واعتزل الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) عن الحياة الاجتماعية والسياسية طيلة خلافة عمر كما اعتزل في أيام أبي بكر، وقد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير على ضياع حقه وسلب تراثه، فقد جهد القوم على الغضّ من شأنه، وعزله عن جميع ما يتعلّق بأمر الدولة، حتى ألصق خده بالتراب - على حد تعبير بعض المؤرخين-، يقول محمد بن سليمان في أجوبته عن أسئلة جعفر بن مكي: إنّ عليّاً وضعه الأولون - يعني الشيخين- واسقطاه وكسرا ناموسه بين الناس، فصار نسياً منسياً(24).
وقد صار جليس بيته تساوره الهموم، ويسامر النجوم، ويتوسّد الأرق، ويتجرّع الغصص، قد كظم غيظه، وأسلم أمره إلى الله.
وانطوت نفوس أبنائه على حزن لاذع وأسىً عميق على عمر، فقد روى المؤرخون أن الحسين خفّ إلى عمر وكان على المنبر يخطب فصاح به: (انزل، انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك..).
وبهت عمر، واستولت عليه الحيرة، وراح يقول: صدقت لم يكن لأبي منبر.
وأخذه فأجلسه إلى جنبه وجعل يفحص عمّن أوعز إليه بذلك قائلاً: من علّمك؟
(والله ما علّمني أحد).
شعور طافح بالأسى والألم انبعث عن إلهام وعبقرية، ورأى الإمام الحسين(عليه السّلام) منبر جدّه الملهم الأوّل لقضايا الفكر الإنساني وأنّه لا يليق أن يرقاه غير أبيه باب مدينة علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورائد العلم والحكمة في دنيا الإسلام.
وعلى أي حال فقد كان هذا الشعور سائداً عند ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولم يقتصر على الإمام الحسين وإنّما كان شاملاً للعقيلة زينب كما يدلّل على ذلك خطابها الرائع في البلاط الاُموي، فقد قالت ليزيد: (وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين)، وهذه الكلمات صريحة فيما ذكرناه.
وقد بحثنا عن شؤون عمر وأيام حكومته في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، فلا نعيد تلك البحوث.
اغتيال عمر
وبقي عمر على دست الحكم يتصرّف في شؤون الدولة حسب رغباته وميوله، وكان فيما يقول المؤرخون شديد البغض والكراهية للفرس، يبغضهم ويبغضونه، فقد حظر عليهم دخول يثرب إلاّ من كان سنّه دون البلوغ(25). وتمنّى أن يحول بينهم وبينه جبل من حديد، وأفتى بعدم إرثهم إلاّ من ولد منهم في بلاد العرب(26)، وكان يعبر عنه بالعلوج(27).
وقد قام باغتياله أبو لؤلؤة وهو فارسي، أمّا السبب في اغتياله له فهو أنّه كان فتى متحمّساً لوطنه واُمّته، ورأى عمر قد بالغ في احتقار الفرس وإذلالهم، وقد خفّ إليه يشكو ممّا ألمّ به من ضيق وجهد من جراء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج، وكان مولى له، فزجره عمر وصاح به:
ما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها.
وألهبت هذه الكلمات قلبه فأضمر له الشر، وزاد في حنقه عليه أنّه اجتاز على عمر فسخر منه وقال له: بلغني أنّك تقول: لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت.
ولذعته هذه السخرية فخاطب عمر: لأصنعن لك رحى يتحدّث الناس بها.
وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال(28). فطعنه ثلاث طعنات إحداهن تحت السرّة فخرقت الصفاق(29)، وهي التي قضت عليه، ثم هجم على من في المسجد فطعن أحد عشر رجلاً، وعمد إلى نفسه فانتحر(30)، وحمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دماً، فقال لمن حوله: من طعنني؟
غلام المغيرة.
ألم أقل لكم: لا تجلبوا لنا من العلوج أحداً فغلبتموني(31).
وأحضر أهله له طبيباً فقال له: أيّ الشراب أحبّ إليك؟
النبيذ.
فسقوه منه فخرج من بعض طعناته صديداً، ثم سقوه لبناً فخرج من بعض طعناته، فيئس منه الطبيب، وقال له: لا أرى أن تمسي
ولمّا أيقن عمر بدنوّ الأجل المحتوم منه أخذ يطيل التفكير فيمن يتولّى شؤون الحكم من بعده، وقد تذكّر أعضاء حزبه الذين شاركوه في تمهيد الحكم لأبي بكر، فأخذ يبدي حسراته عليهم لأنّهم جميعاً قد اقتطعتهم المنية، فقال بأسى وأسف:
لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته لأنّه أمين هذه الاُمّة، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته لأنّه شديد الحبّ لله تعالى.
لقد استعرض الأموات، وتمنّى أن يقلّدهم الحكم ولم يعرض لسيّد العترة الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) ولا للصفوة الطاهرة من صحابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب، ولا لأبي ذرّ، ولا لرؤساء الأنصار من الذين ساهموا في بناء الإسلام واستشهد أبناؤهم في سبيله.
لقد تمنّى حضور أبي عبيدة وسالم ليقلّدهما منصب رئاسة الدولة، مع العلم أنّهما لم يكن لهما أية سابقة تُذكر في خدمة الإسلام.
لقد رأى عمر أن يجعلها شورى بين المسلمين وانتخب من يمثلهم، وهم ستة:
1 - الإمام أمير المؤمنين
2 - عثمان بن عفان الاُموي.
3 - طلحة.
4 - عبد الرحمن بن عوف.
5 - الزبير.
6 - سعد بن أبي وقاص.
وقد اختار عمر هؤلاء النفر لصرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين، فقد كان معظم أعضائها من المنحرفين عن الإمام والموالين لبني اُميّة، ولم يكن مع الإمام سوى الزبير، وهو لا يغني شيئاً، وقد جمع عمر أعضاء الشورى، وقدم في كلّ واحد منهم سوى الإمام فانصرف عنه، فقال عمر لمن حضر عنده:
والله إني لأعلم مكان رجل لو ولّيتموه أمركم لحملكم على المحجّة البيضاء.
فقالوا له: من هو؟.
هذا المولي من بينكم.
ما يمنعك من ذلك؟.
ليس إلى ذلك من سبيل(33).
