..
وبعد هذا اليأس القاتل من شخص الحبيب و(غيضه) يتوجهُ عريان لطرق باب أمل بقيَ فيه فسحة ضوء ..
يمكنُ أن تضمدَ جراحه .. وتشفي لوعته ألا وهي طيفُ الحبيب .. ولكن حتى هذا الطيف لم يكن حاضرا ..
كان مخيبا للآمال كشخص الحبيب تماما فيقول:
والاكثر .. يالولا تنساك
طيفك .. لا نشد لا مر!
وسمعنا (الگلب) يحمل غيض ..
موش (الطيف) يتغير!!
وهنا يدخل عريان في فلسفة ( الجسد والروح) ..
حيث يتقبل أن يحملَ القلبُ غيضا .. فهو مخلوقٌ ماديٌّ من لحم ودم .. يحب ويكرهُ كغيره من المواد ..
أما أن (يتغير) الطيف .. ذلك الخيالُ الروحي الشفاف .. فهذا ما لا يستطيع تصوره أبدا.. هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى : فإن الطيفَ إنما يأتي به النائمُ الهائمُ في حبيبه ويشاركُ في صنعه ..
فهو ليس ملكا ولا حصرا بمشاعرهِ على الحبيب ( المغتاض)..
فكيف يتغير! خصوصا أن الشاعر عاش معه ليال طويلة بود ووئام وحب وسلام ..
بعيدا عن غنج الحبيب ودلاله وهجره ووصاله..
هنا لابد من مرور قصير ببعض ما ورد من أشعار العرب التي قاربت أو طرقت بشكل أو آخر ما ذهبَ إليه عريان
وإنْ لم تصلْ ذروته في العتابِ المر مع الطيف.. يقول ابن حيوس:
ما بالُ طَيفِ المالِكيَّةِ مُعرِضاً
وَلَقَد عَهِدنا طَيفَها يَنتابُ
ويقول ابن عبد ربه الأندلسي:
تَعلَّمَ منهُ الهَجرَ طَيفُ خَيالهِ
هُدُوّاً فما يَلقاهُ طَيفُ خيالِي
ويقول أبو بكر أحمد بن سعيد الستالي:
تعَّلم منه الهجرَ طيْف خيالهِ
وطالت مِطالاً بالوُعود وعودُهُ
فابن حيوس يصفُ طيفَها (بالمعرض) وقد كان عَهـِدهُ سابقا ينتابهُ بين حين وآخر ..
وليس فيه ذلك الطعم اللاذع لبيتِ عريان في العتاب والتعجب من (تغير) الطيف.
أما ابنُ عبد ربه فقد قاربَ الوصف .. إلا أنهُ نسبَ هجرَ الطيف إلى تعلـُّـمهِ الهجرَ من الحبيب نفسهِ ..
فلم يميز بينهما .. أي جعلَ الحبيبَ والطيفَ متماثلين في الرضا والغيض .. في حين فرقَ عريان بينهما باعتبارين:
أولهما البنية التكوينية وثانيهما طريقُ الوصول إلى الحبيب .. فالحبيبُ حرٌّ في وصاله ..
لكن الطيفَ عند عريان لا يمتلكُ هذه الحرية .. بل هو جزءٌ من المحبِّ وخياله ..
حيث يمكنُ أن يستدعيه في نومه وحتى في أحلام يقضته..
وهذا يذكرني ببيت رائع للبحتري:
أَقامَت عَلى الهِجرانِ ما إِن تَجوزُهُ
(وَخالَفَها بِالوَصلِ طَيفٌ لَها يَسري)
فلاحظ الفرق بين التوجهين في خطاب الطيف.
ويصل اليأسُ القاتلُ عند عريان من وصال الحبيب حدا لا يصدّق .. فلا هو يزورُ ولا طيفهُ يواصل ..
لا خيالا في ليلٍ ولا هذيانا في نهار .. ولا صورة تطرقُ العينَ في لحظة أمل عابرة ..
ففي قصيدته (نذر) كانَ عريانَ (يحلمُ) بأن (يحلمَ) بخيال الحبيب .. وهي صورةٌ مجسمة ثلاثية الأبعاد ..
