تأملات في الخطاب
إن خطاب السيدة زينب ( عليها السلام ) في مجلس يزيد يعتبر وثيقة فكرية سياسية تسلط الأضواء على خلفيات المعركة بين أهل البيت والأمويين كما تناقش بعض التفاصيل والقضايا الهامة في تلك المعركة ، وتقدم استشرافاً وتصوراً مستقبلياً لآثار المعركة ونتائجها .
ونشير فيما يلي الى أبرز وأهم آفاق هذا الخطاب الرائع العظيم :
أولاً : المعركة في منظار القيم والمبادئ
فالأمويون وان كانوا يتظاهرون بالأسلام ، ويحكمون باسمه ، الا أنهم يتعاملون مع الحياة ، وينظرون للأمور حسب المعادلات المادية ، وضمن دائرة المصالح الدنيوية العاجلة بعيداً عن القيم والمبادئ .
ويريدون لجمهور الأمة أن ينظر الى واقعة كربلاء من منظارهم المادي الجاهلي ، حيث يصرح يزيد بأنه قد قام بأخذ ثارات بدر ومعارك الإسلام الأولى ضد أسلافه المشركين ، والمسألة في نظر الأمويين لا تعدو أن تكون دفاعاً عن عرش السلطة وكرسي الحكم ، وهو أمر مشروع بالعقلية المصلحية .
ويرى الأمويون أن القوة التي بأيديهم ، والأنتصارات التي أحرزوها ، تكفي دليلاً على أحقيتهم وشرعيتهم كواقع يفرض نفسه .
وفي مواجهة هذا المنطق الأموي المادي الأنتهازي كانت السيدة زينب في خطابها تؤكد على الرجوع الى القيم والمبادئ الدينية والأحتكام اليها في تقويم الواقع وتفسير أحداثه ، فلابد من محاكمة ما يجري على ضوء كتاب الله ، والنظر الى المعركة من خلال الرؤية الدينية التي يريد الأمويون تغييبها والغاءها في واقع حياة المسلمين .
لذلك تذكر يزيد بن معاوية بأن لا ينظر الى نفسه من خلال ما يملك من قوة وسلطة : « أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء » . فليس في ذلك دلالة على الأحقية والمشروعية والرضا الآلهي ، فقد يفسح الله المجال واسعاً أمام الكافرين لتتضاعف قوتهم وامكانياتهم دون أن يعني ذلك أحقيتهم أو رضا الله عنهم ، بل يكون ذلك سبباً لزيادة انحطاطهم وعذابهم عند الله .
والحسين وأهل بيته ليسوا مهزومين مغلوبين قد خسروا الحياة وابتلعهم الموت بل هم وفق مقياس المبادئ الآلهية شهداء خالدون وأحياء عند ربهم ، لأنهم قتلوا في سبيل الله .
واذا كانت المآسي قد حلت بأهل البيت فانهم يحتسبونها عند الله ، حيث لم تحدث لهم في سياق صراع دنيوي مصلحي وإنما لأنهم يحملون رسالة الله ويدافعون عن دينه ، وحسب المبادئ والقيم فهناك عدالة آلهية ، وهناك دار أخرى تكون فيها النتائج الحاسمة : « وحسبك بالله حاكماً وبمحمد خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ولتردن على رسول الله » .
والصراع بين أهل البيت والأمويين في نظر السيدة زينب ليس صراعاً قبلياً على الزعامة ، بل هو مظهر وامتداد للصراع الأبدي الدائم بين الخير والشر ، بين حزب الله وحزب الشيطان .
ثانياً : ـ ادانة الجرائم الأموية
ففي مجلس يزيد وأمامه وبحضور أتباعه ومؤيديه ، أعلنت السيدة زينب الأدانة والأستنكار لما ارتكبه من جرائم بحق أهل البيت ، وأوضحت مظلومية أهل البيت وعمق مأساتهم بقتل رجالات أهل البيت ، وسوق نسائهم سبايا بتلك الحالة المفجعة ، وترك جثث أهل البيت دون مواراة . كما توبخه بشدة على أقواله التي تنضح كفراً وتشكيكاً في الدين ، وتعنفه على ما فعله برأس أخيها الحسين .
ومن يعرف مدى غرور يزيد وتجبره يدرك وقع هذا التوبيخ والأدانة على نفسه .
يقول المرحوم الأستاذ توفيق الفكيكي : وكان الوثوب على أنياب الأفاعي ، وركوب أطراف الرماح ، أهون على يزيد من سماع هذا الأحتجاج الصارخ (41) .