ودعا عمر بأبي طلحة الأنصاري فعهد إليه بما يحكم أمر الشورى فقال له:
يا أبا طلحة، إن الله أعزّ بكم الإسلام فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فالزم هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله، والتفت إلى المقداد فعهد إليه بمثل ما عهد إلى أبي طلحة ثم قال له:
إذا اتفق خمسة وأبى واحد منهم فاضربوا عنقه، وإن اتّفق أربعة وأبى اثنان فاضربوا عنقهما، وإن اتّفق ثلاثة على رجل ورضي ثلاثة منهم برجلٍ آخر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس.
والتاع الإمام وعرف أنّها مكيدة دبّرت ضدّه، فقد قال لعمّه العباس:
(يا عمّ، لقد عدلت عنّا).
وسارع العباس قائلاً: من أعلمك بذلك؟.
وكشف الإمام الغطاء عمّا دبّره عمر ضدّه قائلاً:
(لقد قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، ثم قال: كونوا مع عبد الرحمن وسعد، لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر لعثمان، وهم لا يختلفون، فإمّا أن يولّيها عبد الرحمن عثمان أو يولّيها عثمان عبد الرحمن).
وصدق تفرّس الإمام، فقد ولاّها عبد الرحمن لعثمان إيثاراً لمصالحه، وابتغاءً لرجوعها إليه من بعده.
إنّ أدنى تأمل في وضع الشورى يتّضح منه صرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، ووضعها عند القوى المنحرفة عنه.
وعلى أي حال فإنّ الشورى بأسلوبها الهزيل، قد ألقت الاُمّة في شرّ عظيم، وفرّقت كلمتها، وأشاعت الطمع والتهالك على الحكم والسلطان بين أبنائها، وقد أعلن هذه الظاهرة معاوية بن أبي سفيان، فقد قال لأبي الحصين:
بلغني أنّ عندك ذهناً وعقلاً فأخبرني عن شيء أسألك عنه.
سلني عمّا بدا لك.
أخبرني ما الذي شتّت شمل أمر المسلمين وملأهم وخالف بيتهم؟.
قتل الناس عثمان.
ما صنعت شيئاً.
مسير عليّ إليك وقتاله إياك.
ما صنعت شيئاً
مسير طلحة والزبير وعائشة وقتال عليّ إيّاهم.
ما صنعت شيئاً.
ما عندي غير هذا.
وطفق معاوية يبيّن أسباب الخلاف والفرقة بين المسلمين قائلاً:
أنا اُخبرك أنّه لم يشتّت بين المسلمين، ولا فرّق أهواءهم إلاّ الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر.
وأضاف يقول:
ثم جعلها - عمر - شورى بين ستّة نفر، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه، وتطلّعت إلى ذلك نفسه(34).
لقد شاعت الأطماع السياسية بشكل سافر عند بعض أعضاء الشورى وغيرهم، فاندفعوا إلى خلق الحزبية في المجتمع الإسلامي للوصول إلى كرسي الحكم والظفر بخيرات البلاد.
وعلى أي حال فقد ذكرنا بصورة موضوعية وشاملة آفات الشورى في كتابنا (حياة الإمام الحسين)، وقد ألمحنا أليها في هذه البحوث؛ وذلك لأنّها تلقي الأضواء على الحياة الاجتماعية والسياسية في ذلك العصر الذي عاشت فيه عقيلة بني هاشم والتي أدت إلى ما عانته من الأهوال والكوارث التي تذهل كل كائن حيّ.
واجتمع أعضاء الشورى في بيت المال، وقيل في بيت مسرور بن مخرمة، وتداولوا الحديث عمّن أحقّ بأمر المسلمين، وكثر الجدل فيما بينهم، فانبرى الإمام أمير المؤمنين فحذّرهم من الخلاف والفتنة إن استجابوا لعواطفهم، ولم يؤثروا المصلحة العامة للمسلمين قائلاً:
(لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حقّ وصلة رحم وعائدة كرم، فاسمعوا قولي وعوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتطي فيه السيوف، وتخالف منه العهود حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلال وشيعة لأهل الجهالة).
ولم يعوا منطق الإمام ونصيحته، فقد استجابوا لعواطفهم، وكان الاُمويون قد حفوا بأهل الشورى وهم يقدّمون لهم الوعود المعسولة إن انتخبوا عميدهم عثمان.
وانقضت الثلاثة أيام التي حدّدها عمر ولم ينتخب أعضاء الشورى أحداً منهم، فحذّرهم أبو طلحة الأنصاري وجعل يتهدّهم ويتوعّدهم إن لم ينتخبوا أحداً منهم، انبرى طلحة فوهب حقّه لعثمان لأنّه كان شديد الكراهية للإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) لأنه نافس ابن عمّه أبا بكر على الخلافة، ووهب سعد بن أبي وقّاص حقّه لابن عمّه عبد الرحمن بن عوف، وأصبح رأيه هو الفيصل لأن عمر وضع ثقته به، وكان رأيه مع عثمان لأنّه صهره وقد زهّده القرشيون في الإمام وحرّضوه على انتخاب عثمان؛ لأنه يحقّق رغباتهم وأطماعهم، وأمر عبد الرحمن مسوراً بإحضار الإمام أمير المؤمنين وعثمان بن عفان، فلمّا حضرا عنده في الجامع النبوي التفت إلى الحاضرين فقال لهم:
أيّها الناس، إن الناس قد اجتمعوا على أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم فأشيروا عليّ.
وانبرى الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فأشار عليه بما يضمن للاُمّة مصالحها ويصونها من الاختلاف والفرقة قائلاً:
إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً.
وأيد المقداد مقالة صاحبه عمار فقال:
(صدق عمار إن بايعت علياً سمعنا وأطعنا..
وشجبت الاُسر القرشية المعادية للإسلام والحاقدة عليه مقالة عمار، ورشحت عميد الاُمويين عثمان بن عفان، وقد كان الممثل لها عبد الله بن أبي سرح فخاطب ابن عوف قائلاً:
إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان.
وكأن شؤون الخلافة ومصير المسلمين موكول إلى قريش وهي التي حاربت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وناهضت دعوته وعذّبت أنصاره حتى هرب منها، وتابعته إلى يثرب بجيوش مكثفة لاستئصال دعوته ومحو دينه، ولكن الله تعالى ردّ كيدهم وأفشل خططهم، ونصر نبيّه العظيم، ولولا سماحة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ورأفته لأجرى عليهم حكم بني قريضة، ولكنّه عفا عنهم، وجعلهم من الطلقاء.
