العودة   منتديات أنا شيعـي العالمية منتديات أنا شيعي العالمية منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام

منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام المنتدى مخصص بسيرة أهل البيت عليهم السلام وصحابتهم الطيبين

إضافة رد
   
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 11  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 04-03-2008 الساعة : 09:36 PM


عناصرها النفسية

وما من صفةٍ كريمةٍ أو نزعةٍ شريفةٍ يفتخر بها الإنسان، ويسمو بها على غيره من الكائنات الحية إلاّ وهي من عناصر عقيلة بني هاشم، وسيدة النساء زينب (عليها السّلام)، فقد تحلّت بجميع الفضائل التي وهبها الله تعالى لجدّها الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وأبيها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، واُمّها سيدة نساء العالمين (عليها السّلام)، وأخويها الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد ورثت خصائصهم، وحكت مميزاتهم، وشابهتهم في سموّ ذاتهم ومكارم أخلاقهم.

لقد كانت حفيدة الرسول بحكم مواريثها وخصائصها أعظم وأجلّ سيدة في دنيا الإسلام، فقد أقامت صروح العدل، وشيّدت معالم الحق، وأبرزت قيم الإسلام ومبادئه على حقيقتها النازلة من ربّ العالمين، فقد جاهدت هي واُمّها زهراء الرسول كأعظم ما يكون الجهاد، ووقفتا بصلابة لا يعرف لها مثيل أمام التيارات الحزبية التي حاولت بجميع ما تملك من وسائل القوة أن تلقي الستار على قادة الاُمّة وهداتها الواقعيين، الذين أقامهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) أعلاماً لاُمّته، وخزنة لحكمته وعلومه، فقد أظهرت زهراء الرسول بقوة وصلابة عن حقّ سيّد العترة الإمام أمير المؤمنين، رائد العدالة الاجتماعية في الإسلام، فناهضت حكومة أبي بكر في خطابها التأريخي الخالد، وسائر مواقفها المشرّفة التي وضعت فيها الأساس المشرق لمبادئ شيعة أهل البيت، فهي المؤسِّسة الاُولى بعد أبيها (صلّى الله عليه وآله) لمذهب أهل البيت(عليهم السّلام)، وكذلك وقفت ابنتها العقلية أمام الحكم الاُموي الأسود الذي استهدف قلع الإسلام من جذوره ومحو سطوره، وإقصاء أهل البيت(عليهم السّلام) عن واقعهم الاجتماعي والسياسي، وإبعادهم عن المجتمع الإسلامي، فوقفت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مع أخيها أبي الأحرار في خندق واحد، فحطّم أخوها بشهادته وهي بخطبها في أروقة بلاط الحكم الاُموي، ذلك الكابوس المظلم الذي كان جاثماً على رقاب المسلمين.

وعلى أي حال، فإنا نعرض بصورة موجزة لبعض العناصر النفسية لحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وما تتمتّع به من القابليات الفذة، التي جعلتها في طليعة نساء المسلمين، وفيما يلي ذلك:


الإيمان الوثيق


وتربّت عقيلة بني هاشم في بيت الدعوة إلى الله تعالى، ذلك البيت الذي كان فيه مهبط الوحي والتنزيل، ومنه انطلقت كلمة التوحيد وامتدت أشعتها المشرقة على جميع شعوب العالم واُمم الأرض، وكان ذلك أهمّ المعطيات لرسالة جدّها العظيم.

لقد تغذت حفيدة الرسول بجوهر الإيمان وواقع الإسلام، وانطبع حبّ الله تعالى في عواطفها ومشاعرها حتى صار ذلك من مقوماتها وذاتياتها، وقد أحاطت بها المحن والخطوب منذ نعومة أظفارها، وتجرّعت أقسى وأمرّ ألوان المصائب، كلّ ذلك من أجل رفع كلمة الله عالية خفّاقة.

إنّ الإيمان الوثيق بالله تعالى والانقطاع الكامل إليه كانا من ذاتيات الاُسرة النبوية ومن أبرز خصائصهم، ألم يقل سيد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين في دعائه:

(عبدتك لا طمعاً في جنتك، ولا خوفاً، من نارك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك).

وهو القائللو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً).

أما سيّد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السّلام، فقد أخلص لله تعالى كأعظم ما يكون الإخلاص، وذاب في محبته وقد قدّم نفسه والكواكب المشرقة من أبنائه وأخوته وأبناء عمومته قرابين خالصة لوجه الله، وقد طافت به المصائب والأزمات التي يذوب من هولها الجبال، وامتحن بما لم يمتحن به أحدٌ من أنبياء الله وأوليائه، كل ذلك في سبيل الله تعالى، فقد رأى أهل بيته وأصحابه الممجدين صرعى، ونظر إلى حرائر النبوة وعقائل الوحي، وهنّ بحالة تميد من هولها الجبال، وقد أحاطت به أرجاس البشرية وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، ليتقرّبوا بقتله إلى سيّدهم ابن مرجانة، لقد قال وهو بتلك الحالة كلمته الخالدة، قال: (لك العتبى يا ربّ إنّ كان يرضيك هذا، فهذا إلى رضاك قليل)، ولمّا ذُبح ولده الرضيع بين يديه، قالهوّن ما نزل بي أنّه بعين الله)(1).

أرأيتم هذا الإيمان الذي لا حدود له!

أرأيتم هذا الانقطاع والتبتل إلى الله!

وكانت حفيدة الرسول زينب سلام الله عليها كأبيها وأخيها في عظيم إيمانها وانقطاعها إلى الله، فقد وقفت على جثمان شقيقها الذي مزّقته سيوف الشرك، هو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها، وقالت كلمتها الخالدة التي دارت مع الفلك وارتسمت فيهاللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان)(2).

إنّ الإنسانية تنحني إجلالاً وخضوعاً أمام هذا الإيمان الذي هو السرّ في خلودها وخلود أخيها.

لقد تضرعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن يتقبّل ذلك القربان العظيم الذي هو ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فأيّ إيمان يماثل هذا الإيمان؟!

وأيّ تبتّل إلى الله تعالى يضارع هذا التبتّل؟!

لقد أظهرت حفيدة الرسول بهذه الكلمات الخالدة معاني الوراثة النبوية، وأظهرت الواقع الإسلامي وأنارت السبيل أمام كلّ مصلح اجتماعي، وأنّ كلّ تضحية تُؤدّى للاُمّة يجب أن تكون خالصة لوجه الله غير مشفوعة بأيّ غرض من أغراض الدنيا.

ومن عظيم إيمانها الذي يبهر العقول، ويحيّر الألباب أنّها أدّت صلاة الشكر إلى الله تعالى ليلة الحادي عشر من المحرّم على ما وفّق أخاها ووفّقها لخدمة الإسلام ورفع كلمة الله.

لقد أدّت الشكر في أقسى ليلة وأفجعها، والتي لم تمرّ مثلها على أيّ أحدٍ من بني الإنسان، فقد أحاطت بها المآسي التي تذوب من هولها الجبال، فالجثث الزواكي من أبناء الرسول وأصحابهم أمامها لا مغسّلين ولا مكفّنين، وخيام العلويات قد أحرقها الطغاة اللئام، وسلبوا ما على بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من حُلي وما عندهنّ من أمتعة وهن يعجن بالبكاء لا يعرفن ماذا يجري عليهن من الأسر والذلّ إلى غير ذلك من المآسي التي أحاطت بحفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تؤدي صلاة الشكر لله على هذه النعمة التي أضفاها عليها وعلى أخيها.

تدول الدول وتفنى الحضارات وهذا الإيمان العلوي أحقّ بالبقاء، وأجدر بالخلود من هذا الكوكب الذي نعيش فيه.


الصبر


من النزعات الفذة التي تسلّحت بها مفخرة الإسلام وسيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هي الصبر على نوائب الدنيا وفجائع الأيام، فقد تواكبت عليها الكوارث منذ فجر الصبا، فرزئت بجدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يحدب عليها، ويفيض عليها بحنانه وعطفه، وشاهدت الأحداث الرهيبة المروعة التي دهمت أباها وأمّها بعد وفاة جدّها، فقد اُقصي أبوها عن مركزه الذي أقامه فيه النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأجمع القوم على هضم اُمّها حتى توفيت وهي في روعة الشباب وغضارة العمر، وقد كوت هذه الخطوب قلب العقيلة إلّا أنّها خلدت إلى الصبر، وتوالت بعد ذلك عليها المصائب، فقد رأت شقيقها الإمام الحسن الزكي(عليه السّلام) قد غدر به أهل الكوفة، حتى أضطر إلى الصلح مع معاوية الذي هو خصم أبيها وعدوّه الألد، ولم تمض سنين يسيرة حتى اغتاله بالسمّ وشاهدته وهو يتقيأ دماً من شدة السمّ حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وكان من أقسى ما تجرعتّه من المحن والمصائب يوم الطف، فقد رأت شقيقها الإمام الحسين(عليه السّلام) قد استسلم للموت لا ناصر له ولا معين، وشاهدت الكواكب المشرقة من شباب العلويين صرعى قد حصدتهم سيوف الاُمويين، وشاهدت الأطفال الرضع يذبحون أمامها.

إن أي واحدة من رزايا سيدة النساء زينب لو ابتلي بها أيّ إنسان مهما تذرّع بالصبر وقوة النفس لأوهنت قواه، واستسلم للضعف النفسي، وما تمكن على مقاومة الأحداث، ولكنّها سلام الله عليها قد صمدت أمام ذلك البلاء العارم، وقاومت الأحداث بنفس آمنة مطمئنة راضية بقضاء الله تعالى وصابرة على بلائه، فكانت من أبرز المعنيين بقوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون‌‌‌ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)(3)، وقال تعالى: (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب)(4)، وقال تعالى: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانو يعملون)(5)، لقد صبرت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأظهرت التجلّد وقوة النفس أمام أعداء الله، وقاومتهم بصلابة وشموخ، فلم يشاهد في جميع فترات التأريخ سيدة مثلها في قوة عزيمتها وصمودها أمام الكوارث والخطوب.

يقول الحجّة الشيخ هادي آل كاشف الغطاء في صبرها وعظيم محنتها:

لله صــــــبر زيـــــنب العقــــــيلــــة كـــم شـــــاهدت مــــصائباً مهولـة

رأت مـــــن الخــــطوب والــــرزايا أمـــــراً تــــــهون دونــــــه المنايا

رأت كـــــرام قـــــومها الأمــــــاجد مجـــــزرين فـــــي صــــــعيد واحد

تســـــفي عــــلى جـسومـها الرياح وهــــــي لـــــذوبان الفـــــلا تـبـاح

رأت رؤوســـــاً بــــالقـنا تـــــشـال وجثــــــثـاً أكفـــــانهـا الــــــــرمـال

رأت وضيـــــعـاً بـــــــالسهـام يفطم وصبــــــية بـــــعد أبيــــهم أيتمـوا

رأت شـــــماتـة العـــــــدو فـــــيـها وصنـــــعه مــــــــا شاء فـي أخيها

وإن مــــن أدهــــى الخطوب السود وقوفـها بــــــين يــــــدي يــــــزيد


وقال السيّد حسن البغدادي:

يـــــا قـــــلب زينب ما لاقيت من محـن فــيـك الـــرزايا وكل الصـبر قـد جمعـا

لـــو كــان مـا فيك من صبر ومن محن في قلب أقوى جبال الأرض لانصدعـا

يكــــــفيك صـــــبراً قلوب الناس كلـهم تـــفـطّـرت للـــــذي لاقـــــــيـته جـزعـاّ


لقد قابلت العقيلة ما عانته من الكوارث المذهلة والخطوب السود بصبر يذهل كل كائن حي.


