مسألة 976 : وقت النية في الواجب المعين ولو بالعارض عند طلوع الفجر الصادق على الأحوط لزوما بمعنى أنه لا بد فيه من تحقق الامساك مقرونا بالعزم ولو ارتكازا لا بمعنى أن لها وقتا محددا شرعا ، وأما في الواجب غير المعين فيمتد وقتها إلى ما قبل الزوال وإن تضيق وقته فله تأخيرها إليه ولو اختيارا ، فإذا أصبح ناويا للافطار وبدا له قبل الزوال أن يصوم واجبا فنوى الصوم أجزأه ، وإن كان ذلك بعد الزوال لم يجز على الأحوط ، وأما في المندوب فيمتد وقتها إلى أن يبقى من النهار ما يقترن فيه الصوم بالنية .
----------------------------
تقدم منا في تمهيد شرح الفصل السادس تقسيم الصوم واجباً كان او مندوباً الى معيّن وغير معين وقلنا الأقسام أربعة :
الواجب المعيّن ، والواجب غير المعينّ ، والمستحب المعيّن ، والمستحب غير المعيّن
ومثّلنا للأول بصوم شهر رمضان ، وللثاني بالقضاء ، وللثالث بصيام يوم عرفة ويوم الغدير ونحوهما ، وللرابع باستحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر
وقلنا المقصود بالمعيّن هو ما حددت له الشريعة زماناً مخصوصاً واشترطت وقوع الصوم فيه ، بخلاف غير المعيّن الذي لا يشترط فيه زمان مخصوص بل يصح إيقاعه في أي يوم شاء المكلف مما يصح إيقاع الصوم فيه من الأيام
ونبّهنا الى أن الواجب المعيّن قد يكون كذلك بالأصل كصوم شهر رمضان او بالعارض كصوم النذر المعيّن ، وكذا الواجب غير المعيّن فهو إما أصلي كصوم القضاء وإما عرَضي كصوم النذر غير المعيّن
كما تقدم أن الصوم من العبادات الشرعية فلا بد فيه من النية وهي العزم على الصوم المقرون بداعٍ إلهي والباقي في النفس كذلك ولو ارتكازاً
والآن نقول أن نية الصوم لها وقت محدد تختلف فيه باختلاف أقسام الصوم الأربعة المتقدمة وأنه واجب أو مندوب ، معيّن او غير معيّن ، ولأجل ذلك شرع الفقهاء في هذه المسألة ومنهم السيد الماتن ببيان وقت النية في كل قسم ، بعد الالتفات الى أمرين :
الأول / أن الكلام في القسمين الثالث والرابع وهما المستحب المعيّن والمستحب غير المعيّن من حيث تحديد وقت النية واحد ، وعليه فسيكون الحديث في تحديد وقت نية الصوم يقع في ثلاثة مباحث : نية الواجب المعيّن ، ونية الواجب غير المعيّن ، ونية المستحب ، أعم من كونه معيناً او غير معيّن لأن الكلام فيهما متحد وحكم النية من حيث الوقت واحد فيهما .
الثاني / عندما نقول نية الصوم لها وقت نتعرض له في هذه المسألة لا نعني أن للنية وقتاً محدداً شرعاً لا بد أن تقع فيه بحيث يكون له مبدأ ومنتهى فلا يجوز تقدم النية على مبدأ الوقت ولا تأخرها عن منتهاه كما هو الحال في الصلوات اليومية مثلاً حيث وقت كل صلاة له مبدأ ومنتهى ويجب إيقاع الصلاة بينهما لا قبلهما ولا بعدهما ، بل لا وقت للنية بهذا المعنى وإنما المقصود أن النية تتضيّق في وقت محدد ولا يجوز تأخيرها عليه وإن كان يجوز أن تتقدم على ذلك الوقت ، والكلام هنا في ما هو هذا الوقت الذي تتضيق عنده نية الصوم ، فعندما نقول أن نية صوم القضاء تكون عند الزوال لا نعني أن الزوال وقتها المحدد شرعاً فيجب أن يؤتى بها فيه بل نعني أنها تتضيق عند الزوال ولا يصح صوم القضاء مع تأخيرها عن الزوال مع جواز تقديمها على الزوال ولو من الليل إذ الزوال ليس وقتاً محدداً شرعاً لها حتى لا يصح تقدم النية عليه ، شأنها - نية الصوم - في ذلك شأن نيات سائر العبادات الأخرى فنية الصلاة ونية الوضوء ونية الحج لا تحديد وقتي شرعاً لها فيجوز إيقاعها في أي زمان ما دام قبل مباشرة العمل وإن تضيقت عند مباشرة العمل بأول جزء منه
إذن المقصود من كون النية لها وقت أن هناك وقتاً لا يجوز تأخير النية عنه وإن كان يجوز تقديمها على ذلك الوقت ، وهذا المعنى لوقت النية يظهر واضحاً في صياغة السيد اليزدي رحمه الله في كتابه العروة الوثقى لهذه المسألة فقال : ( آخر وقت النية في الواجب المعين - رمضاناً كان أو غيره - عند طلوع الفجر الصادق ويجوز التقديم في أي جزء من أجزاء ليلة اليوم الذي يريد صومه ) فأضاف لفظة آخر الى وقت النية فقال ( آخر وقت النية ) ولم يقل ( وقت النية ) في إشارة الى التضيّق ، ثم نبّه على جواز تقديم النية على ذلك الوقت في جزء من أجزاء الليل لأن الفجر ليس وقتاً محدداً للنية شرعاً حتى لا يجوز التقديم عليه ، ولذا لا إشكال في صحة الصوم لمن نواه ليلاً ثم نام حتى الصباح بحيث طلع الفجر وهو نائم لأن طلوع الفجر ليس وقتاً محدداً للنية حتى يقال أنه كان نائماً ولم ينوِ ، فصومه صحيح ما دام قد نوى قبل ذلك من الليل .