وعلى أي حال فقد اندفع عبد الله بن أبي ربيعة فأيّد مقالة ابن سرح قائلاً:
إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا.
وانبرى الصحابي الجليل عمّار بن ياسر فردّ على ابن أبي سرح قائلاً:
متى كنت تنصح للمسلمين.
وصدق عمار فمتى كان ابن أبي سرح ينصح المسلمين وهو من ألدّ أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد أمر بقتله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة(35).
واحتدم الجدال بين الهاشميين وخصومهم الاُمويين، وانبرى ابن الإسلام البار عمار بن ياسر فجعل يدعو لصالح المسلمين قائلاً:
أيّها الناس، إن الله أكرمنا بنبيّه، وأعزنا بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟
وانبرى رجل من مخزوم فقطع على عمّار كلامه قائلاً:
لقد عدوت طورك يا بن سميّة، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها.
وطفحت الروح الجاهلية على هذه الكلمات، فليس فيها إلاّ الدعوة إلى الباطل، فقد اعتبر المخزومي أمر الخلافة وشؤونها إلى قريش التي ما آمنت بالله وكفرت بقيم الإسلام، فأيّ حق لها في خلافة المسلمين، وقبله أعلن أحد أعلام القرشيين: أبت قريش أن تجتمع النبوة والإمامة في بيت واحد.
إن أمر الخلافة بيد جميع المسلمين يشترك فيه ابن سميّة وغيره من الضعفاء الذين أعزهم الله بدينه، وليس لأيّ قرشي الحقّ في التدخل بشؤون المسلمين لو كان هناك منطق وحساب.
وعلى أي حال فقد احتدم النزاع بين القوى الإسلامية وبين القرشيّين، فخاف سعد أن يفلت الأمر من أيديهم وتفوز الاُسرة النبوية بالحكم فالتفت إلى عبد الرحمن قائلاً له:
يا عبد الرحمن، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس.
والتفت عبد الرحمن إلى الإمام فقال له:
هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيّه وفعل أبي بكر وعمر؟.
فرمقه الإمام بطرفه وأجابه بمنطق الإسلام قائلاً:
(بل على كتاب الله وسنّة رسوله، واجتهاد رأيي).
إن ابن عوف يعلم علماً جازماُ أن الإمام لا يسوس المسلمين بسيرة الشيخين ولا يحفل بها، وإنّما يسوسهم بكتاب الله وسنّة نبيّه ورأيه المشرق الذي هو امتداد ذاتي لرأي النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وإنّما شرط عليه ذلك لصرف الخلافة عنه.
ولو كان الإمام ممّن يبغي الحكم والسلطان لوافق على هذا الشرط، ثم خالفه، ولكنه سلام الله عليه في جميع أدوار حياته واكب الصدق والحقّ ولم يحد عنهما مهما كانت الظروف.
وعلى أي حال فإنّ عبد الرحمن لمّا يئس من إجابة الإمام اتّجه صوب عثمان فعرض عليه شروطه فأجابه بلا تردّد، فصفق بكفّه على يده وقال له:
اللّهمّ إنّي قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان.
والتاع الإمام فخاطب ابن عوف:
(والله ما فعلتها إلاّ لأنّك رجوت منه ما رجا صاحبها من صاحبه، دقّ الله بينكما عطر منشم).
لقد رجا ابن عوف من بيعته لعثمان أن يكون خليفة من بعده كما كان ذلك بالنسبة للشيخين، واتّجه الإمام صوب القرشيّين فقال لهم:
(ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون).
ولذع منطق الإمام ابن عوف فراح يهدّده:
يا عليّ، لا تجعل على نفسك سبيلاً.
وغادر الإمام المظلوم قاعة الاجتماع وهو يقول: (سيبلغ الكتاب أجله..).
والتفت الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فخاطب ابن عوف:
يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنّه من الذين يقضون بالحقّ وبه كانوا يعدلون.
وانبرى المقداد فرفع صوته قائلاً:
تالله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم! وا عجباً لقريش لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أن أحداً أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أنقى منه، لو أجد أعواناً.
وصاح به عبد الرحمن: اتّق الله يا مقداد، فإنّي خائف عليك الفتنة.
وانتهت بذلك مأساة الشورى التي وضعها عمر لصرف الخلافة عن أهل بيت النبوة ومنحها لبني اُميّة، وقد رأت عقيلة الوحي السيّدة زينب (عليها السّلام) أضغان القرشيّين وحقدهم على أبيها، وإنّهم قد عملوا جاهدين على إطفاء نور الله، والإجهاز على رسالة الإسلام الهادفة لتطوير الوعي الاجتماعي، وإشاعة الخير والهدى بين الناس.
لقد خلقت الشورى العمرية الفتن والضغائن بين المسلمين وحجبت الاُسرة النبوية عن القيادة العامة للعالم الإسلامي، وسلّطت عليهم شرار خلق الله، فأمعنوا في ظلمهم والتنكيل بهم، وما كارثة كربلاء وما عانته عقيلة بني هاشم السيّدة زينب (عليها السّلام) من صنوف الظلم والكوارث التي هي - من دون شك - من النتائج المباشرة لأحداث الشورى والسقيفة فإنهما الأساس لكل ما لحق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله) من الكوارث والخطوب.
حكومة عثمان
وتسلّم عثمان قيادة الاُمّة، وقد احتفّ به بنو اُميّة وآل أبي معيط، وأخذوا يتصرفون في شؤون الدولة حسب رغباتهم وميولهم ولا شأن لعثمان في جميع المناحي السياسية والاقتصادية، فقد كان بمعزل عنها، وقد سيطر عليها وتسلّم قيادتها مروان بن الحكم الوزغ ابن الوزغ، والذي يسمّيه معاصروه بالخيط الباطل، وذلك لخبثه وسوء سريرته، فكان وزيره ومستشاره.
وقد هام عثمان بحبّ اُسرته، وتفانى في الولاء لهم فكان يقول: لو كانت مفاتيح الجنة بيدي لأعطيتها لبني اُميّة(36).