ثالثاً : ـ الجذور العائلية الفاسدة
فسياسات يزيد المنحرفة ، ومواقفة الفاسدة ، لم تنطلق من فراغ ، وإنما هي امتداد واستمرار لسلوكيات أسلافه المشركين والمنافقين ، لذلك تذكره السيدة زينب بجدته « هند » أم معاوية وزوج أبي سفيان ، والتي قادت حملة التأليب والتحريض على قتال رسول الله والمسلمين ، وأغرت « وحشي » بقتل الحمزة بن عبد المطلب عم رسول الله ، ثم مثلت بجسمه وانتزعت كبده وحاولت مضغها بأسنانها ، اظهاراً لحقدها البشع ، وبغضها المتوحش لرسول الله وذويه ، ويزيد في اعتداءاته الأليمة على أهل البيت لم يأت بشيء غريب ، وإنما هو شر خلف لشر سلف ، تقول ( عليها السلام ) « وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء » .
وتتوعده السيدة زينب بأن مصيره هو مصير أسلافه عتبة وشيبة والوليد وانه لاحق بهم في نار جهنم : « وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم » .
____________
(41) ( حياة الإمام الحسين ) القرشي ج 3 ص 378 ـ 380 . ( مقتل الحسين ) المقرم ص 357 ـ 359 .
رابعاً : الأشادة بأهل البيت :
في مجتمع تربى على بغض أهل البيت ، وفي أجواء معباة ضد الأسرة العلوية ، ووسط مجلس انعقد للشماتة بمقتل الحسين ، تقف السيدة زينب صادحة بالحق ، مشيدة بفضائل أسرتها الكريمة .
فهي تخاطب يزيد معلنة للأمة أن هذه الدولة والكيان الاسلامي إنما أشادته سيوف بني هاشم ، وتضحيات آل الرسول بالدرجة الأولى « وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا » فأهل البيت هم القادة الحقيقيون لهذه الأمة وهم الأولى بالسلطة والحكم .
ولأهل البيت فضل عظيم على يزيد بالذات فأبوه وجده وأسرته هم طلقاء عفو رسول الله عند فتح مكة لذلك تخاطبه العقيلة : « أمن العدل يا ابن الطلقاء » .
أما شهداء كربلاء فتصفهم السيدة زينب بأنهم : « ذرية محمد ونجوم الأرض من آل عبد المطلب » وتذكر أخاه الحسين باعتباره : « سيد شباب أهل الجنة » .
وتعتز السيدة زينب بفضل اسرتها وأمجادها العظيمة قائلة : « والحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة » .
خامساً : المستقبل لمن ؟
يتبختر يزيد بانتصاره على أهل البيت ، ويظن أنه كسب المعركة لصالحه ، ووسائل أعلامه تكرر وتجتر هذا الوهم على مسامع الناس ، لكن العقيلة زينب تسنف أوهامه ، وتسفه أحلامه ، وتقرر أمام مجلسه الحاشد أنه قد تلطخ بأوحال الهزيمة ، وسقط في حضيض الهوان ، وإن تظاهر بالنصر وتراءى له الظفر .
أنها تتحدى يزيد في أن يتمكن من تحقيق هدفه بطمس خط أهل البيت ، مهما جند من قواه واستخدم من قدراته : فكد كيدك واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا » فخط أهل البيت يمثل الحق والعدل ن ويجسد الوحي الآلهي ، وسوف تبقى البشرية متطلعة للحق والعدل وسوف يظهر الله دينه على الدين كله .
كما تظهر العقيلة سخريتها واحتقارها لمظاهر القوة التي أحاط بها يزيد نفسه :
« وهل رأيك الا فند ، وأيامك الا عدد ، وجمعك الا بدد » .
ورهان السيدة زينب على النصر وثقتها بالظفر ليس محجماً بحدود الدنيا الفانية ، بل تتطلع للآخرة هناك حيث عدالة الله ، وحيث تكون العاقبة للمتقين ، والنار والخزي للظالمين .
سادساً : العزة الأيمانية
تلك المرأة السبية الأسيرة التي سيقت الى مجلس يزيد مكتفة بالحبال ، تقف أمام الحاكم المتغطرس المتجبر صارخة به : « يا ابن الطلقاء » ومنذرة له : « ولتودّن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت » وداعية عليه : « اللهم خذلنا بحقنا وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا » .
وتتحداه قائلة : « فوالله ما فريت الا جلدك ولا حززت الا لحمك » وتكرر تحديها له هاتفة : « فكد كيدك واسع سعيك » .
وبصراحة أوضح تبدي احتقارها له وأنها أكبر وأسمى من أن تكلمه أو تخاطبه لولا ما فرضته عليها الظروف فتقول : « ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إني لاستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك » .
فمن يداني ابنة علي في شجاعتها وعزتها وبطولتها ؟ .
إنها ابنة أبيها وهي تفرغ عن لسانه وروحه .
لذلك تحطمت كبرياء يزيد أمامها وانهار غروره ، وأصابته الحيرة والأرتباك ، فلم يزد أن تمثل بعد خطابها بقول الشاعر :
يا صحيحة تحمد من صوائح * ما أهون النوح على النوائح
وكأنه يفسر خطاب السيدة زينب بأنه نوع من الأنفعال الطبيعي لما تعانيه من مصيبة ! !
خلق عظيم
لقد تكاملت نواحي العظمة في شخصية السيدة زينب فتجسدت فيها معالي الصفات ومكارم الأخلاق ، وذلك هو سر تفردها وخلودها .
وإنما تتحدد قيمة الأنسان ومكانته حسب ما يتمتع به من مواهب وكفاءات ، ويترشح عنه من فضائل وأخلاق .
وشخصية السيدة زينب زاخرة بالمواهب العالية ، وسيرتها طافحة بالمكارم الرفعية .
لقد رافقنا حياة السيدة زينب عبر الفصول السابقة وهي وليدة ناشئة ، وفتاة يافعة ، وزوجة ناضجة ، وأم مربية ، ورأيناها تقف الى جانب أمها في آلامها وأحزانها ، وتواكب مسيرة أبيها في منعطفات الزمن وأحداثه ، وتواسي أخاها الحسن في محنته وابتلائه ، ثم تشارك أخاها الحسين في ثورته العظيمة الخالدة ، وتقود بعده ركب النهضة المقدسة .
ومن خلال تلك المواقف والأحداث تجلت لنا كفاءات السيدة زينب وعظمة شخصيتها ، وتبدي لنا من نورها المضيء ، وأفقها الرحيب بقدر ما كانت أبصارنا تستوعب الرؤية والنظر .
ونشير في هذا الفصل الى بعض مكارم أخلاقها وعظيم صفاتها .
رائدة المعرفة
بالعلم ميز الله الانسان على سائر المخلوقات حتى الملائكة : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ) (1) .
وبالعلم يتمايز بنو آدم فيما بينهم : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (2) .
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (3) .
و « العلم رأس الخير كله » و « أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً » ، « وأقل الناس قيمة أقلهم علماً » ، كما يقول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) (4) .
____________
(1) سورة البقرة آية 31 .
(2) سورة الزمر آية 9 .
(3) سورة المجادلة آية 11 .
(4) ( ميزان الحكمة ) الري شهري ج 6 ص 451 ـ 455 .
وقراءة شخصية السيدة زينب تعطي لأمتنا دفعة انطلاق لتجاوز هذا الواقع الخاطئ .
فقد اهتمت السيدة زينب بتلقي العلم والمعرفة منذ نعومة أظفارها وفي وقت مبكر من حياتها ، فانها روت عن أمها فاطمة الزهراء (7) .
____________
(6) جريدة ( الحياة ) اليومية ، تصدر في لندن تاريخ : ( 22 ـ 12 ـ 1411 هـ ) .
(7) ( معجم رجال الحديث ) الخوئي ج 23 ص 19 .
وقال الطبرسي : انها روت أخباراً كثيرة عن أمها الزهراء (8) .
بالطبع كان عمرها عند وفاة أمها السادسة .
وفي طليعة ما روت عن أمها الزهراء خطبتها العظيمة في الأحتجاج على الخليفة الأول أبي بكر حول منطقة فدك التي كانت تحت يد الزهراء فصادرها الخليفة وضمها الى بيت المال . . وخطبة الزهراء هذه طويلة مفصلة تتضمن زيادة على موضوعها الأساس حول فدك الكثير من المفاهيم والتعاليم الإسلامية ، وكل أسانيد هذه الخطبة تنتهي الى السيدة زينب فهي التي حفظت خطبة أمها وانتقلت عبرها الى الأجيال .
وقد أشار ابن أبي الحديد المعتزلي الى أسانيد الخطبة المنتهية كلها الى السيدة زينب نقلاً عن أبي بكر الجوهري ، والذي وصفه بقوله . عالم محدث ، كثر الأدب ، ثقة ورع ، أثنى عليه المحدثون ، ورووا عنه مصنفاته (9) .