العزة والكرامة


من أبرز الصفات النفسية الماثلة في شخصية سيدة النساء زينب (عليها السّلام) هي: العزة والكرامة، فقد كانت من سيّدات نساء الدنيا في هذه الظاهرة الفذة، فقد حُملت بعد مقتل أخيها من كربلاء إلى الكوفة سبية ومعها بنات رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد نُهب جميع ما عليهنّ من حُلي وما عندهنّ من أمتعة، وقد أضرّ الجوع بأطفال أهل البيت وعقائلهم، فترفعت العقيلة أن تطلب من أولئك الممسوخين - من شرطة ابن مرجانة- شيئاً من الطعام لهم، ولمّا انتهى موكب السبايا إلى الكوفة، وعلمن النساء أنّ السبايا من أهل بيت النبوة سارعن إلى تقديم الطعام إلى الأطفال الذين ذوت أجسامهم من الجوع، فانبرت السيّدة زينب مخاطبة نساء أهل الكوفة قائلةالصدقة محرّمة علينا أهل البيت...).

ولما سمع أطفال أهل البيت من عمّتهم ذلك ألقوا ما في أيديهم وأفواههم من الطعام، وأخذ بعضهم يقول لبعض: إن عمتّنا تقول: الصدقة حرام علينا أهل البيت.

أيّ تربية فذّة تربّى عليها أطفال أهل البيت إنّها تربية الأنبياء والصدّيقين التي تسمو بالإنسان فترفعه إلى مستوى رفيع يكون من أفضل خلق الله.

ولمّا سُيِّرت سبايا أهل البيت من الكوفة إلى الشام لم تطلب السيّدة زينب طيلة الطريق أيّ شيء من الإسعافات إلى الأطفال والنساء مع شدّة الحاجة إليها، فقد أنفت أن تطلب أيّ مساعدة من أولئك الجفاة الأنذال الذين رافقوا الموكب.

لقد ورثت عقيلة بني هاشم من جدّها وأبيها العزّة والكرامة والشرف والإباء، فلم تخضع لأي أحدٍ مهما قست الأيام وتلبدت الظروف، إنها لم تخضع إلاّ إلى الله تعالى.


الشجاعة


ولم يشاهد الناس في جميع مراحل التأريخ أشجع ولا أربط جأشاً ولا أقوى جناناً من الاُسرة النبوية الكريمة، فالإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) عميد العترة الطاهرة كان من أشجع خلق الله، وهو القائل:

(لو تضافرت العرب على قتالي لما وليت عنها)، وقد خاض أعنف المعارك وأشدّها قسوة، فجندل الأبطال، وألحق بجيوش الشرك أفدح الخسائر، وقد قام الإسلام عبل الذراع مفتول الساعد بجهاده وجهوده، فهو معجزة الإسلام الكبرى، وكان ولده أبو الأحرار الإمام الحسين(عليه السّلام) مضرب المثل في بسالته وشجاعته، فقد حيّر الألباب وأذهل العقول بشجاعته وصلابته وقوة بأسه، فقد وقف يوم العاشر من المحرم موقفاً لم يقفه أي أحدٍ من أبطال العالم، فإنه لم ينهار أمام تلك النكبات المذهلة التي تعصف بالحلم والصبر، فكان يزداد انطلاقا وبشراً كلما ازداد الموقف بلاءً ومحنةً، فإنه بعدما صُرعَ أصحابه وأهل بيته زحف عليه الجيش بأسره - وكان عدده فيما يقول الرواة ثلاثين ألفاً- فحمل عليهم وحده وقد طارت أفئدتهم من الخوف والرعب، فانهزموا أمامه كالمعزى إذا شدّ عليها الذئب - على حد تعبير بعض الرواة- وبقي صامداً كالجبل يتلقى الطعنات والسهام من كل جانب، لم يوهن له ركن، ولم تضعف له عزيمة.

يقول العلوي السيّد حيدر:

فـــــتــــــلـقى الجـــــــــــمـوع فــــــرداً ولكن كل عضو في الروع منــه جموع

رمــــــحـه مـــــن بـــــنانه وكــــأن من عزمه حـــــــد ســــــــيفه مــــطــبـوع

زوّج الســــــــــيف بـــــــالنفوس ولكن مهرهــــــا الموت والخضـاب النجــيع


ولما سقط (سلام الله عليه) على الأرض جريحاً قد أعياه نزف الدماء تحامى الجيش الاُموي من الإجهاز عليه خوفاً ورعباً منه، يقول السيّد حيدر:

عفـــــــيراً متـــــى عـــاينته الكمـاة يخــــتطف الــــــرعب ألـــــــوانـها

فـــــما أجـــــلت الحـــرب عن مثله صــــريعاً يجـــــبّن شـــــجعانـــــها


وتمثلت هذه البطولة العلوية بجميع صورها وألوانها عند حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم السيّدة زينب (سلام الله عليها)، فإنّها لمّا مثلت أمام الإرهابي المجرم سليل الأدعياء ابن مرجانة احتقرته واستهانت به، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بلسانه الألكن قائلاً:

الحمد لله الذي فضحكم، وقتلكم، وكذّب اُحدوثتكم...

فانبرت حفيدة الرسول بشجاعة وصلابة قائلة:

(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنا، وَهُوَ غَيرنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة..)(6).

لقد قالت هذا القول الصارم الذي هو أمض من السلاح، وهي والمخدرات من آل محمّد في قيد الأسر، وقد رفعت فوق رؤوسهن رؤوس حماتهن، وشهرت عليهن سيوف الملحدين.

لقد أنزلت العقيلة - بهذه الكلمات- الطاغية من عرشه إلى قبره، وعرّفته أمام خدمه وعبيده أنّه المفتضح والمنهزم، وأنّ أخاها هو المنتصر، ولم يجد ابن مرجانة كلاماً يقوله سوى التشفّي بقتل عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قائلاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك..؟(7).

وانطلقت عقيلة بن هاشم ببسالة وصمود، فأجابت بكلمات الظفر والنصر لها ولأخيها قائلة:

(ما رَأَيْتُ إِلاّ جَميلاً، هؤُلاءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللهُ بَيْنكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتَحَاحُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ اُمُّكَ يَا بْنَ مَرْجَانَةَ..).

أرأيتم هذا التبكيت الموجع؟ أرأيتم هذه الشجاعة العلوية؟ فقد سجلت حفيدة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بموقفها وكلماتها فخراً للإسلام وعزاً للمسلمين ومجداً خالداً للاُسرة النبوية.

أما موقفها في بلاط يزيد، وموقفها مع الشامي وخطابها الثوري الخالد فقد هزّ العرش الاُموي، وكشف الواقع الجاهلي ليزيد ومن مكّنه من رقاب المسلمين، وسنعرض لخطابها وسائر مواقفها المشرّفة في البحوث الآتية.


الزهد في الدنيا


ومن عناصر سيدة النساء زينب (عليها السّلام): الزهد في الدنيا، قد بذلت جميع زينتها ومباهجها مقتدية بأبيها الذي طلّق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، ومقتدية باُمّها سيّدة نساء العالمين زهراء الرسول، فقد كانت فيما رواه المؤرّخون لا تملك في دارها سوى حصير من سعف النخل وجلد شاه، وكانت تلبس الكساء من صوف الإبل، وتطحن بيدها الشعير، إلى غير ذلك من صنوف الزهد والإعراض عن الدنيا، وقد تأثرت عقيلة الرسول (صلّى الله عليه وآله) بهذه الروح الكريمة فزهدت في جميع مظاهر الدنيا، وكان من زهدها أنّها ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها حسب ما رواه عنها الإمام زين العابدين عليه السّلام(8). وقد طلقت الدنيا وزهدت فيها وذلك بمصاحبتها لأخيها أبي الأحرار، فقد علمت أنه سيستشهد في كربلاء أخبرها بذلك أبوها، فصحبته وتركت زوجها الذي كان يرفل بيته بالنعيم ومتع الحياة، رفضت ذلك كلّه وآثرت القيام مع أخيها لنصرة الإسلام والذبّ عن مبادئه وقيمه، وهي على علم بما تشاهده من مصرع أخيها، وما يجري عليها بالذات من الأسر والذل، لقد قدّمت على ذلك خدمة لدين الله تعالى.


يتبع مع أحداث مروّعة

توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 12  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 15-03-2008 الساعة : 08:22 PM


أحداث مروّعة


وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة الصبا في كنف جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفي ذرى عطفه، وهي ناعمة البال قريرة العين، يتلقاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم، وترى أبويها وقد غمرتهما المودة والاُلفة والتعاون، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام، وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه، فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام، كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوة، فقد اندحرت وأذلّها الله، فقد فتحت مكة وطُهِّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تعبدُ من دون الله تعالى.

ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدها الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأبيها واُمّها وأخويها، فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته، وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها، وهذه بعضها:

1 - روى زيد بن أرقم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه السّلام: (أنا حربٌ لمن حاربتهم، وسلم لمن سالمتم)(1).

2 - روى أحمد بن حنبل بسنده: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين، وقال: (من أحبني وأحبّ هذين وأباهما واُمهما كان معي في درجتي اليوم القيامة)(2).

3 - روى أبو بكر، قال: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: (معاشر المسلمين، أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، وحربٌ لمن حاربهم، ووليّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ ردئ الولادة)(3).

4 - روى ابن عباس: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: (النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)(4).

5 - روى زيد بن أرقم: أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إني تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(5).

6 - روى أبو سعيد الخدري، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: (إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له)(6).

7 - روى أبو برزة، قال: صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعة أشهر، فإذا خرج من بيته، أتى باب فاطمة (عليها السّلام)، فقال: (السلام عليكم، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)(7).

رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأبيها واُمّها وأخويها، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم، وأنّه ليس مجرد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة، والقابليات الفذّة التي ترشحهم لقيادة الاُمّة، وتطويرها فكرياً واجتماعياً، وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام، والتزموا بحرفية الرسول (صلّى الله عليه وآله).

خطوب مروّعة

ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبوية فقد دهمتهم كارثة مروّعة فقد بدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين فاستشعر بدنّو الأجل المحتوم منه(8). وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام)، فقال لهاإن جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وأنّه عارضني بهذا العام مرتين، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي)(9).

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع، وطافت بها في فجر الصبا تيارات من الأسى.

ونزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) سورة النصر فكان يسكت بين التكبير والقراءة ويقول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه).

وذُهل المسلمون، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة، فأجابهم: (إن نفسي قد نعيت إليّ)(10).

وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع، فقد وقع عليهم كالصاعقة، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم.

رؤيا العقيلة

ورأت العقيلة في منامها رؤيا أفزعتها، وأذهلتها فأسرعت إلى جدها الرسول (صلّى الله عليه وآله) تقصّها عليه، ولما مثلت عنده أجلسها في حجره وجعله يوسعها تقبيلاً، فقالت له:

(يا جدّاه، رأيت رؤيا البارحة..).

(قصّيها عليّ).

رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منه وأظلمت، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلقت بها من شدّة العاصفة، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض، فتعلقت بغصنٍ قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح، فتعلقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعهما فكسرته العاصفة أيضاً، ثم استيقظت من نومي).

فأجهش النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء، وفسّر لها رؤياها قائلاً: (أما الشجرة: فجدّك، وأمّا الفرع الأول: فأمّك فاطمة، والثاني: أبوك عليّ، والفرعان الآخران هما: أخواك الحسنان، تسودّ الدنيا لفقدهم وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم)(11).

وساد الحزن والأسى في البيت النبوي، وصدقت رؤيا العقيلة فلم تمض أيام حتى رزئت بجدّها واُمّها، تتابعت عليها بعد ذلك الرزايا، فقد استشهد أبوها وأخواها، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد.

حجة الوداع

ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ لقاءه بربّه قريب، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين، ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحق والعدل.

وحجّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لهذا الغرض، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ(حجة الوداع)، وقد أشاع بين حجاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم، وأنه سيسافر إلى الفردوس الأعلى، وجعل يطوف بين الجماهير، ويعرّفهم سبل النجـــاة، ويرشدهم إلــــى ولاة اُمورهم من بــــعده قائلاً: (أيّها الناس، إني تركت فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)(12).

ثم وقف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند بئر زمزم وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسية، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة: (إني خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي ألا هل بلّغت).

فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين: اللّهمّ نعم(13).

لقد عيّن الرسول (صلّى الله عليه وآله) القيادة العامة لاُمّته وجعلها مختصة بأهل بيته، فهم ورثة علومه، وخزنة حكمته، الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كل شيء.

يتبع مع مؤتمر غدير خم

توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 13  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 15-03-2008 الساعة : 08:24 PM


مؤتمر غدير خم

وقفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن يُنصب الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) خليفةً من بعده، ومرجعاً عاماً للاُمّة، لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)(14).

ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، إذ أنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين، فانبرى (صلّى الله عليه وآله) فحطّ أعباء المسير، ووضع رحله في رمضاء الهجير، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك، وكان الوقت قاسياً في حرارته فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتقي به من حرارة الأرض، وقام النبي (صلّى الله عليه وآله) فصلّى بالناس، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل، فصُنع له ذلك، فاعتلى عليه، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فخطب خطاباً مهماً، أعلن فيه ما لاقاه من عناء شاق في سبيل هدايتهم، وتحرير إرادتهم، وإنقاذهم من خرافات الجاهلية وعاداتها، ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم، ثم التفت إليهم فقال: (انظروا كيف تخلفوني في الثقلين..).

فناداه منادٍ من القوم:ما الثقلان يا رسول الله؟.

فأجابه: (الثقل الأكبر: كتاب الله، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر: عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا..).

ثم أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) ليفرض ولايته على جميع المسلمين فرفعها حتى بان بياض ابطيهما، ونظر إليهما القوم، ورفع النبي صوته قائلاً:

(أيها الناس، من أوْلىبالمؤمنين من أنفسهم؟).

فانبرت قوافل الحجاج رافعة عقيرتها: الله ورسوله أعلم..

ووضع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً:

(إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أوْلى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليِّ مولاه).

وكرّر هذا القول ثلاث مرات، أو أربع: ثم قال: (اللهمّ والِِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب...).

لقد أدّى النبي (صلّى الله عليه وآله) رسالة ربّه، فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئن الإمام بهذا المنصب العظيم، ففعلن، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه، وقال له: هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(15).

وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(16).

لقد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وقد خطا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف، فنصب لها القائد والموجّه ولم يتركها فوضى - كما يزعمون- تتلاعب بها الفتن والأهواء وتتقاذفها أمواج من الضلال، إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبيّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ.

لقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام)، وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها، وأنّ جدها قد قلّدها بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض، ولكن القوم قد سلبوا أباها هذا المنصب، وجعلوه في معزل عن الحياة الاجتماعية والسياسية، وقد أخلدوا بذلك للاُمّة المحن والخطوب، وتجرعت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) بالذات أهوالاً من المصائب والكوارث كانت ناجمة - من دون شك- عن هذه المؤامرة التي حيكت ضد أبيها، فانّا لله وإنا إليه راحعون.

مرض النبي (صلّى الله عليه وآله)

ولما قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد حجة الوداع راجعاً إلى يثرب بدأت صحّته تنهار يوماً بعد يوم، فقد ألمّ به المرض، وأصابته حمى مبرحة، حتى كأن به لهباً منها، وكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجـــه وعوّاده عليها أيــــديهم شعــــروا بحرّها(17). وقد وضعوا إلى جواره إناءً فيه ماء بارد فكان يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف، وكان (صلّى الله عليه وآله) يقول: (ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بـ(خيبر)، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)(18). فقد قدمت له امرأة يهودية في خيبر ذلك الطعام الذي سمّته فأثّر فيه.

ولما اُشيع مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هرع المسلمون إلى عيادته، وقد خيّم عليهم الأسى والذهول، فنعى (صلّى الله عليه وآله) إليهم نفسه، وأوصاهم بما يسعدون ويفلحون به قائلاً:

(أيها الناس، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألاّ إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي..).

ثم أخذ بيد وصيّه وخليفته الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال لهم: (هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض..)(19).

لقد قرّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أهم القضايا المصيرية لاُمته، فعيّن لها القائد العظيم الذي يحقّق لها جميع أهدافها وما تصبو إليه في حياتها

سرية اُسامة

ورأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو المرحلة الأخيرة من حياته التيارات الحزبية التي صممت على إقصاء عترته عن قيادة الاُمّة، فرأى أن خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يزج بجميع أصحابه في بعثة عسكرية حتى إذا وافاه الأجل المحتوم تكون عاصمته خالية من العناصر المضادة لوليّ عهده، فأسند قيادة البعثة إلى اُسامة بن زيد، وهو شاب في مقتبل العمر، وكان من بين الجنود أبو بكر وعمر وأبو عبيدة الجراح، وبشير بن سعد(20). وقال النبي لاُسامة:

(سِر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش فاغزِ صباحاً على أهل أبنى(21) وحرق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله عليهم فاقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاّء وقدّم العيون والطلائع معك..).

ومُني الجيش بالتمرّد وعدم الطاعة، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم العسكرية،ولمّا علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك تألّم، فخرج مع ما به من المرض، فحثّ الجند على المسير، وعقد بنفسه اللواء لاُسامة، وقال له: (اغز بسم الله، وفي سبيل الله، وقاتل من كفر بالله..).

فخرج اُسامة بلوائه معقوداً، ودفعه إلى بريدة، وعسكر بـ(الجرف)، وتثاقل جمعٌ من الصحابة عن الالتحاق بالمعسكر، وأظهروا الطعن والاستخفاف باُسامة القائد العام للجيش، يقول له عمر:

مات رسول الله وأنت عليَّ أمير...

وانتهت كلماته إلى النبيّ، وقد أخذت منه الحمّى مأخذاً عظيماَ، فخرج وهو معصّب الرأس قد برح به المرض، فصعد المنبر والتأثّر بادٍ عليه، فقال: (أيّها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم الله، إنّه كان خليقاً بالإمارة وأنّ ابنه من بعده لخليقٌ بها..).

ثم نزل عن المنبر ودخل بيته والتأثّر بادٍ عليه(22). وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق بالجيش قائلاً:

(جهزوا جيش اُسامة..).

(نفذوا جيش اُسامة..).

(لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة..).

ولم ترهف عزائم القوم هذه الأوامر المشدّدة، فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش، واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير، وهو (صلّى الله عليه وآله) لم يمنحهم العذر، وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضا، فقد استبانت له بصورة جلية نيّاتهم وتآمرهم، كما عرفوا قصده بهذا الاهتمام البالغ من إخراجهم من يثرب.

رزية يوم الخميس

وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) علماً بالتحركات السياسية من بعض أصحابه وأنّهم عازمون ومصرون على صرف الخلافة عن أهل بيته، وإفساد ما أعلنه غير مرة من أن عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم الأمر، ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ، فقال لمن حضر في مجلسه: (إئتوني بالكتف والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً)(23).

حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أن اُمّته لا تصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب.

ما أعظم هذه النعمة على المسلمين، إنه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضل اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إنه سينصّ على خلافة عليّ من بعده، ويعزّز بيعة يوم الغدير، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف: حسبنا كتاب الله…

ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة، ولكنه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده.

وكثر الخلاف بين القوم، فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبيّ وهو في الساعات الأخيرة من حياته، فقلن لهم: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)..

فثار عمر وصاح فيهنّ، خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه، فقال للسيدات:

إنكنّ صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن، وإذا صحّ ركبتن عنقه…

فنظر إليه النبي (صلّى الله عليه وآله)، بغضبٍ وغيظٍ، وقال له: (دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم..).

وبدا صراع رهيب بين القوم، وكادت أن تفوز الجهة التي أرادت تنفيذ أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فانبرى أحدهم فأفشل ما أراده النبيّ وحال بينه وبين ما أراد من إسعاد اُمّته، فقال ويا لهول ما قال: إنّ النبيّ ليهجر..(24).

ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى الذي يتلى في آناء الليل وأطراف النهار وهو يعلن تكامل النبي في جميع مراحل حياته، فقد زكّاه وعصمه من الهجر وغيره من ألوان الزيغ والانحراف، وإنه أسمى شخصية في تكامله وسموّ ذاته، قال تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)(25)، وقال تعالى: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون)(26).

إنّ القوم لم يخامرهم أدنى شك في عصمة النبيّ وتكامل ذاته، ولكن حبّ الدنيا، والتهالك على السلطة دفعهم للجرأة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ومقابلتهم له بمرّ القول والطعن بشخصيته.

وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يبكي حتى تسيل دموعه على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ، وهو يصعد آهاته، ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس!! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً)، فقالوا: إن رسول الله يهجر..(27).

حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى، فقد حيل بين المسلمين وسعادتهم ونجاتهم من الزيغ والضلال. لقد وعت السيّدة زينب هذا الحادث الخطير، ووقفت على أهداف القوم من إبعاد أبيها عن المركز الذي نصبه جدّها فيه، فقد جرّ هذا الحادث وغيره ممّا صدر من القوى المعارضة لأهل البيت الكوارث والخطوب لهم، وما كارثة كربلاء إلاّ من نتائج هذه الأحداث.

لوعة الزهراء

ونخب الحزن قلب بضعة الرسول، وبرح بها الألم القاسي وذهبت نفسها شعاعاً حينماً علمت أن أباها مفارق لهذه الحياة، فقد جلست إلى جانبه وهي مذهولة كأنها تعاني آلام الاحتضار وسمعته يقول:

(وا كرباه..).

فأسرعت وهي تجهش بالبكاء قائلة:

(وا كربي لكربك يا أبتي..).

وأشفق الرسول (صلّى الله عليه وآله) على بضعته، فقال لها مسلّياً: (لا كرب على أبيك بعد اليوم..)(28).

وهامت زهراء الرسول في تيارات مروعة من الأسى والحزن فقد أيقنت أنّ أباها سيفارقها، وأراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أن يسلّبها ويخفّف لوعة مصابها فأسرّ إليها بحديثٍ، فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع، ثم أسرّ إليها ثانياً، فقابلته ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور، فعجبت عائشة من ذلك وراحت تقول:

ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن..

وأسرعت عائشة فسألت زهراء الرسول عما أسرّ إليها أبوها، فأشاحت بوجهها الكريم عنها وأبت أن تخبرها، ولكنها أخبرت بعض السيّدات بذلك، فقالت: (أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة, وأنّه عارضني في هذا العام به مرتين، ولا أراه إلّا قد حضر أجلي..).

وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها، أمّا سبب سرورها وابتهاجها، فقالت: (أخبرني أنّكِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي، ونِعْمَ السلف أنا لك، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة..)(29).

ونظر إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي خائرة القوى، منهدة الركن، فأخذ يخفّف عنها لوعة المصاب، قائلاً: (يا بنية لا تبكي، وإذا متّ فقولي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فإنّ فيها من كل ميّت معوضة..).

وأجهشت بضعة الرسول بالبكاء قائلةً: (ومنك يا رسول الله...).

(نعم ومنّي...)(30).

