اما الاستدلال بالآية الكريمة (( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً (الكهف : 21)
ليس له محل ها هنا لقول الله تعالى غلبوا على امرهم اى اصحاب القوة والسلطان وما كان فى الشرائع السابقة ليس يلزمنا اتباعه حيث نسخت شريعة الاسلام جميع الشرائع السابقة وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى النهى المغلظ السابق ولعنهم اى انهم كانوا يقومون بهذا العمل مخالفا لشريعتهم ايضا ان كتاب الله وسنة نبيه هما دعامتا الإسلام فمن يؤمن بإحداهما وينكر الاخرى فقد خلع عباءة الإسلام ولا يستحق ان يقال له مسلم .ونسأل الله الهدى والتقى ويهدينا الى ما يحب ويرضى
الآية تشير لقصة أصحاب الكهف عندما عثر عليهم الناس، فبعضهم قال نبني عليهم بنيان والبعض الآخر قال لنتخذن عليهم مسجدا..
والأول هو قول المشركين اما الثاني فهو قول الموحدين والآيه الكريمه طرحت القولين دون استنكار فلو كان فيها شيء من باطل لأشارت اليه ودلت على بطالنيته بقرينه ما.. كذلك فقد طرحـت قول الموحـدين بسياق يفيد المـدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المـحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحدين قاطعاً (لنتّخذنّ) نابعاً من رؤية إيمانية، فليس المـطلوب عندهم مجرد البناء، وإنّما المطلوب هو المسجد. وهذا القول يدلّ على أن أولـئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصـلاة..
الأول: أن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة 1 منها قوله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبلي . . . (فذكرها ، وآخرها ) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة " .
فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا !
الثاني: هب أن الصواب قول من قال : " شريعة من قبلنا شريعة لنا " فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ، وهذا الشرط معدوم هنا ، لأن الأحاديث تواترت في النهي عن
البناء المذكور كما سبق ، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا .
الثالث: لا نسلم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: {لنتخذن عليهم مسجداً} فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين ، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين ، متمسكين بشريعة نبي مرسل ، بل الظاهر خلاف ذلك ، قال الحافظ ابن رجب في " فتح الباري في شرح البخاري " (65/280) من "الكواكب الدراري" "حديث لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
((وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث ، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً} فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور ، وذلك يشعر بان مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى " .
وقال الشيخ علي بن عروة في " مختصر الكوكب " (10/207/2) تبعاً للحافظ ابن كثير في تفسيره (3/78) : " حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين:
أحدهما: أنهم المسلمون منهم .
والثاني: أهل الشرك منهم .
فالله أعلم ، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ، ولكن هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما فعلوا ، وقد رُويّنا عن عمر بن الخطاب أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده ، فيها شيء من الملاحم وغيرها".
إذا عرفت هذا ، فلا يصح الاحتجاج بالآية على وجه من الوجوه ، وقال العلامة المحقق الآلوسي في "روح المعاني" (5/31) " واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء واتخاذ مسجد عليها ، وجواز الصلاة في ذلك ! وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي ، وهو قول باطل عاطل ، فاسد كاسد فقد روي. . .)
ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة ، وأتبعها بكلام الهيتمي في " الزواجر" مقراً له عليه ، وقد نقلته فيما سبق ، ثم نقل عنه في كتابه " شرح المنهاج " ما نصه : " وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية ، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة ، التي بناها بعض الملوك ، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة ،فيتعين الرفع للإمام آخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح" انتهى.
ثم قال الإمام الآلوسي : " لا يقال : إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ، وقد استُدِلَّ بها، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من نام عن صلاة أو نسيها ". ، الحديث ثم تلا قوله تعالى {وأقم الصلاة لذكري}، وهو مقول لموسى عليه السلام ، وسياقه الاستدلال ، واحتج أبو يوسف على جري القود بين الذكر ولأنثى بآية {وكتبنا عليهم} ، والكرخي على جريه بين الحر والعبد ، والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل ، إلى غير ذلك ، لأنا نقول : مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا ، لكن لا مطلقاً ، بل إنْ قص الله تعالى علينا بلا إنكار [فإنكار] رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل.
وقد سَمِعتَ أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور ، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع ، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاجُ الأئمة بها ، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك ، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم ، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً لا يدل على فعلهم عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده .
ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين ، كما روي عن قتادة .
وعلى هذا لقائل أن يقول : إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور ، فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده ، وكف التعرض لأصحابه ، فلم يقبل الأمراء منهم ، وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد .
وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول : إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه ، الملعون فاعله ، وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريباً من كهفهم ، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب ، ومثل هذا الاتخاذ ليس محذوراً إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي فهم فيه ، كنسبة النبوي إلى المرقد المعظم صلى الله تعالى على من فيه وسلم ، ويكون قوله {لنتخذن عليهم} على هذا الشاكلة قول الطائفة ( ابنوا عليهم ) .
