__________________________
بدءالتحرك وظهورالمختار
ظلت هذه الحركة تعمل في اطار من السرية، حتى جاء الخبر بوفاة الخليفة يزيد وبعده بقليل ابنه معاوية الثاني في ظروف لازالت غير واضحة تماماً. وقد سبب ذلك أزمة حكم قاسية في عاصمة الخلافة الاموية لم تخرج منها الاسرة الحاكمة الا بصعوبة...
وبوصول أخبار التطورات السياسية في دمشق الى الكوفة غمر هذه الاخيرة جو من الارتياح، نابع عن التشفي بموت الخليفة المسؤول الاول والرئيسي عن مقتل الحسين،ع وعن شعور متفائل باحداث بعض التغييرات في صورة الحكم، فضلاً عما توفر من امكانيات أمام التوابين للقيام بنشاطهم العلني وخروج دعوتهم الى حيز التنفيذ والمباشرة. حتى أن بعضهم نصح باستغلال الموقف المتدهور في الشام
واستباق الموعد الذي حددوه للتحرك. غير أن حكمة سليمان وبُعد نظره حالاً دون تنفيذ هذه الرغبة، لان الدعوة لم تكن قد رسخت جذورها بعد، لا سيما في الكوفة التي افتقرت الى التجانس ووحدة الموقف.
ويبدو ان أكثر ما كان يخشاه سليمان ويتحسب له، هي تلك الفئة الانتهازية من الكوفيين، الممالئة دائماً للنظام الحاكم، التي عرفت بالاشراف حتى أننا نجد ان سليمان كان يصورها بأنها العدو الشرس للثورة والخصم الذي يجب التعامل معه بمنتهى الحيطة والحذر.
«رويداً لا تعجلوا، اني قد نظرت فيما تذكرون فرأيت ان قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون وعلموا انهم المطلوبون كانوا أشد عليكم»
وكان الابقاء على موعد التحرك بدون شك في صالح الحركة التوابية، اذ أن الاستجابة البشرية تضاعفت بعد موت يزيد وما أحدثه من ارباك في نظام الحكم، وساعد على ذلك انتقال الحركة من مرحلة السرية والعمل تحت جنح الظلام الى دور النشاط العلني والمجاهرة الصريحة.
ولقد تحولت الكوفة حينئذ الى مركز حيوي للنشاط السياسي بمختلف مظاهره وأبعاده. وما لبثت الاحداث أن أخذت تتلاحق بسرعة مذهلة لتترك بصماتها على المجتمع الكوفي بصورة عامة. ففي خلال السنة التي امتدت من وفاة يزيد الى اعلان التوابين ثورتهم في النخيلة، تمخضت الكوفة عن أمور في غاية الخطورة، لابد من التوقف عندها لنشير باختصار الى أكثرها فاعلية وأشدها تأثيراً في تاريخ تلك الفترة.
والواقع ان الكوفة سارعت الى تحديد موقفها من النظام الاموي والخروج فقد أعلنت الثورة في المدينة وهاجم الكوفيون دار الامارة وطردوا ممثل ابن زيادالذي كان يقيم في البصرة وتعرض بدوره لحركة مماثلة. وقد أعقب ذلك فترة قصيرة من الفراغ في السلطة الى أن جرى تسليم الحكم الى رجل اتفق عليه أشراف الكوفة وزعماؤها، وهو عامر بن مسعود الذي ما لبث ان دان بالولاء لعبد الله بن الزبير حيث تمكن في تلك الاثناء من توطيد مركزه في العراق. ولم يكن هذا الاجراء عائداً الى اقتناع الكوفيين بسلامة هذا الموقف، وانما كان ضرورة اقتضتها المصلحة ليس أكثر. فالاشراف من جهة
هم الذين يبدو أنهم شغلوا دوراً بارزاً في حركة التمرد هذه، بعد أن أدركوا ان رياح الثورة الحجازية بدأت تهب بشكل عاصف على العراق، فسارعوا الى التودد لابن الزبير ابتغاء لضمان مصالحهم السياسية والاقتصادية، واستمراراً لها. وأظهر زعماء الحزب الشيعي من جهة ثانية استنكافهم عن تسلم الحكم برغم توفر فرص النجاح حينئذ، لان عناصر الثورة أرادت المسير وفقاً للخطة التي تم وضعها وتدور حول هدف محدد وثابت هو الانتقام، وكان في ذلك تأكيداً على التجرد والمثالية والالتزام بالمبدأ.. هذه الافكار تشربها التوابون بكل عمق الايمان، وانعكست على حركتهم، فطبعتها بطابع مميز وفريد.