واشتدّ المرض برسول الله (صلّى الله عليه وآله) والزهراء إلى جانبه وهي تبكي وتقول لأبيها:

(يا أبت، أنت كما قال القائل فيك:

وأبيــــــض يستسقى الغمام بوجهه ثــــمال اليــتامى، عصمة الأرامل)

فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (هذا قول عمّك أبي طالب، وتلا قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئأً وسيجزي الله الشاكرين)(31).

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً على أبيها، فانكبّت عليه ومعها الحسنان، فألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء، فأجهش النبي بالبكاء، وهو يقول:

(اللّهمّ أهل بيتي، وأنا مستودعهم كل مؤمن..).

وجعل يردّد ذلك ثلاث مرات حسبما يرويه أنس بن مالك(32).

أمّا حفيدة الرسول زينب، فقد شاركت اُمّها في لوعتها وأحزانها، وقد ذابت نفسها حزناً وموجدة على اُمّها التي هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون على أبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة.

يتبع مع إلى الفردوس الأعلى


توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 14  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 18-03-2008 الساعة : 01:29 AM


إلى الفردوس الأعلى

وبعدما أدّى النبيّ العظيم رسالة ربّه إلى المسلمين، وأقام صروح الإسلام، وعيّن القائد العام لاُمّته الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد اختاره الله تعالى إلى جواره لينعم في الفردوس الأعلى، فقد هبط عليه ملك الموت، فاستأذن بالدخول عليه، فخرجت إليه زهراء الرسول فأخبرته أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغول بنفسه عنه، فانصرف ثم عاد بعد قليل يطلب الإذن، فأفاق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من إغمائه، والتفت إلى بضعته فقال لها:

(يا بنية، أتعرفيه؟).

(لا يا رسول الله…).

(إنّه معمّر القبور، ومخرّب الدور، ومفرّق الجماعات..).

وجمدت بضعة الرسول، وأخرسها الخطب، ولم تملك نفسها أن رفعت صوتها ودموعها تتبلور على وجهها الشريف قائلةً:

(وا أبتاه لخاتم الأنبياء، وا مصيبتاه لممات خير الأتقياء ولانقطاع سيّد الأصفياء، وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء، فقد حرمت اليوم كلامك..).

وتصدّع قلب النبيّ على بضعتة وأشفق عليها، فقال لها مسلياً: (لا تبكي فإنّك أوّل أهلي لحوقاً بي..)(33).

وسكنت روعتها لمّا أخبرها أنّها لا تبقى بعده إلاّ قليلاً..وأذن النبي (صلّى الله عليه وآله) لملك الموت، فلمّا مثُلَ أمامه، قال له: (يا رسول الله، إنّ الله أرسلني إليك، وأمرني أن اُطيعك في كل ما أمرتني، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها..).

فبهر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقال له: (أتفعل يا ملك الموت ذلك..).

بذلك اُمرت أن اًطيعك في كل ما أمرتنا..).

وهبط جبرئيل على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال له: (يا أحمد، إن الله قد اشتاق إليك..)(34).

واختار النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جوار ربّه والرحيل عن هذه الدنيا، فأذن لملك الموت بقبض روحه العظيمة، وفي هذه اللحظات ألقى الحسنان بأنفسهما على جدّهما، وهما يذرفان الدموع، والنبي يوسعهما تقبيلاً، وأراد الإمام أمير المؤمنين أن ينحّيهما عنه فأبى النبيّ، وقال له:

(دعمها يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما فسيصيبهما بعدي إثرة..).

والتفت النبيّ إلى عوّاده فأوصاهم بعترته قائلاً:

(قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيع لسنتّي، والمضيّع لسنّتي كالمضيع لعترتي، إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..)(35).

والتفت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال له: (ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله، فإذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك، ثم وجّهني إلى القبلة، وتولّ أمري، وصلِّ عليِّ أوّل الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رِمسي، واستعن بالله عزّ وجلّ)(36).

وأخذ الإمام أمير المؤمنين رأس النبيّ فوضعه في حجره، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه وشرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة، والرسول يعاني آلام الموت وقسوته حتى فاضت روحه العظيمة فمسح بها الإمام وجهه(37).

لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء العقول وحرّر الأفكار، وأقام مشاعل النور في جميع بقاع الأرض.

لقد سمت روح النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بارئها، وهي أقدس روح سمت إلى السماء منذ خلق الله هذه الأرض.

لقد أشرقت الآخرة لقدومه، وأظلمت الدنيا لفقده، وما أصيبت الإنسانية بكارثة أقسى وأعظم من فقد الرسول العظيم.

تجهيزه

وانبرى الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) وهو خائر القوى، منهدّ الركن إلى تجهيز جثمان سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) فغسّل الجسد الطاهر، وهو يقول بذوب روحه:

(بأبي أنت واُمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مسلياً عمّن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء. ولولا أنّك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكد مخالفاً)(38).

وكان العباس واُسامة يناولانه الماء من وراء الستر(39).

وكان بدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تفوح منه روائح الطيب، والإمام(عليه السّلام) يقول:

(بأبي أنت واُمّي يا رسول الله، طبت حيّاً وميّتاً..)(40).

وبعد الفراغ من غسله أدرجه الإمام في أكفانه ووضعه على السرير.

وأوّل من صلّى على الجثمان العظيم هو الله تعالى من فوق عرشه، ثمّ جبرئيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمراً زمراً(41).

وبعد ذلك صلّى عليه الإمام أمير المؤمنين، ثم أقبل المسلمون للصلاة عليه، فقال لهم الإمام: (لا يقوم عليه إمام منكم، هو إمامكم حيّاً وميّتاً)، فكانوا يدخلون رسلاً رسلاً فيصلّون عليه صفاً واحداً ليس لهم إمام، وأمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان وهو يقول:

(السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، اللّهم إنّا نشهد أنّه قد بلّغ ما اًنزل إليه لاُمّته، وجاهد في سبيل الله حتى أعزّ الله دينه وتمّت كلمته. اللّهم فاجعلنا ممّن يتّبع ما أنزل إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه..).

وكانت الجماهير تقول: آمين(42). وقد نخب الحزن قلوبهم فقد مات من دعاهم إلى الحق، وحرّرهم من خرافات الجاهلية وأوثانها، وأقام لهم دولة تدعو إلى أنصاف المظلوم، وردع الظالم، وإشاعة الرفاهية والرخاء والأمن بين الناس.

مواراة الجثمان المقدس

وبعد أن أفرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم وودّعوه الوداع الأخير، قام الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) فوارى الجسد الطاهر في مثواه الأخير ووقف على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه، ويقول:

(إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك، وإنّ المصاب بك لجليل، وإنّه قبلك وبعدك لجلل..)(43).

لقد مادت أركان العدل وانطوت ألوية الحق، فقد غاب عن هذه الحياة سيّد الكائنات الذي غيّر مجرى التأريخ، وأقام صروح الوعي والفكر في دنيا العرب والإسلام.

يتبع


توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 15  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 18-03-2008 الساعة : 01:30 AM


فجيعة الزهراء

وكان أكثر أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) جزعاً وأشدّهم مصاباً بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وحبيبته فاطمة الزهراء، فقد أشرفت على الموت، وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه، وتقول: وا أبتاه، وا رسول الله، وا نبيّ الرحمتاه، الآن لا يأتي الوحي، الآن ينقطع عنّا جبرئيل. اللّهم إلحق روحي بروحه، واشفعني بالنظر إلى وجهه، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة)(44).

وقالت بذوب روحها:

(وا أبتاه إلى جبرئيل أنعاه، وا أبتاه جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه وا أبتاه أجاب رباً دعاه..).

وأحاطت بالاُسرة النبوية موجات من الأسى والحزن على هذا المصاب العظيم كما أحاطت بها تيارات من الفزع والخوف؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد وتر الأقربين والأبعدين فخافوا من انقضاض العرب عليهم، يقول الإمام الصادق عليه السلام:

(لمّا مات النبي (صلّى الله عليه وآله) بات أهل بيته كأنّ لا سماء تظلّهم ولا أرض تقلّهم، لأنّه وتر الأقرب والأبعد..).

لقد عانت حفيدة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) زينب عليها السلام وهي في سنّها المبكّر هذه المصيبة الكبرى وما تنطوي عليه من أبعاد، وما ستعانيه هي وأهلها من فوادح الرزايا بعد وفاة جدّها كما فقدت بموته العطف والحنان الذي كان يغدقه عليها، وكان عمرها الشريف خمس سنين، وقد غزت قلبها هذه المحنة الشاقة، فقد رأت جدّها يوارى في مثواه الأخير، ورأت أباها بادي الهمّ والحزن على فراق ابن عمّه، وشاهدت أمّها الرؤوم وهي ولهى قد ذابت من الأسى، وهي تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة، ومنذ ذلك اليوم لازمها الأسى والحزن حتى لحقت بالرفيق الأعلى.


في عهد الخلفاء

لا يستطيع أيّ كاتب مهما كان بارعاً في تصوير دقائق النفوس، وكشف أسرار المجتمع وأحداث التأريخ أن يصوّر بدقة عمق الكوارث والأوبئة التي داهمت الاًمّة الإسلامية بعد وفاة نبيّها العظيم، كما صوّرها القرآن الكريم، قال تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم…)(1).

إنّه تصوير هائل للأزمات المفجعة والنكبات السود التي مُني بها العالم الإسلامي، إنه انقلاب على الأعقاب، وانسلاخ عن العقيدة الإسلامية، وتدمير لشريعة الله، فأيُّ زلزال مدمّر كهذا الزلزال الذي عصف بالاُمّة الإسلامية وأخلد لها الفتن والكوارث على امتداد التأريخ.

وكان من أقسى ما فجعت به الاُمّة إبعاد العترة الطاهرة عن المسرح السياسي وتحويل القيادة إلى غيرها، الأمر الذي نجم عنه فوز الاُمويين وغيرهم بالحكم، وإمعانهم بوحشية قاسية في ظلم العلويين ومطاردتهم، ومجزرة كربلاء كانت من النتائج المباشرة لصرف الخلافة عن أهل البيت(عليهم السّلام).

وعلى أيّ حال، فإنّا نعرض - بإيجاز- لبعض تلك الأحداث، والتي منها حكومة الخلفاء الذين عاصرتهم حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فإنها ترتبط ارتباطاً موضوعياً بالكشف عن حياتها وما عانته من كوارث وأهوال، وفيما يلي ذلك:

مؤتمر السقيفة

أمّا مؤتمر السقيفة فهو مصدر الفتنة الكبرى التي مُني بها المسلمون والتي كان من جرّائها الأحداث المروّعة التي رزئ بها أهل البيت، يقول الإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء:

تــــا الله ما كربلاء لولا (سقيفتهم) ومثل هذا الفرع ذاك الأصل أنتجـه

ويقول بولس سلامة:

وتـــــوالـت تـــــحت السقـيفة أحـدا ث أثــــــارت كـــــوامـناً وميــــولا

نــــزعات تــــــفرقت كـغصون الـــ ــعـــوسج الخــــفيّ شائكـاً مدخولاً

لقد أسرع الأنصار إلى عقد مؤتمرهم في (سقيفة بني ساعدة)، لترشيح أحدهم لمنصب الخلافة، وإقامة حكومة تضمن مصالحهم وترعى شؤونهم، لقد عقدوا مؤتمرهم في وقت كان جثمان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يوارَ في مثواه الأخير، وأكبر الظنّ إنّما قاموا بهذه السرعة الخاطفة بذلك لأنهم خافوا من استيلاء المهاجرين على الحكم، فقد رأوا تحرّكهم السياسي في صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين وكراهيتهم له.

