علي الأكبر ابن الحسين عليهما السلام أمـّه ليلى بنت أبي مروة وهو أكبر إخوته . . .
نشأ علي الأكبر في رعاية سبط الرسول ( ص ) وحبيبه ، وأمٍّ كريمة ، ونهل من نبع الإيمان لدى أبيه العظيم . . .
وأخذ عنه علمه ومعرفته ، واغترف من بحر فضائله ومزاياه ، فنما رشيداً شجاعاً شجاعةً فائقة ، محبـّاً للفداء والتضحية ، لا يعرف الضعف إليه سبيلاً . . .
كان متميزاً في الفروسية حتى عدّه المؤرخون فتى بني هاشم ، وكان مع صغر سنـّه يمتاز بالوعي والإدراك العميق . . .
صفات اعترف بها أعداؤه بصراحةٍ . . .
وإذا صنـّفنا أحرار كربلاء لأتى علي الأكبر في الصف الأول من حيث الشهامة والشجاعة والفداء . . .
لقد سار هو وإخوته الكرام بصحبة أبيه مهاجرين إلى الله تعالى في قافلة الإيمان ، عارفين ما ينتظرهم من مصاعب . . .
ساروا بلا تردد أو تخاذل في طريق الحق ، يرفعون راية الدفاع عن المظلومين ، لا تخيفهم كثرة الأعداء . . .لقد كان بحقٍ بطلاً من أبطال الإسلام ، وابناً طاهراً من أبناء النبوة ، وتربـّى في أحضان ابن البتول صانعة الرجال وابنها الحسين عليهم السلام . . .
لقد شهد علي الأكبر الابن البار الوفي للإسلام تخاذل الضعاف منتهزي الفرص ، وتأذى لما رأى . . .
لكنـّه لم يكن ليضعف أو يتزلزل مقدار ذرة ، وقد زاد من ثباته وتصميمه ما رآه من إيمان وصبر إخوة مسلم بن عقيل وطفليه ، وتابع طريقه بإرادةٍ صلبه . . .
كيف لا وقد حمل بين جنبيه روح جدّه أمير المؤمنين عليهما السلام ، طالباً الشهادة بشوق وشغف . . .
وفجر يوم عاشوراء ، اصطف جند الإسلام في مواجهة جند الحكم الأموي المعتدين . . .
و كان أصحاب الإمام الأوفياء على استعداد للفداء ، يحدوهم دافع وحيد ، هو القتال في سبيل الله . . .
ولدى مواجهة أعوان ابن سعد ، حملوا الأرواح على الأكف ، كي يرووا تربة الثورة في كربلاء بدمائهم الطاهرة . . .
وكان الحـُسين عليه السلام يرى أصحابه ومحبـّيه يتسابقون إلى القتال ، يحدوهم الأمل بالفوز والشهادة . . .
وأخيراً يقع نظره على ولده الفتى الرشيد . . .
ولم ينفك محذراً أعوان يزيد داعياً للحق مرّة بعد مرّة . . .
وحين حاصر جنود ابن زياد أنصار الإمام ( ع ) كان علي الأكبر واحداً من المقاتلين الذين تصدوا لهجوم أعداء الله . . .
دون أن ترهبهم كثرة العدد أو العتاد . . .
وبعد قتال عنيف قـُتل جميع أصحاب الإمام عليهم السلام ، وعانقت أجسادهم التراب مختلطأً بدمائهم الزكية . . .
ولم يبق حول الإمام سوى أهل بيته خاصة . . .
وعندما برز علي الأكبر عليه السلام ، وبعد أن استأذن أباه للقتال ، كان قد ملأه الغضب والحماس للذود عن الحق ، وغمره الشوق إلى الشهادة في سبيل الله . . .
فأذن له ونظر إليه آيسٍ منه وأرخى عينيه عليه السلام وبكى . . .
ثم رفع شيبته الشريفة نحو السماء وقال :
{ اللهمّ اشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم غلامٌ أشبه الناس خلقاً وخـُلقاً ومنطقاً برسولك . . .