وبسرعة غير متوقعة انتقل العراق الى سيادة الحزب الزبيري وغدت الكوفة مرتبطة بثورة الحجاز التي انتفضت على النظام الاموي وهزت دعائمه بعنف، وتقبّل شيعة الكوفة هذه السيادة الجديدة، ولكن بفتور وبشيء من التحفظ. فهي بنظرهم انقلاب على النظام الذي مجوه وعارضوه طويلاً.. غير أن العداوة المشتركة التي وحدت مشاعر الطرفين ضد الامويين، لم تمنع الحركة التوابية من رفض الاعتراف بالحزب الزبيري كبديل مثالي للسيادة الاموية.
وفي تلك الاثناء كان ابن الزبير يعمل على تأكيد سلطته في الاقاليم التي خضعت له
. وأخذ عماله الذين انتدبهم لادارة هذه الاقاليم يصلون تباعاً. ففي الكوفة التي يهمنا الوقوف على التطورات السياسية فيها عشية خروج التوابين، أرسل اليها اثنين من عماله أحدهما اختص بشؤون السياسية والحرب هو عبد الله بن يزيد الانصاري وثانيهما انصرف الى شؤون الادارة والخراج وهو ابراهيم ابن محمد بن طلحة حفيد الصحابي المعروف طلحة بن عبيد الله. وانتهت بذلك تلك الفترة الانتقالية التي تولاها باسم الحزب الزبيري، عامر بن مسعود، لتصبح الكوفة احدى ولايات الخلافة الزبيرية.
ولم تقتصر أحداث الكوفة على هذه التغييرات السياسية المهمة، وانما شهدت أحداثاً أخرى على قدر كبير من الخطورة، كادت أن تمزق الجبهة الشيعية، وان تبعثر قواها، وذلك بظهور أحد بصورة فجائية في الكوفة حينئد، هو المختار بن ابي عبيد الثقفي وكان هذا الاخير شخصية مثيرة دار حولها كثير من الجدل،
فقد ارتبط منذ نشأته بالحركة الشيعية وتربى في وسط شيعي مشبع بالاخلاص والحب لعلي وأبنائه ثم أعد نفسه ليكون أحد أركان الثورة التي كان مقدراً أن يقودها الحسين، حيث سبق هذا الاخير الى الكوفة ليشارك في تهيئة المناخ الملائم للثورة، ولكن عامل العراق الاموي قبض عليه وأودعه السجن مع عدد من الزعماء الشيعيين وظل في سجنه حتى أفرج عنه بعد توسط صهره عبد الله بن عمر لدى الخليفة يزيد . فغادر الكوفة الى الحجاز وفي نفسه حقد لا يوصف ضد الامويين وعاملهم ابن زياد . ولهذا لم يتردد في الاشتراك مع ابن الزبير في ثورته التي وجد فيها بعض أهدافه وهي العمل على مقاومة النظام الاموي بدون هوادة. غير أن الانجسام لم يستمر طويلاً بين الرجلين، لذلك ما لبث ان زهد بدور التابع لابن الزبير وقفل عائداً الى الكوفة بعد أن سمع بطرد ابن زياد من العراق، فقد كانت الكوفة على الدوام قبلة طموحه ووجد انها الارض الملائمة لتحقيق هذا الطموح.. وقد بلغ من اهتمامه بها انه كان يستفسر عن احوالها من الوافدين الى
الحجاز، حيث حدثه أحدهم عن أهلها بقوله :
«انهم في صلاح واتساق على طاعة ابن الزبير، الا ان طائفة من الناس اليهم عدد أهل مصر لو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم أكل بهم الارض الى يوم ما فأجابه المختار :
«أنا ابو اسحق، أنا والله لهم، أنا أجمعهم على مر الحق، وأنفي بهم ركبان الباطل وأقتل بهم كل جبار عنيد»
وهكذا جاء المختار الى الكوفة، عن طريق شعار الثأر للحسين وهو نفس الشعار الذي طرحه التوابون، وتبعتهم جماهير الكوفة الشيعية من أجله. ولكن المختار اختلف عنهم بأنه ذهب الى أبعد من الانتقام والتكفير عن الذنب، الى السعي لاستلام الحكم وهو أمر رفضه التوابون
ولكن محاولات المختار لاستقطاب شيعة الكوفة تحت زعامته لم تصادف ما كان يتوقع لها من نجاح، لان فئة قليلة فقط استهوتها شخصية المختار واقتنعت بدعوته، بينما ظلت الاغلبية على تأييدها لابن صُرد