وعلى أي حال، فقد خطب سعد بن عبادة زعيم الخزرج في الأنصار، وكان منطق خطابه الإشادة بنضال الأنصار وجهادهم في نصرة الإسلام وقهر القوى المعادية لهم، فهم الذين حملوا النبي (صلّى الله عليه وآله) ونصروه في أيام محنته، فإذاً هم أوْلى بمركز النبي (صلّى الله عليه وآله) وأحقّ بمنصبه من غيرهم، كما حفل خطابه بالتنديد بالاُسر القرشية التي ناهضت النبي (صلّى الله عليه وآله) وناجزته الحرب حتى اضطر للهجرة إلى يثرب، فهم خصومه وأعداؤه ولا حقّ لهم بأيّ حالٍ في التدخل بشؤون الدولة ومصيرها. وقام زعيم آخر من الأنصار هو الحبّاب بن المنذر، فحذّر الأنصار من القرشييّن، وأهاب بهم أن يجعلوا لهم نصيباً في الحكم، قائلاً:

لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم وإخوانهم..

وتحقّق تنبؤ الحبّاب، فإنّه لم يكن ينتهي حكم الخلفاء حتى آل الأمر إلى الاُمويّين فأمعنوا في إذلال الأنصار وإشاعة البؤس والفقر فيهم، وقد انتقم منهم معاوية كأشرّ وأقسى ما يكون الانتقام. ولمّا ولِيَ الأمر من بعده يزيد جهد في الوقيعة بهم، فأباح أموالهم ودماءهم وأعراضهم لجيوشه في واقعة (الحرة) التي اُنتهكت فيها جميع ما حرّمه الله.

وعلى أيّ حال، فقد تجاهل سعد وغيره من الأنصار الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) الذي هو من النبيّ بمنزلة هارون من موسى، وأبو سبطيه، وباب مدينة علمه، وسيّد عترته. ولا نرى أيّ مبرر لسعد في إغضائه وتجاهله حق الإمام عليه السّلام، فقد فتح باب الشرّ على الاُمّة، وأخلد لها المصاعب والفتن على امتداد التأريخ.

يتبع مع مباغتة الأنصار


توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 16  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 29-03-2008 الساعة : 04:53 PM


مباغتة الأنصار

وحينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شؤون الخلافة إذ خرج من مؤتمرهم عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار، وكانا من أولياء أبي بكر ومن أعضاء حزبه، وكانا يحقدان على سعد، فانطلقا مسرعَين إلى أبي بكر فأخبراه بالأمر، ففزع أبو بكر، واسرع ومعه عمر وأبو عبيدة الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة وآخرون من المهاجرين(2)، فكبسوا الأنصار في ندوتهم، فذهل الأنصار وأسقط ما بأيديهم لأنّهم أحاطوا ندوتهم بسرّية وكتمان، وتغيّر لون سعد، فقد انهارت جميع مخطّطاته، وفشلت جميع تدابيره.

خطاب أبي بكر

واستغلّ أبو بكر الموقف، وأراد صاحبه عمر أن يفتح الحديث مع الأنصار، فنهره أبو بكر لعلمه بشدّته، وهي لا تساعد في مثل هذا الموقف الملبّد الذي يجب أن تستعمل فيه الأساليب السياسية والكلمات الناعمة لكسب الموقف، فبادر أبو بكر فخاطب الأنصار بكلمات معسولة وبسمات فيّاضة بالبشر، قائلاً:

نحن المهاجرون أوّل الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً، وأحسنهم وجوهاً، وأمسّهم برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين نصرتم الإسلام، وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، ونحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش، فلا تنفسوا على أخوتكم المهاجرين ما فضّلهم الله به، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - يعني: عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجراح -(3).

ولم يعرض هذا الخطاب إلى وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) التي هي أعظم كارثة مُني بها المسلمون، فكان الواجب أن يعزّي المسلمين بوفاة منقذهم ونبيّهم، كما أنّ الواجب يقضي بتأخير المؤتمر إلى بعد مواراة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتى يجتمع جميع المسلمين وينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم من شاؤوا.وشيء آخر في هذا الخطاب أنّه لم يمعن إلاّ بطلب الإمرة والسلطان، فقد طلب من الأنصار أن يتنازلوا عن الخلافة إلى المهاجرين، وأنّهم سينالون عوض ذلك الوزارة، إلاّ أنّه لمّا تمّ الأمر لأبي بكر أقصاهم ولم يمنحهم أيّ منصبٍ من مناصب الدولة.

وممّا يؤخذ على هذا الخطاب أنّه تجاهل بصورة كاملة أهل البيت الذين هم وديعة النبيّ في اُمّته، والثقل الأكبر فيها، فلم يشر إليهم أبو بكر بقليل ولا بكثير.

بيعة أبي بكر

وانبرى حزب أبي بكر إلى تأييده، فكان من أعظم المناصرين له عمر بن الخطاب، وسارع إلى بيعته مع بقية أعضاء حزبه خوفاً من تطوّر الأحداث، واشتدّ عمر في إرغام الناس على بيعة أبي بكر، وقد لعبت درته شوطاً في الميدان، وقد سمع الأنصار يقولون: قتلتم سعداً!، فجعل يقول بعنف: اقتلوه، قتله الله، فإنّه صاحب فتنة(4).

وبعدما تمّت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة الخاطفة أقبل به حزبه يزفّونه زفاف العروس إلى مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم يشترك أبو بكر ولا أي فرد من حزبه في تشييع جثمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومواراته، فقد انشغلوا بالمُلك والسلطان وتدبير اُمورهم.

لقد أهمل في بيعة أبي بكر رأي العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم، فلم يُعنُ بها ولم يؤخذ رأيها، ومنذ ذلك واجهت جميع ألوان الرزايا والنكبات، وما كارثة كربلاء وغيرها من مآسي العترة الطاهرة إلاّ وهي متفرّعة من يوم السقيفة، حسبما نصّت عليه الوثائق التاريخية والدراسات العلمية.

امتناع الإمام عن البيعة

والتاع الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) من بيعة أبي بكر، واعتبرها تعدّياً صارخاً عليه، فقد كان محلّه من الخلافة محلّ القطب من الرحى، ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير - على حدّ تعبيره -، وقد تخلف عن بيعة أبي بكر وأعلن معارضته لها، وقد شاع ذلك بين المسلمين، ومن يقرأ نهج البلاغة يجد فيه لوحات من تذمّره وأساه على ضياع حقّه.

إرغامه على البيعة

وأجمع أبو بكر وسائر أعضاء حزبه على إرغام الإمام على البيعة لأبي بكر وحمله بالقوّة عليها، فأرسلوا إليه شرطتهم، فكبسوا داره وأخرجوه منها بالقسر والقوّة، وجاءوا به إلى أبي بكر، فصاحوا به:

بايع أبا بكر…

فأجابهم الإمام بمنطقه الفيّاض وحجّته الحاسمة، قائلاً:

(أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، لا اُبايعكم وأنتم أوْلى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً‍!

ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أوْلى بهذا الأمر منهم لما كان محمّد (صلّى الله عليه وآله) منكم، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أوْلى برسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّاً وميّتاً، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون..).

وأعلن الإمام بهذا الخطاب الرائع أنّه أوْلى بمركز النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وأحق بخلافته من غيره، فهو أقرب الناس وألصق بالرسول (صلّى الله عليه وآله) من المهاجرين الذين فازوا بالحكم لقربهم من النبيّ، فهو ابن عمّه وأبو سبطيه، ولا يملك أحد من القرب إلى النبيّ غيره.. وثار ابن الخطاب بعد أن أعوزته الحجة والبرهان، فاندفع بعنفٍ قائلاً:

إنّك لست متروكاً حتى تبايع..

فزجره الإمام قائلاً: احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره، ويردده عليك غداّ...).

وكشف الإمام الوجه في اندفاع ابن الخطاب وتهالكه على نصرة أبي بكر، فأنّه يأمل أن ترجع إليه الخلافة والملك بعد أبي بكر.

وثار الإمام وهتف قائلاً: (والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه...).

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث، وخشي أن ترجع إلى المسلمين حوازب أحلامهم فيقصوه عن منصبه، فخاطب الإمام بناعم القول: إن لم تبايع فلا اُكرهك..

وانبرى أبو عبيدة بن الجراح وهو من أبرز حزب أبي بكر، فخاطب الإمام قائلاً:

يا بن عمّ، إنك حدث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى إلاّ أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق، وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك..).

وليس في هذا القول إلاّ الخداع والتضليل فإن التقدّم في السن ليس له أي ترجيح في منصب الخلافة التي تتطلّب الطاقات الخلاّقة بما تحتاج إليه الاُمّة في الميادين السياسية والاقتصادية والقضائية، ولا يملك أحد من المسلمين ذلك غير الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

وأثارت مخادعة أبي عبيدة كوامن الألم في نفس الإمام، فانبرى يخاطب المهاجرين قائلاً:

الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه. فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به لأنا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الاُمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنّه لفينا، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحق بُعداً..(5). وحفلت هذه الكلمات بالصفات الرفيعة الماثلة في أهل بيت النبوة من الفقه بدين الله، والعلم بسنن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والإحاطة بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاقتصادية والسياسية، ولا تتوفر بعض هذه الصفات في غيرهم، ولو أنّ القوم استجابوا لنداء الإمام لجنّبوا العالم الإسلامي الكثير من المشكلات والأزمات ولكنّهم انسابوا وراء أطماعهم وشهواتهم وتهالكهم على الإمرة والسلطان.

وعلى أيّ حال، فقد رجع الإمام (عليه السّلام) إلى داره لم يبايع أبا بكر، وقد أحاطت به موجات من الأسى على ضياع حقّه وحرمان الاُمّة من قيادته، وقد التاعت سيّدة النساء زينب وغزاها الحزن على ما حلّ بأبيها من الآلام والكوارث، فقد رأته جالساً في بيته يساور الهموم والأحزان، وحوله اُمّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) وهي تبكي أباها وتندبه بأشجى ما تكون الندبة، وقد شاركت زوجها في مصابه على ضياع حقّه، ونهب مركزه ومقامه.

يتبع مع إجراءات صارمة

توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 17  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 29-03-2008 الساعة : 04:54 PM


إجراءات صارمة

وقضت سياسة أبي بكر أن يقابل الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) بجميع الإجراءات الصارمة لأنّه الممثّل الوحيد للقوى المعارضة لحكومته، ومن بين تلك الوسائل التي سلكها أبو بكر:

1 - إسقاط الخمس:

أمّا الخمس فهو حق مفروض لآل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نصّ عليه القرآن الكريم، قال تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)(6)، وأجمع الرواة أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أرحامه بسهم آخر منه، وكانت هذه سيرته إلى أن اختاره الله إلى جواره، ولمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبيّ وسهم ذي القربى، ومنع بني هاشم من الخمس(7).

وبذلك فقد قضى على أهم مورد اقتصادي لهم، وقد أرسلت سيّدة النساء فاطمة (عليها السّلام) إلى أبي بكر تسأله أن يدفع إليها ما بقي من خمس (خيبر)، فأبى أن يدفع إليها شيئاً(8). وبذلك فقد ترك شبح الفقر على آل النبي، وحجب عنهم ما فرضه الله لهم.

2 - الاستيلاء على تركة النبيّ:

واستولى أبو بكر على جميع ما تركه الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بلغة العيش وحازه إلى بيت المال، وبذلك فقد فرض حصاراً اقتصادياً على آل الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى لا يتمكّنون من القيام بأيّ حركة ضده.

3 - تأميم فدك:

وأمّم أبو بكر (فدكاً) وصادرها من أهل البيت، ومنعهم من أخذ وارداتها،وقد ضيّق عليهم بذلك غاية التضييق. ومنع عنهم جميع وسائل العيش.