وقد أسند مناصب الدولة لهم، كما عيّنهم ولاة في معظم الأقاليم الإسلامية، ووهبهم الثراء العريض فكانوا في طليعة الرأسماليين في العالم الإسلامي، وقد عرضنا في بعض كتبنا(37) بصورة موضوعية وشاملة إلى الهبات المالية الهائلة التي منحها عثمان لاُسرته، كما عرض لها الحجّة الأميني والدكتور طه حسين والعقّاد وغيرهم، وقد أدت هباته ومنحه الامتيازات الخاصة لهم إلى نقمة المسلمين وشيوع السخط والتذمّر عليه في معظم الأقاليم الإسلامية.
الجبهة المعارضة
ونقمت على عثمان، وسخطت على سياسته معظم الصحابة وأعلام الإسلام وفي طليعتهم:
1 - أبو ذرّ الغفاري.
2 - عمّار بن ياسر.
3 - السيّدة عائشة.
4 - طلحة.
5 - الزبير.
6 - عبد الرحمن بن عوف.
7 - عبد الله بن مسعود.
وغيرهم من أقطاب الإسلام وحماته وقد نكّل عثمان بالكثيرين من معارضيه، فقد نفى الصحابي العظيم أبا ذرّ الغفاري إلى الشام، ثمّ نفاه إلى الربذة، وهي صحراء قاحلة خالية من جميع مقومات الحياة، وقد أنهكه الجوع حتى توفي غريباً جائعاً مظلوماً، كما نكّل بالصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وقطع عنه مرتبة فلم يسعفه شيء حتى أهلكه الفقر وفي يد عثمان ذهب الأرض وخيراتها، كما نكّل بأعظم صحابي وأجلّ مجاهد إسلامي وهو الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر فقد ضربه ضرباً مبرحاً حتى أصابه فتق واُغمي عليه.
وقد رفعت السيّدة عائشة قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهي تقول: هذا قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته، كما أفتت بحلّية قتله فقالت: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، وقد اشتدّت عليه المعارضة وقويت، وامتدّت إلى معظم الأقاليم الإسلامية، وقد استجارت المعارضة بالعراق ومصر وغيرها لإنقاذ المسلمين من عثمان وبطانته، فخفتّ بعض الكتائب العسكرية فزحفت إلى يثرب، وأحاطت بدار عثمان وطلبت منه إبعاد مروان وإقصاء بني اُميّة عنه أو الاستقالة من منصبه، فوعدهم بتنفيذ أهم متطلباتهم وهي إقصاء بني اُميّة إلّا أنّه خان بوعده، وكتب إلى ولاته على الأقطار بالتنكيل بمن استجاب للمعارضة ممّن قدموا إلى يثرب.
وقبض الثوار في أثناء رجوعهم إلى مدنهم على رسائله التي بعثها إلى ولاته في التنكيل بهم ففزعوا وقفلوا راجعين إلى يثرب، وعرضوا عليه رسائله، طالبوه بالاستقالة الفورية من منصبه، فلم يستجب لهم، وأصرّ على الاحتفاظ بكرسي الحكم، فعمدوا إلى الإجهاز عليه فقتلوه شرّ قتلة، وتركوا جسده مرمياً على مزبلة من مزابل يثرب استهانة به، ولم يسمحوا بمواراته إلّا أنّ الإمام أمير المؤمنين توسط في دفنه فاستجاب له الثوار على كره فدفنوه في حش كوكب.
لقد انتهت حكومة عثمان، وقد أخلدت للمسلمين المصاعب والفتن، وألقتهم في شر عظيم، فقد اتّخذت عائشة قتله وسيلة لتحقيق مآربها وأطماعها السياسية فراحت تطالب الإمام بدمه، وهي التي أفتت بقتله وكفره، كما اتّخذ الذئب الجاهلي معاوية بن هند قتل عثمان ورقة رابحة للتمرّد على حكومة الإمام والمطالبة بدمه.
وعلى أي حال فقد رأت حفيدة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث الجسام ووعت أهدافها السياسية فكان لها أعمق الأثر في نفسها، فقد كان لها من المضاعفات السيئة ما اهتز من هولها العالم الإسلامي، والتي كان من نتائجها كارثة كربلاء التي رزئت فيها السيّدة زينب، فقد عانت من الكوارث والخطوب ما تذوب من هولها الجبال.
حكومة الإمام
وبعدما أطاح الثوار بحكومة عثمان أحاطوا بالإمام أمير المؤمنين وهم يهتفون بحياته، ويعلنون ترشيحه لقيادة الاُمّة فليس غيره أولى وأحق بهذا المركز الخطير، فهو ابن عمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأبو سبطيه، ومن كان منه بمنزل هارون من موسى، وهو صاحب المواقف المشهورة في نصرة الإسلام والذبّ عنه، وليس في المسلمين من يساويه في فضائله وعلومه وعبقرياته، إلاّ أنّ الإمام رفض دعوتهم، ولم يستجب لهم لعلمه بما سيواجهه من الأزمات السياسية، فإنّ منهجه في عالم الحكم يتصادم مع رغبات الاُسر القرشية التي تريد السيطرة على السلطة، وإخضاعها لرغباتها الخاصة، فقال(عليه السّلام) للثوار:
(لا حاجة لي في أمركم فمن اخترتم رضيت به..).
فهتفوا بلسان واحد: ما نختار غيرك.
وعقدت القوات المسلحة مؤتمراً خاصاً عرضت فيه ما تواجهه الاُمّة من الأخطار إن بقيت بلا إمام يدير شؤونها، وقد قرّرت إحضار المدنيّين وإرغامهم على انتخاب إمام للمسلمين، فلمّا حضروا هدّدوهم بالتنكيل إن لم ينتخبوا إماماً وخليفة للمسلمين، ففزعوا إلى الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) وأحاطوا به رافعين عقيرتهم: البيعة.. البيعة..
فامتنع الإمام من إجابتهم، فأخذوا يتضرّعون إليه قائلين:
أما ترى ما نزل بالإسلام، وما ابتلينا به من أبناء القرى.
فأجابهم الإمام بالرفض الكامل قائلاً: (دعوني، والتمسوا غيري..).
ثم أعرب لهم الإمام عما ستعانيه الاُمة من الأزمات قائلاً:
(أيها الناس، إنّا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب، ولا تثبت له العقول..).
لقد كشف الإمام عمّا سيواجهه المسلمون من الأحداث المروّعة التي تعصف بالحلم وتميد بالصبر، الناجمة من الحكم المباد الذي عاث فساداً في الأرض، فقد أقام عثمان اُسرته حكّاماً وولاةً على الأقاليم الإسلامية، فاستأثروا بأموال المسلمين واحتكروها لأنفسهم، وإنهم حتماً سيقاومون كل من يريد الإصلاح الاجتماعي، فلذلك امتنع الإمام من إجابة القوم.