ويذكر أبو الفرج الأصفهاني لخطبة الزهراء سنداً آخر عن ابن عباس بروايته عن السيدة زينب قال : والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة في فدك ، فقال : « حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي » (10) .
وكما روت عن أمها الزهراء ، فقد روت أيضاً عن أبيها علي ، وعن أخويها الحسنين (11) .
ولم تختزن السيدة زينب العلم لنفسها أو تحتكره لذاتها بل أفاضت من معارفها ومروياتها على أبناء الأمة ، فكانت تتحدث ليس فقط للنساء بل حدثت العديد من رجالات بيتها وسائر الأصحاب والتابعين . . فقد روى عنها جابر ، وعباد العامري (16) ، وابن اخيها علي بن الحسين زين العابدين (17) ، وروى عنها حبر الأمة عبدالله بن عباس (18) ، وزوجها عبدالله بن جعفر (19) ، وروى عنها محمد بن عمرو الهاشمي ، وعطاء بن السائب (20) ، وروى عنها أحمد بن محمد بن جابر ، وزيد بن علي بن الحسين (21) .
____________
(13) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 38 .
(14) المصدر السابق ص 35 ـ 41 .
(15) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(16) ( معجم رجال الحديث ) الخوئي ج 23 ص 190 .
(17) ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 238 .
(18) ( مقاتل الطالبيين ) الأصفهاني ص 91 .
(19) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
(20) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(21) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 37 .
وروت عنها بنت أخيها فاطمة بنت الحسين (22) ، وقد مر علينا سابقاً أنها كانت مهتمة بتعليم النساء وتثقيفهن ضمن مجالسها العلمية .
ويكفي لأدراك مقام زينب الريادي في ميدان المعرفة والعلم أن نتأمل ما رواه الصدوق محمد بن بابويه ( طاب ثراه ) من أنه كانت لزينب نيابة خاصة عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) بعد شهادته ، وكان الناس يرجعون اليها في الحلال والحرام حتى برئ زين العابدين (23) .
كما أن شهادة الإمام زين العابدين في حقها لم تكن جزافاً ولا مبالغة وهو الإمام المعصوم حيث قال لها : « أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهمة » (24) .
____________
(22) ( تراجم النساء ) ابن عساكر ص 119 .
(23) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 35 .
(24) المصدر السابق ص 34 .
في محراب العبادة
في محراب العبادة عبادة الخالق والقرب منه هي المرتكز والمحور في الشخصية الإيمانية ، بل هي مقياس الأنسانية والتحرر في شخصية الأنسان ، فالبديل عن التعبد لله والخضوع له هو العبودية للشهوات وللمصالح المادية الزائلة .
إن التعبد لله يعني انسجام الأنسان مع فطرته النقية ، واستجابته لنداء عقله الصادق بأن للحياة خالقاً يمسك بأزمتها واليه مصيرها .
والتعبد لله هو النبع الذي يروي منه الأنسان ظمأه الروحي ، ويتزود من دفقاته بدوافع الخير ونوازع الصلاح .
فكلما أقبل الأنسان على ربه ، وأخلص في عبادته ، تجلت انسانيته أكثر وتجسدت القيم الخيرة في شخصيته .
والسيدة زينب وهي العالمة بالله و ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (26) وهي الناشئة في أجواء الأيمان والعبادة والتقوى كانت قمة سامقة في عبادتها خضوعها للخالق ( عز وجل ) .
كانت ثانية أمها الزهراء في العبادة . وكانت تؤدي نوافل الليل كاملة في كل أوقاتها حتى أن الحسين ( عليه السلام ) عندما ودع عياله الوداع الأخير يوم عاشوراء قال لها : « يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل » . كما ذكر ذلك البيرجندي ، وهو مدون في كتب السير (27) .
وعن عبادة السيدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم يقول الشيخ محمد جواد مغنية : وأي شيء أدل على هذه الحقيقة من قيامها بين يدي الله للصلاة ليلة الحادي عشر من المحرم ، ورجالها بلا رؤوس على وجه الأرض تسفي عليهم الرياح ، ومن حولها النساء والأطفال في صياح وبكاء ودهشة وذهول ، وجيش العدو يحيط بها من كل جانب . . . إن صلاتها في مثل هذه الساعة تماماً كصلاة جدها رسول الله في المسجد الحرام ، والمشركون من حوله يرشفونه بالحجارة ، ويطرحون عليه رحم شاة ، وهو ساجد لله ( عز وعلا ) ، وكصلاة أبيها أمير المؤمنين في قلب المعركة بصفين ، وصلاة أخيها سيد الشهداء يوم العاشر والسهام تنهال عليه كالسيل .
