الفصل الأول :
مفهوم الدعاء وعلاقته بالعبادة
الدعاء في اللغة: الدعاء: هو أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك. تقول: دعوت فلانا أدعوه دعاء، أي ناديته وطلبت إقباله، وأصله دعاو، إلا أن الواو لما جاءت بعد الألف همزت. وللدعاء في الكتاب الكريم وجوه عدة، كلها تدور حول المعنى اللغوي المتقدم، نذكر منها:
1 - النداء، يقال: دعوت فلانا، أي ناديته وصحت به، قال تعالى: *(فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)*(1) أي، ننادي... وقد يستعمل كل واحد من النداء والدعاء موضع الآخر، قال تعالى: *(كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء)*(2).
(هامش)
(1) سورة آل عمران: 3 / 61. (2) سورة البقرة: 2 / 171. (*)
ص 10
2 - الطلب، يقال: دعاه، أي طلبه، قال تعالى: *(وإن تدع مثقلة إلى حملها)*(1)، أي تطلب أن يحمل عنها.
3 - القول، قال تعالى: *(فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا...)*(2)، أي قولهم إذ جاءهم العذاب.
4 - العبادة، قال تعالى: *(لن ندعو من دونه إلها)*(3)، أي نعبد.
5 - الاستعانة، قال تعالى: *(وادعوا شهداءكم من دون الله)*(4)، أي استعينوا واستغيثوا بهم.
6 - الحث على الشيء، قال تعالى: *(قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا)*(5)، أي حثثتهم على عبادة الله سبحانه.
7 - النسبة، قال تعالى: *(ادعوهم لآبائهم هو أقسط)*(6)، أي انسبوهم واعزوهم.
8 - السؤال، قال تعالى: *(قال ادع لنا ربك)*(7) أي سله (8).
(هامش)
(1) سورة فاطر: 35 / 18. (2) سورة الأعراف: 7 / 5. (3) سورة الكهف: 18 / 14. (4) سورة البقرة: 2 / 23. (5) سورة نوح: 71 / 5. (6) سورة الأحزاب: 33 / 5. (7) سورة البقرة: 2 / 69. (8) يراجع في معنى الدعاء، صحاح الجوهري - دعا - 6: 2337. ومعجم مقاييس اللغة - دعو - 2: 279. وأساس البلاغة - دعو - 131. والقاموس المحيط - دعا - 4: 329. ولسان العرب = (*)
ص 11
الدعاء في الاصطلاح: طلب الأدنى من الأعلى: على جهة الخضوع والاستكانة (1). ودعاء العبد ربه جل جلاله: طلب العناية منه، واستمداده إياه المعونة (2). ويقال: دعوت الله أدعوه دعاء: ابتهلت إليه بالسؤال، ورغبت فيما عنده من الخير (3). قال تعالى: *(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)*(4). ويقول العلامة المجلسي: الأدعية المأثورة على نوعين:
1 - الأوراد والأذكار الموظفة المقررة في كل يوم وليلة المشتملة على تجديد العقائد وطلب المقاصد والأرزاق ودفع كيد الأعداء ونحو ذلك، وينبغي للمرء أن يجتهد في حضور القلب والتوجه والتضرع عند قرائتها، لكن يلزم أن لا يتركها إن لم يتيسر ذلك.
2 - المناجاة، وهي الأدعية المشتملة على صنوف الكلام في التوبة والاستغاثة والاعتذار وإظهار الحب والتذلل والانكسار، وظني أنه لا
(هامش)
- دعا - 14: 257. ومفردات الراغب: 170. والأنباء بما في كلمات القرآن من أضواء 2: 270. (1) عمدة الداعي: 12. (2) تفسير الرازي 5: 97. (3) المصباح المنير 1: 194. (4) سورة غافر: 40 / 60. (*)
ص 12
ينبغي أن تقرأ إلا مع البكاء والتضرع والخشوع التام، وينبغي أن تترصد الأوقات لها. وهذان القسمان من الدعاء ببركة أهل البيت (عليهم السلام) عندنا كثير. فأما القسم الأول فأكثرها مذكورة في مصباحي الشيخ الطوسي والكفعمي، وكتابي التتمات والإقبال لابن طاووس في ضمن التعقيبات وأدعية الأسبوع وأعمال السنة وغيرها. والقسم الثاني أيضا منشورة في عرض تلك الكتب وغيرها، كالأدعية الخمس عشرة، والمناجاة المعروفة بالإنجيلية، ودعاء كميل النخعي وغيرها، والصحيفة الكاملة جلها بل كلها في المقام الثاني (1). علاقة الدعاء بالعبادة: تقدم أن العبادة هي أحد الأمور التي يصدق عليها مفهوم الدعاء اللغوي الواسع، ويدل على ذلك آيات قرآنية كثيرة وردت في هذا السياق، منها قوله تعالى: *(لن ندعو من دونه إلها)* أي لن نعبد إلها دونه، فهذه الآية وغيرها تترجم الصلة اللغوية الدائمة القائمة بين العبادة والدعاء. أما الصلة الاصطلاحية بين العبادة والدعاء، فإن الدعاء في نفسه عبادة، لأنهما يشتركان في حقيقة واحدة، هي إظهار الخشوع والافتقار إلى الله تعالى، وهو غاية الخلق وعلته، قال تعالى: *(وما خلقت الجن
(هامش)
(1) الاعتقادات / المجلسي: 41. (*)
ص 13
والإنس إلا ليعبدون)*(1)، وقال تعالى: *(قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم)*(2). فالدعاء والعبادة يعكسان الفقر المتأصل في كيان الإنسان إلى خالقه تعالى مع إحساسه العميق بالحاجة إليه والرغبة فيما عنده. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (الدعاء هو العبادة التي قال الله: *(إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)*) (3) يعني أن الدعاء هو معظم العبادة وأفضلها، وذلك كقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الحج عرفة) أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم (4). ويؤيد ذلك حديث الإمام الباقر (عليه السلام): (أفضل العبادة الدعاء) (5). وما رواه سدير عنه (عليه السلام)، قال: قلت لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): أي العبادة أفضل؟ فقال (عليه السلام): (ما من شيء أفضل عند الله عز وجل من أن يسأل ويطلب مما عنده) (6). وإذا قيل: إن الدعاء لا يصح إطلاقه على العبادة الشرعية التكليفية، فإن الصيام مثلا لا يسمى دعاء لغة ولا شرعا، وعليه فليس كل عبادة شرعية دعاء.
(هامش)
(1) سورة الذاريات: 51 / 56. (2) سورة الفرقان: 25 / 77. (3) الكافي 2: 339 / 7، والآية من سورة غافر: 40 / 60. (4) تفسير الرازي 5: 99. (5) الكافي 2: 338 / 1. (6) الكافي 2: 338 / 2. (*)
ص 14
نقول: (الدعاء من العبد لربه: هو عطف رحمته وعنايته إلى نفسه بنصب نفسه في مقام العبودية والمملوكية، ولذا كانت العبادة في الحقيقة دعاء، لأن العبد ينصب فيها نفسه في مقام المملوكية والاتصال بمولاه بالتبعية والذلة ليعطفه بمولويته وربوبيته إلى نفسه، وهو الدعاء) (1). وإلى ذلك يشير قوله تعالى: *(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)*(2)، فالآية تدعو إلى الدعاء وتحث عليه وتعد بالإجابة، وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة، فقد عبرت أولا بالدعاء (ادعوني) ثم عبرت عن الدعاء بالعبادة (عن عبادتي) أي عن دعائي، بل (إن الآية تجعل مطلق العبادة دعاء، حيث إنها تشتمل على الوعيد لترك الدعاء بالنار، والوعيد بالنار إنما هو على ترك العبادة رأسا، لا على ترك بعض أقسامها دون بعض، فأصل العبادة إذن دعاء) (3). وإذا تأملنا في قوله تعالى: *(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون)*(4). نلاحظ أنه (كما يشتمل على الحكم وهو إجابة الدعاء، كذلك يشتمل على علله، فكون الداعين عبادا لله تعالى هو الموجب لقربه منهم، وقربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم) (5).
