بَينَ الجسرِ والجَبَــل
بمناسبة ذكرى استشهاد الامام الكاظم عليه السلام
طلال النعيمي
لا أدري كيف لم تتصدّع أيها الجســر ؟
كيف لم تتفتّت .. وتصبح هشيما تذروك الرياح .. والجَبَل أحكم وأصلَب منك بكثير
لا أدري كيف تحمّــلت كل ذلك ( الثقل الأكبر ).. والجبل أقوى منك ... بل شتَــان ما بينكما .. أنت جســرٌ .. وذاك جبَل
انت قد تهدّك العواصف .. قد تتحَطَم أركانك .. قد ترفع من مكانك
وذاك لاتهــزّه أقوى العواصف .. ولا ينال من شموخه أي شئ .. بل هو الذي يعطي للأرض , ولَك .. قوّةَ الثبات والبقاء ... لكنه
وبكل ما آتاه الله من قوّة .. وصلابة .. وشموخ .. كان سيتصدّع لو أُنزِل عليه القرآن الكريم
( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا من خشية الله )
وأنتَ يا جسر بغداد , رُمــيَ وطرحَ عليك _ القرآن الناطق ..طرحَ فوقك .. كل الأيمان .. وكل التقوى .. وكل اليقين
لقد رموا فوقك جنازة ... وأي جنازة؟ .. جنازة خليفة الله ورسوله , أصل وأساس كل نعمة في الأرض ..وسبب كل أحسان وُجدّ عليها
أصل الحياة بكل ما فيها .. وسرّ زينتها
جنازة سابع الخلفاء .. جنازة من لقّبه المحب والمبغض .. الموالي والمخالف . بِ الكاظم .. الصابر , الأمين , العبد الصالح , النفس الزكية , الوفي , الزاهد , المأمون , الطيب , السيد , المصلح , المبرهن , زين المجتهدين .. ذو المعجزات , البيان .. جنازة من كني بأبي الحسن وابي ابراهيم .. وابي علي .. ذاك موسى بن جعفر.. أب وأبن الأئمة الطاهرين من اهل بيت العصمة والطهارة .... معدن الرسالة , وسفن نجاة الأمة
الذين ساواهم الله تعالى شأنه , بالقرآن الكريم .. فهم مع القرآن والقرآن معهم .. ( ورد في الحديث .. علي مع القران والقران مع علي .. .. الصواعق المحرقة لأبن حجر ج2 ص 110 ) ... وهم ثاني الثقلين الذين تركهما الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله .. لتهتدي بهما الأمة من بعده وتنجو من التيه والضلال والأنحراف ( قال النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله ... ألا أني مخلف فيكم الثقلين , كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي ... الصواعق المحرقة وعنه في ينابيع المودة ج2 ص 110 ) ... ولما كان القرآن الكريم وأهل البيت عليهم السلام شئ واحد .. لايمكن الفصل بينهما وهما نور ومنبع واحد للهداية والأستقامة
كان التعجب والتساؤل ... ( كيف لم تتصدّع يا جسر بغداد .. والجبل أقوى منك ؟!.. نعم كيف لم تتصدّع يا جسر بغداد .. كيف لم تنهدم .. كيف لم تتناثر قطعة قطعة .. في الهواء .. احتجاجا وتأثرا لما حدث فوقك !!... نعم .. انت جماد .. ولكن قد يكون الجماد افضل من بعض البشر .. انك لاتفتر عن تسبيح الله عز وجل .. (وإن من شئ الا يسبح الله بحمده .. الآية ) وتسبيحك تسبيح حقيقي لا يشوبه رياء او نفاق . أو جهل .. مثلما يشوب تسبيح بعضنا نحن البشر .. لأنك تسبح بكل انقياد كما الهمك الله .. وما دمت ياجسر بغداد على هذه الحالة ..مادمت تعرف تسبيح الله تعالى .. فأنت لابد أن تعرف ألأمام المفترض الطاعة على كل الموجودات .... وأنت يا جسر بغداد ..أكنت قد صنعت من خشب الأشجار او من الحجر .. أو من الحديد .. فأنت ممن عرض عليه ولاية أهل بيت النبوة عليهم السلام .. كما عرضت على جميع المخلوقات والموجودات والنباتات والحيوانات والجمادات ... ( روي عن امير المؤمنين عليه السلام .. ( ياقنبر .. ان الله تعالى عرض ولايتنا على اهل السماوات واهل الأرض من الجن والأنس والثمر وغير ذلك فما قبل ولايتنا طاب وطهر وعذب وما لم يقبل منه ولايتنا خبث وردئ ونتن ) .. .. بحار الأنوار للمجلسي ج 2 ص 283 ) فكيف اذا تحملت ثقل الفاجعة , وعظم المصيبة التي حلت عليك .. ؟! كيف لم تتزلزل تحت أقدام الطغاة والظالمين .. الذين جاؤوا بجنازة ولي الله الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام , وطرحوها فوقك .. أن جريمتهم أكبر من أن توصف .. وأعظم من أن تصوّر حتى في الأذهان ... فهذا ديدن الطغاة . من اعداء الله ورسوله واهل بيته الأطهار