ان صلاة السيدة زينب ليلة الحادي عشر من المحرم كانت شكراً لله على ما أنعم ، وانها كانت تنظر الى تلك الأحداث على أنها نعمة خص الله بها أهل بيت النبوة من دون الناس أجمعين ، وانه لولاها لما كانت لهم هذه المنازل والمراتب عند الله والناس (28) .
____________
(25) ( ميزان الحكمة ) الري شهري ج 8 ص 111 .
(26) سورة فاطر آية 28 .
(27) ( أدب الطف ) جواد شبر ج 1 ص 242 .
(28) ( مع بطلة كربلاء ) مغنية ص 42 .
وروي عن ابنة أخيها فاطمة بنت الحسين قولها : « وأما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث الى ربها فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنة » (29) .
صبر وشجاعة
معروف أن المرأة تمتاز برقة المشاعر ، وشفافية العواطف ، مما يساعدها على القيام بدور الأمومة الحانية ، لذلك يكون تأثيرها العاطفي أسرع وأعمق من الرجل غالباً .
واذا كانت تلك الحالة تمثل الأستعداد الأولي في نفس المرأة فلا يعني ذلك انها تأسر المراة وتقعد بها عن درجات الصمود والصبر العالية .
فبإمكان المرأة حينما تمتلك قوة الأرادة ونفاذ الوعي وسمو الهدف أن تضرب أروع الأمثلة في الصبر والشجاعة أمام المواقف الصعبة القاسية .
وهذا ما أثبتته السيدة زينب في مواجهتها للآلام والأحداث العنيفة التي صدمتها في باكر حياتها وكانت هي الختم لسنوات عمرها .
لقد ابدت السيدة زينب تجلداً وصبراً قياسياً في واقعة كربلاء وما أعقبها من مصائب .
والا فكيف استطاعت أن تنظر الى أخيها الحسين ممزق الأشلاء يسبح في بركة من الدماء ، وحوله بقية رجالات وشباب أسرتها من أخوتها وأبناء اخوتها وأبناء عمومتها وأبنائها ، ثم تحتفظ بكامل السيطرة على أعصابها وعواطفها ، لتقول كلمة لا يقولها الأنسان الا في حالة التأني والثبات والأطمئنان ، وهي قولها :
« اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان » (33) .
وأكثر من ذلك فهي تصبر ابن أخيها الإمام زين العابدين حينما رأته مضطرباً بالغ التأثر عند مروره على جثث القتلى
ويعبر الشيخ النقدي عن فظيع مصائب السيدة زينب وعظيم تحملها لها بقوله : وبالجملة فإن مصائب هذه الحرة الطاهرة زادت على مصائب أخيها الحسين الشهيد اضعافاً مضاعفة ، فانها شاركته في جميع مصائبه ، وانفردت عنه ( عليها السلام ) بالمصائب التي رأتها بعد قتله من النهب والسلب والضرب وحرق الخيام ، والأسر ، وشماتة الأعداء .
أما القتل فان الحسين قتل ومضى شهيداً الى روح وريحان ، وجنة ورضوان ، وكانت زينب في كل لحظة من لحظاتها تقتل قتلاً معنوياً بين أولئك الظالمين ، وتذري دماء القلب من جفونها القريحة (34) .
وأي مستوى من الصبر عند السيدة زينب حينما تصف ما رأته من مصائب بأنه شيء جميل : « والله ما رأيت إلا جميلاً » رداً على سؤال ابن زياد لها : كيف رأيت صنع الله بأخيك ؟ ! .
____________
(33) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 75 .
(34) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 97 .
عفة ومهابة
عفة المراة لا تعني الأنكفاء والأنطواء ، ولا تعني الجمود والأحجام عن تحمل المسؤولية وممارسة الدور الأجتماعي ، وقد رأينا السيدة زينب وهي تمارس دورها الاجتماعي في أعلى المستويات .
لكن العفة تعني عدم الابتذال ، وتعني حفاظ المرأة على رزانتها وجدية شخصيتها أمام الآخرين .
فاذا استلزم الأمر أن تخرج المرأة الى ساحة المعركة فلا تتردد في ذلك، واذا كانت هناك مصلحة في التخاطب مع الرجال فلا مانع وهكذا في سائر المجالات النافعة والمفيدة .