(هامش)
(1) تفسير الميزان 10: 38. (2) سورة غافر 40: 60. (3) تفسير الميزان 2: 33. (4) سورة البقرة: 2 / 186. (5) تفسير الميزان 2: 32. (*)
ص 15
فإخلاص العبودية لله تعالى هو علة القرب منه تعالى والارتباط به، والقرب منه هو مظنة الإجابة، وهو يكشف عن الصلة الموضوعية بين حقيقة الدعاء وحقيقة العبادة، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (عليكم بالدعاء، فإنكم لا تقربون بمثله) (1). الدعاء مخ العبادة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الدعاء مخ العبادة، ولا يهلك مع الدعاء أحد) (2) هذا الحديث المبارك يكشف لنا عن جوهر العبادة وحقيقتها التي تتجلى في إقبال العبد المحتاج على المعبود الغني *(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)*(3). وهذا الاقبال هو التعبير الحي عن الصلة الموضوعية بين الخالق والمخلوق، وعن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى ربه تعالى في جميع أموره واعترافه الخاضع بالعبودية له تعالى، والتي تتجسد في الشعور بالارتباط العميق بالله سبحانه، فجوهر العبادة إذن هو تحقيق الارتباط والعلاقة بين الخالق والمخلوق، والدعاء هو أوسع أبواب ذلك الارتباط وتلك العلاقة، فهو إذن مخ العبادة وحقيقتها وأجلى صورها، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أفضل العبادة الدعاء، وإذا أذن الله لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة، إنه لن يهلك مع الدعاء أحد) (4).
(هامش)
(1) الكافي 2: 339 / 6. (2) بحار الأنوار 93: 300. (3) سورة فاطر: 35 / 15. (4) عدة الداعي: 35. (*)
ص 16
الدعاء في البلاء والرخاء: الدعاء باعتباره عبادة تسمو بالنفس وتشرق بالروح وتوصل الإنسان بربه بارئ الكون، يجب أن لا ينحصر في وقت الشدة والاضطرار بل يجب أن يكون في جميع الأحوال، نابعا من التسامي النفسي والانفتاح الروحي والكمال الإنساني. الدعاء في البلاء: إن علاقة الإنسان بربه علاقة ذاتية متأصلة في نفس الإنسان، ولكل امرئ طريق من قلبه إلى خالقه، وثمة باب في القلوب يفتح إلى من بيده مجريات الأحداث وهو بكل شيء محيط، فحتى أشقى الأشقياء نجده عند الابتلاء بالمصائب والمحن، وعندما توصد في وجهه الأبواب، وتنقطع به العلل والأسباب، يفزع إلى خالقه وينقطع إليه ضارعا منكسرا، وهذا أمر ذاتي يتساوى فيه الناس مهما كانت اتجاهاتهم وميولهم، قال تعالى: *(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)*(1). وقال تعالى: *(وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون)*(2). وقال تعالى: *(وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا)*(3)، والآيات في هذا المعنى
(هامش)
(1) سورة يونس: 10 / 12. (2) سورة الروم: 30 / 33. (3) سورة الإسراء 17: 67. (*)
ص 17
كثيرة، وكلها تدل على أن التوجه إلى الله تعالى في حال الشدة والاضطرار أصيل في فطرة الإنسان وطبيعي في وجوده. قال رجل للإمام الصادق (عليه السلام): يا بن رسول الله، دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر علي المجادلون وحيروني، فقال له: (يا عبد الله، هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم. قال (عليه السلام): فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال (عليه السلام): فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم. قال الإمام الصادق (عليه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث) (1). لقد جعل الإمام الصادق (عليه السلام) الرجل يعرف الله تعالى عن طريق قلبه، لقد دله الإمام (عليه السلام) على ذلك الطريق الذي يوصل بين القلب والخالق القادر، إن هذا الاتجاه الفطري الذي يتجلى عند تقطع الأسباب ويتوجه إلى القدرة القاهرة الغالبة على الأسباب والعلل الظاهرة، هو الدليل على وجود تلك القدرة، ولولا وجودها لما وجدت تلك الفطرة في قلب الإنسان. إن التوجه إلى الله تعالى في حال الشدة والاضطرار والتضرع إليه بالدعاء، أمر غير مرئي بالحواس، ويمكننا أن نشبهه بتوجه غريزي مرئي ومعروف، ذلك هو ميل الطفل إلى ثدي أمه، هو غريزة تنشأ معه منذ ولادته، فإذا جاع تحركت فيه هذه الغريزة وهدته إلى البحث عن ثدي أمه الذي لم يره ولم يعرفه ولم يتعود عليه، فلولا وجود ثدي ولبن يناسبان
(هامش)
(1) بحار الأنوار 3: 41 / 16. (*)
ص 18
معدة الطفل لما أرشدته الغريزة إليهما، وكذلك حال الغرائز الأخرى في الإنسان، فلولا وجود تلك القدرة القاهرة لما وجدت تلك الفطرة وذلك التوجه الغريزي في ذات الإنسان. إن هذا الأمر الأصيل في وجود الإنسان، قد تغطيه حجب الإثم والشقاء بعد ما يظهر للعيان بنداء الفطرة، فيتراءى للإنسان أنه قد استغنى، فيطغى ويعرض عن خالقه متعلقا بالأسباب التي هي دونه، قال تعالى: *(كلا إن الإنسان ليطغى * إن رآه استغنى)*(1)، وقال تعالى: *(فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)*(2)، وقال تعالى: *(فلما نجاكم إلى البر أعرضتم)*(3). فإذا اقتصر الإنسان على الدعاء في حال الاضطرار والشدة، فإن ذلك لا يمثل كمالا إنسانيا ولا إخلاصا عباديا، بل هو جفاء وقسوة وابتعاد عن رحاب الرحمة والمغفرة. الدعاء في الرخاء: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) موصيا الفضل بن العباس: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) (4) يعني أدع الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب لدعائك في الشدة ولا ينساك، ولا تكن من الذين نسوا الله فنسيهم، وذلك لأن من نسي ربه
(هامش)
(1) سورة العلق: 59 / 6 - 7. (2) سورة يونس: 10 / 12. (3) سورة الإسراء: 17 / 67. (4) من لا يحضره الفقيه 4: 296 / 896. (*)
ص 19
في الرخاء أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء، ثم إذا دعا ربه في الشدة، كان معنى عمله أنه يذعن بالربوبية في حال الشدة وحسب، وليس هو تعالى على هذه الصفة، بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير. عندما يكون الإنسان في حال رخاء واطمئنان، يجب أن يعلم بأن ما هو فيه من نعمة مزجاة هي من الله، وأنه هو القادر على أن يسلبه إياها كما هو القادر على أن يزيده منها، وذلك لأنه خالق الكون والإنسان والحياة، وأنه اللطيف بعباده الرؤوف بهم. ولهذا نجد أن الأنبياء والأوصياء والصالحين يتوجهون إلى ربهم بنفس متسامية مشرقة حتى عندما يكونون في رخاء وبحبوحة عيش، يدعون ربهم ويتوسلون به ليديم عليهم نعمته ويزيدهم من فضله: *(وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)*(1). إن الله تعالى يستجيب لهم وينظر إليهم بعين رحمته في حال رخائهم، ويسرع إلى نجدتهم ورفع البلاء عنهم في حال المحنة والابتلاء كما يسرعون إلى استدعاء رحمة ربهم، وقد ورد في الروايات ما يدل على استحباب التقدم بالدعاء في الرخاء قبل نزول البلاء. فعن الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنه كان يقول: (ما من أحد ابتلي وإن عظمت بلواه أحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء) (2).