وكنـّا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه . . .
اللهم امنعهم بركات الأرض ، وفرقهم تفريقاً ، ومزقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا تـُرضِ الولاة عنهم أبداً . . . فإنـّهم دعونا لينصرونا ، ثم عدوا علينا يقاتلوننا }
حمل عليٌ الأكبر على القوم وهو يرتجز ويقول :
أنا عليّ بن الحـُسين بنِ عليّ
نحن وبيت الله أولى بالنبي
أطعنكم بالرمح حتى ينثني
أضربكم بالسيف أحمي عن أبي
ضرب غلامٍ هاشميٍ علوي
والله لا يحكمُ فينا ابنُ الدعي
وشدّ على الناس وقتل منهم جمعاً كبيراً حتى ضجـّوا من كثرة القتلى . . .
ثم رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة فقال :
{ يا أبتِ ، العطش قد قتلني ، وثقل الحديد قد أجهدني ، فهل إلى شربة من الماء بسبيل ؟ }
فوضع لسانه على لسان أبيه الحـُسين فإذا هو أنشف من الخشب فقال له عليه السلام :
{ ارجع على قتال عدوك ، فإنـّي أرجو أنـّك لا تـُمسي حتى يسقيك جدّكَ بكأسه الأوفى ، شربةً لا تظمأ بعدها أبداً }
وعانقه الحـُسين عليهم السلام عناق الوداع ووقعا على الأرض
ما أصعبها وما أشقـّها وما أقساها من لحظات فطرت قلب الحـُسين محتسباً أمره لله ومقدماً ابنه قرباناً امتثالاً لأمر الله . . .
لقد نزلت كلمات الحـُسين الأب المحب على قلب ولده كقطرات الندى ، فعاد إلى القتال ، يكافح منازليه بشدة . . .
وكان أهل الكوفة بين من يريد قتله وبين متقٍ لقتله وهم يرون شبهه برسول الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام . . .
وأمر ابن سعد رجاله بمحاصرة علي الأكبر بعد أن أعياهم الوصول إليه . . .
فاستهدفه منقذ بن مرّة العبدي ، من قبيلة عبد القيس ، بسهمٍ من الخلف في ظهره ، فهوى عليه السلام على رقبة فرسه ، وعندها احتوشه الأعداء ، وأعملوا فيه سيوفهم . . .
ولما بلغت روحه التراقي قال رافعاً صوته :
{ يا أبتاه هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربةً لا أظمأ بعدها ، وهو يقول العجل العجل }
أسرع الحـُسين إليه ففرّق الأعداء عن جسد ابنه ، ثم أخذ رأسه ووضعه في حجره ، وجعل يمسح الدم والتراب عن وجهه ويقول ، وصوته يرتفع بالبكاء :
{ قتلَ اللهُ قوماً قتلوك ، ما أجرأهم على الله ورسوله . . .
على الدنيا بعدك العفا . . . }
لهفي عليكَ يا أبا عبد الله وأنتَ ترى ثمرة عملك وحياتك وجهادك وفلذة كبدك يذهب إلى لقاء ربه ،
مضرّجاً بدمائه بأيدي عتاة كفرة طغاة فجره . . .
وكانت زينب عليها السلام قد خرجت مسرعةً تنادي بالويل والثبور ، وهي تقول :
{ يا حبيباه ، يا قرة فؤاداه ، يا نور عيناه ، يا اُخيـّاه وابن اُخيـّاه . . . }
ثم رمت بنفسها على الجسد الطاهر ، تغسل وجهه بدموعها ، حتى أمسك بها الإمام وأعادها إلى الخيمة . . .
ودعا بني هاشم ليحملوا أخاهم إلى الفسطاط . . .
نعم لقد قدم شهداء كربلاء دروساً للإنسانية ، بأكفانهم الوردية المصطبغة بدمائهم الزكيـّة . . .
دروساً في الحياة الحقة والإيثار والفداء والثورة .