حيث يصور الشاعرُ نفسَه وهو في الحلم .. فيتمنى وهو (أثناءَ حلمه) أن يحلمَ بطيف حبيبهِ ..
بعد أن عجزَ وأدركَ أنه لا يستطيعُ أن يحلمَ به مباشرة في نومه .. فيقول:
أداري العين وأنت العين
والدم ورفيف الدم ..
أداري الآه .. وانت الآه
وانخى الروح لا تهتم..
أداري الحيف كل الحيف ..
ظل بيك الحلم ... يحلم
وما يريده الشاعر هنا هو فقد الأمل بالوصال .. وشبَّهَهُ بالمستحيل ..
ورب قائل يقول: الشاعر يريد أنه بقيَ يحلم دائما بالحلم نفسه .. دون أن يتحقق
فأقول: إن الشاعر أراد المعنى السابق من خلال استقراء قصيدته بيتا بيتا وليس من هذا البيت فقط.
ولو أنني منذ البداية حاولت التركيز على اختلاف صورة الطيف عند عريان,
لكن ذلك لا يمنعُ من ذكر أبيات يخاطب فيها عريان الطيفَ مثلما يخاطبُه الشعراءُ الآخرون في بعض قصائده ..
خطابا لا تجد فيه اختلافا بينا عن غيره .. مثل قوله في قصيدة (چلچ تايه):
ولو طيفك هذاك الطيف
يجعدني ويمنيني ..
يضوگني الفرح ساعات ويهيج مچاميني
فهو صورة مكرِّرة لغيرها من صور الطيف عند الشعراء وليس كما رأينا بأبياته السابقة أو التي سنراها في أبياته اللاحقة.
وعريان يرى أن الطيفَ واسطة لوصال المحبين .. أي أنه يعطي الطيفَ رمزا جديدا ومهمة جديدة وهي ليست كما يرى غيره ..
ففي قصيدته (إدنانة) يقول:
وهذاك آنا الربط بالمستحه السانه
أعت روحي ويعتها الشوگ
واشتلها اعلى بيبانه
إبصبر .. بلچن يمرها الطيف
(ياخذها اعلى جنحانه)
ويوديها الولف مامون
تغفى بطيب ريحانه..
فالشعراء يرونَ أن الطيفَ ينقلُ لهم خيالَ أحبائهم .. الذين يزورونهم ليلا ..
لكن عريان يرى أن الطيفَ مثلَ بساط الريح .. يمكنُ أن يحملَ المشتاقَ الى حبيبه .. وليس العكس ..
هو عربة سحرية تجوبُ الوديانَ والصحارى وتعبرُ الجبالَ والبحار ..
بمن يستطيعُ تطويعَها في منامه ليسافر بها بعيدا قاطعا المسافات إلى حيث الحبيب.
ومن المعاني الرائدة التي أبدعها عريان .. هو أنْ (جعلَ للطيف وكرا في عين الحبيب) ...
فعنده أن الطيفَ مثل طير أليف يطير كيفما يشاء .. لكن لابد له أن (يأوي ليلا) إلى وكره الآمن الدافئ الجميل .. وأين؟ .. في عين الحبيب ..
ولكن .. لصاحب هذا الوكر .. أن يرفعه ويهدمه متى ما يشاء .. مثلما الطير حر في طيرانه .. فهو حر في منعه وإسكانه ..
يقول عريان في قصيدته (مچتول سمّك):
لو تد گ الراس
د گ الما يعز گدره
وتبيع ابرخص گدرك..
ولو تردلي اسنين عمري
الماچلتها اسنين عمرك
فات وطرك!!
أطبچ جفوني بوجه حلمك..
وا گله (انشال وكرك)
فعريان يتعامل هنا مع الطيف تماما مثلما يتعامل مع صاحبه ..
فعندما يتأكد من خيانته وهجره .. لا يسمح له ..
ولا لطيفه بأن يحل ضيفا بين جفنيه بل يعمد إلى (وكره) الذي بناه بيديه وحبه وشوقه .. ليهدمه إلى الأبد ..