لقد أختاروك يا جسر بغداد , مكانا لطرح جنازة الأمام الطاهر المعصوم .. ليضيفوا الى جريمتهم جريمة أخرى .. فأنت أيها الجسر , حلقة الوصل بين طرفي المدينة التي يقطعها نهر دجلة ... وعليك يزدحم المارة والعابرين من كلا طرفي مدينة بغداد .. فإذا ما حدثت حادثة فوقك .. او حتى بالقرب منك .. فأن خبرها سينتقل الى كل بغداد .. أسرع بكثير مما لو كانت الحادثة قد حدثت في مكان آخر غيرك .. وهذا ما أراده الطاغية هارون .. فهو ( عليه لعنة الله ) لم يجد مكانا لأعلان الحادثة _ الجريمة . مكانا أحسن منك , ليعلن للناس خبر موت الامام موسى الكاظم عليه السلام , وليؤكد للجميع انه مات ميتة طبيعية . وانه لم يقتله . .. بل سجنه فقط , وانه عليه السلام عاش في سجنه معززا مكرما .. وهذا نتيجة لأرتباكه لعنة الله عليه . وادراكه بعظم الجريمة التي ارتكبها .. ليطفئ نور الله _ والله متم نوره ولو كره الكافرون _ ونتيجة لهذا الهول والأرتباك والخوف من النقمة الجماهيرية وعلى الأخص نقمة الشيعة .. أمر هارون بكتابة التقارير وتدوين الأفادات ثم كشف عن جثة الأمام عليه السلام . ليتفرس الجميع فيها . وليثبت أن الأمام عليه السلام مات ميتة طبيعية . وانه عليه السلام لم يقتل .. فلا أثر في الجثة يدل على ضرب أو خنق أو ذبح ... فالجثة سالمة .. تماما
نعم كانت الجثة الطاهرة , سالمة .. أما باطن الجثة ... اما جوف الامام الكاظم عليه السلام .. أما أمعاؤه .. أحشاؤه الممزقة بالسم فهذا ما لم يره الشهود ..
فسلام على الأمام موسى بن جعفر يوم ولد ويوم استشهد مسموما ويوم يبعث حيا ليحكي ويشكو لخالقه ما فعل الطاغية , الذي يسميه قسم كبير من المسلمين ظلما وجهلا , بأمير المؤمنين
تصدّق الإمام (عليه السلام) ببعض أراضيه على أولاده وسجّل ذلك في وثيقة، والزم أبناءه بتنفيذ مضامينها، والعمل على وقفها، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به موسى بن جعفر بأرضه مكان كذا وكذا ـ وقد عيّن ذلك ـ كلها: نخلها وأرضها وماؤها وأرجاؤها وحقوقها وشربها من الماء وكل حق هو لها في مرفعأو مطهر أو عيص أو مرفق أو ساحة أو مسيل أو عامر أو غامر تصدّق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه الرجال والنساء يقسم واليها ما أخرج الله عزّ وجلّ من غلتها بعد الذي يكفيها من عمارتها ومرافقها وبعد ثلاثين عذقاً يقسم في مساكين أهل القرية، بين ولد موسى بن جعفر للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن تزوجت امرأة من ولد موسى بن جعفر فلا حقّ لها في هذه الصدقة حتى ترجع إليها بغير زوج، فإن رجعت كان لها مثل حظ التي لم تتزوج من بنات موسى، ومن توفي من ولد موسى وله ولد فولده على سهم أبيهم للذكر مثل حظ الأنثيين على مثل ما شرط موسى بين ولده من صلبه. ومن توفي من ولد موسى ولم يترك ولداً رد حقه على أهل الصدقة وليس لولد بناتي في صدقتي هذه حق إلا أن يكون آباؤهم من ولدي، وليس لأحد في صدقتي حق مع ولدي وولد ولدي وأعقابهم ما بقي منهم أحد، فإن انقرضوا ولم يبق منهم أحد فصدقتي على ولد أبي من أمي ما بقي منهم أحد، ما شرطت بين ولدي وعقبى، فإن انقرض ولد أبي من أمي وأولادهم فصدقتي على ولد أبي وأعقابهم ما بقي منهم أحد فإن لم يبق منهم أحد فصدقتي على الأولى فالأولى حتى يرث الله الذي يرثها وهو خير الوارثين.