(هامش)
(1) سورة الأنبياء: 21 / 89 - 90. (2) من لا يحضره الفقيه 4: 285 / 853. وأمالي الصدوق: 218 / 5. ونهج البلاغة - الحكمة (302). (*)
ص 20
وعن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أنه كان يقول: (لم أر مثل التقدم في الدعاء، فإن العبد ليس تحضره الإجابة في كل ساعة) (1). وعن الإمام أبي الحسن (عليه السلام): (إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحوا من دعائه في الشدة، ليس إذا أعطي فتر، فلا تمل الدعاء، فإنه من الله عز وجل بمكان) (2). فالدعاء الاضطراري الذي يمثل نداء الفطرة والغريزة لا تتخطاه الإجابة، لأنه يقع ضمن دائرة الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، والدعاء الاختياري الذي يصدر عن منطقة الوعي ونداء العقل وينبض بحركة الروح والشعور في الذات وحركة القلب المنقطع إلى ربه المتخلي عن جميع الأسباب في الشدة والرخاء، هو الآخر لا تتخطاه الإجابة، وهو مخ العبادة وجوهرها النقي، وهو الذي وصف به المتقون: (ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غيرة الخاشعين) (3). والدعاء بالمعنى الأخير عبادة حية متحركة لا تخضع للزمان والمكان المعينين ولا للأفعال الخاصة والكلمات المحددة، بل ينطلق فيها الإنسان حرا في المكان الذي يقف فيه، والوقت الذي يختاره، واللغة التي يتحدث بها، والكلمات التي يعبر بها، والمضمون الذي يريده. اقتران الدعاء بمظاهر العبادة: لقد اهتم الشارع المقدس بالدعاء لأنه أحب الأعمال إلى الله تعالى في
(هامش)
(1) الإرشاد: 259. (2) 2: 354 / 1. وقرب الإسناد: 171. (3) نهج البلاغة: الخطبة (121). (*)
ص 21
الأرض، فقرر لآناء الليل والنهار ولكل يوم من أيام الأسبوع وللشهور والسنين أدعية خاصة، وجعل كذلك لكل حالة من حالات الإنسان ولكل فعل يريد الإقدام عليه ولجميع مطالبه الدنيوية والأخروية وظائف من الدعاء والذكر. ويأتي في مقدمة ذلك اقتران الدعاء بسائر العبادات والطاعات التي يتقرب بها العبد إلى خالقه تعالى بشكل لا يقبل الانفصال، ففي الصلاة والصيام والحج دعوات قررتها الشريعة المقدسة في أوقات معينة. ومن موارد الدعاء في الصلاة تأكد استحبابه في الركعة الثانية من كل فريضة أو نافلة وفي السجود وفي أدبار الصلوات. القنوت: القنوت شرعا: الذكر في حال مخصوص، وهو مستحب في كل صلاة مرة واحدة، فرضا كانت أو نفلا، أداء أو قضاء، عند علمائنا أجمع، ومحله بعد القراءة قبل الركوع (1). قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (القنوت في كل صلاة في الركعة الثانية قبل الركوع) (2). ومما ورد في فضل القنوت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أطولكم قنوتا في دار الدنيا، أطولكم راحة يوم القيامة في الموقف) (3).
(هامش)
(1) جواهر الكلام 10: 353. (2) الكافي 3: 340 / 7. والتهذيب 2: 89 / 330. (3) ثواب الأعمال: 33. وأمالي الصدوق: 411. (*)
ص 22
ويجوز الدعاء في القنوت بكل ما جرى على اللسان، لما روي عن إسماعيل بن الفضل، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القنوت وما يقال فيه، فقال (عليه السلام): (ما قضى الله على لسانك، ولا أعلم فيه شيئا مؤقتا) (1). ويستحب الدعاء بالمأثور لتجاوز الخطأ واللحن الشائع على الألسن في هذا الزمان، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (يجزيك في القنوت: اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا وأعف عنا في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير) (2). الدعاء في السجود: إن الدعاء هو الاقبال إلى الله تعالى والانقطاع إليه ليتحقق القرب من منازل الرحمة الالهية، والسجود باعتباره روح العبادة حيث تتجلى فيه منتهى العبودية والخضوع للواحد الأحد يحقق الغرض المراد من الدعاء، وهو القرب من رحاب الخالق جل وعلا، فعلى العبد أن ينتهز فرصة القرب ليسأل من خزائن رحمة ربه وذخائر مغفرته. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (عليك بالدعاء وأنت ساجد، فإن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد) (3). وعنه (عليه السلام): (إن العبد إذا سجد فقال: يا رب يا رب حتى ينقطع نفسه، قال له الرب: لبيك ما حاجتك) (4).
(هامش)
(1) الكافي 3: 340 / 8. والتهذيب 2: 314 / 1281. (2) الكافي 3: 340 / 12. والتهذيب 2: 87 / 322. (3) الكافي 3: 324 / 11. (4) بحار الأنوار 86: 205 / 19. (*)
ص 23
ويستحب أن يدعو العبد بالمأثور أثناء السجود، فعن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا دعا ربه وهو ساجد، فأي شيء تقول إذا سجدت؟). قلت: علمني - جعلت فداك - ما أقول؟ قال (عليه السلام): (قل: يا رب الأرباب، ويا ملك الملوك، ويا سيد السادات، ويا جبار الجبابرة، ويا إله الآلهة، صل على محمد وآل محمد وافعل بي كذا وكذا. ثم قل: فإني عبدك، ناصيتي بيدك، ثم ادع بما شئت وسله، فإنه جواد ولا يتعاظمه شيء) (1). وعنه (عليه السلام): (أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا وضع وجهه للسجود يقول: اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من عملي، فاغفر لي ذنوبي يا حيا لا يموت) (2). وسنأتي على الموارد الاخرى من مظاهر العبادة التي تقترن بالدعاء في الفصل الثالث عند ذكر تأثير عامل الزمان والمكان في استجابة الدعاء.
(هامش)
(1) الكافي 3: 323 / 7. (2) سنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): 337 / 392. (*)
ص 25
الفصل الثاني :
آداب الدعاء وشروطه
لقد حددت النصوص الإسلامية آدابا للدعاء وقررت شروطا، لا بد للداعي أن يراعيها كي يتقرب إلى خزائن رحمة الله تعالى وذخائر لطفه، ويتحقق مطلوبه من الدعاء، وإذا أهملها الداعي فلا تتحقق له الاستجابة المرجوة من الدعاء ولا تحصل له نورانية القلب وتهذيب النفس وسمو الروح المطلوبة في الدعاء. وفيما يلي أهم هذه الشروط والآداب:
1 - الطهارة: من آداب الدعاء أن يكون الداعي على وضوء، سيما إذا أراد الدعاء عقيب الصلاة، فقد روى مسمع عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (يا مسمع، ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده، فيركع ركعتين فيدعو الله فيهما؟ أما سمعت الله يقول: *(واستعينوا بالصبر والصلاة)*؟) (1).
(هامش)
(1) تفسير العياشي 1: 43 / 139. (*)
ص 26
2 - الصدقة وشم الطيب والرواح إلى المسجد: روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (كان أبي إذا طلب الحاجة... قدم شيئا فتصدق به، وشم شيئا من طيب، وراح إلى المسجد..) (1).
3 - الصلاة: ويستحب أن يصلي الداعي ركعتين قبل أن يشرع بالدعاء، للرواية المتقدمة في الطهارة، ولما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين، فأتم ركوعهما وسجودهما، ثم سلم وأثنى على الله عز وجل وعلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم سأل حاجته، فقد طلب الخير في مظانه، ومن طلب الخير في مظانه لم يخب) (2).