هذه الحملة النفسية التي قام بها المختار، لم يكن لها كبير أثر على جماعة التوابين الذين بلغوا من الاندفاع حداً بعيداً، وأصبح من المستحيل عليهم، التراجع أو التوقف عن الهدف الذي اقتنعوا به وآمنوا كل الايمان. وعلى العكس من ذلك فان نشاط المختار انقلب عليه، واشتدت مخاوف السلطة وأنصارها من تحركاته، حتى أن زبانية الحكم التي انتقل ولاؤها بسرعة مذهلة من النظام الاموي الى نظام ابن الزبير، ثقل عليها وجود المختار في الكوفة فشكا نفر منها خطورة هذا الرجل الى عاملي المدينة بقوله :
«ان المختار أشد عليكم من سليمان بن صُرد. ان سليمان انما خرج يقاتل عدوكم ويذله لكم وقد خرج عن بلادكم، وان المختار انما يريد أن يثبت في مصركم، فسيروا اليه واوثقوه في الحديد وخلدوه في السجن حتى يستقيم أمر الناس»
وهكذا انتهى أمر المختار سجيناً في الكوفة، ينتظر مرة أخرى من وراء قضبان السجن ما تؤول اليه الامور وما تسفر عنه الاحداث..
وفي سجنه كان المختار لا ينفك يردد على مسامع زائريه انه لن يتخلى مطلقاً عما سعى اليه وجاء من أجله، أو يتوقف لحظة عن السير في حملته الانتقامية،لقتل ابن بنت رسول الله ص التي كانت عصب دعوته الرئيسي في معاقبة المسؤولين عن دم الحسين،ع والمضي في ملاحقتهم أياً كانوا وفي أي أرض ذهبوا اليها
«أما ورب البحار، والنخيل والاشجار، والمهامة والقفار، والملائكة الابرار، والمصطفين الاخيار، لاقتلن كل جبار بكل لدن خطار ومهند بتار في جموع من الانصار ليسوا بميل اغمار ولا بعزل أشرار. حتى اذا أقمت عمود الدين وزايلت شعب صدع المسلمين وشفيت غليل صدور المؤمنين وأدركت بثأر أولاد النبيين، لم يكبر علي زوال الدنيا ولم أحفل بالموت اذا أتى»
فاز سليمان اذا في معركة الزعامة الشيعية ضد هذا المغامر الدخيل، الذي قدم من الحجاز باحثاً عن الزعامة ومتعطشاً الى السلطة. وفي تلك الاثناء كانت الحركة التوابية تدخل مرحلتها الحاسمة والصعبة، وكان زعماؤها
يصعّدون الجهود ويركزون الحملات الاعلامية عبر اتجاهين رئيسيين. أولاً
: عن طريق التبشير بأفكار الدعوة والمفهوم الحقيقي للتحرك.
وثانياً : عن طريق القيام بعروض شبه عسكرية والتجوال في شوارع الكوفة وأسواقها مع سواها من المدن لاستثارة الجماهير واجتذاب أكبر عدد من المتطوعين للحركة.
كانت سنة خمس وستين للهجرة (684م) قد حلّت، وفي هذه السنة خرجت حركة التوابين من محتواها التخطيطي واطارها التبشيري الى مرحلة التنفيذ الحاسم. فلم يعد يفصلها غير شهور قليلة عن موعدها الفاصل الذي حددته لانطلاقتها من (النخيلة). ومعنى ذلك أن الفئات الشيعية التي التزمت مبدئياً بالحركة، كان عليها أن تبادر الى تحمل مسؤوليتها بالسرعة الممكنة. ولكن الذي حدث ان عدد المنتمين فعلياً الى الحركة حينئذ كان لا يزال قليلاً
بينهم الكثير ممن يعوزهم الانضباط والقناعة. وكان أشد التوابين ارتباكاً بهذه النتيجة وأكثرهم انزعاجاً هو زعيم الحركة الذي وجد ان هذا العدد لا يتناسب مع حجم القضية التي يقاتلون في سبيلها. وكان لابد من تصعيد لعمليات الدعاية من أجل استقطاب المزيد من المؤيدين.. ومن الشعارات الفدائية الصادقة التي كثر تردادها حينئذ :
«من أراد الجنة فليلتحق بسليمان في النخيلة».. «من أراد التوبة فليلتحق بسليمان»
الى غير ذلك من الشعارات التي لم تخرج عن اطار الغفران والتكفير عن الذنب.