تصدّق الإمام موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح، صدقة حبيساً بتاً لا مثنوية فيها، ولا رداً أبداً ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ولا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها أو يبتاعها أو ينحلها أو يغير شيئاً ممّا وضعتها عليه حتى يرث الله الأرض ومن عليها وجعل صدقته هذه إلى علي وإبراهيم فإن انقرض أحدهما دخل القاسم مع الباقي في مكانه، فإن انقرض أحدهما دخل إسماعيل مع الباقي منهما، فإن انقرض أحدهما دخل العباس مع الباقي منهما، فإن انقرض أحدهما فالأكبر من ولدي يقوم مقامه فإن لم يبق من ولدي إلا واحد فهو الذي يقوم به...).
هذا الموقف الذري هو بعض ميراثه وخيراته، وقد خص به أبناءه وذريته لأجل أن تقوم تلك الغلة بشؤونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس.
إمام المسلمين وسيد المتقين العابدين وسبط النبي الأمين (صلّى الله عليه وآله) ألقي على جسر الرصافة في بغداد، قد أحاطت الشرطة بجثمانه المقدس، وكشفت عن وجهه بقصد انتهاك حرمته، والتشهير به. حاول هارون بفعلته الحقيرة هذه إذلال الشيعة عامة والعلويين خاصة ولم يرع الرحم الماسة التي بينه وبين الإمام (عليه السلام). لقد اثر ذلك في نفوسهم تأثيراً كبيراً وظلوا يذكرونه طوال مراحل حياتهم. اندفع شعراؤهم إلى نظم هذا الحدث المفجع وقال بحسرة ولوعة المرحوم الشيخ محمد الملا:
مـــن مبـــــلغ الإســـلام أن زعــــــيمه
قـــــد مــات فــي سجن الرشيد سميما
فـــــالغي بـــــات بـــموته طرب الحشا
وغـــــدا لمـــــــأتــمه الــــرشاد مـقيما
ملـــــقى عـــلى جــسر الـرصافة نعشه
فـــيه المــــــلائك أحـــــدقوا تعــــظيما
لقد ملأ الرشيد قلوب الشيعة بالحقد والحزن وتركهم يرددون هذه الفعلة المشينة بكرامة إمامهم طوال مراحل حياتهم.
ولم يكتف هارون الطاغية عند هذا الحد، بل أوعز إلى حارسه السندي اللعين ليأمر جلاوزته أن ينادوا على جثمان الإمام الشريف بنداء مؤلم تذهب لنفوس لهوله أسى وحسرات، فبدل أن يأمرهم بالحضور لجنازة الإمام المعصوم ابن الإمام المعصوم أمرهم أن ينادوا بنداء قذر موحش فهتفوا في الشوارع والطرقات:
(هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت، فانظروا إليه ميتاً)
بقي الإمام ثلاثة أيام لم يوار جثمانه المقدس، فتارة موضوع في قاعة السجن والشرطة تجري التحقيق في حادث وفاته، وأخرى ملقى على جسر الرصافة تتفرج عليه المارة وهو مكشوف الوجه. كل ذلك للاستهانة بمركزه والتوهين بكرامته.