4 - البسملة: ومن آداب الدعاء أن يبدأ الداعي دعاءه بالبسملة، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يرد دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم) (3).
5 - الثناء على الله تعالى: الثناء على الله سبحانه اعتراف بالوحدانية، وتحقيق للانقطاع التام إلى الله تعالى دون ما سواه، فينبغي للداعي إذا أراد أن يسأل ربه شيئا من حوائج الدنيا والآخرة أن يحمد الله ويثني عليه ويشكر ألطافه ونعمه قبل أن يشرع في الدعاء، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (الحمد لله الذي جعل
(هامش)
(1) الكافي 2: 347 / 7. (2) بحار الأنوار 93: 314 / 20. (3) بحار الأنوار 93: 313. (*)
ص 27
الحمد مفتاحا لذكره، وسببا للمزيد من فضله..) (1). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا طلب أحدكم الحاجة فليثن على ربه وليمدحه) (2). وقد أعد الله تعالى لمن يمدحه ويمجده على حسن آلائه جزيل الثواب بما يفوق رغبة السائلين، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من تشاغل بالثناء على الله، أعطاه الله فوق رغبة السائلين) (3). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن العبد لتكون له الحاجة إلى الله فيبدأ بالثناء على الله والصلاة على محمد وآله حتى ينسى حاجته، فيقضيها من غير أن يسأله إياها) (4). أما ما يجزي من الثناء على الله سبحانه قبل الشروع بالدعاء، فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن ذلك فقال: (تقول: اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، وأنت العزيز الكريم) (5).
6 - الدعاء بالأسماء الحسنى: وعلى الداعي أن يدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى، لقوله تعالى:
(هامش)
(1) نهج البلاغة: الخطبة (157). (2) الكافي 2: 352 / 6. (3) شرح ابن أبي الحديد 6: 190. (4) بحار الأنوار 93: 312. (5) الكافي 2: 365 / 6. (*)
ص 28
*(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)*(1)، وقوله تعالى: *(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى)*(2). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لله عز وجل تسعة وتسعون اسما، من دعا الله بها استجيب له) (3). واعلم أن بعض أهل العلم يقول: ينبغي للداعي إذا مجد الله سبحانه وأثنى عليه أن يذكر من أسماء الله الحسنى ما يناسب مطلوبه، فإذا كان مطلوبه الرزق يقول: يا رزاق، يا وهاب، يا جواد، يا مغني، يا منعم، يا مفضل، يا معطي، يا كريم، يا واسع، يا مسبب الأسباب، يا منان، يا رزاق من يشاء بغير حساب. وإن كان مطلوبه المغفرة والتوبة، يقول: يا تواب، يا رحمن، يا رحيم، يا رؤوف، يا عطوف، يا صبور، يا شكور، يا عفو، يا غفور، يا فتاح، يا ذا المجد والسماح، يا محسن، يا مجمل، يا منعم. وإن كان مطلوبه الانتقام من العدو يقول: يا عزيز، يا جبار، يا قهار، يا منتقم، يا ذا البطش الشديد، يا فعال لما يريد، يا قاصم المودة يا طالب، يا غالب، يا مهلك، يا مدرك، يا من لا يعجزه شيء. ولو كان مطلوبه العلم يقول: يا عالم، يا فتاح، يا هادي، يا مرشد، يا معز، يا رافع، وما أشبه ذلك (4).
(هامش)
(1) سورة الأعراف: 7 / 180. (2) سورة الإسراء: 17 / 110. (3) التوحيد: 195 / 9. (4) عدة الداعي: 199. (*)
ص 29
وقد ورد في الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) تأكيد كثير على الدعاء بالأسماء الحسنى، وأن الله تعالى يستجيب لعبده المؤمن إذا دعاه بأسمائه الحسنى خصوصا في حال السجود. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من قال: يا الله يا الله عشر مرات قيل له: لبيك ما حاجتك؟) (1). وعنه (عليه السلام) قال: (إذا قال العبد وهو ساجد: يا الله يا رباه يا سيداه، ثلاث مرات، أجابه تبارك وتعالى: لبيك عبدي، سل حاجتك) (2). وقال (عليه السلام): (كان أبي إذا لجت به الحاجة يسجد من غير صلاة ولا ركوع ثم يقول: يا أرحم الراحمين، سبع مرات، ثم يسأل حاجته، ثم يقول: ما قالها أحد سبع مرات إلا قال الله تعالى: ها أنا أرحم الراحمين، سل حاجتك) (3). 7 - الصلاة على النبي وآله: لا بد للداعي أن يصلي على محمد وآله بعد الحمد والثناء على الله سبحانه، وهي تؤكد الولاء لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأهل بيته المعصومين الذي هو في امتداد الولاء لله تعالى، لذا فهي من أهم الوسائل في صعود الأعمال واستجابة الدعاء. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلى علي وعلى
(هامش)
(1) الكافي 2: 377 / 1. (2) أمالي الصدوق: 335 / 6. (3) وسائل الشيعة 7: 88 / 16. (*)
ص 30
أهل بيتي) (1). وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد وآل محمد) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات (2). وقال (عليه السلام): (إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة، فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم سل حاجتك، فإن الله أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى) (3). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من دعا ولم يذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع الدعاء) (4). واعلم أن الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما تكون بعد الثناء، لما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئا من حوائج الدنيا والآخرة حتى يبدأ بالثناء على الله عز وجل والمدح له، والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يسأل الله حوائجه) (5). أما في كيفية الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد روي بالإسناد عن بريدة، قال قلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على
(هامش)
(1) كفاية الأثر: 39. (2) مجمع الزوائد 10: 160. (3) نهج البلاغة: الحكمة 361. (4) الكافي 2: 356 / 2. (5) الكافي 2: 351 / 1. (*)
ص 31
محمد وآل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد) (1). ومن نماذج الصلاة على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) في الدعاء ما روي بالإسناد عن حريز، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، كيف الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: (قل: اللهم صل على محمد وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، اللهم صل على محمد وأهل بيته الذين ألهمتهم علمك، واستحفظتهم كتابك، واسترعيتهم عبادك، اللهم صل على محمد وأهل بيته الذين أمرت بطاعتهم وأوجبت حبهم ومودتهم، اللهم صل على محمد وأهل بيته الذين جعلتهم ولاة أمرك بعد نبيك صلى الله عليه وعلى أهل بيته) (2). ومن أدب الدعاء عند سيد الساجدين الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنه يجعل الثناء والصلاة على النبي وآله مفتاحا لأغلب فقرات الدعاء، وهذا واضح لمن تأمل الصحيفة السجادية، وهو المراد بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تجعلوني كقدح الراكب، إن الراكب يملأ قدحه فيشربه إذا شاء، اجعلوني في أول الدعاء وآخره ووسطه) (3). ومن نماذج أدعية الإمام السجاد (عليه السلام) التي تبدأ بالثناء فالصلاة على النبي في جميع فقرات الدعاء ثم المسألة، قوله (عليه السلام): (يا من لا تنقضي عجائب عظمته صل على محمد وآله واحجبنا عن الالحاد في عظمتك، ويا
(هامش)
(1) مجمع الزوائد 10: 163. (2) بحار الأنوار 94: 67 / 55. (3) بحار الأنوار 93: 316. (*)
ص 32
من لا تنتهي مدة ملكه صل على محمد وآله واعتق رقابنا من نقمتك، ويا من لا تفنى خزائن رحمته صل على محمد وآله واجعل لنا نصيبا في رحمتك، ويا من تنقطع دون رؤيته الأبصار صل على محمد وآله وأدننا إلى قربك) (1).
