السلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته .
--- الأخ الفاضل – رجل من مكّة – أذكّرك ونفسي بتقوى الله وصدق الحديث والرجوع إلى الحقّ حيث ما كان .. وأعلم بأن الله هو الشاهد والسائل والحاكم الفصل ...
--- لا تنسى بأن تلتزم بما إتفقنا عليه من شروط المحاورة .. وأن تكون الإجابة على كلّ جملة وردت بما يدحضها بالدليل القطعي والمتفق عليه .. أو التسليم بصحتها والإعتراف بذلك حتّى لا نعود إليها ..
--- لا يجوز الإنتقال من هذا الموقف حتّى نقف عند حقيقته .. فلا تخرج من باب الرزية لغيره ..
كانت وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين ، فابن عباس لم يسمِّ وفاة الرسول رزية ؟ فلعله قرأ قوله تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) (1) والموت حق. أو قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) (2) فالدين كامل والنعمة تامة صحيح ان افتقاد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مصيبة وفاجعة ، إلاّ إن لكل إنسان ساعته ، يودع فيها هذه النشأة.
بل سمّى ابن عباس قضية يوم الخميس بـ « الرزية ».
1 ) سورة الزمر : 39 | 30.
2 ) سورة المائدة : 5 | 3.
فماذا حدث يوم الخميس ؟! ولماذا يصفه بهذا الوصف الفظيع ؟!
فيالعظمة المصيبة التي يريد أن يخبر عنها.
إنه يقول : « الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ». أو كان يقول بحسرة « يوم الخميس ، وما أدراك ما يوم الخميس! » ويطلق على تلك الحادثة « رزية يوم الخميس ».
فرزية ابن عباس الكبرى هي منع كتابة الوصية.
وقلنا إننا لا ندّعي السبق في ذلك ، وقد أعلنها ابن عباس في وقتها ، وتناقلها أهل السير والحديث حتى وصلت إلينا.
فابن عباس رضي الله عنه أدرك ـ كما أدرك تماماً كل من يهمه مصير الإسلام ـ الخسارة والفاجعة التي ستحل بالمسلمين من جراء منع وصية الرسول.
فالنظرة الثاقبة النافذة لحدود الزمان والمكان ، استطاعت أن تستشفّ المستقبل ، وتتنبأ بالرزية والمصيبة التي انطلقت شرارتها منذ يوم الخميس ، ذلك اليوم الذي دعا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكتف والدواة ، فحال دونه عمر.
وهذا الاختلاف والتناحر الموجود حالياً بين الفرق الإسلامية ، رزية عظمى ، ومصيبة كبرى ، شاهدها ابن عباس رضي الله عنه ببصيرته ، قبل أن يشاهدها أي إنسان ببصره ، كان يحس بأن الاختلاف الذي حدث والرسول لا يزال حياً ، على أمرٍ أراد فيه صلى الله عليه وآله وسلم عدم ضلالهم بعده أبداً ، سيتطور ويتشعب ويتكاثر ويتفرع ، حتى تصل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثلاث وسبعين فرقة.
والغريب كل الغرابة هو أن كل فرقة تدعي بأنها هي الناجية ، وتدبّج الأحاديث والأدلة لتلقي باقي الفرق من المسلمين في النار.
الأحاديث التي ذكرت لفظة الرزية ويوم الخميس :
1 ـ البخاري بسنده إلى عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس ، قال... ثم أورد حديث الوصية وقال : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (1) .
2 ـ وأخرجه عن قبيصة ، حدثنا ابن عيينة ، عن سلمان الأحول ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، انه قال : يوم الخميس وما أدراك ما يوم الخميس ، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء ، فقال اشتد برسول الله وجعه يوم الخميس ، فقال : « ائتوني... » وأورد الحديث (2) .
3ـ وأخرج مسلم عن سعيد بن جبير من طريق آخر عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ائتوني... » ونقل حديث الوصية (3) .
4 ـ عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعه قال : « ائتوني... » حتى قال : فخرج ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين
1 ) صحيح البخاري 7 : 9 ، صحيح مسلم 5 : 75 ، مسند أحمد 4 : 356 | 2992.
2 ) صحيح البخاري 4 : 21 ، صحيح مسلم 5 : 75 ، مسند أحمد 5 : 45 | 3111.
3 ) صحيح مسلم 5 : 75 ، مسند أحمد 5 : 116 | 3336 ، تاريخ الطبري 3 : 193 طبعة مصر ، الكامل في التاريخ | ابن الأثير 2 : 320.
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين كتابه (1) .
5 ـ قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما أدراك ما يوم الخميس! اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه فقال : « ائتوني... » وأتمّ الحديث (2) .