الزهراء مع أبي بكر

والتاعت بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أبي بكر، فقد سدّ عليها جميع نوافذ الحياة الاقتصادية، فخرجت سلام الله عليها غضبى، فلاثت خمارها، واشتملت بجلباتها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى دخلت على أبي بكر وهو في جامع أبيها، وكان في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة فوقفت مفخرة الإسلام فأنّت أنّه أجهش لها القوم بالبكاء، وارتجّ المجلس، فأمهلتهم حتى إذا سكن نشيجهم وهدأت فورتهم افتتحت خطابها الخالد بحمد الله والثناء عليه، وانحدرت في خطابها كالسيل، فلم يُسمع أخطب ولا أبلغ منها، وحسبها أنّها بضعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي أفاض عليها بمكرمات نفسه، وغذّاها بحكمة وآدابه.

وتحدّثت في خطابها عن معارف الإسلام، وفلسفة تشريعاته، وعلل أحكامه، وعرضت إلى الحالة الراهنة التي كانت عليها اُمم العالم وشعوب الأرض قبل أن يشرق عليها نور الإسلام، فقد غرقت الاُمم بالجهل والانحطاط خصوصاً (الجزيرة العربية) فقد كانت في أقصى مكان من الذّل والهوان، وكانت الأكثرية الساحقة تقتاد القِدَّ، وتشرب الطَّرْقَ، وترسف في قيود الفقر والبؤس إلى أن أنقذها الله بنبيّه محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فرفعها إلى واحات الحضارة وجعلها سادة الاُمم والشعوب، فما أعظم عائدته على العرب والمسلمين!

وعرضت سيدة نساء العالمين في خطبتها إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وعظيم جهاده في نصرة الإسلام، وذبّه عن حياض الدين، في حين أنّ المهاجرين من قريش بالخصوص كانوا في رفاهية من العيش وادعين آمنين، لم يكن لهم أي ضلع في نصرة القضية الإسلامية والدفاع عنها. فلم يُؤثر عن أعلامهم أنّهم قتلوا مشركاً أو برزوا ببسالة وصمود إلى مقارعة الأقران في الحروب، وإنّما كانوا ينكصون عند النزال، ويفرّون من القتال - على حدّ تعبيرها- وكانوا يتربّصون الدوائر بأهل بيت النبوة ويتوقعون بهم نزول الأحداث.

وأعربت مفخرة الإسلام في خطابها عن أسفها البالغ على ما مُنِي به المسلمون من الزيغ والانحراف والاستجابة لدواعي الهوى والغرور وذلك بإقصائهم لأهل البيت عن مركز القيادة العامة، وتنبّأت عمّا سيحلّ بهم من الكوارث والخطوب التي تدع فيئهم حصيداً، وجمعهم بديداً من جرّاء إبعادهم لأهل بيت النبوة عن مقامهم الذي نصبهم فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ثم عرضت إلى حرمانها من إرث أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقالت:

(وَأَنتُم تَزْعُمُونَ أَنْ لا إِرْثَ لِي مِن أَبِي، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنُونَ..وَيْهاً أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ أَاُغْلَبُ عِلى تُرَاثَ أَبِي..).

ثم وجهت خطابها إلى أبي بكريَا بْنَ أبي قُحَافَةَ!! أَفِي كِتَابِ اللهِ أَن تَرِبَ أَبَاكَ وَلاَ أَرِثُ أَبِي؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيّاً. أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ اللهِ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ إِذْ يَقُولُ: (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ دَاوُدَ).

وَقَال فِيمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيى بن زَكَرِيّا، إِذْ يَقُولُ: 0فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَليّاً* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً).

وَقَالَ: (وَاُولُوا الأَرحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ).

وَقَالَ: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ).

وَقالَ: (إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُتَّقِينَ).

وَزَعَمْتُمْ أَنْ لاَ حَظْوَةَ لِي وَلاَ إِرْثُ مِنْ أَبِي، وَلاَ رَحِمَ بَيْنَنَا أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بآيَةٍ أَخْرَجَ مِنْهَا أَبِي؟

أَمْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَهْلَ مِلَّتَيْنِ لاَ يَتَوَارَثَانِ، أَوَ لَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ؟ أَمْ أَنْتُم أَعْلَمُ بِخُصوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمِّي؟).

وبعدما ما أدلت بهذه الحجج الدامغة المدعمة بآيات من القرآن الكريم التي فنّدت فيها مزاعم أبي بكر من أنّ الأنبياء لا يورثون، ثم التفتت إليه فوجّهت إليه هذه الكلمات اللاذعة قائلةً:

فدُونَكها مَرْحُولَةً مَزْمُومَة تَكُونُ مَعَكَ فِي قَبْرِكَ، وَتَلْقَاكَ يَومَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَنِعْمَ الزَّعِيمُ مُحَمَّدُ، وَالمَوعِدُ الْقِيَامَةُ، وَعِنْدَ السَّاعَةِ يَخْسَرُ الْمُبْطلُونَ، ولِكُلِّ نَبأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، (مَن يَأتيهِ عَذَابُ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابُ مُقِيمُ).

ثم اتّجهت نحو فتيان المسلمين تستنهض هممهم، وتوقظ عزائمهم للمطالبة بحقها والثورة على الحكم القائم، قائلة:

(يَا مَعْشَرَ النَّقيبَةِ، وَأَعْضَادَ المِلَّةِ، وَحَضَنَةَ اٌلإِسْلاَمِ، مَا هذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلاَمَتِي؟ أَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله): (الْمَرءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ)؟ لَسَرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُم! وعَجْلاَنَ ذَا إهالَةً!

أَتَقُولُونَ: مَاتَ مُحمَّدُ؟ لًعَمْرِي، خَطبُ جَليلُ، إِسْتَوْسَعَ وَهْبُةُ، وَاسْتَنْهَرُ فَتْقُهُ، وَفُقِدَ رَاتِقُهُ، وَأَظْلَمتِ الأَرْضُ لِغَيبَتِهِ، واكْتأَبَتْ خِيرَةُ اللهِ لمُصِيبَتِهِ، وَخشَعَتِ الْجِبَالُ، وَأَكْدَتِ الآمَالُ، واُضِيعَ الْحَرِيمُ، وَأُزِيلَتِ الْحُرْمَةُ، فَتلك نَازِلَةُ أَعْلَنَ بِهَا كِتَابُ اللهِ فِي أَفْنِيَتِكُمْ، مُمْساكُمْ وَمُصْبِحِكُمْ، هِتافاَ هِتافاً: (وَمَا مُحَمَّدُ إِلَّا رَسُولُ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرُّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).

وأخذت سيّدة النساء تحفّز الأنصار، وتذكّرهم بجهادهم المشرق في نصرة الإسلام وحماية مبادئه وأهدافه وكفاحهم لأعدائه القرشيّين، طالبة منهم الثورة ضد الحكم القائم وإرجاع الحق إلى عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلة:

(أَيهاً بَنِي قِيلَةَ(9) أَأُهْضَمُ تُرَاثَ أَبِي وَأَنْتُمْ بِمَرْأى مِنِّي وَمَسْمَعٍ وَمُنْتَدى وَمَجْمَعٍ، تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وَتَشْمَلُكُمُ الْخُبْرَةُ، وَأَنْتُمْ ذَوُو الْعُدَّةِ وَالْعَدَدِ وَالأَدَاةِ وَالْقُوَةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاَحُ وَالْجُنَّةُ(10).تُوافِيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلاَ تُجِيبُونَ، وَتَأتِيكُمُ الصَّرخَةُ فَلاَ تُغِيثُونَ وَأَنتُمْ مَوصُوفُون بِالكِفاحِ، مَعْرُوفُونَ بِالخَيْرِ وَالصَّلاَحِ، وِالنُّخْبَةُ الَّتِي انتُخِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتِيرتْ لَنَا - أهل البيت - قَاتَلتُمُ اَلَعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَنَاطَحْتُمُ الأُمَمَ، وَكَافَحتُمُ البُهَمَ، فَلاَ نَبْرَحُ أَوْ تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُم فَتَأْتَمِرُونَ، حَتّى إِذَا دَارَتْ بِنَا رَحَى الإِسْلامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الأَيَّامِ، وَخَضَعَتْ نُعرَةُ الشِّركِ، وَسَكَنَت فَوْرَةُ الإِفْكِ، وَخَمَدَتْ نِيرَانُ الْكُفْرِ، وَهَدَأَتْ دَعْوَةُ الْهَرَجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظَامُ الدِّينِ، فَأَنْى جرْتُمْ(11)بَعْدَ الْبَيَانِ، وَأَسْرَرتُمْ بَعْدَ الإِعْلاَنِ، وَنَكصْتُمْ بَعْدَ الإقْدَامِ، وَأَشرَكْتُمْ بَعْدَ الإِيمَانِ، بُؤسَاً لِقَوْمٍ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَونَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ولما رأت وهن الأنصار وتخاذلهم عن إجابة الحق، وجّهت لهم أعنف القول وأشد العتب قائلة لهم:

(ألا وَقَدْ قُلْتُ هذَا عَلى مَعْرِفَةٍ مِنِّي بِالْجِذْلَةِ الَّتِي خَامَرْتُكُمْ، وَالْغَدْرَةِ الَّتِي اسْتَشْعَرَتْهَا قُلُوبُكُمْ، وَلكِنَّهَا فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَبَثَّةُ الصَّدْرِ، وَنَفْثَةُ الَغَيْظِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ، فَدُونَكُمُوهَا فَاحْتَقِبُوهَا دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، بَاقِيَةَ الْعَارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ، وَشَنَارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بـ(نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُؤْصَدَةَ) عَيْنِ اللهِ مَا تَفْعَلُونَ (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)).

وَأَنَا إِبْنَةُ نّذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابُ شَدِيدُ، فَاعْمَلُوا إِنَّا عَامِلُونَ، (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(12).

وهذا أروع خطاب ثوري عرفه التأريخ الإسلامي، فقد وضعت فيه مفخرة الإسلام النقاط على الحروف، ووضعت المسلمين أمام الأمر الواقع، وكشفت لهم عمّا سيواجهونه من الويلات والكوارث والأزمات من جراء تخاذلهم عن نصرة الإسلام أمام هذه المحنة الحازبة، وقد وجلت القلوب وخشعت الأبصار، وأوشكت الثورة أن تحدث على أبي بكر ويقصى عن منصبه إلّا أنّه سيطر على الموقف بلباقة مذهلة فقد قابل بضعة الرسول بكل حفاوة وتكريم، وتصاغر أمامها، وأظهر لها أنّه لم يتقلّد منصب الحكم، ولم يتّخذ معها الإجراءات القاسية عن رأيه الخاص، وإنّما كان عن رأي المسلمين واتّفاقهم، متى ولا نعلم أنّه حتى استشار أحداً في تقمصه للخلافة، ومصادرته لتركة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وتأميمه لفدك وغيرها، مما أوجب التضييق الاقتصادي على العترة الطاهرة.

وعلى أي حال، فقد حفظت السيّدة زينب وهي في عهد الصبا هذا الخطاب الخالد، وهي إحدى رواته، وكان ذلك آية في نبوغها فقد روته بحرفيته، وكانت مع اُمّها حينما أدلت بهذا الخطاب الذي هو أحد الركائز المهمة في مذهب أهل البيت(عليهم السّلام)، وقد رجعت معها وهي تجرّ أذيال الخيبة، قد مزّق الأسى فؤادها فلم يرع أبو بكر مكانتها، ولم يستجب المسلمون لمطالبها، وقد استولت عليها الآلام والهموم على ما تُمنى به الاُمّة من الكوارث والأزمات من جراء إقصاء أهل البيت(عليهم السّلام) عن القيادة العامة للعالم الإسلامي.

يتبع مع اعتذار مرفوض

توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 18  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-04-2008 الساعة : 07:37 PM


اعتذار مرفوض

وجهد أبو بكر وعمر على إرضاء زهراء الرسول وتطييب خاطرها على ما اقترفاه في حقها، فاستأذنا بالدخول عليها فأبت أن تأذن لهما، وعرضا على الإمام (عليه السّلام) رغبتهما الملحّة في مقابلة سيّدة النساء، فانطلق الإمام نحو الصدّيقة والتمس منها إجابتهما، فسمحت لهما بالدخول، فلمّا مثلا عندها أشاحت بوجهها عنهما، وقدّما إليها اعتذارهما، فقالت:

(أرأيتكما إن حدّثتكما حديثاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعرفانه وتعملان به؟).

فأجابا: نعم.

فقالت: (نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟).

فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

فانبرت حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي مغيظة محنقة فخاطبت أبا بكر وشاركت معه صاحبه قائلة:

(إنّي اُشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبيّ لأشكونكما إليه..).

وفزع أبو بكر وقال رافعاً عقيرته: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه ومن سخطك يا فاطمة.

ووجّهت إليه أعنف القول قائلة: (والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة اُصليها)(13).

وخرج أبو بكر ولم يظفر برضا زهراء الرسول (صلّى الله عليه وآله) وكان ذلك من أعظم الصدمات التي واجهها في أيام حكومته.

ومن الطبيعي أن عقيلة بني هاشم قد شاركت اُمها البتول في سخطها على أبي بكر، وعدم رضائها عنه.

مآسي البتول

وطافت موجات قاسية من الآلام والأحزان ببضعة الرسول ووديعته، فقد استغرق الأسى قلبها الرقيق المعذّب وغشيتها سُحب قاتمة من اللوعة والحزن على فقد أبيها الذي كان عندها أعزّ من الحياة، وكانت تزور بلهفة جسده الطاهر فتطوف حوله وهي ذاهلة اللبّ منهدة الكيان فتلقي بنفسها عليه، وتأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه على عينيها، وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه، وتقول:

مّـــــاذا عــــّلى مّــــــن شّمَّ تُربَةَ أَحمَـدٍ أَن لاَ يَـــــشم مـــــدى الــزمان غواليـا

صـــــبت عــــــلىّ مــــــصائب لو أنـها صــــبـت عـــــلـى الأيــــام صرن لياليا

قــــــل لـــــلمغيب تـــحت أطباق الثرى إن كنـــــت تـــــــسمع صرختي وندائيا

قـــــد كــــنت ذات حمى بــــــظل محمد لا أختشي ضـــــيمـاً وكـــــــان جمالـيا

فـــــاليوم أخـــــضع لــــلذليـل وأتـــقى ضـيمي وأدفــــــع ظـــــالـمي بـــردائيا

فـــــإذا بـــــكت قـــمرية فــــــي لـيلـهـا شجناُ عــــلى غـــــصن بكيـت صباحيا

فـــــلأجعلن الــــحزن بــــعدك مـؤنسي ولأجــــعلــنّ الـــدمع فـــــيك وشـــاحيا(14)

وحكت هذه الأبيات ما عانته زهراء الرسول من لوعة وشجون على فراق أبيها الذي استوعب حبّه عواطفها ومشاعرها، وقد بلغ من عظيم حزنها عليه أنّه لو صبّت مصائبها على الأيام لخلعت ضياءها ولبست السواد القاتم.

كما صوّرت هذه الأبيات الرقيقة مدى عزّتها وعظيم مكانتها في أيام أبيها سيّد الكائنات، فقد كانت من أعزّ وأمنع نساء المسلمين، ولكنها بعد فقد أبيها تنكّر لها أصحابه، وأجمعوا على هضمها والغضّ من شأنها حتى صارت تخضع للذليل، وتتقي الظالمين لها بردائها، إذ ليس عندها قوة تحميها ولم تكن تأوي إلى ركن شديد.

وقد خلدت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ووديعته إلى الأسى والحزن، وقد وجدت في البكاء راحة نفسية لها، وبلغ من عظيم وجدها على أبيها أنّ أنس مالك استأذن عليها ليعزّيها بمصاب أبيها، وكان ممّن وسّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في مثواه الأخير فقالت له: (هذا أنس بن مالك؟).

نعم، يا بنت رسول الله.

فانبرت وهي تلفظ قطعاً من قلبها المذاب قائلة:

(كيف طابت نفوسكم أن تحثّوا التراب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟)(15).

وغرق أنس في البكاء، وانصرف وقد نخب الأسى فؤاده. وبلغ من عظيم حزن الصدّيقة على أبيها أنّها كانت تطالب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أن يريها القميص الذي غُسِّل فيه أباها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإذا جاء به إليها تأخذه بلهفة وتوسعه تقبيلاً وشمّاً لأنّها تجد فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه.

وخلدت زهراء الرسول إلى البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل، وظل شبح أبيها يطاردها في كل فترة من حياتها القصيرة الأمد، وكانت ابنتها الصدّيقة الطاهرة زينب في حزن بهيم تنظر إلى اُمّها وقد أشرفت على الموت من كثرة البكاء على أبيها فكانت تشاركها في أحزانها وآلامها ولوعتها.

وثقل على أتباع أبي بكر بكاء الصدّيقة على أبيها فشكوا ذلك إلى الإمام أمير المؤمنين، وطلبوا منه أن يجعل لبكائها وقتاً خاصاً، فعرض الإمام عليها ذلك فأجابته، فكانت في نهارها تمضي إلى خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين وزينب فتجلس تحت شجرة من الأراك، وتأخذ باللوعة والبكاء على أبيها طيلة النهار فإذا أوشكت الشمس أن تغرب قفلت مع أبنائها إلى الدار، وعمد القوم إلى تلك الشجرة فقلعوها فكانت تبكي في حرّ الشمس، فسارع الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) فبنى لها بيتاً سماه (بيت الأحزان)، وظل هذا البيت رمزاً لأساها وغضبها على القوم على مرّ العصور، ويقول الرواة إن الإمام قائم آل محمد(عليه السّلام) قال في هذا البيت:

أم تــــــراني اتـــــخذت لا وعــلاها بـــعد بــــيت الأحــزان بيت سرور

وكانت بضعة رسول الله وحبيبته مع أطفالها يمكثون طيلة النهار في ذلك البيت الحزين، وهي تناجي أباها وتندبه وتبكيه، فإذا جاء الليل أقبل الإمام (عليه السّلام) فأرجعها مع أطفالها إلى الدار.

واستولى الحزن على بضعة الرسول وذاب جسمها، وقد فتكت بها الأمراض فلازمت فراشها، ولم تتمكّن من النهوض والقيام، وكانت ابنتها العقيلة إلى جانبها تقوم بخدماتها ورعايتها، وبادرت السيّدات من نساء المسلمين إلى عيادتها فقلن لها: كيف أصبحت من علّتك يا بنت رسول الله؟

فرمقتهن بطرفها وأجابتهن بصوتٍ خافت مشفوع بالأسى والحسرات قائلة:

(أجدني كارهة لدنياكن، مسرورة لفراقكن، ألقى الله ورسوله بحسرات، فما حُفِظ لي الحق، ولا رعيت مني الذّمة، ولا قبلت الوصية، ولا عُرِفت الحرمة..)(16).

أجل لم يحفظ حقّها، ولم ترع ذمّتها، فقد أصرّ القوم على هضمها والتنكر لها، وانصرفن النسوة وقد غامت عيونهن بالدموع، وعرضن على أزواجهن كلمات زهراء الرسول وغضبها عليهم، وقد عرفوا مدى تقصيرهم في حقها..وهرعت بعض اُمّهات المؤمنين إلى عيادتها فقلن لها:

يا بنت رسول الله، صيري لنا في حضور غسلك حظاً(17).

فلم تجبهن إلى ذلك، وقالت: (لا حاجة لي في حضوركن).

إلى جنة المأوى

وذوت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما تذوي الأزهار، ومشى إليها الموت سريعاً وهي في شبابها الغضّ الإهاب، وبدت لها طلائع الرحيل عن هذه الحياة التي استهانت بها، وطلبت حضور ابن عمّها أمير المؤمنين عليه السّلام، فعهدت إليه بوصيتها، وأهم ما فيها:

1 - أن يواري جثمانها المقدّس في غلس الليل البهيم.

2 - أن لا يحضر جنازتها أحد من الذين هضموها وظلموها فإنّهم أعداؤها وأعداء أبيها على حدّ تعبيرها.

3 - أن يعفي موضع قبرها ويخفيه ليكون رمزاً لغضبها على القوم غير قابل للتأويل والتصحيح على ممر الأجيال الصاعدة. وضمن لها الإمام جميع ما عهدت به إليه، وانصرف عنها وهو غارق في الأسى والشجون.

وطلبت بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أسماء بنت عميس أن يصنع لها سرير يواري جسدها الطاهر، فقد كانت العادة بوضع الأموات على لوحة تبدو فيها أجسامهم، وكرهت ذلك سيّدة النساء، فعملت لها أسماء سريراً يستر من فيه كانت قد رأته حينما كانت في الحبشة، فلما نظرت إليه ابتسمت وهي أول ابتسامة شوهدت لها منذ أن لحق أبوها بالرفيق الأعلى(18).

وفي آخر يوم من حياة الصدّيقة أصبحت وقد ظهر عليها بعض التحسّن، وبدا عليها الفرح والسرور فقد علمت أن هذا اليوم هو خاتمة حياتها وفيه تلتحق بأبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة، وعمدت الصدّيقة إلى أطفالها فغسلتهم وصنعت لهم من الطعام ما يكفيهم يومهم، ثم أمرت ولديها الحسن والحسين أن يخرجا لزيارة قبر جدهما ولا يشاهدا وفاتها، وألقت عليهما وعلى بنتها زينب نظرة الوداع وقلبها الزاكي يذوب ألماً وحزناً، وخرج الحسنان وقد هاما في تيارات من الهواجس وأحسّا ببوادر مخيفة أغرقتهما بالهموم والأحزان.

والتفتت وديعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى أسماء بنت عميس، وكانت تتولّى تمريضها وخدمتها، فقالت لها: (يا اُمّاه).

نعم يا حبيبة رسول الله.

(اسكبي لي غسلاً).

فسارعت أسماء وأتتها بالماء فاغتسلت فيه، وقالت لها: (ايتيني بثيابي الجدد).

فأحضرتها لها، وقالت لها: (اجعلي فراشي في وسط البيت).

وذعرت أسماء، وعلمت أن الموت قد دنا من وديعة النبيّ، وصنعت لها ما أرادت فاضطجعت في فراشها، واستقبلت القبلة ونادت أسماء قائلة بصوت خافت: (يا اُمّاه، إني مقبوضة الآن، وقد تطهّرت فلا يكشفني أحد).

وأخذت تتلو آيات من القرآن الكريم حتى صعدت روحها الطاهرة إلى الله تحفّها ملائكة الرحمن، ويستقبلها أبوها التي كرهت الحياة من بعده.

لقد سمت تلك الروح إلى جنان الخلد فأشرقت الآخرة بقدومها، وأظلمت الأرض لفقدها، فما أضلّت سماء الدنيا مثلها في قداستها وطهرها، وقد انقطع بموتها آخر من كان في الدنيا من نسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانت زينب إلى جانب اُمّها وقد رأتها جثة هامدة قد انقطعت عنها الحياة فذابت أسى، وعجّت بالبكاء والعويل.

وقفل الحسنان من مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى الدار فلم يجدا اُمّهما فيها فبادرا يسألان أسماء قائلين: (أين اُمنّا؟).

فأجابتهما وهي غارقة في البكاء قائلة:

يا سيّدي إنّ اُمّكما قد ماتت فأخبرا بذلك أباكما.