8 - التوسل بمحمد وآله (صلى الله عليه وآله وسلم): وينبغي للداعي أن يلج من الأبواب التي أمر الله تعالى بها، وأهل البيت (عليهم السلام) هم سفن النجاة لهذه الأمة، فحري بمن دعا الله تعالى أن يتوسل إلى الله بهم، ويسأله بحقهم، ويقدمهم بين يدي حوائجه. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الأوصياء مني... بهم تنصر أمتي، وبهم يمطرون، وبهم يدفع الله عنهم، وبهم استجاب دعاءهم) (2). وقال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (من دعا الله بنا أفلح، ومن دعاه بغيرنا هلك واستهلك) (3). وعن داود الرقي، قال: إني كنت أسمع أبا عبد الله (عليه السلام) أكثر ما يلح به في الدعاء على الله بحق الخمسة، يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) (4). ومن نماذج التوسل المروي عنهم (عليهم السلام) هو أن تقول: (اللهم إني أتوجه إليك بمحمد وآل محمد، وأتقرب بهم إليك، وأقدمهم بين يدي
(هامش)
(1) الصحيفة السجادية: الدعاء (5). (2) تفسير العياشي 1: 14 / 2. (3) أمالي الشيخ الطوسي 1: 175. (4) الكافي 2: 422 / 11. (*)
ص 33
حوائجي) (1). وعن سماعة بن مهران، قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): (إذا كان لك يا سماعة عند الله حاجة فقل: اللهم إني أسألك بحق محمد وعلي، فإن لهما عندك شأنا من الشأن، وقدرا من القدر، فبحق ذلك الشأن وبحق ذلك القدر أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي كذا وكذا) (2).
9 - الاقرار بالذنوب: وعلى الداعي أن يعترف بذنوبه مقرا مذعنا تائبا عما اقترفه من خطايا وما ارتكبه من ذنوب، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنما هي المدحة، ثم الثناء، ثم الإقرار بالذنب، ثم المسألة، إنه والله ما خرج عبد من ذنب إلا بالاقرار) (3). وكان من دعاء الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المروي عن كميل بن زياد: (وقد أتيتك يا إلهي بعد تقصيري وإسرافي على نفسي، معتذرا نادما، منكسرا مستقيلا، مستغفرا منيبا، مقرا مذعنا معترفا، لا أجد مفرا مما كان مني، ولا مفزعا أتوجه إليه في أمري، غير قبولك عذري وإدخالك إياي في سعة من رحمتك، اللهم فاقبل عذري، وارحم شدة ضري، وفكني من شد وثاقي) (4).
(هامش)
(1) بحار الأنوار 94: 22 / 19. (2) وسائل الشيعة 7: 102 / 9. (3) الكافي 2: 351 / 3. (4) نهج السعادة: 154 - كتاب الدعاء. (*)
ص 34
10 - المسألة: وينبغي للداعي أن يذكر بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي وآله والإقرار بالذنب ما يريد من خير الدنيا والآخرة، وأن لا يستكثر مطلوبه، لأنه يطلب من رب السموات والأرض الذي لا يعجزه شيء، ولا تنفد خزائن رحمته التي وسعت كل شيء. وعليه أيضا أن لا يستصغر صغيرة لصغرها، لما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار) (1). وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع) (2). ويستحب للداعي إذا كان دعاؤه عبادة خالصة يتقرب بها إلى مولاه أن يسأل ما يبقى جماله من خير القضاء في الآجلة والعاجلة، وأن تعكس مسألته حالة الافتقار إلى الله تعالى التي يتساوى فيها جميع البشر. جاء في وصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الحسن (عليه السلام): (فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله، وينفى عنك وباله، فالمال لا يبقى لك ولا تبقى له) (3). وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (بكى أبو ذر من خشية الله حتى
(هامش)
(1) الكافي 2: 339 / 6. (2) بحار الأنوار 93: 295 و300. (3) نهج البلاغة: الكتاب (31). (*)
ص 35
اشتكى بصره، فقيل له: لو دعوت الله أن يشفي بصرك؟ فقال: إني عن ذلك لمشغول، وما هو من أكبر همي: قالوا: وما يشغلك عنه؟ قال: العظيمتان: الجنة والنار) (1). وجاء في الحديث القدسي: (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاسألوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيته، فاسألوني الغنى أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيته، فاسألوني المغفرة أغفر لكم) (2). ومن دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): (يا ذا الجلال والاكرام أسألك عملا تحب به من عمل به، ويقينا تنفع به من استيقن به حق اليقين في نفاذ أمرك. اللهم صل على محمد وآل محمد، واقبض على الصدق نفسي، واقطع من الدنيا حاجتي، واجعل فيما عندك رغبتي شوقا إلى لقائك، وهب لي صدق التوكل عليك) (3).
11 - معرفة الله وحسن الظن به سبحانه: قال العلامة الحلي (رضي الله عنه): من شروط حسن الدعاء علم الداعي كون ما يطلبه بدعائه مقدورا لمن يدعوه، وهذا يتضمن أن من دعا الله تعالى يجب أن يكون عارفا به وبصفاته (4). فعلى الداعي أن يوقن برحمة الله اللامتناهية، وبأنه سبحانه لا يمنع
(هامش)
(1) بحار الأنوار 22: 431 / 40. (2) بحار الأنوار 93: 293 / 20. (3) الصحيفة السجادية: الدعاء (54). (4) منهاج اليقين: 375. (*)
ص 36
أحدا من فيض نعمته، وأن باب رحمته لا يغلق أبدا. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (قال الله عز وجل: من سألني وهو يعلم أني أضر وأنفع استجبت له) (1). وقيل للإمام الصادق (عليه السلام): ما لنا ندعو فلا يستجاب لنا. قال: (لأنكم تدعون من لا تعرفونه) (2). وفي قوله تعالى: *(فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي)*(3) قال (عليه السلام): (يعلمون أني أقدر على أن أعطيهم ما يسألون) (4). وحسن الظن بالله هو من شعب معرفته سبحانه، فعلى الداعي أن يحسن الظن باستجابة دعائه، لو عده الصادق بقوله تعالى: *(ادعوني أستجب لكم)*(5)، وقوله: *(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)*(6) وأنه لا يخلف الميعاد. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة) (7). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا دعوت فأقبل بقلبك، وظن حاجتك
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 305. (2) شرح ابن أبي الحديد 11: 230. وبحار الأنوار 93: 368 / 4. (3) سورة البقرة: 2 / 186. (4) تفسير العياشي 1: 83 / 196. (5) سورة غافر: 40 / 60. (6) سورة النحل: 27 / 62. (7) بحار الأنوار 93: 305 و321. (*)
ص 37
بالباب) (1). ومن دعاء الإمام زين العبادين (عليه السلام): (اللهم قد أكدى الطلب وأعيت الحيل إلا عندك، وضاقت المذاهب وامتنعت المطالب وعسرت الرغائب وانقطعت الطرق إلا إليك، وتصرمت الآمال وانقطع الرجاء إلا منك، وخابت الثقة وأخلف الظن إلا بك، اللهم إني أجد سبل المطالب إليك منهجة، ومناهل الرجاء إليك مفتحة، وأعلم أنك لمن دعاك لموضع إجابة، وللصارخ إليك لمرصد إغاثة، وأن القاصد لك لقريب المسافة منك...) (2).