تجهيز الإمام (عليه السلام)
اهتم سليمان بن أبي جعفر المنصور بتجهيز الإمام وتشييعه، كان قصره مطلاً على نهر دجلة، فسمع الصياح والضوضاء ورأى بغداد قد ماجت واضطربت فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: (ما الخبر؟) فقالوا له: هذا السندي ابن شاهك ينادي على موسى بن جعفر، وأخبروه بذلك النداء القاسي. فثارت عواطفه واستولت عليه موجة من الغيظ فصاح بولده قائلاً:
(إنزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد ـ وهو لباس الشرطة والجيش ـ انطلق أبناء سليمان وغلمانه إلى الشرطة فأخذوا جثمان الإمام (عليه السلام) منهم ولم تبد الشرطة أية معارضة، حمل الغلمان النعش وجاءوا به إلى سليمان فأمر فوراً أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي أخذ الغلمان ينادون بأعلى أصواتهم بهذا النداء:
(ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر). فلما سمع الناس هذا النداء خرجوا على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين الورعين، وخرج الشيعة بصورة خاصة يذرفون الدموع ويلطمون الصدور والأسى والحزن قد أدمى قلوبهم، فجاء سليمان ففرج عنهم الكروب وواساهم في مصيبتهم المفجعة.
وتم تشييع الإمام (عليه السلام) بموكب حافل لم تشاهد بغداد نظيراً له.
أما إذا ما سألنا عن الأسباب التي دفعت سليمان للقيام بمواراة الإمام (عليه السلام) وتشييعه فيمكن اختصارها بما يلي:
أ) الرحم الماسة:
تلك الرحم التي تربط بينه وبين الإمام (عليه السلام) هي التي هزت مشاعره وأثارت عواطفه، فلم يستطع صبراً أن يسمع أولئك العبيد وهم ينادون بذلك النداء المنكر على جثمان زعيم الهاشميين وعميد العلويين. إضافة إلى أنه لم يكن بينه وبين الإمام ما يوجب الشحناء والبغضاء، فلذا أثرت فيه أواصر الرحم وانطلق إلى إنقاذ الجثمان ابن عمه من أيدي الجلاوزة وصنع بعض ما يستحق من الحفاوة والتكريم.
ب) محو العار عن أسرته:
رأى سليمان الذي حنكته التجارب أن الأعمال التي قام بها الرشيد تجاه الإمام (عليه السلام) هي أعمال مشينة لطخت جبين الأسرة العباسية، إذ كان يكفي هارون دسه السم إلى الإمام واغتياله عن القيام بتلك الأعمال البربرية الحاقدة والتي تدل على نفس لا عهد لها بالشرف والنبل والكرامة، كما تدل في الوقت نفسه على فقدان المعروف والإنسانية عند العباسيين. فقام سليمان بما يفرضه عليه الواجب الإنساني فقط للحفاظ على سمعته وسمعة أسرته ومحو العار عنهم.
ج) الخوف من انتفاضة شيعية:
خاف سليمان من قيام الشيعة بانتفاضة للثأر والانتقام، فيتمرد الجيش وتحدث اضطرابات عنيفة وفتن داخلية، لأنّ ذلك الاعتداء الصارخ على كرامة الإمام (عليه السلام) الطيب ابن الطيب، إنما هو طعنة نجلاء في صميم العقيدة الشيعية، فكان من الطبيعي أن تثير أعمال هارون البربرية عواطفهم وتحفزهم على الثورة والانتقام من خصومهم.
ولا يخفى أن عدد الشيعة في ذلك الوقت عدد لا يستهان به، فقد اعتنق عقيدتهم خلق كثير من رجال الدولة، وكبار الموظفين والكتاب في الدولة، وقادة الجيش، ولذا تدارك سليمان الموقف وقام بما أملاه عليه الواجب الإنساني وأنقذ حكومة هارون من الاضطراب والفتن المتوقعة في كل آن. كما أسدى بفعلته هذه يداً بيضاء على عموم الشيعة تذكر له الخير والثناء.
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد الطاهرين
عظم الله أجورنا و أجوركم بذكرى أستشهاد الأمام الكاظم( عليه السلام )
وعجل الله في فرج مولانا صاحب العصر والزمان بحق هذا الأمام المظلوم
بارك الله بكِ أخيتي نوووا انا
دمتم محاطين بالالطاف المهدويه
التعديل الأخير تم بواسطة Dr.Zahra ; 18-07-2009 الساعة 01:20 PM.