الحسين القدوة الأسوة:
كان الإمام الحسين(ع) ثائراً في أسلوب داعية، وكان داعية في خط التغيير. ولكن متى بدأ الحسين(ع) العنف؟ بدأه عندما قيل له: "انزل على حكم يزيد وابن زياد" و قال كلمته الصارمة الحاسمة:"لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا اقر إقرار العبيد". وهنا لم يجد بدّاً من أن يواجه العنف بالعنف. فعلينا أن نفهم الحسين(ع) بكلّه، بصفته إماماً، وللإمامة امتداد يتسع لكلّ ما تتسع له النبوّة ما عدا النبوّة "يا عليّ أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي".
لننطلق مع الإمام الحسين(ع) في شخصية الإمامة، فثورته حركة في خط إمامته، ودعوته، وأخلاقه، ووسائله، وغاياته، وشجاعته، وصبره.. كلّ ذلك كان في خط إمامته. لذلك لا تغرقوا الحسين(ع) في بحار الدموع التي تبكي المأساة. أبكوا من خلال عمق معنى الإنسانية في المأساة. احتجّوا على الذين صنعوا المأساة في كربلاء، ليتحوّل احتجاجكم إلى احتجاج ضد الذين يصنعون مأساة المستضعفين في العالم، لا أن نبكي ونلطم على الحسين(ع) في كربلاء ونلعن الذين صنعوا المأساة، ثم نخضع لألف يزيد ويزيد ولكلّ الذين يسرقون الأمة ويصادرونها.
لقد كانت كربلاء المنطلق ولم تكن النهاية، ونريد لها أن تتحرك في حياتنا من خلال حركتها في وعينا، أمّا أن ننظر إلى كربلاء في التأريخ في سنة 61هـ فذلك لا يكلّفنا شيئاً سوى مقدار من الدموع والشكليات،فيما ننتج في كل ألعوبة جديدة تستهلك الزخم الجماهيري في الأساليب التي لا توظّف طاقة الأمة في خدمة أهدافها بل تصرفها عنها وتوحي لها أن هذه هي مسؤوليتها!
ولذلك أقول لكم حدّثوا الناس بكربلاء الحق، ولا تضيفوا إلى الحق شيئاً من الباطل، وحدّثوا الناس بكربلاء القضية ولا تقتصروا على كربلاء المأساة. ولقد أدّى الإمام الحسين(ع) والصفوة من أهل بيته وأصحابه واجبهم ومسؤوليتهم في خط الرسالة، ولنا أكثر من قضية في حجم العالم الإسلامي، ولنا أكثر من مأساة وأكثر من يزيد يقتل النفس المحترمة، ونحن ما زلنا نتناقش في الهوامش وفي جنس الملائكة، ولو أردنا أن ندرس كلّ ما نتناقش فيه لرأينا أنه مجرد هواء في شبك، وليس شيئاً يتصل بعقيدتنا ولا بشريعتنا ولا بحياتنا، ولكن ماذا نصنع بالذين يفرضون التخلّف على الأمة باسم الدين وبأسماء أخرى.
ستبقى طويلا هذه الأزماتُ إذا لم تقصّر عمرها الصدماتِ
إذا لم ينلها مصلحون بواسلَ جريئون فيما يدّعـون كفـاة
أخرجوا من المأساة كهدف إلى القضية، وأخرجوا من الماضي إلى المستقبل، فقيمة الماضي حدّدها القرآن {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}[يوسف:111]. فلنأخذ هذه العبرة ولنتحمّل مسؤوليتنا في المستقبل. هل نخطو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل؟! أو نظلّ كما قال الشاعر:
ونبقى نلف ونبقى ندور ونحـن نفتـش عن قافيـه
ألا قتل الضعفُ فينا فقد أضاع الرعية والراعيه
إن العناوين التي طرحها الإمام الحسين(ع) في واجهة حركته هي عناوين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في أمة جده رسول الله(ص)، وهذه العناوين هي عناوين الإسلام التي يشعر المسلمون معها أنهم معنيّون بها من خلال مسؤوليتهم عنها، وهذا ما نلاحظه في أسلوب القرآن الكريم في حديثه عن المعارك التي يريد للمسلمين أن يخوضوها، أو التي خاضوها، وذلك بأن يقدم لهم العناوين التي يريد الله سبحانه وتعالى لهم أن يتحركوا من أجل تحقيقها في الواقع، وبذلك فإننا لا نجد أن الإمام الحسين(ع) قد انطلق في حركته من خصوصيات المسؤولية الخفية التي لا يعرفها المسلمون معه، بحيث يقال إن الحركة هي تكليف خاص، بل إن المسألة مسألة عناوين وأهداف واضحة، يمكن للجميع أن يعرفوها وأن يتحركوا على أساسها، وبذلك يمكن للمسلمين أن يأخذوا من هذه التجربة شرعية الموقف إذا كانت المرحلة شبيهة بالمرحلة التي عاشها الإمام الحسين(ع) من حيث الظروف والأوضاع والمواقع، وإلا فلو كانت تكليفاً خاصاً لما كان ثمة معنى للشعارات المطروحة، ولما كان لكربلاء وعاشوراء أي دور في صناعة وعي الجماهير على مدى الزمن، لأنها تكليف غيبي لا نعرف مفرداته ولا ظروفه، وبذلك نتجمد أمام الذكرى.. ولا أعتقد أن الأمر بهذه الصورة.
