسنى لهم نسخ الواجبات المنزلية و العبث و المزح و التنذر على الآخرين ، المجموعة الثالثة فتجلس لتفطر في البوفيه ثم تصعد لتذاكر في القاعة وهؤلاء لا يتعدون عدد الأصابع أحدهم "حسن" الذي أخرس بدخوله القاعة كل من فيها و تكرر مشهد الشفقة في الوجوه فخرج حزينا لا يلوي على شيء ، كان يسمع الحوار و هو خارج :
- مسكين
- الله يربط على قلبه...
- كان ظله الذي يمشي معه...
- أتمنى أن أستطيع مواساته...
- انتبهوا... أشعر أنّه سمعكم... لقد خرج بسبب نظراتكم...
- لم نضربه على رجليه... خرج بنفسه...
كانت هذه آخر كلمة سمعها و المصعد يهبط به إلى الأسفل ، خرج من مبنى المكاتب ليتجه صوب الفصول الدراسية ، نقل بصره يمينا شمالا من بداية الجهة الشرقية الواقعة بالقرب من مبنى الورشة متجها إلى الغرب ، في منتصف ذلك المبنى وجد غرفة فاضية فدخل فيها و أغلق الباب و جلس على كرسي المدرس ثم فرش كتبه و بدأ يراجع كتاب المفردات ، كانت هذه عزلة على عزلة بدأها ذلك اليوم لكنه قرر أن ينفتح قليلا على المجتمع لوقت الحاجة...
مراهقة
منطقة البحر مزيج راقي من العلم و العبادة ، في قلبها تتجمع المدارس و تتناثر ، كما تجتمع الحسينيات و المساجد و تتزاحم ، في الجزء الشرقي من ذلك القلب تقع حسينية السنان و إلى شرقها مدرستي ذات الصواري الابتدائية و ابن كثير المتوسطة ، و على بعد أمتار يقع مجمع من مدارس البنات ، الغريب في الأمر أن المدارس قسمت إلى ابتدائية و متوسطة و ثانوية لأسباب عدة أحدها فصل الطفولة عن المراهقة لكن المراهقة و الطفولة يلتقيان كثيرا في مدرستي ذات الصواري و ابن كثير ، الأغرب هو فصل الجنسين عن بعضهما ثم تركهما يختلاطان كيفما يشاءان عند الانصراف...
عندما أصرّ "حسين" على التسجيل في مدرسة ابن كثير المتوسطة بعد تخرجه من الابتدائية رغم قرب النموذجية المتوسطة من منزله كان يبحث عن أصدقائه الذين اتفقوا على الذهاب لمدرسة ابن كثير ، كان ينتمي لمجموعة من الأصدقاء الذين يتنافسون على المراكز الأولى و كان يأمل أن يكمل مسيره في المتوسط و الثانوي كما كان في الابتدائية ، لكن الأحلام البريئة قد تبدل مع نهاية الصف الأول المتوسط عندما استلم النتيجة و لم تتجاوز التسعين نسبة مئوية إلا بفاصلة واحدة ، و عندما غاب عن أول يوم دراسي في الصف الثاني المتوسط شغرت كل المقاعد الأمامية فوجد نفسه يقبع في آخر مقعد إلى جوار طالب ألف هذا الفصل منذ أعوام ، كانت هذه نقطة التحول في حياة "حسين" و تبدلت أحلامه تماما ، لم يعد الطالب الذي يطمح في إحراز العلامة الكاملة بل أصبح همه المتعة و السعادة و السيارات ، و افترق عن الأصدقاء الذين سجل في المدرسة من أجلهم ، و في الوقت الذي ظل أصدقاؤه السابقون يتنافسون على المراكز الأولى ، نجح في الصف الثاني المتوسط بتقدير "جيد" ، أما في الصف الثالث فقد اختار لنفسه الركن الأيمن في مؤخرة الفصل إلى جانب "عصام" و "ممدوح" ، كان "عصام" قد قضى سبع سنوات متفرقة في المدرسة ، ففي الصف الأول أمضى عامين بسبب الإنجليزي و في الصف الثاني أخفق في جميع المواد ما عدا الرياضة حيث حقق علامة النجاح - 50 درجة – ثم أعاد الكرة و حقق تقدما في جميع المواد ما عدا المواد الإسلامية و الانجليزي و الرياضيات ثم نجح بمعدل 75 في المائة في السنة الثالثة ، عندما دخل الصف الثالث لم يعد يهتم بالنجاح ، فقد كان أحرص على التسلي بالعبث مع المدرسين ، أما "ممدوح" فهو في سن "حسين" تقريبا ، لم يخفق في مراحله الثمان السابقة ، لكنه لم يهتم بدراسته طيلة السنوات الثمان السابقة أيضا ، كان يعتمد المقولة التي يعشقها الشباب دائما "فلها و ربك يحلها" ، و الحق أنه نجا من عدة إخفاقات خلال الثمان سنوات السابقة ، و تكونت جماعة جديدة همها الأكبر المتعة ، و عندما كان "عصام" يملك سيارة "سيليكا" مصنوعة في بدايات الثمانينات الميلادية ، كان "ممدوح" و "حسين" يحلمان بسيارات تماثل سيارة "عصام" ، بل أن الحديث عن محاولات "ممدوح" لشراء سيارة ولّد في نفس "حسين" الرغبة الجامحة في شراء سيارة ، فتارة يتعلل ببعد المدرسة و أخرى يتحدث عن أسعار السيارات أمام أمه ، و لم تكن المرة الأخيرة عندما غضبت "أم حسن" إلا تصعيدا من "حسين" بعد تحريض رفيقيه...