12 - العمل بما تقتضيه المعرفة: على الداعي أن يعمل بما تقتضيه المعرفة لخالقه، بأن يفي بعهد الله ويطيع أوامره، وهما من أهم الشروط في استجابة الدعاء. عن جميل، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال له رجل: جعلت فداك، إن الله يقول: *(ادعوني أستجب لكم)*(3) وإنا ندعو فلا يستجاب لنا! قال (عليه السلام): (لأنكم لا توفون بعهد الله، لو وفيتم لوفى الله لكم) (4). وعن أبي حمزة، قال: إن الله أوحى إلى داود (عليه السلام): (يا داود، إنه ليس عبد من عبادي يطيعني فيما آمره إلا أعطيته قبل أن يسألني، وأستجيب له
(هامش)
(1) الكافي 2: 344 / 3. (2) بحار الأنوار 95: 450 / 3. (3) سورة غافر: 40 / 60. (4) تفسير القمي 1: 46 في تفسير قوله تعالى: *(وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم)* البقرة: 2 / 40. (*)
ص 38
قبل أن يدعوني) (1).
13 - الاقبال على الله: من أهم آداب الدعاء هو أن يقبل الداعي على الله سبحانه بقلبه وعواطفه ووجوده، وأن لا يدعو بلسانه وقلبه مشغول بشؤون الدنيا، فهناك اختلاف كبير بين مجرد قراءة الدعاء وبين الدعاء الحقيقي الذي ينضم فيه القلب بانسجام تام مع اللسان، تهتز له الروح وتحصل فيه الحاجة في قلب الإنسان ومشاعره. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة) (2).
14 - الاضطرار إلى الله سبحانه: لا بد للداعي أن يتوجه إلى الله تعالى توجه المضطر الذي لا يرجو غيره، وأن يرجع في كل حوائجه إلى ربه، ولا ينزلها بغيره من الأسباب العادية التي لا تملك ضرا ولا نفعا *(قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا)*(3). فإذا لجأ الداعي إلى ربه بقلب سليم وكان دعاؤه حقيقيا صادقا جادا، وكان مدعوه ربه وحده لا شريك له، تحقق الانقطاع الصادق بالاضطرار الحقيقي إلى الله تعالى الذي هو شرط في قبول الدعاء *(أمن يجيب
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 376. (2) الكافي 2: 343 / 1. (3) سورة الإسراء: 17 / 56. (*)
ص 39
المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)*(1). يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام): (وألجئ نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز ومانع عزيز، واخلص في المسألة لربك، فإن بيده العطاء والحرمان) (2). قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه، فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا عند الله، فإذا علم الله عز وجل ذلك من قبله لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه) (3). وروي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى (عليه السلام): (ادعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيث: يا عيسى، سلني ولا تسأل غيري، فيحسن منك الدعاء ومني الإجابة) (4).
15 - تسمية الحوائج: إن الله تعالى محيط بعباده يعلم حالهم وحاجاتهم، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، ولكنه سبحانه يحب أن تبث إليه الحوائج وتسمى بين يديه تعالى، وذلك كي يقبل الداعي إلى ربه محتاجا إلى كرمه فقيرا إلى لطفه ومغفرته. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى يعلم ما يريد العبد إذا
(هامش)
(1) سورة النمل: 27 / 62. (2) نهج البلاغة: الكتاب (31). (3) الكافي 2: 119 / 2. (4) عدة الداعي: 134. (*)
ص 40
دعاه، لكنه يحب أن تبث إليه الحوائج، فإذا دعوت فسم حاجتك) (1).
16 - ترقيق القلب: ويستحب الدعاء عند استشعار رقة القلب وحالة الخشية التي تنتابه بذكر الموت والبرزخ ومنازل الآخرة وأهوال يوم المحشر، وذلك لأن رقة القلب سبب في الاخلاص المؤدي إلى القرب من رحمة الله وفضله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (اغتنموا الدعاء عند الرقة، فإنها رحمة) (2). وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (بالاخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع، فإلى الله المفزع) (3). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا رق أحدكم فليدع، فإن القلب لا يرق حتى يخلص) (4). وكلما رق قلب الداعي كلما كان مهيئا لاستقبال ذخائر الرحمة الإلهية وتحقق قصده في الاستجابة، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا اقشعر جلدك، ودمعت عينك، ووجل قلبك، فدونك دونك، فقد قصد قصدك) (5). أما القلب القاسي بكثرة الذنوب والمعاصي، والقلب اللاهي عن ذكر الله، المتعلق بعرض الدنيا وزخرفها، فكلاهما مطرودان عن رحاب الله تعالى ورحمته، ولا يستجاب لهما دعاء، لأنه ليس ثمة انسجام بين القلب
(هامش)
(1) الكافي 2: 345 / 1. (2) بحار الأنوار 93: 313. (3) الكافي 2: 340 / 2. (4) الكافي 2: 346 / 5. (5) الكافي 2: 346 / 8. (*)
ص 41
واللسان، جاء في وصية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام): (لا يقبل الله دعاء قلب ساه) (1). وعن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يقبل الله عز وجل دعاء قلب لاه) (2). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله عز وجل لا يستجيب دعاء بظهر قلب قاس) (3).
17 - البكاء والتباكي: خير الدعاء ما هيجه الوجد والأحزان، وانتهى بالعبد إلى البكاء من خشية الله، الذي هو سيد آداب الدعاء وذروتها، ذلك لأن الدمعة لسان المذنب الذي يفصح عن توبته وخشوعه وانقطاعه إلى بارئه، والدمعة سفير رقة القلب الذي يؤذن بالاخلاص والقرب من رحاب الله تعالى. قال الإمام الصادق (عليه السلام) لأبي بصير: (إن خفت أمرا يكون أو حاجة تريدها، فابدأ بالله ومجده واثني عليه كما هو أهله، وصل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسل حاجتك، وتباك ولو مثل رأس الذباب، إن أبي كان يقول: إن أقرب ما يكون العبد من الرب عز وجل وهو ساجد باك) (4). وفي البكاء من خشية الله من الخصوصيات والفضائل ما لا يوجد في غيره من أنصاف الطاعات، فهو رحمة مزجاة من الخالق العزيز لعباده تقربهم من منازل لطفه وكرمه، وتتجاوز بهم عقبات الآخرة وأهوالها.
(هامش)
(1) الفقيه 4: 265. (2) الكافي 2: 344 / 2. (3) الكافي 2: 344 / 4. (4) الكافي 2: 350 / 10. (*)
ص 42
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا أحب الله عبدا نصب في قلبه نائحة من الحزن، فإن الله لا يدخل النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع) (1). وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (بكاء العيون وخشية القلوب من رحمة الله تعالى ذكره، فإذا وجدتموها فاغتنموا الدعاء، ولو أن عبدا بكى في أمة لرحم الله تعالى ذكره تلك الأمة لبكاء ذلك العبد) (2). وإذا كان البكاء يفتح القلب على الله تعالى، فإن جمود العين يعبر عن قساوة القلب التي تطرد العبد من رحمة الله ولطفه وتؤدي إلى الشقاء. وكان فيما أوصى به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإمام علي (عليه السلام): (يا علي، أربع خصال من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وبعد الأمل، وحب البقاء) (3). واعلم أن البكاء إلى الله سبحانه فرقا من الذنوب وصف محبوب لكنه غير مجد مع عدم الاقلاع عنها والنوبة منها. قال سيد العابدين الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (وليس الخوف من بكى وجرت دموعه ما لم يكن له ورع يحجره عن معاصي الله، وإنما ذلك خوف كاذب) (4). وإذا تهيأت للدعاء ولم تساعدك العينان على البكاء، فاحمل نفسك على البكاء وتشبه بالباكين، متذكرا الذنوب العظام ومنازل مشهد اليوم
(هامش)
(1) عدة الداعي: 168. (2) بحار الأنوار 93: 336. (3) بحار الأنوار 93: 330 / 9. (4) عدة الداعي: 176. (*)
ص 43
العظيم، يوم تبلى السرائر، وتظهر فيه الضمائر، وتنكشف فيه العورات، عندها يحصل لك باعث الخشية وداعية البكاء الحقيقي والرقة وإخلاص القلب. وقد ورد في الحديث ما يدل على استحباب التباكي ولو بتذكر من مات من الأولاد والأقارب والأحبة، فعن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أدعو فاشتهي البكاء ولا يجيئني، وربما ذكرت بعض من مات من أهلي فأرق وأبكي، فهل يجوز ذلك؟ فقال (عليه السلام): (نعم، فتذكرهم، فإذا رققت فابك، وادع ربك تبارك وتعالى) (1).
18 - العموم في الدعاء: ومن آداب الدعاء أن لا يخص الداعي نفسه بالدعاء، بل يذكر إخوانه المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، وهو من أهم آداب الدعاء، لأنه يدل على التضامن ونشر المودة والمحبة بين المؤمنين، وإزالة أسباب الضغينة والاختلاف فيما بينهم، وذلك من منازل الرحمة الإلهية، ومن أقوى الأسباب في استجابة الدعاء، فضلا عن ثوابه الجزيل للداعي والمدعو له. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا دعا أحدكم فليعم، فإنه أوجب للدعاء) (2). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا قال الرجل: اللهم اغفر للمؤمنين
(هامش)
(1) الكافي 2: 350 / 7. (2) الكافي 2: 354 / 1. (*)
ص 44
والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم وجميع الأموات، رد الله عليه بعدد ما مضى ومن بقي من كل إنسان دعوة) (1). وقال (عليه السلام): (دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب يدر الرزق ويدفع المكروه) (2).
19 - التضرع ومد اليدين: ومن آداب الدعاء إظهار التضرع والخشوع، قال تعالى: *(واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة)*(3)، وقد ذم الله تعالى الذين لا يتضرعون إليه، قال تعالى: *(ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)*(4). عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: *(فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)* فقال (عليه السلام): (الاستكانة هي الخضوع، والتضرع هو رفع اليدين والتضرع بهما) (5). وعن الإمام الحسين (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرفع يديه إذ ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين) (6). وروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتضرع عند الدعاء حتى يكاد يسقط رداؤه (7).
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 391 / 24. (2) الكافي 2: 368 / 2. وأمالي الصدوق: 369 / 1. (3) سورة الأعراف: 7 / 205. (4) سورة المؤمنين: 23 / 76. (5) الكافي 2: 348 / 2، 349 / 6. (6) بحار الأنوار 93: 339 / 9. (7) بحار الأنوار 93: 339 / 10. (*)
ص 45
والتضرع من أسباب استجابة الدعاء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله يستحي من العبد أن يرفع إليه يديه فيردهما خائبتين) (1). والعلة في رفع اليدين هي إظهار الاستكانة والفاقة بين يديه تبارك وتعالى. وقد سأل أبو قرة الإمام الرضا (عليه السلام): ما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟ فقال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): (إن الله استعبد خلقه بضروب من العبادة.. واستعبد خلقه عند الدعاء والطلب والتضرع ببسط الأيدي ورفعهما إلى السماء لحال الاستكانة وعلامة العبودية والتذلل له) (2). ولليدين وظائف وهيئات في الدعاء تتغير حسب حال الداعي في الرغبة والرهبة والتضرع والتبتل والابتهال، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (الرغبة: تبسط يديك وتظهر باطنهما، والرهبة: بسط يديك وتظهر ظهرهما، والتضرع: تحرك السبابة اليمنى يمينا وشمالا، والتبتل: تحرك السبابة اليسرى ترفعها في السماء رسلا وتضعها، والابتهال: تبسط يديك وذراعيك إلى السماء، والابتهال حين ترى أسباب البكاء) (3). ويكره أن يرفع الداعي بصره إلى السماء، لما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: (مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على رجل وهو رافع بصره
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 365 / 11. (2) الاحتجاج: 407. (3) الكافي 2: 348 / 4. (*)
ص 46
إلى السماء يدعو، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): غض بصرك، فإنك لن تراه) (1).
20 - الأسرار بالدعاء: ويستحب أن يدعو الإنسان خفية ليبتعد عن مظاهر الرياء التي تمحق الأعمال وتجعلها هباء منثورا، قال تعالى: *(ادعوا ربكم تضرعا وخفية)*(2). قال الإمام الرضا (عليه السلام): (دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية). وفي رواية أخرى: (دعوة تخفيها أفضل عند الله من سبعين دعوة تظهرها) (3).
21 - التلبث بالدعاء: ومن آداب الدعاء أن لا يستعجل الداعي في الدعاء بل يدعو مترسلا، ذلك لأن العجلة تنافي حالة الاقبال والتوجه إلى الله تعالى، وما يلزم ذلك من التضرع والرقة، كما أن العجلة قد تؤدي إلى ارتباك في صورة الدعاء أو نسيان لبعض أجزائه. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن رجلا دخل المسجد فصلى ركعتين، ثم سأل الله عز وجل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عجل العبد ربه، وجاء آخر فصلى ركعتين ثم أثنى على الله عز وجل وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رسول
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 307 / 4. (2) سورة الأعراف: 7 / 55. (3) الكافي 2: 345 - 346 / 1. (*)
ص 47
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سل تعط) (1). وقال (عليه السلام): (إن العبد إذا عجل فقام لحاجته، يقول الله تبارك وتعالى: أما يعلم عبدي أني أنا الله الذي أقضي الحوائج) (2). وقال (عليه السلام): (إن العبد إذا دعا لم يزل الله تبارك وتعالى في حاجته ما لم يستعجل) (3).
22 - عدم القنوط: وعلى الداعي أن لا يقنط من رحمة الله، ولا يستبطئ الإجابة فيترك الدعاء، لأن ذلك من الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء، وهو بذلك أشبه بالزارع الذي بذر بذرا فجعل يتعاهده ويرعاه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله. عن أبي بصير، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (لا يزال المؤمن بخير ورجاء رحمة من الله عز وجل ما لم يستعجل فيقنط ويترك الدعاء. قلت: كيف يستعجل؟ قال (عليه السلام): يقول قد دعوت منذ كذا وكذا وما أرى الإجابة) (4). وعليه يجب على الداعي أن يفوض أمره إلى الله، واثقا بربه، راضيا بقضائه سبحانه، وأن يحمل تأخر الإجابة على المصلحة والخيرة التي
(هامش)
(1) الكافي 2: 352 / 6. (2) الكافي 2: 344 / 2. (3) الكافي 2: 344 / 1. (4) الكافي 2: 355 / 8. (*)
ص 48
حباها إياه مولاه، وأن يبسط يد الرجاء معاودا الدعاء لما فيه من الأجر الكريم والثواب الجزيل. جاء في وصية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام): (فلا يقنطك إبطاء إجابته، فإن العطية على قدر النية، وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته) (1).