تشخيص المشكلة ومعالجتها:
لقد كانت رسالة الإمام الحسين(ع) في ذلك كلّه تتمثل في تأكيده للناس على معنى الإمامة في الإسلام وصفة الإمام الحقّ في الإسلام. وكان يريد أن يختصر المشكلة الإسلامية بعد رسول الله(ص) في هذه المسألة، باعتبار أن الناس لم ينفتحوا على مفهوم ودور الإمامة في الإسلام من خلال حركتها في حماية الإسلام من الانحراف، ودعوة الناس إلى الإسلام في كلّ جيل، والقيام بالقسط في حياة الناس وواقع الحكم الإسلامي.
ولعلّ هذه المسألة التي ركّز عليها الإمام الحسين(ع) هي التي أراد للناس أن يعرفوا من خلالها أن مشكلتهم التي يعانون منها، والفساد الذي يتقلّبون فيه، والمنكر الذي يفعلونه، والمعروف الذي يتركونه، إنما حصل لأنهم أفسحوا المجال للقيادة غير الشرعية، لأن الإمامة أو الحاكمية هي التي يمكن أن تقود الناس إلى الخط المستقيم أو التي يمكن أن تنحرف بهم إلى الخط المنحرف. ولعلّ هذا هو ما عاشه المسلمون بعد ذلك، سواء فيما انطلقوا به في عهد الخلافة الأموية أو عهد الخلافة العباسية أو الخلافة العثمانية، أو ما يلتزم به المسلمون اليوم مما ينفتحون به على سلطان هنا ليس له من معنى الشرعية الإسلامية أي موقع، وسلطان هناك لا يحمل من معنى الشرعية شيئاً، وهذا هو سرّ الواقع اللاإسلامي في الحياة الإسلامية، لأن الناس إذا عاشوا مع الحكم المنحرف والحاكم المنحرف والتيار الذي يبتعد عن الإسلام في مفاهيمه وشرائعه وتطبيقاته فإن من الطبيعي أن يكون الإسلام شيئاً ويكون المسلمون شيئاً آخر.
ومن هنا، فإننا عندما نثير مسألة الإمامة لا نثير مسألة تاريخية تعيش في تعقيدات التاريخ، ولكننا نتحدث عنها ونحرّك مفهوماً كيما تمتد في الوجدان الإسلامي حتى ينطلق المسلمون ليعرفوا أين هو إمام الهدى ليتبعوه وأين هو إمام الضلالة ليتركوه. وتلك قصة امتداد قضية الإمام الحسين(ع) فإن الأئمة من أهل البيت(ع) لم يريدوا لعاشوراء أن تكون مجرد دمعة وإثارة مأساة وإنما أرادوا للدمعة أن تشير إلى تلك الدموع التي عاشها المسلمون عندما ابتعدوا عن الإسلام، وفرضت عليهم المشاكل الكثيرة التي صادرت حقوق المستضعفين، وأبعدتهم عن معنى العدل والاستقامة، وأرادوا للمأساة أن تنطلق لتعيش في مشاعر الناس في مدى الزمن وفي مواقعهم كلّها، لا لتكون مأساة كربلاء معنى في ذاتية المأساة ولكن لتكون واجهة لكل مآسي الإنسان التي يتحرك المستكبرون من أجل أن يصنعوها في واقع المستضعفين، والتي يتحرك فيها الظالمون ليصنعوها في واقع المظلومين.
كيف نكون مع كربلاء الحسين(ع)؟
من كان مع كربلاء الحسين فلا يمكن أن يبايع ظالماً، ومن كان مع كربلاء الحسين فلا يمكن أن يقاتل مع ظالم، ولا يمكن أن يعذر ظالماً، أو يبرر لظالم ظلمه، لذلك اختصروا دموعكم عندما تكون دموع التأريخ، وأطلقوها عندما تكون دموع الإنسان المظلوم والمقهور والمستضعف. لقد كانت كربلاء مظلومة كلّها، لأنها انطلقت بالرسالة في خط العدل وانطلقت من قلب الواقع لتحتج عليه ولتثور عليه ولتغيّره. هل تريدون أن تكونوا حسينين؟ ليست القضية إذاً أن تبكوا كثيراً وإن كان للبكاء معناه، وليست القضية أن تلطموا كثيراً وإن كان للطم رمزه، ولكن القضية هي أن تواجهوا الواقع كلّه، وأن تعيشوا الواقع كما عاشه الإمام الحسين(ع) والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، فلم يكونوا حياديين أمام واقع الظلم والاستكبار.
لا تحرّكوا مع الحسين في التاريخ بل تحركوا معه واقعا وثورة وتغييراً، وليكن كلّ واحد منا حسيناً ولو بنسبة الواحد بالمئة. فعندما نعيشه في منهجه وفكره وروحه وانفتاحه على قضية العدل والحرية في الإنسان فإن كربلاء عند ذلك تستطيع أن تجد جمهورها فينا ولا تتحدث فقط عن جمهورها في سنة 61هـ.
مقتطفات من كتاب: من وحي عاشوراء
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله