الخيال في القصة القصيرة
أنا على رقعة شطرنج أنموذجا
حسين عبد الخضر
يدخل الخيال كركيزة أساسية يعتمد عليها السارد في بناء عمله بناء قصصيا يكتسب العمل على أساسه خاصيته الفنية ، وهو القاعدة التي تتحرك بواسطتها باقي عناصر النص ، وبه يتم ربطها بعلائق مشتركة ليصبح العمل وحدة نصية متكاملة . أي أن الإبداع في فن القصة القصيرة لا يعتمد بشكل كلي على دقة التقاط الموقف أو براعة رسم الحدث ما لم يكن هناك خيالا جامحا يتدخل لرسم أجواء القصة ويربط عناصرها ببعض . وتستخدم القاصة أزهار علي حسين قدرتها التخيلية وحساسيتها المرهفة في ملاحظة علائق الأشياء واكتشاف الروابط المشتركة بينها لتوحد ما قد يبدو مختلفا أو متباعدا من الناحية الظاهرية في أعمالها القصصية . ومن هذه القصص التي تبرز سعة الخيال ، وقدرة القاصة على توظيفه في بناء النص القصصي ، هو نصها ( أنا على رقعة شطرنج ) . ففي هذا النص تلتقط القاصة خاصية الصراع في لعبة الشطرنج ودوره في الحياة لواقعية على مستوى علاقة الفرد بنفسه ومحيطه ، لتصنع من رقعة اللعبة مكانا تتفجر عنده كوامن النفس وأمانيها المتشظية ، وحافزا على استثارة الموقف ( فالشطرنج .. لعبة الخطر ، وأيضاً ما يوّحِد بقايا شتات نفسي الجموح ، في رحلة ودودة لعالم تتواصل أجزاءه ، لاتنآى ، يسمح لكل جزء بالبوح ، ولكل كلمة بالقوة ، ولكل ألم بالتفجر ..... وفي متابعة خطواتها ، تلك اللعبة التي أحب ، البكماء الصاخبة ، أتحايل في أحايين كثيرة ، للخروج هرباً منها ، أو معاودة خوض غمارها مجدداً ، إنها المساحة التي لا أتمنى إلا أن أكون ضمنها ، وفي نطاقها ، رغم نتائج الخسارة التي قد تبدو محبطه.. ) . ويقترب النص كثيرا من بنية العمل المسرحي المونودرامي من حيث وحدانية الشخصية وانكساراتها النفسية ، وانغلاق المكان ، والاستعاضة عن العنصر البشري بمفردات بديلة تؤدي دور المستثير للصراع والكاشف عن أزمة الشخصية . فتكون المفردة البديلة هنا المرآة التي تشطر الشخصية الرئيسية إلى شطرين لتواجه الذات نفسها بلا رتوش ، أناها الكامنة الحقيقية ، وتتحول الرقعة الصغيرة إلى فضاء شاسع لاستيعاب صراع مرير تدخلنا القاصة إلى أجوائه المرعبة بأسلوب سردي شيق يعكس قدرتها على تطويع الكلمات ، وتفجير طاقاتها الدلالية عبر وضعها في سياق مدهش من الجمل السردية الرصينة ( هكذا ، ألعب لعبتي المفضلة بروحين عدائيين ، وبما يجنبني مرارة الخسارة التي أكره ، هو في ذات الوقت شعور بالامتلاء بنشوة النصر، وبما يمنحني قوة ألملم بها شتات أنصافي المحطمة ، لأواصل اللعب من جديد ..
النهاية موت ونصر ، وأنا التي غدوت حينها في قمة السعادة ، وعيناي تركزان في عيني صورتي في المرآة ، ملؤهما نشوة النصر وإنكسار الهزيمة ، أضرب الحجر على الرقعة ، برحلة تنتهي بالبدء ، الفرحة تتسلق زوايا النفس ، إلى فمي ، تصرخ بهمسٍ ظفور : ـ كش ملك أنت الخاسر ) .
ولما كان الخيال قدرة مبهمة تتحرك بعفوية كلية ، وتتحسس بمجسات لا مرئية تشابه الأشياء أو تنافرها ، لذا يأتي دور الإدراك لوعي الحالة وفهمها . . الوقوف عندها وإخضاعها لشروط اللعبة المنطقية ــ السببية ، القادرة على توليد مواقف جديرة بالمتابعة (وأدركت ممارسة الإرغام التي ساقني لها اللاشعور ،حين أجبرني أن اسمر عيني في عيني صورتي ، مركزة ذاتي بنظرة مخترقة ، مكنتني في لحظة مستثناة ، بدت يتيمة عن الزمن ، اختراق الجسور بيني وشتات ذاتي ، لملمته في لحظة وأدركت أن لي أوصالاً أخرى ، حين أبصرت صورة تشبه صورتي ، بنظرة لا تواصل نظرتي ، ومنطقٍ لا ينتمي لمنطقي ، تتحرك شفتاها بحشرجة خافتة ، ترد على خسارة هزيمتها ، قائله : ـ أنا ما زلت الرابحة .. فأنتِ مليكتي ) . وتنتقل القاصة إلى هذه الحالة بتمهيد سردي مفعم بالإحساس بالواقع ، بل انه يستعير أرقى درجاته ــ الحكمة ( وحين يرغمك مبهم على تركيز ذاتك وحواسك ، فتأكد أنه إستثناء لا يتكرر ، يلهمك نبأ يقين ، فالقلب ليس أليف ، تتمكن الذاكرة عليه من ممارسة قسرية المكوث فيها وضمن أسارها ) ، وحين يدخل الإدراك توضع الحدود الفاصلة بين الواقع والوهم ، ويكف الخيال أن يكون جامحا ، لكنه ( الإدراك ) يبقى هو ذاته تحت تصرف القاصة ، منساقا لقوانين لعبتها السردية ومساهما في إجلاء المعنى ، ووسيلة تجذبنا إلى النص وإقناعنا بحقيقة اللعبة الخيالية ، فالادراك بتعامله مع الحدث لا يكون سوى ادراكا زائفا يكسب الواقع التخيلي مصداقيته . تتحول اللعبة إلى مواجهة بين الشخصية وذاتها الكامنة ــ الحقيقية ، وتدخلان في حوار شفاف ، لتتحرر الرغبات وتعبر عن نفسها بلا موانع أو أقنعة . تكشف الذات الكامنة عن حقيقة معاناتها ، فيصبح حبسها الرمزي في حجر شطرنج ( بملاحظة خاصية حجر الشطرنج ، وكونه قطعة جامدة تحت تصرف اللاعب ) عقابا على خطيئة تمردها على التقاليد وابتلائها بالحب ! واكتشاف هذه الثورة من قبل السلطة الأبوية ( الإلهية ) عبر وشايات واتهامات تتناقلها الألسن رغم محاولتها إخفاء حقيقة حبها ( كانت الأرض لي إمتداد إرتعاشة طرية في نفس عاشق ، حين كانت المعضلة ، سبب سجني ... ( وتنفست بعمق ، كأنها تدرك أنفاساً فاتتها ، ثم أردفت ) كنت أحب، ، أعشق رجل وإمرأة في ذات الوقت ، أتهيأ في ليلة كرجل ، أقابل فيها حبيبتي الحسناء ، وأتهيأ في أخرى كامرأة ، وأقابل حبيبي الرجل ، الصوت الفارغ في نطق الكلمات المترصدة من حولي ، ما كان يعنيني ، والتكور الثاقب للعيون مثل لي عقداً أهوج والظلام ، وأنا الذي حطمت أي شاهد أمكنه الدلالة على محبوبيّ ، كنت وجهاً مباحاً ، أمام كل الاتهامات ، وكل حشو الأكاذيب الذي لفق لي ، حين أكتشف والدي الإله الأعظم حيلتي الخرافية وثورتي اللا مسؤولة ، على التقاليد المباركة الرصينة ، وابتلائي بالحب .. كان سبباً أدعى لسجنٍ مقرونٍ بالهوان في حجر الشطرنج ، وسجنت أمام عيني والدي في حجر اللعبة التي لم تفارقه يوما ) . وبخط مواز يعمل إدراك المتلقي على تحليل رموز القصة وإحالتها على الواقع الخارجي ، ليكتشف موضوعتها المحورية التي يستشعرها من خلال البنية الكلية للنص بكافة عناصره وترميزاته . ويقف أخيرا عند محنة المرأة في مجتمع ذكوري خاضع لقوانين وتصورات قبلية تشكل قيودا للمرأة وتمنعها من ممارسة دورها في الحياة ، أو سعيها لتكون الإنسانة التي تريد ( أنا آلهة ، أبصرت من دقائق النفس أخفتها نوراً ، وأدقها شاهداً ، أنا حين ولدت ، كانت في السماء ترسم قلوب العشق ، وسهام الخديعة ، وحيث وجدت ، كانت توجد محاولاتي لنشر ثوب العدل والإنصاف بين البشر ) .
تتجلى عبر انعطافات السرد ، ومساره المتنامي غير المفتعل ، حقيقة وحدة الشخصية ، ووصول الصراع بعد المواجهة العارية بين الإنسان ورغباته ، ما هو كائن فعلا بفعل الخضوع للظرف الخارجي ، وما يطمح أن يكونه ، إلى لحظة النهاية المفعمة بالقلق ، كما هو الحال عند كل لحظة مصيرية . . اللحظة التي تتطلب شجاعة كبيرة على تقبل التضحيات ، ربما إلى درجة الموت ، ولكن الموت في ( أنا على رقعة شطرنج ) يمثل ولادة الحقيقة ، بزوغ النفس معلنة عن كل رغباتها ، ما يمثل حقيقتها الأصلية من غير كبت ( صدى النفس .. علاج ناجع في خلق جو لا ينتمي إلى السرية ، وهكذا أعلنت أمنيتي ، كرغبة ودودة في التعرف على عالمها المجنون ذاك الذي فتنت به من خلالها وحديثها ، وشائج الآلهة ، ثورتها ، وبعث قوى التمرد المجنونة ، حين جاء تحذيرها المنكسر صادقاً ودوداً ، قالت : ـ أن أعود ( إلى ) عالمي المألوف ، أمنية الحرية التي عشت لها قرونا ، لكن حقيقة عودتي مقرونة في شرط أن تسجني بدلاً عني في حجر الشطرنج ، فإن كان جنون المعرفة فيك أكبر من عشق الحرية ، فاختاري .. أو أبقى معك نلعب الشطرنج .. ) .
ولا يتوقف عمل الخيال في هذه القصة عند حدود تكوينها ، بل يتعداه ليشمل المتلقي فيخاطبه دون أن يتوجه إليه مباشرة ، وتنتقل القصة بذلك من حال الخصوصية إلى العموم ، عموم نحسه في نبرة الكلمات ، وترك الخيار مفتوحا ، مناطا بموقف المتلقي الذي يجد نفسه متماهيا مع الشخصية ( حينها أدركت أني خلقت من اختراع فريد ، يتيم ، وعرفت ما أنا به وعليه من غربةٍ وغرابة، وكان عليّ الاختيار .. ) .
التعديل الأخير تم بواسطة نسايم ; 15-03-2009 الساعة 10:53 PM.