ثم عرض الإمام على القوات المسلحة، وعلى الصحابة وغيرهم منهجه فيما إذا ولي اُمورهم قائلاً:
(إنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنّما أنا كأحدكم ألا وإنّي من أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه..).
واستجاب الجميع لما عرضه الإمام عليهم قائلين: ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك.
وأجّلهم الإمام إلى الغد لينظر في الاُمور، ولمّا أصبح الصبح هرعت الجماهير إلى الجامع الأعظم، فأقبل الإمام فاعتلى أعواد المنبر فخطب الناس، وكان من جملة خطابه:
(أيها الناس، إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلاّ من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس، وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم ألا وإنّه ليس لي أن آخذ درهماً دونكم، فإن شئتم قعدت لكم وإلاّ فلا آخذ على أحد..).
وتعالى هتاف الجماهير بالتأييد والرضا قائلين:
نحن على ما فارقناك عليه بالأمس.
وطفق الإمام قائلاً: (اللّهمّ اشهد عليهم..).
وقد اتّجهت الناس كالموج صوب الإمام لتبايعه، وأوّل من بايعه طلحة فبايعه
بيده الشلّاء التي سرعان ما نكث بها عهد الله فتطيّر منها الإمام وقال:
(ما أخلفه أن ينكث..)(38).
ثمّ بايعه الزبير وهو ممّن نكث بــيعته، وبايعته القـــوات العسكرية، كما بايعه من بقي من أهل بدر والـــمهاجرين والأنصار كافة(39)، ولم يظفر أحد من خلفاء المسلمين بمثل هذه البيعة في شمولها، وقد فرح بها المسلمون وابتهجوا ووصف الإمام (عليه السّلام) مدى سرورهم بقوله:
(وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب..).
لقد ابتهج المسلمون، وعمّت الفرحة الكبرى جميع الأوساط الإسلامية بخلافة الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) رائد العدالة الاجتماعية، والمتبنّي لحقوق الإنسان الذي شارك البؤساء والمحرومين في سغبهم ومحنهم، القائل:
(أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اُسوة لهم في جشوبة العيش).
واستقبلت قريش خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بكثير من الوجوم والقلق والاضطراب، كما استقبلوا نبوة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ الروح الجاهلية بما تحمل من عادات وتقاليد وكراهية للحق لم تزل ماثلة فيهم ولم يغيّر الإسلام من طباعهم أي شيء.
وقريش تعرف الإمام جيداً فهو الذي حصد رؤوس أعلامهم بسيفه، ومحق كبرياءهم في سبيل الإسلام الذي ناهضوه، وقد خفّ إليه الاُمويّون، وفي طليعتهم الوليد فقال للإمام:
إنّك قد وترتنا جميعاً، أما أنا فقتلت أبي صبراً يوم بدر، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر، وكان أبوه من نور قريش، وأمّا مروان فشتمت أباه، وعبت على عثمان حين ضمّه إليه. فنبايع على أن تضع عنّا ما أصبنا، وتعفو عنّا عمّا في أيدينا، وتقتل صاحبنا.
فرد الإمام عليه مقالته التي لا بصيص فيها من نور الحق قائلاً:
(أما ما ذكرت من وتري إيّاكم فالحق وتركم، وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حقّ الله، وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم، وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غداً، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه، فمن ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم)(40).
إن الاُمويّين أرادوا المساومة فيما نهبوه من أموال المسلمين وما اختلسوه من بيت المال، وهيهات أن يستجيب لهم رائد الحق والعدالة في دنيا الإسلام الذي لا تساوي السلطة عنده قيمة حذائه الذي كان من ليف، وقد انصرفوا عنه وقلوبهم مترعة بالحقد والكراهية له.
وعلى أي حال فقد فزع القرشيّون من حكومة الإمام(عليه السّلام) وخافوا على مصالحهم ونفوذهم وامتيازاتهم التي ظفروا بها في عهد الخلفاء، لقد أيقنوا أن الإمام سيعاملهم معاملة عادية، ولا يميّزهم على أيّ أحد من المسلمين، وقد كان سيء الظنّ بهم، وقد أعرب عن مدى استيائه منهم بقوله:
(ما لي ولقريش لقد قاتلتهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين، والله لابقرنّ الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته، فقل لقريش فليضج ضجيجها..).
لقد حقدت قريش على الإمام كما حقدت على ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد صرفت الخلافة تارة عنه إلى تيم، وإلى عدي اُخرى، وإلى بني اُمية ثالثة، وقد جهدت على محاربته وإشاعة التمرّد في أيام خلافته، وقد ظهرت بوادر ذلك في حرب الجمل وصفين.
إجراءات حاسمة
وقام الإمام رائد العدالة الاجتماعية بإجراءات حاسمة ضد الحكم المباد كان منها:
1 - مصادرة الأموال المنهوبة:
وأوّل عمل قام به الإمام أنّه أصدر أوامره بمصادرة القطائع التي اقتطعها عثمان، وباسترجاع الأموال التي استأثر بها لنفسه، والأموال التي منحها لبني اُميّة وآل أبي معيط لأنّها أخذت بغير وجه مشروع، وقد صودرت أموال عثمان حتى سيفه ودرعه، وقد كتب عمرو بن العاص إلى معاوية رسالة جاء فيها:
ما كنت صانعاً فاصنع إذا قشّرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه، كما تقشّر عن العصا لحاها..
وعمّ الذعر والخوف جميع الرأسماليين القرشيّين الذين أقطعهم عثمان ووهبهم الثراء العريض، فقد خافوا من مصادرتها وتأميمها للدولة كما صنع الإمام بأموال عثمان فلذا أعلنوا التمرّد والبغي على حكومة الإمام.
2- عزل الولاة:
وقام رائد العدالة الاجتماعية بعزل ولاة عثمان لأنّهم أظهروا الجور والفساد في الأرض، فقد عزل معاوية بن هند، وقد نصحه جماعة من المخلصين له وطلبوا منه إبقاء معاوية فأبى وامتنع من المداهنة في دينه، وكيف يبقي الإمام في جهاز حكمه هذا الذئب الجاهلي، ويقرّه على عمله وهو رأس المنافقين ومصدر قوتهم.