وإن شئت قلت : إن ذلك الاتخاذ كان على كهف فوق الجبل الذي هو فيه ، وفيه خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى علي كهفهم مسجداً ، وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى ، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم ، وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولاً فلا يحتاج إليه على ما قيل.
وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة ، معولاً على الاستدلال بهذه الآية ، فإن ذلك في الغواية غاية ، وفي قلة النُهى نهاية ! ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها ، وبنائها بالجص والآجر ، وتعليق القناديل عليها ، والصلاة إليها ، والطواف بها ، واستلامها ، والاجتماع عندها ، في أوقات مخصوصة ، إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة ، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً ، وجعله إياهم في توابيت من ساج ، ومقيساً لبعض على بعض ! وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وابتداع دين لم يأذن به الله عز وجل .
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسل في قبره عليه الصلاة والسلام ـ وهو أفضل قبر على وجه الأرض ـ والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له ، والسلام عليه ، فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك ، والله سبحانه يتولى هداك ".
قلت : وقد استدل بالآية المذكورة على الجواز المزعوم ، بل على استحباب بناء المساجد على القبور بعض المعاصرين1 لكن من وجه آخر مبتدع مغاير بعض الشيء لما سبق حكايته ورده فقال ما نصه "
" والدليل من هذه الآية إقرار الله إياهم على ما قالوا ، وعدم رده عليهم "!
قلت هذا الاستدلال باطل من وجهين :
الأول : أنه لا يصح أن يعتبر عدم الرد عليهم إقراراً لهم ، إلا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين وصالحين متمسكين بشريعة نبيهم ، وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنهم كانوا كذلك ، بل يحتمل أنهم لم يكونوا كذلك ، وهذا هو الأقرب ؛ أنهم كانوا كفاراً أو فجاراً ، كما سبق من كلام ابن رجب وابن كثير وغيرهما ، وحينئذ فعدم الرد عليهم لا يعد إقراراً بل إنكاراً ، لأن حكاية القول عن الكفار والفجار يكفي في رده عزوه إليهم! فلا يعتبر السكوت
عليه إقراراً كما لا يخفى ، ويؤيده الوجه الآتي :
الثاني : أن الاستدلال المذكور إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين ، الذين يكتفون بالقرآن فقد ديناً ، و لا يقيمون للسنة وزناً ، وأما طريقة أهل السنة والحديث الذين يؤمنون بالوحيين ، مصدقين بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور :" ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ". وفي رواية :" ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ".
فهذا الاستدلال عندهم ـ والمستدل يزعم أنه منهم ! ـ باطل ظاهر البطلان ، لأن الرد الذي نفاه ، قد وقع في السنة المتواترة كما سيق ، فكيف يقول : إن الله أقرهم ولم يرد عليهم ، مع أن الله لعنهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأي رد أوضح وأبين من هذا ؟!.
وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة ؛ إلا كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجن الذين كانوا مذللين لسليمان عليه السلام ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدور راسيات )يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير! وما يفعل ذلك مسلم يؤمن بحديثه صلى الله عليه وسلم.
وبهذا ينتهي الكلام عن الشبهة الأولى ، وهي الاستدلال بآية الكهف والجواب عنها وعن ما تفرع منها
الأول: أن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة 1 منها قوله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبلي . . . (فذكرها ، وآخرها ) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة " .
فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا !
الثاني: هب أن الصواب قول من قال : " شريعة من قبلنا شريعة لنا " فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه ، وهذا الشرط معدوم هنا ، لأن الأحاديث تواترت في النهي عن
البناء المذكور كما سبق ، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا .
الثالث: لا نسلم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: {لنتخذن عليهم مسجداً} فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين ، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين ، متمسكين بشريعة نبي مرسل ، بل الظاهر خلاف ذلك ، قال الحافظ ابن رجب في " فتح الباري في شرح البخاري " (65/280) من "الكواكب الدراري" "حديث لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
((وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث ، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً} فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور ، وذلك يشعر بان مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى " .
وقال الشيخ علي بن عروة في " مختصر الكوكب " (10/207/2) تبعاً للحافظ ابن كثير في تفسيره (3/78) : " حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين:
أحدهما: أنهم المسلمون منهم .
والثاني: أهل الشرك منهم .
فالله أعلم ، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ، ولكن هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما فعلوا ، وقد رُويّنا عن عمر بن الخطاب أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده ، فيها شيء من الملاحم وغيرها".
إذا عرفت هذا ، فلا يصح الاحتجاج بالآية على وجه من الوجوه ، وقال العلامة المحقق الآلوسي في "روح المعاني" (5/31) " واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء واتخاذ مسجد عليها ، وجواز الصلاة في ذلك ! وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي ، وهو قول باطل عاطل ، فاسد كاسد فقد روي. . .)
ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة ، وأتبعها بكلام الهيتمي في " الزواجر" مقراً له عليه ، وقد نقلته فيما سبق ، ثم نقل عنه في كتابه " شرح المنهاج " ما نصه : " وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية ، حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة ، التي بناها بعض الملوك ، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة ،فيتعين الرفع للإمام آخذاً من كلام ابن الرفعة في الصلح" انتهى.
ثم قال الإمام الآلوسي : " لا يقال : إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ، وقد استُدِلَّ بها، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من نام عن صلاة أو نسيها ". ، الحديث ثم تلا قوله تعالى {وأقم الصلاة لذكري}، وهو مقول لموسى عليه السلام ، وسياقه الاستدلال ، واحتج أبو يوسف على جري القود بين الذكر ولأنثى بآية {وكتبنا عليهم} ، والكرخي على جريه بين الحر والعبد ، والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل ، إلى غير ذلك ، لأنا نقول : مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا ، لكن لا مطلقاً ، بل إنْ قص الله تعالى علينا بلا إنكار [فإنكار] رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل.
وقد سَمِعتَ أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور ، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع ، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفاً احتجاجُ الأئمة بها ، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك ، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم ، فمتى لم يثبت أن فيهم معصوماً لا يدل على فعلهم عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده .
ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين ، كما روي عن قتادة .
وعلى هذا لقائل أن يقول : إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور ، فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده ، وكف التعرض لأصحابه ، فلم يقبل الأمراء منهم ، وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد .
وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول : إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه ، الملعون فاعله ، وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريباً من كهفهم ، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب ، ومثل هذا الاتخاذ ليس محذوراً إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي فهم فيه ، كنسبة النبوي إلى المرقد المعظم صلى الله تعالى على من فيه وسلم ، ويكون قوله {لنتخذن عليهم} على هذا الشاكلة قول الطائفة ( ابنوا عليهم ) .
وإن شئت قلت : إن ذلك الاتخاذ كان على كهف فوق الجبل الذي هو فيه ، وفيه خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى علي كهفهم مسجداً ، وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى ، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم ، وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولاً فلا يحتاج إليه على ما قيل.
وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة ، معولاً على الاستدلال بهذه الآية ، فإن ذلك في الغواية غاية ، وفي قلة النُهى نهاية ! ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها ، وبنائها بالجص والآجر ، وتعليق القناديل عليها ، والصلاة إليها ، والطواف بها ، واستلامها ، والاجتماع عندها ، في أوقات مخصوصة ، إلى غير ذلك محتجاً بهذه الآية الكريمة ، وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيداً ، وجعله إياهم في توابيت من ساج ، ومقيساً لبعض على بعض ! وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وابتداع دين لم يأذن به الله عز وجل .
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسل في قبره عليه الصلاة والسلام ـ وهو أفضل قبر على وجه الأرض ـ والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له ، والسلام عليه ، فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك ، والله سبحانه يتولى هداك ".
قلت : وقد استدل بالآية المذكورة على الجواز المزعوم ، بل على استحباب بناء المساجد على القبور بعض المعاصرين1 لكن من وجه آخر مبتدع مغاير بعض الشيء لما سبق حكايته ورده فقال ما نصه "
" والدليل من هذه الآية إقرار الله إياهم على ما قالوا ، وعدم رده عليهم "!
قلت هذا الاستدلال باطل من وجهين :
الأول : أنه لا يصح أن يعتبر عدم الرد عليهم إقراراً لهم ، إلا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين وصالحين متمسكين بشريعة نبيهم ، وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنهم كانوا كذلك ، بل يحتمل أنهم لم يكونوا كذلك ، وهذا هو الأقرب ؛ أنهم كانوا كفاراً أو فجاراً ، كما سبق من كلام ابن رجب وابن كثير وغيرهما ، وحينئذ فعدم الرد عليهم لا يعد إقراراً بل إنكاراً ، لأن حكاية القول عن الكفار والفجار يكفي في رده عزوه إليهم! فلا يعتبر السكوت
عليه إقراراً كما لا يخفى ، ويؤيده الوجه الآتي :
الثاني : أن الاستدلال المذكور إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين ، الذين يكتفون بالقرآن فقد ديناً ، و لا يقيمون للسنة وزناً ، وأما طريقة أهل السنة والحديث الذين يؤمنون بالوحيين ، مصدقين بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور :" ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ". وفي رواية :" ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ".
فهذا الاستدلال عندهم ـ والمستدل يزعم أنه منهم ! ـ باطل ظاهر البطلان ، لأن الرد الذي نفاه ، قد وقع في السنة المتواترة كما سيق ، فكيف يقول : إن الله أقرهم ولم يرد عليهم ، مع أن الله لعنهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأي رد أوضح وأبين من هذا ؟!.
وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة ؛ إلا كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجن الذين كانوا مذللين لسليمان عليه السلام ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدور راسيات )يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير! وما يفعل ذلك مسلم يؤمن بحديثه صلى الله عليه وسلم.
وبهذا ينتهي الكلام عن الشبهة الأولى ، وهي الاستدلال بآية الكهف والجواب عنها وعن ما تفرع منها
ان الوهابية العمياء والسلفية الطالحة ,الذين كفروا المسلمين بمختلف طوائفهم, كل هؤلاء استعملوا العنف والارهاب في تحميل عقائدهم الفاسدة على المسلمين , فهدموا البقيع الذي يحوي قبور اهل البيت (ع) والصحابة وامهات المؤمنين,وارادوا تخريب قبر النبي (ص) لولا ان وقف المسلمون اما فعلتهم الشنعاء هذه , وكذلك حاولواتخريب قبور الائمة في العراق ولم يفلحوا , نسأل الله ان يكفينا شرهم.. وهم يوما بعد اخر في طريقهم للسقوط في مزبلة التاريخ , وذلك لتشويههم سمعة الاسلام والمسلمين في العالم بما يقومون به من اعمال ارهابية مخالفة للشريعة المحمدية السمحاء .
وأما في مقام الاستدلال على جواز بناء القبور , فتارة يكون الدليل خاصا , واخرى عاما .
ثم ان الاصل الاباحة ,الا اذاورد دليل تام يحرمه.
وفيما نحن فيه الادلة التي اقاموها على الحرمة غير تامة , والدليل الخاص ثابت في مصادر الشيعة , والدليل العام وارد في مصادر الفريقين , واصل الاباحة ساري المفعول عند السنه والشيعة لعدم تماميةالادلة التي اقاموها على الحرمة .
أخبرنا الله تعالى عن المؤمنين الذين قررّوا أن يتّخذوا من مضجع الفتية المؤمنة مسجداً يسجدون لله سبحانه فيه ، ويعبدونه وهم مؤمنون وليسوا بمشركين ، ولم يذمّهم الله تعالى على ذلك .
وممّا لا شك فيه أن شأن الأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) ، أرفع من شأن أولئك الفتية، فإذا جاز بناء قبورهم ، فبالأولى جواز ذلك بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) .
2ـ قوله تعالى : (( قفل لَّا أَسْأَلفكفمْ عَلَيْهف أَجْرًا إفلَّا الْمَوَدَّةَ ففي الْقفرْبَى )) الشورى 23 .
تدل هذه الآية على وجوب مودّة قربى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو وجوب مطلق لم يقيد بزمان دون آخر ، ولا مكان دون مكان ، ولا كيفية دون أخرى .
وممّا لا شك فيه أن تعهد قبر شخص ما بالبناء والإعمار والتجديد من جملة المصاديق العرفية لهذه المودة .
3ـ تعظيم شعائر الله تعالى .
فإن القرآن الكريم وإن لم يصرح على بناء قبور الأنبياء والصالحين بالخصوص ، لكنه صرح بتعظيم شعائر الله تعالى بقوله : (( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )) ، وبقوله : (( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له )) ، وبقوله : (( ولا تحلوا شعائر الله )) .
ولا شك ولا ريب أن صون المعالم الدينية عن الإندراس ـ كالمشاهد المتضمّنة لأجساد الأنبياء والصالحين ـ وحفظها عن الخراب بناءاً وتجديداً ، نحو من أنحاء التعظيم ، كما أن حفظ المسجد عن الخراب تعظيم له .
ولا يخفى : أن الله تعالى جعل الصفا والمروة من الشعائر والحرمات التي يجب احترامها ، فكيف بالبقاع المتضمنة لأجساد الأنبياء والأولياء ، فإنها أولى بأن تكون شعاراً للدين .
كيف لا ؟ وهي من البيوت التي أذن الله أن ترفع ، ويذكر فيها اسمه ، فإن المراد من البيت في الآية هو : بيت الطاعة ، وكل محل أعدّ للعبادة ، فيعم المساجد والمشاهد المشرفة لكونها من المعابد .
ولو لم يكن في الشريعة ما يدل على تعمير المساجد وتعظيمها واحترامها ، لأغنتنا الآية بعمومها عن الدلالة على وجوب تعمير المسجد وتعظيمه ، وإدامة ذكر الله فيه ، لكونه من البيوت التي أذن الله أن ترفع .
ومثل المسجد في جهة التعمير والتعظيم والحفظ ، المشاهد التي هي من مشاعر الإسلام ومعالم الدين .
4ـ إقرار النبي ( صلى الله عليه وآله ) والصحابة على البناء .
فإنه ( صلى الله عليه وآله ) أقرّ ، وهكذا أصحابه ، على بناء الحفجر ولم يأمروا بهدمه ، مع أنه مدفن نبي الله إسماعيل ( عليه السلام ) وأمّه هاجر ، وهكذا إقرارهم على بناء قبر النبي إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، وبقية قبور الأنبياء والمرسلين حول بيت المقدس .
ثم إقرار الصحابة على دفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الحجرة التي توفّي فيها ، وهي مشيّدة بالبناء ، ودفن الخليفة الأول والثاني فيها من بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يأمروا بهدمها ، بل العكس أمروا بإعمارها ، دليل قاطع على جواز البناء على القبور .
5ـ الروايات الواردة في كتب الفريقين عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الحث على زيارة القبور ، وثواب من زار قبره ، وأنه ( صلى الله عليه وآله ) زار قبر أمّه ورمّم قبرها .
وأما بالنسبة إلى الأدلة التي تمسّك بها الوهابيون على تحريم البناء على القبور ، فهي :
1ـ إجماع العلماء قائم على عدم جواز البناء على القبور .
وفيه : أن دعوى الإجماع مرفوضة ، بإعتبارها مخالفة لكلمات العلماء الدالة على جواز البناء ، بل رجحانه ، ومخالفة لعمل المسلمين وسيرتهم القطعية في جميع الأقطار والأمصار ، على اختلاف طبقاتهم وتباين نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى يومنا هذا ، من العلماء وغيرهم ، من الشيعة والسنة وغيرهم ، وأي بلاد من بلاد الإسلام ليس لها جبانة ، فيها القبور المشيّدة ؟!
فهؤلاء أئمة المذاهب : الشافعي في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم سامقة المباني شاهقة القباب ، وأحمد بن حنبل كان له قبر مشيّد في بغداد ، جرفه شط دجلة حتى قيل : أطبق البحر على البحر .
وكل تلك القبور قد شيّدت ، وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء ، وأرباب الفتوى ، وزعماء المذاهب ، فما أنكر منهم ناكر ، بل كل منهم محبّذ وشاكر .
وليس هذا من خواص الإسلام ، بل هو جار في جميع الملل والأديان ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، بل هو من غرائز البشر ، ومقتضيات الحضارة والعمران ، وشارات التمدّن والرقي ، والدين القويم المتكفّل بسعادة الدارين ، إذا كان لا يؤكده ويحكمه ، فما هو بالذي ينقضه ويهدمه ، ألا يكفي هذا شاهداً قاطعاً ، ودليلاً بيناً على فساد دعوى الإجماع ؟
2ـ ما ورد عن الإمام علي ( عليه السلام ) بأنه قال لابن الهياج الأسدي : ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا ادع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ( صحيح مسلم 2 / 666 باب 31 ح 93 ، مسند أحمد 1 / 96 و 129 ، سنن النسائي 4 / 88 وفيه : ولا صورة في بيت الا طمستها ، سنن أبي داود 3 / 215ح 3218 ، الجامع الصحيح للترمذي 3 / 366 باب 56 ح 1041 ) .
وفيه : بناءً على صحّة هذه الرواية ، فهل معنى التسوية في قوله ( إلا سويته ) أي ساويته بالأرض ، بمعنى هدمته ، أم معنى تسوية الشيء عبارة عن تعديل سطحه ، وتسطيحه في قبال تقعيره أو تحديبه أو تسنيمه وما اشبه ذلك من المعاني المتقاربة ؟
لا شك أن معناه : إلا سطحته وعدلته ، وليس معناه : إلا هدمته وساويته بالارض . وقد فهم مسلم في صحيحه مافهمناه من الحديث ، حيث عنون الباب قائلاً : ( باب تسوية القبور ) ولم يقل مساواة القبور .
فأورد فيه أولاً بسنده إلى تمامه قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوّي ، ثم قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأمر بتسويتها ( صحيح مسلم 2 / 666 باب 31 / 92 ) .
ثم أورد بعده في نفس هذا الباب حديث أبي الهياج المتقدم : ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .
وكذا فهم شارحوا صحيح مسلم وإمامهم النووي ذلك ، حيث قال في شرح تلك العبارة ما نصه : أن السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً ولا يسنم ، بل يرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها ( إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 4 / 301 ) .
ويشهد لأفضلية التسنيم ، مارواه البخاري في صحيحه ، في باب صفة قبر النبي وأبي بكر وعمر ، بسنده إلى سفيان التمار أنه رأى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسنماً ( صحيح البخاري 2 / 128 ) .
ولكن القسطلاني أحد المشاهير من شارحي البخاري ، قال ما نصه : ( مسنماً ) بضم الميم وتشديد النون المفتوحة ، أي : مرتفعاً ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر وعمر كذلك ، واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ( المبسوط للسرخسي 2 / 62 ) ، ومالك ( المنتقى 2 / 22 ) ، وأحمد ( المغني لابن قدامة 2 / 380 ) ، والمزني وكثير من الشافعية .
إلى أن قال القسطلاني : ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض ، لأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ! ولا يخالف ذلك قول علي ( رضي الله عنه ) أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن لا ادع قبراً مشرفاً إلا سويته ، لأنه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار ، ونقله في المجموع عن الأصحاب ( إرشاد الساري 2 / 477 ) .
إذن كل كلمات أعاظم المسلمين ، وأساطين الدين من مراجع الحديث ، كالبخاري ومسلم ، وأئمة المذاهب ، كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ، وأعلام العلماء وأهل الإجتهاد ، كالنووي وأمثاله ، كلّهم متفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة ، بل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذاته بنى قبر ولده إبراهيم ؛ إنما الخلاف والنزاع فيما بينهم في أن الأفضل والأرجح ، تسطيح القبر أو تسنيمه ؟
فالذاهبون إلى التسنيم يحتجّون بحديث البخاري عن سفيان التمار ، أنه رأى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسنماً .
والعادلون إلى التسطيح يحتجّون بتسطيح النبي قبر ولده إبراهيم ، ولعل هذا الدليل هو الأرجح في ميزان الترجيح والتعديل ، ولا يقدح فيه أنه صار من شعار الروافض وأهل البدع ، كما قال شارح البخاري .
نعم ، لو أبيت إلا عن حمل ( سويته ) على معنى ساويته بالأرض ، حينئذ تجيء نوبة المعارضة ويلزم الصرف والتأويل ، وحيث أن هذا الخبر بإنفراده لا يكافئ الأخبار الصحيحة الصريحة الواردة في فضل زيارة القبور ، ومشروعية بنائها ، حتى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سطّح قبر إبراهيم ، فاللازم صرفه إلى أن المراد : لا تدع قبراً مشرفاً قد اتخذوه للعبادة إلا سويته وهدمته .
ويدل على هذا المعنى الأخبار الكثيرة الواردة في الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ من ذم اليهود والنصارى والحبشة ، حيث كانوا يتخذون على قبور صلحائهم تمثالاً لصاحب القبر فيعبدونه من دون الله .
أما المسلمون من عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى اليوم ، فليس منهم من يعبد صاحب القبر ، وإنما يعبدون الله وحده لا شريك له ، في تلك البقاع الكريمة ، المتضمنة لتلك الأجساد الشريفة ، وبكل فرض وتقدير فالحديث يتبرأ أشد البراءة من الدلالة على جواز هدم القبور فكيف بالوجوب ؛ والأخبار التي ما عليها غبار ، ناطقة بمشروعية بنائها وإشادتها ، وأنها من تعظيم شعائر الله .
ولتتميم الفائدة ننقل ما قاله الشيخ كاشف الغطاء في كتابه منهج الرشاد :
والأصل في بناء القباب وتعميرها ما رواه التباني ، واعظ أهل الحجاز ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده الحسين ، عن أبيه علي ( عليه السلام ) ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال له : ( لتقتلن في أرض العراق وتدفن بها ، فقلت : يارسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها ؟
فقال : يا أبا الحسن ، إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنة ، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه ، وصفوة من عباده تحن إليكم ، وتعمّر قبوركم ، ويكثرون زيارتها تقرباً إلى الله تعالى ، ومودة منهم لرسوله ) فرحة الغري 77 .
ان الوهابية العمياء والسلفية الطالحة ,الذين كفروا المسلمين بمختلف طوائفهم, كل هؤلاء استعملوا العنف والارهاب في تحميل عقائدهم الفاسدة على المسلمين , فهدموا البقيع الذي يحوي قبور اهل البيت (ع) والصحابة وامهات المؤمنين,وارادوا تخريب قبر النبي (ص) لولا ان وقف المسلمون اما فعلتهم الشنعاء هذه , وكذلك حاولواتخريب قبور الائمة في العراق ولم يفلحوا , نسأل الله ان يكفينا شرهم.. وهم يوما بعد اخر في طريقهم للسقوط في مزبلة التاريخ , وذلك لتشويههم سمعة الاسلام والمسلمين في العالم بما يقومون به من اعمال ارهابية مخالفة للشريعة المحمدية السمحاء .
وأما في مقام الاستدلال على جواز بناء القبور , فتارة يكون الدليل خاصا , واخرى عاما .
ثم ان الاصل الاباحة ,الا اذاورد دليل تام يحرمه.
وفيما نحن فيه الادلة التي اقاموها على الحرمة غير تامة , والدليل الخاص ثابت في مصادر الشيعة , والدليل العام وارد في مصادر الفريقين , واصل الاباحة ساري المفعول عند السنه والشيعة لعدم تماميةالادلة التي اقاموها على الحرمة .
أخبرنا الله تعالى عن المؤمنين الذين قررّوا أن يتّخذوا من مضجع الفتية المؤمنة مسجداً يسجدون لله سبحانه فيه ، ويعبدونه وهم مؤمنون وليسوا بمشركين ، ولم يذمّهم الله تعالى على ذلك .
وممّا لا شك فيه أن شأن الأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) ، أرفع من شأن أولئك الفتية، فإذا جاز بناء قبورهم ، فبالأولى جواز ذلك بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة ( عليهم السلام ) .
2ـ قوله تعالى : (( قفل لَّا أَسْأَلفكفمْ عَلَيْهف أَجْرًا إفلَّا الْمَوَدَّةَ ففي الْقفرْبَى )) الشورى 23 .
تدل هذه الآية على وجوب مودّة قربى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو وجوب مطلق لم يقيد بزمان دون آخر ، ولا مكان دون مكان ، ولا كيفية دون أخرى .
وممّا لا شك فيه أن تعهد قبر شخص ما بالبناء والإعمار والتجديد من جملة المصاديق العرفية لهذه المودة .
3ـ تعظيم شعائر الله تعالى .
فإن القرآن الكريم وإن لم يصرح على بناء قبور الأنبياء والصالحين بالخصوص ، لكنه صرح بتعظيم شعائر الله تعالى بقوله : (( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )) ، وبقوله : (( ومن يعظم حرمات الله فهو خير له )) ، وبقوله : (( ولا تحلوا شعائر الله )) .
ولا شك ولا ريب أن صون المعالم الدينية عن الإندراس ـ كالمشاهد المتضمّنة لأجساد الأنبياء والصالحين ـ وحفظها عن الخراب بناءاً وتجديداً ، نحو من أنحاء التعظيم ، كما أن حفظ المسجد عن الخراب تعظيم له .
ولا يخفى : أن الله تعالى جعل الصفا والمروة من الشعائر والحرمات التي يجب احترامها ، فكيف بالبقاع المتضمنة لأجساد الأنبياء والأولياء ، فإنها أولى بأن تكون شعاراً للدين .
كيف لا ؟ وهي من البيوت التي أذن الله أن ترفع ، ويذكر فيها اسمه ، فإن المراد من البيت في الآية هو : بيت الطاعة ، وكل محل أعدّ للعبادة ، فيعم المساجد والمشاهد المشرفة لكونها من المعابد .
ولو لم يكن في الشريعة ما يدل على تعمير المساجد وتعظيمها واحترامها ، لأغنتنا الآية بعمومها عن الدلالة على وجوب تعمير المسجد وتعظيمه ، وإدامة ذكر الله فيه ، لكونه من البيوت التي أذن الله أن ترفع .
ومثل المسجد في جهة التعمير والتعظيم والحفظ ، المشاهد التي هي من مشاعر الإسلام ومعالم الدين .
4ـ إقرار النبي ( صلى الله عليه وآله ) والصحابة على البناء .
فإنه ( صلى الله عليه وآله ) أقرّ ، وهكذا أصحابه ، على بناء الحفجر ولم يأمروا بهدمه ، مع أنه مدفن نبي الله إسماعيل ( عليه السلام ) وأمّه هاجر ، وهكذا إقرارهم على بناء قبر النبي إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، وبقية قبور الأنبياء والمرسلين حول بيت المقدس .
ثم إقرار الصحابة على دفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الحجرة التي توفّي فيها ، وهي مشيّدة بالبناء ، ودفن الخليفة الأول والثاني فيها من بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يأمروا بهدمها ، بل العكس أمروا بإعمارها ، دليل قاطع على جواز البناء على القبور .
5ـ الروايات الواردة في كتب الفريقين عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الحث على زيارة القبور ، وثواب من زار قبره ، وأنه ( صلى الله عليه وآله ) زار قبر أمّه ورمّم قبرها .
وأما بالنسبة إلى الأدلة التي تمسّك بها الوهابيون على تحريم البناء على القبور ، فهي :
1ـ إجماع العلماء قائم على عدم جواز البناء على القبور .
وفيه : أن دعوى الإجماع مرفوضة ، بإعتبارها مخالفة لكلمات العلماء الدالة على جواز البناء ، بل رجحانه ، ومخالفة لعمل المسلمين وسيرتهم القطعية في جميع الأقطار والأمصار ، على اختلاف طبقاتهم وتباين نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى يومنا هذا ، من العلماء وغيرهم ، من الشيعة والسنة وغيرهم ، وأي بلاد من بلاد الإسلام ليس لها جبانة ، فيها القبور المشيّدة ؟!
فهؤلاء أئمة المذاهب : الشافعي في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم سامقة المباني شاهقة القباب ، وأحمد بن حنبل كان له قبر مشيّد في بغداد ، جرفه شط دجلة حتى قيل : أطبق البحر على البحر .
وكل تلك القبور قد شيّدت ، وبنيت في الأزمنة التي كانت حافلة بالعلماء ، وأرباب الفتوى ، وزعماء المذاهب ، فما أنكر منهم ناكر ، بل كل منهم محبّذ وشاكر .
وليس هذا من خواص الإسلام ، بل هو جار في جميع الملل والأديان ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، بل هو من غرائز البشر ، ومقتضيات الحضارة والعمران ، وشارات التمدّن والرقي ، والدين القويم المتكفّل بسعادة الدارين ، إذا كان لا يؤكده ويحكمه ، فما هو بالذي ينقضه ويهدمه ، ألا يكفي هذا شاهداً قاطعاً ، ودليلاً بيناً على فساد دعوى الإجماع ؟
2ـ ما ورد عن الإمام علي ( عليه السلام ) بأنه قال لابن الهياج الأسدي : ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لا ادع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ( صحيح مسلم 2 / 666 باب 31 ح 93 ، مسند أحمد 1 / 96 و 129 ، سنن النسائي 4 / 88 وفيه : ولا صورة في بيت الا طمستها ، سنن أبي داود 3 / 215ح 3218 ، الجامع الصحيح للترمذي 3 / 366 باب 56 ح 1041 ) .
وفيه : بناءً على صحّة هذه الرواية ، فهل معنى التسوية في قوله ( إلا سويته ) أي ساويته بالأرض ، بمعنى هدمته ، أم معنى تسوية الشيء عبارة عن تعديل سطحه ، وتسطيحه في قبال تقعيره أو تحديبه أو تسنيمه وما اشبه ذلك من المعاني المتقاربة ؟
لا شك أن معناه : إلا سطحته وعدلته ، وليس معناه : إلا هدمته وساويته بالارض . وقد فهم مسلم في صحيحه مافهمناه من الحديث ، حيث عنون الباب قائلاً : ( باب تسوية القبور ) ولم يقل مساواة القبور .
فأورد فيه أولاً بسنده إلى تمامه قال : كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا ، فأمر فضالة بقبره فسوّي ، ثم قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يأمر بتسويتها ( صحيح مسلم 2 / 666 باب 31 / 92 ) .
ثم أورد بعده في نفس هذا الباب حديث أبي الهياج المتقدم : ولا قبراً مشرفاً إلا سويته .
وكذا فهم شارحوا صحيح مسلم وإمامهم النووي ذلك ، حيث قال في شرح تلك العبارة ما نصه : أن السنة أن القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً ولا يسنم ، بل يرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أن الأفضل عندهم تسنيمها ( إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 4 / 301 ) .
ويشهد لأفضلية التسنيم ، مارواه البخاري في صحيحه ، في باب صفة قبر النبي وأبي بكر وعمر ، بسنده إلى سفيان التمار أنه رأى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسنماً ( صحيح البخاري 2 / 128 ) .
ولكن القسطلاني أحد المشاهير من شارحي البخاري ، قال ما نصه : ( مسنماً ) بضم الميم وتشديد النون المفتوحة ، أي : مرتفعاً ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر وعمر كذلك ، واستدل به على أن المستحب تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ( المبسوط للسرخسي 2 / 62 ) ، ومالك ( المنتقى 2 / 22 ) ، وأحمد ( المغني لابن قدامة 2 / 380 ) ، والمزني وكثير من الشافعية .
إلى أن قال القسطلاني : ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض ، لأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ! ولا يخالف ذلك قول علي ( رضي الله عنه ) أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن لا ادع قبراً مشرفاً إلا سويته ، لأنه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار ، ونقله في المجموع عن الأصحاب ( إرشاد الساري 2 / 477 ) .
إذن كل كلمات أعاظم المسلمين ، وأساطين الدين من مراجع الحديث ، كالبخاري ومسلم ، وأئمة المذاهب ، كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ، وأعلام العلماء وأهل الإجتهاد ، كالنووي وأمثاله ، كلّهم متفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة ، بل النبي ( صلى الله عليه وآله ) بذاته بنى قبر ولده إبراهيم ؛ إنما الخلاف والنزاع فيما بينهم في أن الأفضل والأرجح ، تسطيح القبر أو تسنيمه ؟
فالذاهبون إلى التسنيم يحتجّون بحديث البخاري عن سفيان التمار ، أنه رأى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسنماً .
والعادلون إلى التسطيح يحتجّون بتسطيح النبي قبر ولده إبراهيم ، ولعل هذا الدليل هو الأرجح في ميزان الترجيح والتعديل ، ولا يقدح فيه أنه صار من شعار الروافض وأهل البدع ، كما قال شارح البخاري .
نعم ، لو أبيت إلا عن حمل ( سويته ) على معنى ساويته بالأرض ، حينئذ تجيء نوبة المعارضة ويلزم الصرف والتأويل ، وحيث أن هذا الخبر بإنفراده لا يكافئ الأخبار الصحيحة الصريحة الواردة في فضل زيارة القبور ، ومشروعية بنائها ، حتى أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) سطّح قبر إبراهيم ، فاللازم صرفه إلى أن المراد : لا تدع قبراً مشرفاً قد اتخذوه للعبادة إلا سويته وهدمته .
ويدل على هذا المعنى الأخبار الكثيرة الواردة في الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ من ذم اليهود والنصارى والحبشة ، حيث كانوا يتخذون على قبور صلحائهم تمثالاً لصاحب القبر فيعبدونه من دون الله .
أما المسلمون من عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى اليوم ، فليس منهم من يعبد صاحب القبر ، وإنما يعبدون الله وحده لا شريك له ، في تلك البقاع الكريمة ، المتضمنة لتلك الأجساد الشريفة ، وبكل فرض وتقدير فالحديث يتبرأ أشد البراءة من الدلالة على جواز هدم القبور فكيف بالوجوب ؛ والأخبار التي ما عليها غبار ، ناطقة بمشروعية بنائها وإشادتها ، وأنها من تعظيم شعائر الله .
ولتتميم الفائدة ننقل ما قاله الشيخ كاشف الغطاء في كتابه منهج الرشاد :
والأصل في بناء القباب وتعميرها ما رواه التباني ، واعظ أهل الحجاز ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده الحسين ، عن أبيه علي ( عليه السلام ) ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال له : ( لتقتلن في أرض العراق وتدفن بها ، فقلت : يارسول الله ، ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها ؟
فقال : يا أبا الحسن ، إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنة ، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه ، وصفوة من عباده تحن إليكم ، وتعمّر قبوركم ، ويكثرون زيارتها تقرباً إلى الله تعالى ، ومودة منهم لرسوله ) فرحة الغري 77 .
الآيه الكريمه طرحت القولين دون استنكار فلو كان فيها شيء من باطل لأشارت اليه ودلت على بطالنيته بقرينه ما.. كذلك فقد طرحـت قول الموحـدين بسياق يفيد المـدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المـحفوف بالتشكيك..