حول أصالة نهج البلاغة
رغم مرور اكثر من ألف عام على ظهور كتاب «نهج البلاغة»، فانه ما زال يتفاعل في اوساط النقاد والادباء، فتختلف فيه الآراء وتتضارب المواقف، كما لو كان حدثاً جديداً لم تستنفد دراسته وفهمه. وفعلاً فقد تناوله الاقدمون تارة بالشروح واخرى بالملاحظات النقدية فيما يتعلق بصحة نسبته إلى الامام علي عليه السلام. وما تزال بعض الدراسات الحديث تقدم شيئاً جديداً، كما ان هناك سلبيات كثيرة في الجهود النقدية حول النهج سواء منها القديمة أو المعاصرة. واما بالنسبة لطول الشوط الزمني للاهتمام بهذا الكتاب، فانه ربما يعد اهم كتاب بعد القرآن الكريم والحديث النبوي، والمعركة حوله من اهم المعارك في التراث الاسلامي والادب العربي.
فقد كتب احد ادباء سوريا في اوائل هذا القرن عن النهج يقول: «ولولا ان زج في كلامه ما ليس منه. لكان استظهاره واستظهار الثقلين (القرآن والحديث) كفتي ميزان»(1).
ومهما تكن المبررات للمساهمة في هذه المعركة الفكرية والادبية، فالمهم ان هذه المعركة لم تحسم ولم نصل فيها بعد إلى كلمة الفصل، وما تزال نتائج البحث في طي الغيب. ولا يغيب عن الذهن ان هناك دراستين هامتين صدرتا حديثاً وكانتا إلى جانب كبير. من الاهمية، هما: مصادر نهج البلاغة واسانيده» للمرحوم عبد الزهراء الحسيني، في اربعة اجزاء (صدر عام 1969م)، والثاني: «نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة»، لمحمد باقر المحمودي، في ثمانية اجزاء على الاقل (صدرت في عام 1965م وبعده). وإذا كان كتاب الحسيني ـ وهو الكتاب الاهم ـ يتعلق بمصادر نهج البلاغة. ذلك السؤال الذي برر كل النظريات النقدية حول موضوع الاصالة، ولكن المؤلف لم يكتف بذلك وانما جعل من كتابه موسوعة للرد على كل ما يتصل بمشكلة الاصالة. اما المحمودي فانه استظهر كل ما رُوري عن الامام علي (ع) في المصادر الاخرى، لاثبات ان ما في النهج جزءاً يسيراً مما يروى عن علي (ع). وبالتالي تنتفي تهمة الوضع
1- محي الدين الخياط (الشارح)، نهج البلاغة، (لات)، ص4.
المزعومة. ومع ذلك فالجدال حول النهج لم ينته بهذين الكتابين، وما تزال المطابع تصدر انتاجاً جديداً يتراوح بنى النقد أو الرد عليه. ولهذا وددت ان اساهم في هذه القضية النقدية، فقد اخذت باهتمامي منذ سنين بعيدة، واطلعت على كثير مما كُتب حول الموضوع، ولا سيما في بعض اللغات الاوروبية، مما لا نجد له ذكراً غالباً في دراساتنا العربية، وسأقصر اهتمامي على قيمة بعض هذه الدراسات أو الملاحظات النقدية.
الطابع المذهبي للنقد
اود ان اوضح ايضاً ان النقاش حول النهج، لم يكن دائماً، نقاشاً ادبياً أو موضوعياً، فيكتفي بادوات الحوار المعتادة، وانما يأخذ بعض الاحيان شكل المعارك التاريخية، والعصبيات المذهبية، بحيث يبرز الدور الاكبر للعاطفة. وذلك لان صاحب الكلام في هذا الكتاب، اي الامام علي عليه السلام، شخصية خلافية، فلأهل السنة صورة له تختلف نوعاً ما عن صورته عند الشيعة. وهذه الصورة سواء عند الشيعة أو عند السنة تطورت على مرور الايام، بتطور الاراء المذهبية وتبلورها في قوالب معينة مبتعدة عن الاجتهاد والاحتمال إلى الجزم والقطعية. فصورة علي (ع) لدى اهل السنة المتأخرين لا تنسجم غالباً مع وجود خطبة في نهج البلاغة (الخطبة الشقشقية) تتضمن رأيه في الخلفاء الثلاثة. وهو رأي ينطوي على نقد صريح يتعلق بأحقية الخلافة، ولكن الاسلوب المجازي البليغ الذي صيغت به تلك العبارات يجعل من الصعب وصمها بـ«السب الصراح والحط من الشيخين ابي بكر وعمر رضي الله عنهما» كما زعم الذهبي وآخرون(1).