أما الأبتذال واستعراض القوام والمفاتن امام الرجال فهو مناف للعفة والحشمة .
وبعد أن استقرأنا دور السيدة زينب ومواقفها العلمية والسياسية والإجتماعية فلنتأمل الآن ما يقوله أحد المعاصرين لها والمجاورين لمنزلها برهة من الزمن ، ليتضح لنا معنى العفة والأحتشام عند السيدة زينب .
حدث يحيى المازني قال : كنت في جوار أمير المؤمنين في المدينة مدة مديدة
وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً (35) .
____________
(35) المصدر السابق ص 22 .
زهد وعطاء
كانت زينب تعيش في كنف زوجها عبدالله بن جعفر في المدينة ، وهو رجل موسر غني ، وباذل كريم ـ كما سبق الحديث عنه ـ لكن حياة الراحة والرفاه حيث البيت الواسع والخدم والحشم ، والمال والثروة ، لم تتمكن من قلب السيدة زينب ، فتخلت عن كل تلك الأجواء المريحة ، واختارت السفر مع أخيها الحسين حيث المصاعب والمشاق والآلالم المتوقعة لم يكن قلب زينب متعلقاً بشيء من متاع الدنيا ، بل كانت نفسها منشدة الى آفاق السمو والرفعة .
وروي عن الإمام زين العابدين أنه قال عنها : « انها ما ادخرت شئياً من يومها لغدها أبداً » (36) .
ونقل عنها أنها كانت أثناء سفر الأسر الى الشام كانت تتنازل في غالب الإيام عن حصتها من الطعام لصالح الأطفال الجائعين والجائعات من الأسارى وتطوي يومها جائعة ، حتى أن الجوع كان يقعد بها عن التمكن من أداء صلاة الليل قياماً فتؤديها وهي جالسة (37) .
____________
(36) المصدر السابق ص 61 .
(37) المصدر السابق ص 63 .
إلى الرفيق الأعلى
اذا كان الموت شبحاً مرعباً لكل انسان . وإذا كانت مفارقة الحياة أقسى وأشد ما يزعج الأنسان فإن الأمر كان مختلفاً لدى السيدة زينب . . فالموت بالنسبة لها كان يعني لقاء الله والأقتراب أكثر من رحمته .
والموت عند السيدة زينب قنطرة ومعبر الى جنة الله العريضة الواسعة ونعيمه السرمدي الخالد .
وكانت ترى في الموت وسيلة نقل سريعة توصلها الى رحاب أحبتها السابقين حيث تلقى جدها النبي وأمها الزهراء وأباها المرتضى وأخويها العزيزين .
لقد طال فراقها لجدها المصطفى وأمها البتول ، فامتلأت نفسها شوقاً الى لقائهما لكن ستار الحياة يفصل بينها وبينهما ، فمتى يماط هذا الستار ليكتحل ناظرها برويتهما ؟ .
والموت بعد ذلك أصبح الوسيلة الوحيدة المتاحة للسيدة زينب للإعلان عن احتجاجها ورفضها وسخطها على واقع الألم والضيم والعناء .
لكن الأمر بيد الله فهو وحده يقرر الآجال وبيده الموت والحياة . . وحينما قدر الله ( تعالى ) لها الرحيل عن دار الدنيا ، استقبلت قضاءه بصدر رحب ، فذلك ينسجم مع ما يجري في أعماق نفسها من مشاعر وخلجات .
واسلمت الروح لله . . ورجعت نفسها المطمئنة الى الحق راضية مرضية لتدخل جنة الله بسعادة وهناء ولتلاقي صفوة عباده الأعزاء محمد وفاطمة وعلي والحسن والحسين .
واختلف المؤرخون في تحديد سنة وفاتها ، والأرجح عند كثير من الباحثين أنها توفيت سنة ( 62 هـ ) الموافق ( 683 م ) (1) بينما ذهب آخرون الى أن وفاتها سنة 65 هـ .
ويتفق المؤرخون على أن وفاتها كانت في الخامس عشر من شهر رجب (2) .
وهكذا انتقلت العقيلة زينب الى الرفيق الأعلى . . وبقي ذكرها خالداً ينير للبشرية طريق الكرامة والمجد .
____________
(1) ( زينب الكبرى ) النقدي ص 122 .
( السيدة زينب ) بنت الشاطئ ص 155 .
(2) المصدران السابقان .
( مع بطلة كربلاء ) مغنية ص 90 .