في اليوم الذي وُلد فيه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وُلد من البشر كثيرون، لكنْ لم تكن هناك قطعاً ولادة كولادته.
في تلك الولادة التي تجلّلت ـ على بساطتها الشديدة ـ بالأسرار، وتَلَبَّست ـ على عجائبيّتها ـ بالسهولة.. كانت الحكمة الربانيّة تضيف إلى مشيئة الخلق والإبداع صوتاً ضارباً في عمق الحياة، باثّةً في حادثة الولادة آيةً للحق، تنثال ـ على مَرّ الأزمنة ـ عطاءً نورانياً خالداً.
كان ميلاده عليه السّلام مفارقة في المكان. وهي مفارقة مدهشة أنتجت مفارقة مدهشةً أيضاً في الزمان، فكان أميرُ المؤمنين عليّ متفرّداً على طول الأزمنة والدهور.
وإذا وُلد البشر ويولدون في البيوت، وقد يُحاصر ( الوضعُ ) الحاملَ في مكانٍ ما خارج البيت، فتضع وليدها في حقلٍ مثلاً.. فانّ ولادة عليّ عليه السّلام كانت مَثارَ دهشةٍ أبدية؛ فقد وضعت فاطمةُ بنتُ أسد وليدَها في البيت العتيق: الكعبة.
* * *
إنّه ـ أيّها الأصدقاء ـ مثلما كانت غَرابة الولادة تصدح بالأصوات القادمة للحق والعدل واليقين.. فإنّها كانت تسجّل مأساةَ السنوات القادمة، مأساة الاستشهاد في محراب الله.
في بيت الله العتيق.. في محراب الله: ولد علي عليه السّلام مُديراً ظهره للأصنام، فما كان البيت العتيق المليء بالأصنام الجامدة البلهاء إلاّ بيتاً لله، فكانت هذه الولادة حكمة الله، وطائر الحقيقة الأبدية.
وما كان مفارقةً أذهلا الناس وأثارت لغط دهشتهم.. كان مُوافَقة إلهية، وإيذاناً بانبثاق موعد جديد، هو موعد ميلاد إنسان اشتمل بالحقّ، واشتمل به الحقّ، فتَوحّدا مثل شعلة أبديّة.
وهكذا كانت الولادة العجيبة متضامنة مع استرجاع البيت للتوحيد في المستقبل: فكانت خيبة الأصنام ـ بميلاد القادم الجديد ـ خيبةَ من يُستهان به في عرشه.
وخارج البيت العتيق.. كانت الإرادة الإلهية تهيّئ للناس رسولاً كريماً يتحدّى عالَم الأوثان. وفي داخل البيت العتيق.. كانت الارادة الإلهية قد هيّأت للمصطفى خليلاً أدار ظهره للأصنام منذ اللحظة الأولى للولادة.
ولو قُدِّر للأصنام أن تنظر لكانت نظراتها تحمل قدراً كبيراً من الشَّزْر إلى القادم الجديد.. لكانت تسلّط الشَّرَر لتحرق الوليد في المهد. لكنّ ما عجزت الصنام عن فعله ستباشر تنفيذَه شياطينُ البشر الذين جنّدوا أنفسهم لإطفاء نور الله. فالذي ولد في بيت الله سارَ مع آل بيته تحت لواء النبيّ العظيم، على جادّة الحقّ، دون أن يتزحزح عن ذلك.. حتّى عاجله القاتل بالطعنات الغادرة فكانت حياةٌ نَيَّفت على الستين عاماً، لكنها في حساب التاريخ، ظلّت حياةً بطول التاريخ.
وعكست البدايةُ والنهاية ( بداية الولادة في بيت الله، ونهاية الاستشهاد في المسجد ).. عكست فَرادةَ التماسك المعجز في تلك الشخصيّة الفذة، جميع أطوار حياتها، وفي جميع أيّامها، وشهورها، وسنينها، فكانت له ـ في كل لحظة من حياته ـ مهمّةٌ لحياةِ سواه، واتّحد بقضيّته ( قضيّة الحق والعدل واليقين ) اتّحاداً أبدياً محالٌ أن تَحدُث فيه ثغرة.