وكانت هذه المفاجأة كالصاعقة فهرعا إلى جثمان اُمّهما، فوقع عليها الحسن وهو يقول:

(يا اُمّاه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني..).

وألقى الحسين بنفسه وهو يعجّ بالبكاء قائلاً: (يا اًمّاه أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي..).

وأخذت أسماء توسعهما تقبيلاً وتواسيهما بمصابهما الأليم، وطلبت منهما أن يخبرا أباهما بموت سيّدة النساء وسارعا نحو مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد علا صوتهما بالبكاء فاستقبلهما المسلمون قائلين: ما يبكيكما يا بْني رسول الله، لعلّكما نظرتما قبر جدكما فبكيتما.

فأجابا: (أوَليس قد ماتت اُمّنا فاطمة!).

وهزّ النبأ المؤلم مشاعرهم، فقد ندموا على تقصيرهم تجاه بضعة الرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقد ماتت وهي ساخطة عليهم لأنّهم لم يحفظوا مكانتها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ولمّا علم الإمام بموت الصدّيقة تصدّع قلبه وودّ مفارقة الحياة، ورفع صوته قائلاً:

(بمن العزاء يا بنت محمّد، كنت بك أتعزّى، ففيم العزاء من بعدك..).

وخفّ مسرعاً نحو البيت وهو يذرف أحرّ الدموع، وألقى نظرة على جثمان حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو يقول:

لكـــــل اجـــــتماع من خليلين فرقة وكل الــــذي دون الفـــــراق قــليل

وإن افتـــــقادي فـــــاطماً بعد أحمد دلـــيل عـــلى أن لا يــــــدوم خليل

وكانت العقيلة زينب إلى جانبها أُمّها وهي تعجّ بالبكاء قد ذاب قلبها فقد فقدت جميع آمالها، وليس شيء أوجع على الطفل من فراق اُمّه.

وهرع الناس من كل صوب نحو بيت الإمام، وقد ساد فيهم وجوم رهيب، وعهد الإمام إلى سلمان الفارسي أن يخبر الجماهير بأن مواراة جثمان بضعة الرسول قد اُجّل هذه العشية فقفلوا إلى منازلهم، وأقبلت عائشة وهي تريد الدخول إلى بيت الإمام لتشاهد جثمان حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فحجبتها أسماء ومنعتها من الدخول قائلة: قد عهدت إليّ أن لا يدخل عليها أحد(19).

ولمّا مضى شطر من الليل قام الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) فغسّل الجسد الطاهر، ومعه الحسنان وأسماء وزينب وهي تنظر إلى جثمان اُمّها وقد نخب الحزن قلبها، وتبكي عليها كأقسى وأمرّ ما يكون البكاء، وبعد الفراغ من الغسل أدرجها في أكفانها، ودعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان اُمّهم ليلقوا عليها نظرة الوداع، فألقوا بنفوسهم على جثمان اُمّهم وهم يوسعونها تقبيلاً وقد مادت الأرض من كثرة صراخهم وبكائهم، وبعد انتهائهم من الوداع عقد الإمام عليها الرداء، ولمّا حلّ الهزيع الأخير من الليل قام فصلى على الجسد الطيب، وعهد إلى من كان معه من خلّص صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمثال سلمان الفارسي وبني هاشم فحملوا الجثمان المقدّس إلى مثواه الأخير، وأودعها في قبرها، وأهال عليها التراب، وعفى موضع قبرها ليكون دليلاً حاسماً على غضبها ونقمتها على من غصب حقها، ووقف الإمام الثاكل الحزين على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه، وقد طافت به موجات من الحزين والألم القاسي، فأخذ يؤبّن زهراء الرسول بهذه الكلمات التي تحكي لوعته وأساه على هذا الرزء القاصم وقد وجّه خطابه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يعزّيه قائلاً:

(السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك السريعة اللحاق بك.

قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقّ عنها تجلّدي، إلاّ أنّ في التأسّي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعزٍ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، أمّا حزني فسرمد، وأمّا ليلي فمسّهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتضافر اُمّتك على هضمها، فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر، والسلام عليكما سلام مودعٍ لا قالٍ ولا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن اُقم فلا عن سوء ظنٍ بما وعد الله الصابرين..)(20).

وحكت هذه الكلمات الحزن العميق والألم الممض الذي في نفس الإمام، فقد أعلن شكواه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على ما منيت به حبيبته من الخطوب والنكبات، ويطلب منه أن يلحّ في السؤال منها لتخبره بما جرى عليها من الظلم في الفترة القصيرة التي عاشتها بعده.

كما أعلن الإمام عن أساه وشجاه على فقده لبضعة الرسول، فهو في حزن دائم وليل مسهد، لا تنطفئ عنه نار اللوعة عليها حتى يلتحق إلى جوار الله، وإنّه إذ ينصرف عن قبرها المقدّس فليس ذلك عن سأم ولا عن ملالة وكراهية، ولكن استجابة لتعاليم الإسلام الآمرة بالخلود إلى الصبر، ولولا ذلك لأقام عنده ولا يريم عنه.

وعاد الإمام إلى داره بعد أن وارى جثمان سيّدة نساء العالمين في مثواها الأخير، وقد نخب الحزن فؤاده ينظر إلى أطفاله وهم يبكون اُمّهم أمّر البكاء وأشجاه خصوصاً العقيلة زينب فكانت تندب اُمّها بذوب روحها تبكي عليها صباحاً ومساءً قد خلدت إلى الأسى والحزن.

لقد قطعت عقيلة بني هاشم دور طفولتها الحزينة وقد طافت بها الآلام القاسية والرزايا الموجعة، فقد فقدت جدّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يفيض عليها بعطفه وحنانه، ولم تمض بعد وفاته إلاّ أيام يسيرة حتى فقدت اُمّها الرؤوم التي عاشت في هذه الدنيا وعمرها كعمر الزهور، وفاجأها الموت وهي في شبابها الغضّ الأهاب، فقد صبّت عليها الكوارث والمصائب، والتي كان من أقساها جحد القوم لحقّها وإجماعهم على هضمها وهي ابنة نبيّهم الذي بر بدينهم ودنياهم.

لقد وعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي في سنّها الباكر الأهداف الأساسية التي دعت القوم إلى هضم اُمّها وجحد حقوقها وإقصاء أبيها عن قيادة الاُمّة، كل ذلك طمعاً بالحكم والظفر بالإمرة والسلطان.


يتبع مع وفاة ابي بكر

توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية الحيدرية
الحيدرية
شيعي حسيني
رقم العضوية : 6077
الإنتساب : Jun 2007
المشاركات : 12,550
بمعدل : 1.97 يوميا

الحيدرية غير متصل

 عرض البوم صور الحيدرية

  مشاركة رقم : 19  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-04-2008 الساعة : 07:37 PM


وفاة أبي بكر

ولم يطل سلطان أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض بعد مضي ما يزيد على سنتين من حكمه، وقد قلّد صاحبة عمر شؤون الخلافة، وقد لاقى معارضة شديدة من أعلام الصحابة كان من بينهم طلحة، فقد قال له:

ماذا تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً، تفرق منه النفوس، وتنفض منه القلوب(21).

وسكت أبو بكر فاندفع طلحة يشجب عهده لعمر قائلاً:

يا خليفة رسول الله، إنّا كنّا لا نحتمل شراسته وأنت حيّ تأخذ على يده، فكيف يكون حالنا معه وأنت ميّت وهو الخليفة.

وسارع أكثر المهاجرين والأنصار إلى أبي بكر وهم يعلنون رفضهم وسخطهم وكراهيتهم لخلافة عمر قائلين: نراك استخلفت علينا عمراً وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا، فكيف إذا ولّيت عنّا، وأنت لاق الله عزّ وجلّ فسائلك، فما أنت قائل.

فأجابهم أبو بكر: لئن سألني الله لأقولنّ استخلفت عليهم خيرهم من نفسي(22).

وكان الأجدر به أن يستجيب لعواطف أكثر المسلمين ورغباتهم إلاّ أنّه لم يحفل بهم، وأقام صاحبه خليفة من بعده، وتوفّي أبو بكر وانتهت بذلك خلافته القصيرة الأمد، وقد حفلت بأحداث رهيبة كان من بينها معاملة العترة الطاهرة التي هي وديعة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في أمّته كأشخاص عاديّين فقد جرّد عنها هالة التقديس الذي أضفاه عليها النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، كما فتحت الباب للحكومات التي تلت حكومة الخلفاء إلى ظلم آل البيت والإمعان في قتلهم تحت كل حجر ومدر، ولعلّ أقسى ما جرى عليهم من الكوارث فاجعة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان، فقد استشهد الإمام الحسين ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بصورة مروّعة ومُثّل بجثمانه المقدّس بوحشية لم يعهد لها مثيل، وسبيت عائلته ومعها حفيدة الرسول وعقيلة بني هاشم من كربلاء إلى الشام، كل هذه الرزايا كانت ناجمة عن إقصاء أهل البيت عن مركز القيادة العامة للمسلمين.


في عهد عمر

وتولّى عمر بعد وفاة أبي بكر شؤون الدولة الإسلامية، وقد قبض على الحكم بيد من حديد، وساس البلاد بعنفٍ حتى تحامى لقاءه أكابر الصحابة، فإنّ درته - فيما يقول المؤرخون - كانت أهيب من سيف الحجاج، حتى أن ابن عباس مع قربه للنبي (صلّى الله عليه وآله) ومكانته العلمية لم يستطع أن يجهر برأيه في حلّية المتعة إلاّ بعد وفاته، كما تحاماه أهله وعياله فلم يستطع أحد منهم أن يجهر برأيه أو يفرض إرادته عليه.

وعلى أي حال فقد نهج عمر في سياسته منهجاً خاصاً لا يتّفق في كثير من بنودها مع سياسة أبي بكر، خصوصاً في السياسة المالية، فقد كان السائد في سياسة أبي بكر المساواة بين المسلمين إلاّ أنّ عمر عدل عنها، وميّز بعض المسلمين على بعض، ففضّل العرب على الموالي، وقريشاً على سائر العرب، وقد أدّى ذلك إلى إيجاد الطبقية بين المسلمين


يتبع مع اعتزال الإمام

توقيع : الحيدرية






من مواضيع : الحيدرية 0 بيتزا التوست
0 كلـمات جمـيلة
0 كرات البطاطا بالصور
0 صور حلويات اهداء الى بنات وشباب المنتدى
0 الأمور المحببة إلى الزوج

الصورة الرمزية عشق فاطمي
عشق فاطمي
شيعي حسيني
رقم العضوية : 23
الإنتساب : Jul 2006
المشاركات : 8,626
بمعدل : 1.29 يوميا

عشق فاطمي غير متصل

 عرض البوم صور عشق فاطمي

  مشاركة رقم : 20  
كاتب الموضوع : الحيدرية المنتدى : منتـدى سيرة أهـل البيت عليهم السلام
افتراضي
قديم بتاريخ : 05-04-2008 الساعة : 09:28 PM


موضوع حلو
يسلموو اختي

وننتظر البقيه


توقيع : عشق فاطمي
من مواضيع : عشق فاطمي 0 أي لون من الاصدقاء أنت!!
0 مرض الكواساكي
0 اعترف خطير جدا من ابن تيمية !!
0 سرقوا فضائل أهل البيت والآن أدعيتهم !!
0 نزار قباني والحسين سلام الله عليه
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)



تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الشبكة: أحد مواقع المجموعة الشيعية للإعلام

الساعة الآن: 08:00 AM.

بحسب توقيت النجف الأشرف

Powered by vBulletin 3.8.14 by DRC © 2000 - 2024
جميع الحقوق محفوظة لـ منتديات أنا شيعـي العالمية


تصميم شبكة التصاميم الشيعية