ولقد أعطت هذه الحملة بعض ثمارها ولاقت قدراً من التجاوب، ولكن المسألة لم تكن في تجمع المؤيدين في أسواق الكوفة بل فيمن يمتلك القدرة على الصمود والاستمرار عندما ترفع راية الحرب ويتعالى صورت النفير، وهؤلاء لم يتجاوز عددهم في بادئ الامر الالف مقاتل، ثم ارتفع هذا العدد مع تصعيد الحملات الدعائية الى نحو أربعة آلاف مقاتل كانوا جميعاً مستعدين
للمسير حتى نهاية الشوط والاشتراك الفعلي في حرب الامويين.
واذا أردنا تفسير هذا التجاوب المحدود لحركة التوابين عندما بدأت تحركها الجدي، فانه يعود بدون ريب الى جو الكوفة المشحون حينئذ بالبلبلة والصراعات السياسية بعد خضوعها للحزب الزبيري. فقد كان السواد من الناس في حالة ترقب وانتظار ما تسفر عنه الاحداث
كذلك فان حركة التوابين كحركة مثالية، مجردة من أي هدف سياسي معين، كان هدفها الرئيسي هو الانتقام للحسين ع والموت في سبيله .. وهذا ما يمكننا أن نعزو اليه ضعف الاستجابة نوعياً، والقلة العددية التي شاركت بصورة فعالة في حركة التوابين.
ولقد سبق التحرك العسكري، انعقاد مؤتمر لزعماء التوابين لبحث الموقف العام وتوزيع المسؤوليات على العناصر القيادية ومناقشة اقتراحاتها حول كيفية التحرك والخطوات التمهيدية اللازمة. وكان هناك اتجاه على
رأسه عبد الله بن سعيد بن نفيل نحو القيام بعمليات انتقامية داخل الكوفة تستهدف بعض الاشراف المتهمين بتواطئهم مع النظام الاموي، ولكن سليمان رفض هذا الرأي وأصر على أن الهدف اولاً هو رأس عبيد الله بن زياد الذي بات المسؤول الاول بعد موت يزيد بن معاوية، ثم تأتي بعد ذلك مسألة الكوفة وأشرافها
«ان الذي قتل صاحبكم وعبّى الجنود اليه، وقال لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي هذا الفاسق ابن الفاسق عبيد الله بن زياد، فسيروا الى عدوكم مع الله، فان يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون شوكة منه ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية فتنظرون الى كل من شرك في دم الحسين فتقاتلونه ولا تغشموا، وان تستشهدوا فانما قاتلتم المحلين وما عند الله خير للابرار لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين. ولو قاتلتم أهل مصركم ما عدم رجل ان يرى رجلاً قد قتل أخاه وأباه وحميمه او رجلاً لم يكن يريد قتله. فاستخيروا الله وسيروا».
ومن الواضح ان المنطق وبعد النظر يتجليان في موقف زعيم التوابين الذي لم يرد لحركته ان تخفق في مكانها في الكوفة، لان ذلك سيثير بدون شك حساسيات قبلية وسيفجر صراعات داخلية، وبالتالي سيؤدي الى استهلاك الحركة بدون طائل.
وبعد تشاور، رأى زعماء الحركة ان قتلة الحسين موزعون في أنحاء الارض، وليس سهلاً أن تطالهم سيوف التوابين كما يتصور البعض. لذلك ارتأوا أخيراً أن تكون الشام (قاعدة الطغيان) هدف حملتهم العسكرية التي يعدّون لها.. فهي مركز السلطة الاموية، المسؤولة قبل أي أحد عن قتل الحسين. وفي رأيهم ان النظام هو الذي ينبغي أن يحاسب وليس الاشخاص لان هؤلاء كانوا فقط الأداة التي نفذت الاوامر وقامت بما طلب منها خير قيام.