وكذلك عزل غير معاوية من ولاة عثمان، ولم يبق واحداً منهم والياُ على قطر من الأقطار.
3- المساواة بين المسلمين:
وأعلن الإمام(عليه السّلام) المساواة العادلة بين جميع المسلمين، مساواة في العطاء ومساواة في الحقوق وغيرهما من الشؤون الاجتماعية، وقد عوتب على مساواته في العطاء، فأجاب:
(أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه، والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسوّيت بينهم فكيف وإنّما المال مال الله! ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ويكرمه في الناس ويهينه عند الله…).
وهكذا سلك عليّ في أيام حكومته مسلكاً مشرقاً لا التواء ولا منعطف فيه، فطبق العدل ونشر المساواة، فلم يؤثر أي أحد من أبنائه وأرحامه على غيرهم، ولم يمنحهم أي امتياز في دولته، وكان من بوادر عدله أنّه دخل بيت المال فقسّمه فجاءت طفلة إمّا للحسن أو للحسين فتناولت منه شيئاً فلمّا بصر بها أسرع إليها فأخذه منها وأرجعه إلى بيت المال، فقال له أصحابه:
يا أمير المؤمنين، إن لها فيه حقّاً..
فأنكر عليهم ذلك وقال:
(إذا أخذ أبوها منه فليعطها منه ما شاء)(41).
لقد تحرج في سلوكه كأشدّ وأقسى ما يكون التحرج وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً، فلم يرق الناس مثل عدله في جميع فترات التاريخ.
على خطة العدل والشرف غذّى أبناءه، وقد رأت ابنته حفيدة الرسول زينب (عليها السّلام) هذه السيرة المشرقة التي تأخذ بأعماق القلوب قد سار عليها أبوها فكانت من عناصر تربيتها ومن مقوّمات ذاتها، وهي التي خلقت له الخصوم والأعداء.
التمرّد على حكومة الإمام
وثارت القوى المنحرفة عن الحقّ والمعادية للإصلاح الاجتماعي على حكومة الإمام رائد الحق والعدالة في دنيا الإسلام، وقد أرادوا منه أن يعدل عن منهجه، ويسير وفق مخططاتهم الهادفة إلى ضمان مصالحهم، ومنحهم الامتيازات الخاصة، فأبى(عليه السّلام) إلاّ أن يسير بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويطبّق قانون الإسلام وتعاليم القرآن، ونشير إلى بعض هؤلاء المتمرّدين الذين شقّوا صفوف المسلمين، وأغرقوا البلد في المحن والاضطراب، وأشاعوا بين المسلمين الحزن والحداد، وهم:
طلحة والزبير
وبايع طلحة والزبير الإمام أمير المؤمنين، وانعقدت بيعته في أعناقهما، ولكن الأطماع السياسية والشورى العمرية التي نفخت فيهما روح الطموح، وساوت بينهما وبين بطل الإسلام وأخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهي التي دفعتهما إلى إعلان التمرّد، وقد خفّا إلى الإمام(عليه السّلام) وقد أترعت نفوسهما بالأطماع والكيد للإسلام فقالا للإمام:
هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟
فأسرع الإمام قائلاً:
(نعم على السمع والطاعة، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان..).
فرفضا ذلك، وقالا: لا، ولكن بايعناك على أنّا شريكاك في الأمر.
فرمقهما الإمام بطرفه، وأوضح لهما ما ينبغي أن يكونا شريكين له قائلاً:
(لا، ولكنّكما شريكان في القول والاستقامة، والعون على العجز والأولاد).
لقد أعربا عن أطماعهما وأنّ بيعتهما للإمام لم تكن من أجل صالح المسلمين وجمع كلمتهم، وقاما مغضبين، فقال الزبير في ملأ من قريش: هذا جزاؤنا من عليّ، قمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب، وسبّبنا له القتل، وهو جالس في بيته، وكفي الأمر، فلمّا نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا…
وقال طلحة: ما اللوم إلّا أنّا كنّا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا(1) وبايعناه، وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا..
والشيء المؤكّد أنّهما لم يعرفا عليّاً، ولم يعيا أهدافه في عالم الحكم، ولو عرفاه ما نازعاه، أو أنّهما عرفاه وحالت أطماعهما وجشعهما على منازعته، وانتهى حديثهما إلى الإمام فاستدعى مستشاره عبد الله بن عباس فقال له: (بلغك قول الرجلين..).
نعم.
(أرى أنّهما أحبّا الولاية فولِّ البصرة الزبير، وولِّ طلحة الكوفة..).
ولم يرتض الإمام رأي ابن عباس، فقال مفنّداً لرأيه:
(ويحك إنّ العراقين - البصرة والكوفة- بهما الرجال والأموال، ومتى تملّكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان، ولو كنت مستعملاً أحداً لضره ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي..).
لقد كان الإمام عالماً بأطماعهما، وما انطوت عليه نفوسهما من التهالك على الامرة والسلطان، ولو كان يعلم نزاهتهما واستقامتهما لولاّهما البصرة والكوفة.
ولمّا علم طلحة والزبير أنّ الإمام لا يولّيهما على قطر من أقطار المسلمين خفّا إليه طالبين منه الإذن بالخروج قائلين: ائذن لنا يا أمير المؤمنين...
(إلى أين؟).
نريد العمرة.
فرمقهما الإمام بطرفه، وعرّفهما ما يريدان قائلاً لهما: (والله ما العمرة تريدان، بل الغدرة ونكث البيعة..).
فأقسما له بالإيمان المغلظة أنّهما لا يخلعان بيعته، وأنّهما يريدان أن يعتمران بالبيت الحرام، وطلب منهما الإمام أن يعيدا له البيعة ثانياً، ففعلا دون تردد، ومضيا منهزمين إلى مكة يثيرا الفتنة، ويلحقا بعائشة ليتّخذوها واجهة لتمرّدها على الحق وشقّ كلمة المسلمين.
ويجمع المؤرخون على أنّ عائشة في طليعة من أشعل نار الثورة على عثمان، فقد أفتت بقتله ومروقه من الدين، وكانت تسمّية نعثلاً، ولمّا أحاط به الثوار خرجت إلى مكة، وبعد أدائهما لمناسك الحج قفلت راجعة إلى يثرب، وهي تجدّ في السير لتنظر ما آل إليه أمر عثمان، فلمّا انتهت إلى ســـرف لقيها رجل من أخـــوالها كان قادمــــاً من المدينة، فأسرعت قائلة: مهيم..(2).