تعبيرا عن رفضه القاطع لقبول المساومة أو المهادنة مع من يخون ..
التطرف الكبير هنا .. والقسوة الرهيبة التي تحرم حتى خيال الحبيب من ولوج العين لها أسبابُها عند الشاعر ..
ويمكننا أن نعذرَه عليها عندما نطالع قصيدته كاملة ..
فهو يقول أيضا بعد ذلك:
واحبس الريه بنفسها ..
ويا النفس لو صرت مشرك ..
أي انه يفضل الموت أيضا على أن يتنفس لو كان ذلك الشخص يمكن أن يلوث أنفاسه!
فعداؤه وكرههُ له ..يجعله يفضل الموت على وصاله ..
ويأخذنا عريان فيحلق بنا عاليا في سماء الطيف الذي يرسمه فلا تحتويه صحف ولا تحده حدود ..
ففي قصيدته (حيف) ينتقل بنا عريان من عتاب الصديق أو الحبيب وجها لوجه ..
فيجابههُ بما تمليه عليه حقوقُ الصداقة والحب .. عتابا يفطر القلوب ويسيلُ الدموع ..
فلما رأى أن هذا الشاخص أمامه خلوٌ من المعاني والمبادئ والأحاسيس .. لا يذكر شيئا من تضحياته له ..
ولا حبَّه وشوقه وصبره على كل تجنيه .. يتجه إلى (الطيف) .. فيقول:
لكن وذمك تعدى ..
وچلمة الصاحب ثچيلة
خشنت گلب الشفاجة
وهدت من الحيل حيله
وسايلت ..!
لا ... (طيف ردَّك) ؟
لا .. طرت عالبال ليلة
من العمر .. وانت ويا عمري
ومنجلك .. يطوي بگصيله..
فإذا كنت نسيتَ كل ذلك وأنت يقضٌ واع ..
ألم يطفْ بك طائف في ليلة من الليالي .. فيذكرك تضحياتي وإخلاصي لك!
وهنا تنتقل مهمة الطيف من الوصال والدلال والخيال ..
إلى (الضمير) الحي الراقد بين حنايا الضلوع وممرات والروح العليا التي تتعامل بالمثل والأخلاق ..
عريان هنا يقصد ب (الطيف) معنى (الضمير) .. الذي يوقض صاحبه ليلا ... ليقول له الحقيقة كما هي بلا لف ولا دوران ..
ولعل ابن نباتة السعدي تطرق الى هذا المعنى بقوله:
فكيفَ السَّبيلُ الى رقدةٍ
أُذكِّرُ طيفَكَ فيها العُهُودَا
ويمضي عريان بإتحاف الشعر الشعبي العراقي واللهجة العامية العراقية بمعان لم يسبقه أحد إليها ..
وكعادته .. في لصق الطيف بالجفون والعيون مثلما مر بنا في (وكر الطيف)
فإنه يرى أن عيونه وجفونه هي مهدٌ حقيقي للطيف وليس (للنوم) ..
العيون التي لا يُعرفُ اليقضُ من النائم إلا بغمضِها وفتحها..
جعلها عريان في أبياته (مسمورة بالطيف) وليس بالنوم .. يقول عريان في قصيدته (جية العيد):
إلك عمري أعلى زين وشين منذور
ولو من السنين إوشال ما ظال
لچن يبقى (الجفن بالطيف مسمور)
ويظل (راچد عليه النوم ترچيد)
الك چانت يحلو الطول جيات ..
عجب تبخل علينا بجية العيد
فجفون عريان لا يسكنها النوم لأنه (راجد) عليها ... أي ماثل للسقوط مع أية رمشة جفن ...
بينما يبقى (الطيف مسمور) .. مثبت بالمسامير .. في عيونه وجفونه ... فطيف الحبيب وخياله لا يغادرانه أبدا ..
فهو يقضي ليله ساهدا ساهرا يسقطُ النومُ من عينيه مع كل رمشة جفن ..
ويبقى الطيفُ ثابتا حقيقة لو أخذته سنة من النوم .. وتوهما وتصورا حين يكون يقضا.