6 ـ عن سعيد بن جبير ، سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس! ثمّ بكى حتى بلّ دمعه الحصى ، قلت له : يابن عبّاس ، ما يوم الخميس ؟ قال : اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه فقال : « ائتوني... » إلى آخر الحديث (3)
ونقل هذه الأحاديث وأمثالها ابن سعد في الطبقات الكبرى (4) والشهرستاني في الملل والنحل (5) وابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة (6) .
1 ) صحيح البخارى 1 : 37.
2 ) صحيح البخارى 5 : 137.
3 ) صحيح البخاري 4 : 65 ـ 66.
4 ) الطبقات الكبرى 2 : 242 ـ 244.
5 ) الملل والنحل 1 : 22 طبعة بيروت.
6 ) شرح نهج البلاغة 1 : 133 افست بيروت.
قالوا : لعلَّه صلى الله عليه وآله وسلم ، حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصداً لكتابة شيءٍ من الأشياء ، وإنَّما أراد مجرَّد اختبارهم لا غير ... ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
فنقول : إنَّ هذه الواقعة إنَّما كانت حال احتضاره ـ بأبي هو وأُمِّي ـ كما هو صريح الحديث ، فالوقت لم يكن وقت اختبار ، وإنَّما كان وقت إعذار وإنذار ، ووصيَّة بكلِّ مهمَّة ، ونصح تامٍّ للأُمَّة ، والمحتضر بعيدٌ عن الهزل والمفاكهة ، مشغول بنفسه وبمهمَّاته ومهمَّات ذويه ، ولا سيَّما إذا كان نبيَّاً.
وإذا كانت صحَّته مدَّة حياته كلِّها لم تسع اختبارهم ، فكيف يسعها وقت احتضاره ، على أنَّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عنده ـ : « قوموا » ، ظاهر في استيائه منهم ، ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم ، وأظهر الارتياح إليها ، ومن ألمَّ بأطراف هذا الحديث ولا سيَّما قولهم : هجر رسول الله ، يقطع بأنَّهم كانوا عالمين أنَّه إنَّما يريد أمراً يكرهونه ، ولذا فاجأوه بتلك الكلمة ، وأكثروا عنده اللغو واللغط والاختلاف كما لا يخفى ، وبكاء ابن عباس بعد ذلك لهذه الحادثة ، وعدّها رزيةً ، دليل على بطلان هذا الجواب.
وقالوا : إنَّ عمر كان موفَّقاً للصواب في إدراك المصالح ، وكان صاحب إلهام من الله تعالى...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لها الله ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
1 ) استفدناه من كتاب المراجعات للإمام السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي ، المراجعة ( 88 ) .
نقول : وهذا ممَّا لا يصغى له في مقامنا هذا ، لأنَّه يرمي إلى أنَّ الصواب في هذه الواقعة إنَّما كان في جانبه لا في جانب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنَّ إلهامه كان أصدق من الوحي الذي نطق به عن الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم .
وقالوا : بأنَّه أراد التخفيف عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إشفاقاً عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
نقول : أمَّا نحن فنرى بأنَّ في كتابة ذلك الكتاب راحة قلب النبيِّ ، وبرد فؤاده ، وقرَّة عينه ، وأمنه على أُمَّته صلى الله عليه وآله وسلم من الضلال. على أنَّ الأمر المطاع ، والإرادة المقدَّسة ، مع وجوده الشريف ، إنَّما هما له ، وقد أراد ـ بأبي هو وأُمِّي ـ إحضار الدواة والبياض ، وأمر به ، فليس لأحد أن يردَّ أمره أو يخالف إرادته ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلأ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلألاً مُّبِيناً ) (1)
على أنَّ مخالفتهم لأمره في تلك المهمَّة العظيمة ، ولغوهم ولغطهم واختلافهم عنده ، كان أثقل عليه وأشقُّ من إملاء ذلك الكتاب ، الذي يحفظ أُمَّته من الضلال ، ومن يشفق عليه من التعب بإملاء الكتاب كيف يعارضه ويفاجئه بقوله : هجر ؟!
وقالوا : إنَّ عمر رأى إن ترك إحضار الدواة والورق أولى...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
نقول : هذا من أغرب الغرائب ، وأعجب العجائب ، وكيف يكون ترك إحضارهما أولى مع أمر النبيِّ بإحضارهما؛ وهل كان عمر يرى أنَّ رسول الله يأمر بالشيء الذي يكون تركه أولى ؟
1 ) سورة الأحزاب : 33|36.
وقالوا : وربَّما خشي أن يكتب النبيُّ أُموراً يعجز عنها الناس فيستحقون العقوبة بتركها...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ نعوذ بالله من وساوس الشيطان وأشياعه ..