قتلوا عثمان..
وأسرعت قائلة: ثم صنعوا ماذا؟
واجتمعوا على بيعة عليّ فجازت بهم إلى خير مجاز.
ولمّا سمعت أنّ الخلافة قد آلت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) انهارت أعصابها وتحطّمت قواها، وهتفت وهي حانقة، وبصرها يشير إلى السماء ثم ينخفض فيشير إلى الأرض قائلة:
والله ليت هذه انطبقت على هذه، إن تمّ الأمر لابن أبي طالب، قتل عثمان مظلوماً، والله لأطلبنّ بدمه..
وبهر عبيد من منطقها، فقال لها باستهزاء وسخرية:
ولِمَ؟ فوالله إنّ أول من أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر!!
وانبرت عائشة تبرّر هذا التناقض في كلامها وسلوكها، فقالت له:
إنّهم استتابوه ثمّ قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأوّل.وهي حجّة واهية لا واقع لها، فهل أنّها كانت حاضرة حينما أحاط الثوار بعثمان فأعلن لهم توبته فلم يحفلوا بها، وعدوا عليه فقتلوه، كما تقول ولم يخف على ابن خالها هذا التناقض الصريح في قولها، فراح يرد عليها:
وَلــــــمْ يســــقُطِ السـقْفُ من فـَوْقِنا ولَمْ يَـــــنْكَسِفْ شَــــــمْسُنَا وَالـقَمرَ
وقــــد بايعَ النـــــاسُ ذو تـُدْرؤ(4) يُزيلُ الشَّـــــبَا ويُــــــقيمُ الصَّــــعـرَ
وَيَلْبـَــــــسُ للـــــحرَبِ أثـــــــوابـَها ومـــــا مَــــنْ وفى مِثْلُ مَنْ قدغَدَر
وغاظها قوله فأعرضت عنه، وقفلت راجعة إلى مكة(5) وهي كئيبة حزينة؛ لأن الخلافة آلت إلى باب مدينة علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأبي سبطيه.
وراحت تندب عثمان، فقد اتّخذت قتله ورقة رابحة للإطاحة بحكم الإمام، يقول شوقي:
أثـــــأر عـــــثمان الـــذي شــــجاها أم غـــــصّة لـــــم يـــنتزع شجاها
ذلـــــك فـــــتق لـــــم يــــكن بالـبال كيـــــد النـــسـاء مــــــوهن الجبال
إنّ دم عثمان لا يصلح بأي حال من الأحوال أن يكون من بواعث ثورتها على حكومة الإمام، فقد كانت هناك أسباب وثيقة دعتها إلى هذا الموقف الذي لا تحمد عليه، وقد ذكرناها بالتفصيل في كتابنا (حياة الإمام الحسن).
الزحف إلى البصرة
وانضمّ طلحة والزبير إلى عائشة، ومعهما جميع رجال الحكم المباد من ولاة عثمان وغيرهم من المعادين لحكومة الإمام، وقد قرّر زعماء الفتنة الزحف إلى البصرة لاحتلالها، ونادى المنادي في مكة:
أيّها الناس، إنّ اُمّ المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن كان يريد إعزاز الإسلام، وقتال المحلين والطلب بدم عثمان، ولم يكن عنده مركب ولا جهاز فهذا جهازه، وهذه نفقته..
وزوّدوا الجند بالسلاح والعتاد والأموال، وقد كان قسم من النفقات من يعلي ابن اُمية والي عثمان، فقد أعان بأربعمائة ألف وحمل سبعين رجلاً(6).
واعتلت عائشة على جملها، ولم ترغب فيه، وصادفوا في الطريق العرني، وكان عنده جمل اُعجب به أتباع عائشة، فقالوا للعرني:يا صاحب الجمل تبيع جملك؟
نعم.
بِكَم؟
بألف درهم.
مجنون أنت، جمل يباع بألف درهم!!
نعم، جملي هذا.
وممّ ذلك؟
ما طلبت عليه أحداً إلاّ أدركته، ولا طلبني وأنا عليه قطّ إلاّ فتّه.
لو تعلم لمن نريده لأحسنت بيعنا.
لمن تريده؟
لاُمّك.
قد تركت اُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً.
إنّما نريده لاُمّ المؤمنين عائشة.
هو لكم، خذوه بغير ثمن.
لا.
ارجع معنا إلى الرحل نعطيك ناقة ونزيدك دراهم.
ورجع معهم فأعطوه ناقة مهرية وزادوه أربعمائة أو ستمائة درهم(7).
واعتلت عليه عائشة، وقد احتفى بها أنصارها من الاُمويين وغيرهم من الطامعين في الحكم.
وسارت قافلة عائشة تجدّ في السير لا تلوي على شيء، فاجتازت على مكان يقال له الحوأب، قتلقّت كلاب الحيّ القافلة بهرير وعواء، فذعرت عائشة من شدّة ذلك النباح، فقالت لمحمّد بن طلحة:
أيّ ماء هذا؟
ماء الحوأب.
فذعرت عائشة، وقالت: ما أراني إلاّ راجعة.
لِمَ يا اُمّ المؤمنين؟
سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لنسائه: (كأنّي بإحداكن قد نبحتها كلاب الحوأب(8)، وإيّاك أن تكوني يا حميراء..) فرد عليها محمّد وقال لها:
تقدمي رحمك الله، ودعي هذا القول..
ولم تقتنع عائشة وذاب قلبها أسى على ما فرّطت في أمرها. وعلم طلحة والزبير بإصرارها على الرجوع إلى يثرب فأقبلا يلهثان؛ لأنّها متى انفصلت عن الجيش تفرّق وذهبت آمالهما أدراج الرياح، فتكلّما معها في الأمر فامتنعت من إجابتهما، فجاءوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب، وهي أوّل شهادة زور تقام في الإسلام(9)، وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يحرفوها عمّا صمّمت عليه.
في ربوع البصرة
وأشرفت قافلة عائشة على البصرة، فلمّا علم ذلك عثمان بن حنيف والي البصرة أرسل إلى عائشة أبا الأسود الدؤلي ليسألها عن قدومها، ولمّا التقى بها قال:
ما أقدمك يا اُمّ المؤمنين؟
أطلب بدم عثمان.