معنى لم أعثر عليه في الشعر الفصيح... الذي لا يخلو من نماذج إبداع رائعة يقل نظيرها كقول السري الرفاء:
وطيفِ حبيبٍ خافَ طيفَ رقيبِه
فزارَ وسارَ خائفاً مترقِّبا
فهنا جعل الشاعر الطيف يخاف الرقيب مثلما يخافه الحبيب حقيقة لا خيالا ..
فللرقيب طيف يسهر عند باب الحبيب .. متى ما انطلق خياله.. انطلق بإثره ..
وللشعراء في أطيافهم شؤون ..
ومع إيمان عريان التام بوجود (وكر) لطيف الحبيب وأنه (مسمور) في جفونه .. إلا أن عريان حين يصحو من خياله الواسع ..
ويعود إلى وعي الذات والحقيقة .. يتحدث عن معنى مختلف للطيف .. الطيف الذي يبقى خيالا شاردا ..
لا يأتي إلا في الأحلام .. والذي لا يشبع من جوع ولا يروي من ظمأ .. الطيف الذي لا وجود له إلا في خيال العشاق ..
وهم نائمون وهذيانهم وهم يقضون ..
تشتريني .. تبيعني
للسوم حدي وياك وارضه
وهافضاة الروح الك
خلگ الكبر للعطش وافضه
حتى شوگي شما ثگل
يسهل وبعضه ايعين بعضه
....
يالونستي بشوفته ..
وموتي اللذيذ بليل غمضه
لا سمارك يستحي ..
ولا (طيفك ايوچر وگضَّه)
عندما قرأت البيت الأخير لأول مرة .. شعرت بقشعريرة تهز أوصالي ..
صدمت تماما بهذه الصورة الرائعة التي أبدعها خيال عريان ..
لا يمكن أن يوصف (الطيف) بأروع من ذلك أبدا ..
فقدر استمتاعك وفرحك به .. وحبورك ونشوتك بوجوده ..
إلا أنه .. يختفي بلمح البصر ما إن ترمش جفنيك .. يهربٌ ويبتعد إلى غير رجعة ..
فكم من شاعر ومحب أعاد إغماض عينيه أملا في رجوع طيف الحبيب إليه بدون جدوى ..
ربما هذا يمثل ظاهر القول .. وهو الجزء الأول مما أراده شاعرنا..
ولكن الصورة الحقيقية التي رسمها الشاعر تكمن في استعارة رائعة .. أشار إليها من بعيد ..
فالحبيب ( لا سماره يستحي ) وهو يستعير السمار أو يكني به لوجه الحبيب فيريد أن يقول :
أنت لا تستحي .. لا تبدو على وجهك علامات الحياء .. ولا (طيفك يوجر واكضَّه) ..
ولا أستطيع الإمساك بك حقيقة .. فأنت لا تأتيني .. بل طيفك هو الذي يزورني ويهرب عندما أحاول الإمساك به .. أو عتابه
في الحقيقة هنا كناية عن ضميره .. كما أسلفنا من قبل ..
أي أن ضميرك لا يحاسبك ولا يؤنبك على فعالك معي ولا أتمكن أن أعاتبك وألومك عليها ..
صور فلسفية متداخلة .. ومعقدة يختصرها عريان بكلمات قصيرة ..
هنا تكمن البلاغة التي يبحث عنها الجميع..
ولو حاولنا أن نجد بيتا فصيحا يطرق مثل هذا الموضوع الشيق المثير فربما نجد له شبها في قول إبراهيم اليازجي:
وافي خَيالُكَ زائراً تَحــــتَ الدُّجَى
(حَتّى اِنتَبَهتُ لَهُ فَولَّى مُـــــــدبِرا)
يا طَيفُ في كَنَفِ السَلامةِ فَاِرتَحِل
وَعَساكَ تُخبرُ مَن أُحبُّ بِما تَرى
فطيف اليازجي وافى .. وحط رحاله بين عينيه .. فلما انتبه من غفوته .. هرب الطيف مدبرا ..