نقول : كيف يخشى من ذلك مع قول النبيِّ : « لاتضلُّوا بعده » ، أتراهم يرون عمر أعرف منه بالعواقب وأحوط منه وأشفق على أُمَّته ؟ كلاّ.. وألف كلاّ ( كبُرتْ كلمةً تخرُجُ مِنْ أفواهِهِمْ إنْ يَقُولونَ إلاّ كَذِبَاً ) (1)
وقالوا : لعلَّ عمر خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحَّة ذلك الكتاب ، لكونه في حال المرض ، فيصير سبباً للفتنة...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ولتكن لعنة الله على الكاذبيـــــــن ..
نقول : هذا محال مع وجود قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا تضلُّوا » ، لأنَّه نصَّ بأنَّ ذلك الكتاب سبب للأمن عليهم من الضلال ، فكيف يمكن أن يكون سبباً للفتنة بقدح المنافقين ؟! وإذا كان خائفاً من المنافقين أن يقدحوا في صحَّة ذلك الكتاب ، فلماذا بذر لهم بذرة القدح حيث عارض ومانع ، وقال : هجر ؟
وقالوا في تفسير قوله : ( حسبنا كتاب الله ) ، إنَّه تعالى قال : ( مَا فرَّطنَا في الكتَابِ من شَيء ) (2) وقال عَزَّ من قائل : ( الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم ) (3) .
نقول : هذا غير صحيح ، لأنَّ الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال ، ولا تضمنان الهداية للناس ، فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتماداً عليهما ؟ ولو كان وجود القرآن العزيز موجباً للأمن من الضلال لما وقع في هذه الأُمَّة من الضلال والتفرُّق ما لا يرجى زواله.
1 ) سورة الكهف : 18|5.
2 ) سورة الأنعام : 6 | 38.
3 ) سورة المائدة : 5 | 3.
وقالوا : إنَّ عمر لم يفهم من الحديث أنَّ ذلك الكتاب سيكون سبباً لحفظ كلِّ فرد من أُمَّته من الضلال ، وإنَّما فهم أنَّه سيكون سبباً لعدم اجتماعهم ـ بعد كتابته ـ على الضلال ، وقد علم عمر أنَّ اجتماعهم على الضلال مما لا يكون أبداً ، كتب ذلك الكتاب أو لم يكتب ، ولهذا عارض يومئذٍ تلك المعارضة. ..؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
والجواب :
نقول : إنَّ عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد عن الفهم ، وما كان ليخفى عليه من هذا الحديث ما ظهر لجميع الناس؛ من أنَّ ذلك الكتاب لو كُتب لكان علَّة تامَّة في حفظ كلِّ فرد من الضلال ، وهذا المعنى هو المتبادر من الحديث إلى أفهام الناس ، وعمر كان يعلم يقيناً أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن خائفاً على أُمَّته أن تجتمع على الضلال؛ لأنَّه كان يسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا تجتمع أُمَّتي على ضلال ولا تجتمع على الخطأ » ، وقوله : « لاتزال طائفة من أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ... »الحديث (1) وقوله تعالى ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأََرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُـمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْناً يَعْبُدُونَنِي لأ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (2) إلى كثير من نصوص من الكتاب والسُنَّة الصريحين بأنَّ الأُمَّة لا تجتمع بأسرها على الضلال ، فلا يعقل مع هذا أن يسنح في خواطر عمر أو غيره أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ، حين طلب الدواة والبياض ، كان خائفاً من اجتماع أُمَّته على الضلال ، والذي يليق بعمر أن يفهم من
1 ) كنز العمال | ح910 و1030 و1031.
2 ) سورة النور : 24|55.
الحديث ما يتبادر إلى الأذهان ، لا ما تنفيه صحاح السُنَّة ومحكمات القرآن.
على أنَّ استياء النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم منهم ، المستفاد من قوله : « قوموا » ، دليل على أنَّ الذي تركوه من الواجب عليهم ، ولو كانت معارضة عمر عن اشتباه منه في فهم الحديث كما زعموا؛ لأزال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم شبهته وأبان له مراده منه ، بل لو كان في وسع النبيِّ أن يقنعهم بما أمرهم به لما آثر إخراجهم عنه ، وبكاء ابن عباس وجزعه من أكبر الأدلَّة على ما نقوله.
والإنصاف ، أنَّ هذه الرزية مِمَّا يضيق عنها نطاق العذر ، ولو كانت قضية في واقعة ، كفرة سبقت ، وفلتة ندرت ، لهان الأمر ، وإن كانت بمجرَّدها بائقة الدهر ، وفاقرة الظهر ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوَّة إلأَ بالله العليِّ العظيم....
والسلام في البدء والختام
أبو مرتضى عليّ