فردّ عليها من منطقه الفياض قائلاً:
ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد.
صدقت ولكنّهم مع عليّ بن أبي طالب بالمدينة، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله، أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم.
فردّ عليها أبو الأسود ببالغ الحجّة قائلاً:
ما أنت من السوط والسيف، إنّما أنت حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أمرك أن تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك، وليس على النساء قتال، ولا لهنّ الطلب بالدماء، وأنّ عليّاً لأوْلى منك وأمسّ رحماً، فإنّهما إبنا عبد مناف.
ولم تقنع عائشة وأصرّت على محاربة الإمام، وقالت لأبي الأسود:
لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت إليه، أفتظنّ أبا الأسود أنّ أحداً يقدم على قتالي.
يا أبا عبد الله، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول: لا أحد أوْلى بهذا الأمر من ابن أبي طالب، وأين هذا المقام من ذاك؟
فأجابه الزبير: نطلب بدم عثمان.
ونظر إليه أبو الأسود فأجابه بسخرية:
أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بلغنا.
ورأى الزبير في كلام أبي الأسود النصح والسداد فانصاع لقوله، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة وعرض الأمر عليه، فمضى أبو الأسود مسرعاً نحو طلحة وكلّمه في الأمر فلم يجد منه أيّة استجابة، وقفل أبو الأسود راجعاً إلى ابن حنيف فأخبره بنيّة القوم وإصرارهم على الحرب.
وعقد الفريقان هدنة مؤقتة، وكتبا في ذلك وثيقة وقّعها كلا الطرفين على أن يفتح أحدهما على الآخر باب الحرب، حتى يستبين في ذلك رأي الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.
مظاهرة نسوية لتأييد عائشة
وقامت بعض السيّدات من النساء بمظاهرة لتأييد عائشة وهن يجبن في شوارع يثرب ويضربن بالدفوف، وقد رفعن أصواتهن بهذا النشيد:
ما الخبر، ما الخبر، إن عليّاً كالأشقر، إن تقدم عقر، وإن تأخر نحر..
ولمّا سمعت ذلك اُمّ المؤمنين السيّدة اُمّ سلمة، خرجت هي وحفيدة الرسول العقيلة زينب (عليها السّلام) تحفّ بها إماؤها فجعلت توبخهنّ، وقالت لهنّ: إن تظاهرتن على أبي، فقد تظاهرتن من قبل على جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فاستحيت النساء وتفرّقن، وعادت السيّدة زينب (عليها السّلام) إلى بيتها
نقض الاتفاق
وعمل حزب عائشة إلى نقض الهدنة، فقد هجموا على والي البصرة ابن حنيف، وكان مقيماً في دار الإمارة، فاعتقلوه ونكّلوا به، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، ونهبوا ما في بيت المال، وثارت الفتنة في البصرة، فقد قتلوا خزّان بيت المال وبعض الشرطة، ووقعت معركة رهيبة بين أنصار الإمام وحزب عائشة، وقد حملوها على جمل، وسمّيت تلك الوقعة بيوم الجمل الأصغر، وقد استشهد فيها جمع من المسلمين
زحف الإمام للبصرة
وزحف الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) بجيوشه إلى البصرة للقضاء على هذا الجيب المتمرّد الذي ينذر بانتشار التمرّد وسقوط الحكم، وحينما انتهى إلى البصرة بعث عبد الله بن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة وطلحة والزبير يدعوهم إلى السلم وعدم إراقة الدماء، فلم يستجيبوا لدعوته وأصرّوا على التمرّد والبغي ومناجزة الإمام، وأرسل الإمام فتىً نبيلاً وأمره أن يحمل كتاب الله تعالى ويدعوهم إلى تحكيمه، فأخذ الفتى الكتاب العزيز وجعل يلوّح به أمام عسكر عائشة وهو يدعوهم إلى العمل بما فيه ويدعوهم إلى السلم والوئام، فحملوا عليه فقطعوا يمينه فأخذ المصحف بيساره، وجعل يدعوهم إلى السلم والعمل بما في الكتاب، فحملوا عليه فقطعوا يساره، فأخذ المصحف بأسنانه وجعل يناديهم: الله في دمائنا ودمائكم.
فانثالوا عليه يرشقونه بسهامهم حتى سقط إلى الأرض جثة هامدة، ولم تجد معهم هذه الدعوة الكريمة وأصرّوا على الحرب.
إعلان الحرب
ولم تُجب مع عائشة وحزبها دعوة الإمام إلى السلم وعدم إراقة الدماء، فقد أصرّوا على الحرب والتمرّد على الحق، فاضطرّ الإمام إلى مناجزتهم، فعبّأ جنوده، ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف فقالت: انظروا إليه كأن فعله فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر، أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوال الشمس.
ومع علمها بأنّ فعله كفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كيف ساغ لها أن تحاربه، وخاطبها الإمام فقال لها: (يا عائشة، عمّا قليل ليصبحن نادمين)(12).
وأعطى الإمام خطته العسكرية لجنوده، فقال لهم:
(أيها الناس.. إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، ولا تتّبعوا مولّياً، ولا تطلبوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، ولا تهتكوا ستراً، ولا تقربوا من أموالهم إلاّ ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع أو عبد أو أمة، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله..).
ومثّلت هذه الوصية الشرف والرأفة والرحمة، كما وضعت الاُصول الفقهية في حرب المسلمين بعضهم مع بعض، كما أعلن ذلك بعض الفقهاء.
واعتلت عائشة جملها المسمّى بعسكر وأخذت كفّاً من حصباء فرمت به أصحاب الإمام(عليه السّلام) وقالت: شاهت الوجوه، فأجابها رجل من شيعة الإمام: يا عائشة وما رميت ولكن الشيطان رمى.
وتولّت عائشة القيادة العامة للقوات المسلحة، فكانت هي التي تصدر الأوامر للجيش.
وبدأ القتال كأشدّه، وقد حمل الإمام على معسكر عائشة وقد رفع العلم بيسراه، وشهر بيمينه ذا الفقار الذي طالما كشف به الكرب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
واشتدّ القتال، وقد بان الانكسار في جيش عائشة وقد قتل طلحة والزبير والكثيرون من قادة عسكر عائشة، وأخذت عائشة تبثّ في نفوس عسكرها روح التضحية والنضال، وقد دافعوا عنها بحماس بالغ، وقد شاعت القتلى بين الفريقين.