والحاصل / المقصود هنا من وقت النية هو أن صحة الصوم تتوقف على عدم تأخير النية عن زمان معين وليس وجوب إيقاعها في ذلك الزمان ، وعليه فلا مانع من تقديمها على ذلك الزمان وإنما المهم أن لا تتأخر عنه . (1)
إذا عرفت ذلك فاعلم ، أن هذا الزمان الذي تتضيق عنده النية ولا يصح الصوم بتأخيرها عليه يختلف باختلاف نوع الصوم ، فإن كان واجباً معيناً فالزمان هو الفجر ، وإن كان واجباً غير معيّن فالزمان هو الزوال ، وإن كان الصوم مندوباً فالزمان هو الغروب
بيان ذلك /
أما الواجب المعيّن سواء كان كذلك بالأصل كصوم شهر رمضان او بالعارض كصوم النذر المعيّن فالمعروف أن وقت النية فيه عند طلوع الفجر بمعنى تتضيّق نيته عند طلوع الفجر بحيث لا يجوز تأخيرها عنه وإن كان يجوز أن تتقدم على هذا الوقت فينوي الصيام من الليل بل ولو قبل أيام كما سيأتي إن شاء الله في المسألة التالية أنه تكفي لشهر رمضان نية واحدة في أوله وهذا يعني أن اليوم الأخير نيته مبيّتة وسابقة عليه منذ شهر وهذا غير ضائر فالمهم أن لا تتأخر عن طلوع فجره
إذن كل يوم من رمضان لا بد في صحة صومه من النية ويجب أن تكون هذه النية موجودة ومتقدمة على طلوع فجره أو على الأقل مقارنة للطلوع بحيث يطلع فجر ذلك اليوم والعزم على الصوم فيه موجود ، ويستمر على هذا العزم محافظاً عليه الى الغروب ولو ارتكازاً فلا يضره النوم او الغفلة عنه كما تقدم
وأما إذا طلع الفجر ولم يكن قد عزم بعد على الصيام عمداً فقد فاته صيام ذلك اليوم ولا ينفع العزم المتأخر حينئذٍ بخلاف ما إذا لم يكن عامداً كالجاهل والناسي والقادم من السفر قبل الزوال فسيأتي إن شاء الله كما في المسألة بعد التالية وكذلك المسألة (1038) أن وقت تضيّق النية عند هؤلاء يستمر الى الزوال وأن كان الصوم واجباً معيّناً .
والوجه في كون نية الواجب المعيّن تتضيق عند الفجر ثم لا بد من الحفاظ عليها الى الغروب أن الصوم كما قلنا عبادة وكل عبادة تحتاج الى نية وفي الواجب المعيّن عباديّة الصوم تكون من الفجر الى الغروب فوجب أن تكون النية موجودة في كل هذا الوقت لأن كل لحظة منه صومها عبادة فلا بد من النية في كل لحظة ولو ارتكازا ، نظير الصلاة مثلاً فكما يجب وجود النية من تكبيرة الإحرام الى التسليم حتى تقع كل العبادة وهي الصلاة عن نية فكذا هنا لا بد أن تقع كل العبادة وهي الصوم الواجب المعين عن نية وبما أن الواجب هو الصوم من الفجر الى الغروب وجب كون النية موجودة من الفجر الى الغروب ، ولذا سيأتي إن شاء الله في المسألة (980) أنه إذا فقد العزم وتردد في النية أو نوى الإفطار في لحظة من النهار بطل صومه وإن لم يتناول المفطر فعلاً لأن ذلك يعني وقوع بعض العبادة وهي تلك اللحظة التي تردد فيها من دون نية فيكون كما لو فقد النية في فعل من أفعال الصلاة فالصلاة تبطل وإن كانت باقي الأفعال مقرونة بالنية فهذا لا يكفي (2)
وقول الماتن : ( على الأحوط لزوماً ) بمعنى أن هذا الحكم وهو تضيّق نية الواجب المعيّن عند طلوع الفجر الصادق بحيث لا يجوز تأخيرها عليه مبني على الاحتياط اللزومي ، فالأحوط لزوماً أن لا يؤخر الصائم نية يوم من شهر رمضان عن فجر ذلك اليوم والا لم يصح ، وقد خالف السيد الماتن في ذلك باقي الفقهاء فكلهم ذكروا المسألة على نحو الفتوى وليس احتياطاً فقالوا : ( وقت النية في الواجب المعين ولو بالعارض عند طلوع الفجر الصادق بحيث يحدث الصوم حينئذ مقارنا للنية ) (3) من دون تعرض الى الاحتياط