فلم يستطع أن يمسك به. ولكن طيف عريان لم يحط رحاله أصلا .. (لا طيفك يوكر) ..
هو يطوف حول عينيه ولا يدخلهما .. فلاحظ الفرق بين الطيفين ..
ولكن ابنَ رشيق القيرواني ينصبُ (فخا) لطيف حبيبه من جفونه وأهداب عيونه .. فيصده في منامه ..
كم صادَ طيْفَكِ طرفي بعد هَجْعَتِهِ
(فالجَفْنُ فَخّيَ والأَهْدَابُ أَشْرَاكِي)
في حين يعجز الأعمى التطيلي عن صيد طيفه وإن نصب له الأفخاخ والشراك:
بلى إنْ يدنُ طَيْفُكَ منْ وِسادي
فقد سَمَّيْتُها السّحَرَ الحلالا
وكيفَ يُحِسُّ طيفَكَ أو يراه
(ولو نَصبَ الحبائلَ والحبالا)
أما صفي الدين الحلي فله رأي آخر :
ما بَينَ طَيفِكَ وَالجُفونِ مَواعِدُ
فَيَفي إِذا خُبِّرتَ أَنّي راقِدُ
إِنّي لأطمَعُ في الرُقادِ لأَنَّهُ
(شَرَكٌ يُصادُ بِهِ الغَزالُ الشارِدُ)
ولا تنتهي صور الطيف فصيحا كان أم عاميا ..
فللمتنبي صورة يحار اللبيب في كيفية وصوله إليها .. حين يقول:
يَرُدُّ يَداً عَن ثَوبِها وَهوَ قادِرٌ
وَيَعصي الهَوى في طَيفِها وَهوَ راقِدُ
فالمتنبي وهو في حلمه .. ونشوته مع طيف الحبيب .. يبقى يقضا أمينا صادقا مع من أحب ..
حتى أنه يعصي الهوى مع الطيف , الذي يتمناه الآخرون ..
وذلك لأن طباعه وأخلاقة تمنعه من ذلك في يقضته.. فانتقلت عن طريق اللاوعي إلى حلمه
فلا يتصرف فيه إلا بما يمليه عليه ضميره فكأنه يقض حتى في حلمه .. ومن إبداعات المتنبي (الفلسفية) في الطيف قوله:
إِنّي لأُبغِضُ طَيفَ مَن أَحبَبتُهُ
إِذ كانَ يَهجُرُنا زَمانَ وِصالِهِ
فهو يقول: إني أبغض طيف الحبيب لأن الطيف لا يأتي إلا في زمن هجر الحبيب ..
بينما كان طيفه يهجرنا في زمان وصاله.. فهو رغم شغفه بالطيف إلا أنه لا يحبه بصورته تلك ..
في حين يتصور ابن نباته السعدي أن الطيف يُعدى بصفات صاحبه ..فيقول:
كَسَلى يزورُ مع الظلامِ لها
طيفٌ فأعدى طيفَها الكَسَلُ
ويجد محمد السلامي سببا مختلفا لزيارة طيف الحبيب حين يقول:
ولولا نسيب مطرب من قصائدي
لما احتال طيف في زيارة نائم
ونحن بسردنا لهذه الأمثلة إنما نريد أن نضع أصابعنا على إبداع المبدعين من الشعراء
فصحاءَ كانوا أم عاميين لغرض المقارنة والدراسة ..
وإن كانت محدودة ومقتضبة ..
لعلها تشجعُ أصحابَ الهمم العالية لولوج هذا البحر الهائج المائج في الأدب العربي الفصيح والعامي..
ففي قصيدة (حِسن) يفرق عريان بين نوعين من المحبين .. فمنهم (زين) .. ومنهم (وقح) ..
وهو يرى أن (الزين) يكون عادلا ومحبا ومخلصا فيواصل حقيقة لا مجازا وعيانا نهارا جهارا لا (طيفا) خائفا كاذبا ..
في حين أن (الوكحين) لا يواصلون حقيقة .. لذلك لا ينتظرُ منهم غير (أطيافهم) تأتي ليلا .. (لتطوي جفونه وتنزل) فيقول:
وادلل بالهوى اتدلل ..