فالنقد الموضوعي من قبيل «اما والله لقد تقصمها فلان وانّه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحي..» أو «فيا عجبا بينا هو يستقيلها فى حياته اذ عقدها لآخر بعد وفاته» أو «فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كُلامها، ويخشن مسّها ويكثر العثار فيها»(2) ليس سباً أو حطاً الا إذا اخذنا بالاعتبار ان القائل ليس علياً وانما شخص متأخر عنه، أو ان صورة علي (ع) عند الناقد ليست الصورة الواقعية له.
الملاحظ ان الناس من ذوي الاقدار المتواضعة في دنيا الثقافة، لا يعرفون كبير فرق بين النقد والشتم، كما سآتي على ذكره فيما بعد، فالتاريخ يحدثنا عن الصراحة المتبادلة بين صحابة النبي (ص) وقد كانت المعارك الحربية في حالات نادرة ـ للاسف ـ جزءاً من تلك الصراحة.
ان تحريم البعض للنقد لا سند له في تربية القرآن الكريم، فكتاب الله ربما يوجه العتاب أو النقدات الشديدة إلى النبي الامين (ص): (يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك تبتغي مرضات ازواجك) ، وقوله له مهدداً: «لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين» ذلك كله إلى جانب المدح والتعظيم للنبي: (وانك لعلى خلق عظيم) (3). و«النهج» يحاكي ذلك لانه إلى جانب نقد عمر في الخطبة الشقشقية، رثائه في خطبة اخرى بقوله: «لله بلاء (أو بلاد) فلان، فلقد قوّم الاود، وداوى العمد، وأقام السنّة، وخلّف الفتنة»، وفي النسخة المخطوطة لدى الشريف الرضي، كتب موضحاً تحت
«فلان»، كلمة عمر(1). ومن الجدير بالذكر ايضاً ان لابن الخطاب آراء نقدية سلبية وايجابية في علي. فربما وصفه بالدعابة (كناية عن لينه وانشراحه)، ووصفه تارة اخرى بالشدة في تطبيق احكام الله.. واي ضير في صراحة كل من الرجلين في صاحبه(2).
تعطيل المنهج العلمي
اننا عندما نستعرض بعض آراء المتأخرين في قضايانا التاريخية، يأخذنا العجب لضيق هؤلاء بالحقائق. فقد كتب احدهم مؤخراً ينصح فيه بتعطيل المنهج العلمي، بحجة خطورة تطبيقه على تاريخ الصحابة، ولان الكاتب يُنزل النقد منزلة متدنية ولا يفرق بينه وبين الشتم لذا يقول: «ويجب ان نعلم ايضاً ان ما يسمى بالنقد العلمي أو الموضوعية لتاريخ الصحابة هو السب الوارد في كتب البدع، وفي كتب الاخبار وتسميته بالمنهج العلمي لايخرجه عن حقيقته التي عُرف بها عند اهل السنة». والكاتب ينتقد ايضاً كتّاباً مشهورين من ذوي الفضل والصلاح لاستعانتهم بالمنهج العلمي؟!(3).
ان هذا التعطيل للمنهج العلمي هو المسؤول عن كثير من الملاحظات والآراء النقدية في نهج البلاغة. يقول احد العلماء المعاصرين عن سرالشك في «نهج البلاغة»: ما بال اخواننا السنة يشكون فى النهج كله لتأثرهم مما في الخطبة الشقشقية، بينما المتطرفين من الشيعة يتوقفون عن توثيق الكتاب بسبب خطبة «لله بلاد فلان»(4).