وهو وإن كان لا فرق بين الرأيين بلحاظ العمل وبالنسبة الى المكلف والمقلِّد فهو كما يجب عليه العمل والالتزام بالفتوى فكذلك الاحتياط اللزومي يجب عليه الالتزام به (4) ، الا أن بينهما فرقاً بالنسبة للفقيه ، فإن معنى الفتوى بالحكم أن الفقيه جازمٌ به بينما معنى الاحتياط اللزومي أنه غير جازم بل هو شاكٌ ومستشكل به فاحتاط في المسألة ، فباقي الفقهاء جازمون بأن نية الواجب المعيّن تتضيق عند الفجر ولا يصح أن تتأخر عليه بخلاف السيد الماتن فهو شاك في هذا التضيق أي غير جازم بعدم صحة الصوم مع تأخر النية على الفجر بل يحتمل صحة الصوم حينئذٍ مع احتمال البطلان وعدم الصحة أيضاً والاحتياط حينئذٍ بعدم تأخير النية طريق النجاة .
وربما منشأ احتياط المصنف في الحكم وعدم جزمه به عدم وجود دليل صريح عليه ، لذا ذهب بعض فقهائنا المتقدمين الى استمرار نية صوم رمضان الى الزوال وهو السيد المرتضى رحمه الله ، وبعضهم قال بل الى الغروب وهو ابن الجنيد لكن المعروف والمشهور هو تضيّق النية عند طلوع الفجر .
.
.
.
------------------------
(1) بعد أن قلنا في المسائل السابقة أن النية في الصوم ليست لفظية فلا يجب التلفظ بها بل ولا إخطارية فلا يجب استحضارها وتصورها في الذهن ، وإنما هي مجرد عزم وإرادة على الصوم قربة الى الله تعالى ومعنى ذلك أن نية الصوم تتحقق بمجرد عدم التردد في الصوم ولا نية الإفطار فكل من لم ينوِ الإفطار ولا كان متردداً فهو عازم على الصوم وحينئذٍ قد يقول قائل أن الأمر في النية سهلٌ ولا يحتاج الى كل هذا التشعب في الكلام ، فكل واحد منّا يجد نفسه عازماً على الصوم ناوياً له بلا تردد ليس من الليل فقط بل قبل أن يدخل شهر رمضان فما الداعي الى كل ذلك ، وبعبارة أخرى إن كل واحد منّا يجد من نفسه أنه ناوٍ للصوم قهراً منذ دخول الليل فما جدوى الكلام في توقيت النية ومتى تتضيّق ؟ وجوابه / قد يكون أغلب المؤمنين كذلك لكن ليس بالضرورة جميعهم كذلك بحيث لا يفارقهم العزم والنية فهناك المتردد وهناك من لا نية له للصوم ثم يبدو له أن يصوم فمن الضروري لهؤلاء أن يعرفوا متى تتضيّق النية ، هذا مضافاً الى أن الفقهاء لا يأخذون هذه الأمور بنظر الاعتبار فهم وظيفتهم بيان الأحكام الشرعية بقطع النظر عن مدى الحاجة اليها وشدة الابتلاء بها حتى قيل إن الفقيه ما ترك باباً الا سلكه .
(2) ومن خلال ذلك يمكن أن نفهم المغزى من الاحتياط بالإمساك قبل الفجر وهو أن النية يجب أن تكون موجودة في جميع آنات النهار من أول آن من الفجر الى آخر آن من النهار ، ولمّا كان العلم بأول زمان طلوع الفجر متعسراً أو متعذراً عادة كان لا بد من الاحتياط بتقديم الإمساك والنية قبل ذلك حتى يتيقن المكلف من صحة صومه ووقوع جميع النهار عن نية .
(3) لاحظ مثلاً منهاج الصالحين للسيد الخوئي ج1 مسألة 976 .
(4) يمكن أن يكون هناك فرق بينهما بلحاظ المكلف أيضاً وهو أن المكلف ملزم بالفتوى بينما يتخير في الاحتياط اللزومي بين العمل به وبين الرجوع فيه الى مجتهد آخر يفتي بما يخالف الاحتياط فهو غير ملزم بالاحتياط اللزومي ولكنه ملزم بالفتوى ، ولكن هنا هذا الفرق منعدم لأن كل الفقهاء الآخرين يفتون بما يوافق الاحتياط اللزومي كما قلنا ولا يوجد فقيه يفتي بما يخالف الاحتياط حتى يمكن الرجوع اليه وترك الاحتياط اللزومي .