يهالحلوين .. مامش زين
ويا أهل العدل يعدل ..
ياهلوكحين .. مامش طيف
يطوي جفونا .. وينزل ..
وهو من المعاني البديعة التي لم أعثر عليها عند غير عريان ..
وكما نرى فإن عريان يخاطبُ الطيفَ خطابه لكائن حي يسمعُ ويرى .. ويملكُ أحاسيسا ومشاعر .. وضميرا حيا ..
هو نسخة من صاحبه أحيانا .. وأناه العليا تارة .. والسفلى تارة أخرى ..
ويستوحي عريان صورَ الطيف التي ترسمها فرشاةُ شعره المتبلةُ بخمر جنوب العراق بكل تراثه الخالد
وأدبه الزاخر بالعطاء السومري البابلي الأكدي .. الذي كان ولا يزال نبعا سائغا للمبدعين ..
فيأخذ معاني طيفه من واقعه الذي يعيشهُ .. فهو تارة له (وكر) كما للطيور أوكارها ..
وتارة ( مسمور) كما للأخشاب مساميرها .. وتارة .. خلوق وكريم .. (أهل العدل) ..
وتارة لا يستحي .. (الوكحين) .. وفي هذه القصيدة أيضا (حِسن) يمزج عريان بين تصرف الطيف وتصرف حبيب خجول ..
.وبين عادات الطيف وعادات ما ألفه أهل الجنوب في أهوارهم ومحيطهم .. فيقول:
حسن يا حسن .. لا تنباع !
بيع أهل الهوى .. إيخجل..
شجا الطيفك ... يدگ العين ..
يردس بابها ويجفل ..
ولا چنـَّه ... بدمعها سنين ...
ظل صيف وشتى مگيل !!
فلاحظْ هنا أن كلمة (يردس) تعني يأتي قاصدا بمهمة معينة .. وولع وحب ..
لكنه ما أن يصل الى (باب العين) حتى يخافَ .. ويجفل ..
لقد صنعَ عريان من الطيف شخصا يأتي مستطلعا ومشغوفا الى دار من أحبه ..
وجعل من عينيه بيتا .. له باب .. هو جفناه .. ولكن الطيف يرتدُ خائفا وجلا أو مستحييا خجلا ..
فلا يدخل الى عينيه .. بعد أن يطرقهما ..
ربما لأن عريان يستيقضُ مع أول طرقة .. خصوصا أن النوم (راچد) على جفنيه...
وعندما يعاتبهُ على فعله هذا .. فإن عريان يستوحي صورة خالدة في أذهان أهل الأهوار
بدوابهم (الجاموس) الذي يعتبر مصدر حياتهم وعيشهم .. فلا يعيشون بدونه .. ولا يعيش بدون الماء ..
فالجاموس يقضي صيفه وشتاءه (مگيل) من (القيلولة) في أجواء الجنوب الحارة صيفا ..
والدافئة شتاءا وهو راقد في مياه الأهوار والأنهار ..
عريان هنا يخلد ويوضّف هذه الصورة الرائعة مستوحيا معانيها من واقعه المعاش ..
ويخاطب بها جمهورا يفهم تماما ماذا تعنيه .. وماذا ترمي اليه..
فيصفُ طيفَ الحبيب بذلك .. ويجعلُ من دموع عينيه (هورا) لكثرة حزنه وبكائه ..
وهو يستذكرُ طيفَ الحبيب .. الذي بقيَ طوال عمره (مگيل) في هور عينيه ..
فكيف يجرأ هذا الطيف أن يطرق باب عينيه .. ثم (يجفل) ..
صور لا يفي بوصفها المداد .. ولا يرسم مثلها العباد ..
تحياتي لشاعرنا الكبير شاعر العراق الأول ومتنبي الشعر الشعبي العراقي بلا منازع ..
أستاذنا الفاضل عريان السيد خلف مدرسة الأجيال الشعرية الشعبية العراقية الخالدة.
د. هاشم الفريجي </b></i>