23 - الالحاح بالدعاء: وعلى الداعي أن يواظب على الدعاء والمسألة في حال الإجابة وعدمها، لأن ترك الدعاء مع الإجابة من الجفاء الذي ذمه تعالى في محكم كتابه بقوله: *(وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل)*(2). وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لرجل يعظه: (لا تكن ممن... إن أصابه بلاء دعا مضطرا، وإن ناله رخاء أعرض مغترا) (3). أما في حال تأخر الإجابة فيجب معاودة الدعاء وملازمة المسألة، لفضيلة الدعاء في كونه مخ العبادة، ولأنه سلاح المؤمن الذي يقيه شر أعدائه من الشيطان وحب الدنيا وهوى النفس والنفس الأمارة، ولربما كان تأخير الإجابة لمصالح لا يعلمها إلا من يعلم السر وأخفى، فيكون
(هامش)
(1) نهج البلاغة، الكتاب (31). (2) سورة الزمر: 39 / 8. (3) نهج البلاغة، الحكمة (150). (*)
ص 49
الدعاء خيرا للعبد في الآجلة، أو يدفع عنه بلاء مقدرا لا يعلمه في العاجلة، ولعل تأخير الإجابة لمنزلته عند الله سبحانه، فهو يحب سماع صوته والاكثار من دعائه، فعليه أن لا يترك ما يحبه الله سبحانه. روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: (إن المؤمن يسأل الله عز وجل حاجة فيؤخر عنه تعجيل إجابته حبا لصوته واستماع نحيبه) (1). وعليه يجب الالحاح بالدعاء في جميع الأحوال، ولما في ذلك من الرحمة والمغفرة واستجابة الدعوات. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (رحم الله عبدا طلب من الله عز وجل حاجة فألح في الدعاء، استجيب له أو لم يستجب) (2). وعن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: (والله لا يلح عبد مؤمن على الله عز وجل في حاجته إلا قضاها له) (3). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن عز وجل كره إلحاح الناس بعضهم على بعض في المسألة، وأحب ذلك لنفسه، إن الله عز وجل يحب أن يسأل ويطلب ما عنده) (4).
24 - التقدم في الدعاء: ومن آداب الدعاء أن يدعو العبد في الرخاء على نحو دعائه في
(هامش)
(1) الكافي 2: 354 / 1. وقرب الإسناد: 171. (2) الكافي 2: 345 / 6. (3) الكافي 2: 345 / 3. (4) الكافي 2: 345 / 4. (*)
ص 50
الشدة، لما في ذلك من الثقة بالله والانقطاع إليه، ولفضله في دفع البلاء واستجابة الدعاء عند الشدة. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من سره أن يستجاب له في الشدة، فليكثر الدعاء في الرخاء) (1). وكان من دعاء الإمام السجاد (عليه السلام): (ولا تجعلني ممن يبطره الرخاء، ويصرعه البلاء، فلا يدعوك إلا عند حلول نازلة، ولا يذكرك إلا عند وقوع جائحة، فيضرع لك خده، وترفع بالمسألة إليك يده) (2).
25 - التختم بالعقيق والفيروزج: ويستحب في الدعاء لبس خاتم من عقيق أو من فيروزج، لقول الإمام الصادق (عليه السلام): (ما رفعت كف إلى الله عز وجل أحب إليه من كف فيها عقيق) (3). ولقوله (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز وجل: إني لأستحي من عبد يرفع يده وفيها خاتم فيروزج فأردها خائبة) (4).
26 - الآداب المتأخرة عن الدعاء: وهناك جملة آداب متأخرة عن الدعاء، أكدت عليها النصوص الإسلامية، وفيما يلي أهمها:
(هامش)
(1) الكافي 2: 343 / 4. (2) بحار الأنوار 94: 130. (3) عدة الداعي: 129. (4) بحار الأنوار 93: 321. (*)
51
أ - أن يقول الداعي ما شاء الله لا قوة إلا بالله: يستحب أن يقال بعد الدعاء: (ما شاء الله، لا قوة إلا بالله) وفي هذه الكلمة فضل عظيم لما تنطوي عليه من إقرار العبد بالمشيئة المطلقة وانقطاعه عن جميع الأسباب وتعلقه بحول الله وقوته. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا دعا الرجل فقال بعد ما دعا: ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله عز وجل: استبسل عبدي واستسلم لأمري، اقضوا حاجته) (1). وعنه (عليه السلام): (ما من رجل دعا فختم دعاءه بقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، إلا أجيب صاحبه) (2).
ب - الصلاة على النبي وآله: قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من كانت له إلى الله عز وجل حاجة فليبدأ بالصلاة على محمد وآله، ثم يسأل حاجته، ثم يختم بالصلاة على محمد وآل محمد، فإن الله عز وجل أكر من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط) (3).
ج - مسح الوجه والرأس باليدين: ومن الآداب المتأخرة عن الدعاء أن يمسح الداعي وجهه ورأسه بيديه. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ما أبرز عبد يده إلى الله العزيز الجبار إلا
(هامش)
(1) الكافي 2: 378 / 1. (2) أمالي الصدوق: 166 / 6. (3) الكافي 2: 358 / 16. (*)
ص 52
استحيا الله عز وجل أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضل رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح على وجهه ورأسه) (1). وفي دعائهم (عليهم السلام): (ولم ترجع يد طالبة صفرا من عطائك، ولا خائبة من نحل هباتك) (2).
د - ويستحب أن يقول الداعي في حال استجابة دعائه: الحمد الذي بعزته تتم الصالحات (3)، وأن يصلي صلاة الشكر (4)، وإذا أبطأت عليه الإجابة فليقل: الحمد لله على كل حال، وأن لا يسأم من الدعاء (5).
(هامش)
(1) الكافي 2: 342 / 2. والفقيه 1: 213 / 953. (2) عدة الداعي: 210. (3) بحار الأنوار 93: 370 / 9. (4) بحار الأنوار 95: 451، وفيه تفصيل لصلاة الشكر وما يقال فيها من ثناء ودعاء. (5) بحار الأنوار 93: 370 / 9. (*)
ص 53
الفصل الثالث:
استجابة الدعاء
ليس ثمة لذة أعظم من لذة المؤمن وسعادته حينما يرى آثار عمله وإيمانه المترتبة في استجابة دعائه، ذلك لأنه يحس بأنه موضع لطف بارئه تعالى وعنايته، وأنه في ارتباط مباشر مع خالقه، تلك سعادة ليس فوقها سعادة: (وأنلني حسن النظر في ما شكوت، وأذقني حلاوة الصنع في ما سألت) (1). ولكي نعيش لحظات تلك البهجة ونذوق حلاوة السرور، علينا أن نتعرف على العوامل المؤثرة في استجابة الدعاء، فقد يظن البعض أن السر في استجابة الدعاء يكمن في لفظ الدعاء مجردا عن باقي العوامل الأخرى، فكثيرا ما نجد بعض الناس يتناقلن قطعا من الدعاء المأثور التي هي مظنة الإجابة أو نص على أنها تحتوي على اسم الله الأعظم، لكنهم يدعون بها فلا يستجاب لهم، ذلك لأنهم يأخذون لفظ الدعاء مجردا عن الشروط والآداب التي يجب أن تقارن الداعي فيستجاب دعاؤه. الدعاء سلاح المؤمن وجنته الواقية وسهام الليل التي يسددها كيفما
(هامش)
(1) بحار الأنوار 95: 230 / 27 من دعاء الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام). (*)
ص 54
يشاء، والسلاح بضاربه لا بحده وحسب، فإذا كان الفارس قويا شجاعا ويمتلك الجرأة والإقدام وكان سلاحه تاما لا عيب فيه، استطاع النكاية في العدو، وإلا فقد تخلف الأثر، وكذلك يحصل الأثر من الدعاء، فإذا راعي الداعي الآداب والشروط التي نصت عليها الآيات القرآنية والسنة المباركة، والتزم بالعوامل المؤثرة في استجابة الدعاء، وانقطع إلى ربه تعالى متخليا عن جميع الأسباب الأخرى، غير معول في تحصيل المطلوب على غير الله تعالى، ثم دعا الله تعالى بلسان يقرأ ما في صحيفة القلب، فإن دعاءه مستجاب بإذن الله. العوامل المؤثرة في استجابة الدعاء: فيما يلي نذكر أهم العوامل ذات الصلة في تحصيل أثر الدعاء:
1 - مراعاة الشروط والآداب الخاصة بالدعاء: وقد ذكرناها في الفصل الثاني، ونذكر هنا حديثا مهما عن الإمام الصادق (عليه السلام) يفيد التذكير بها. عن عثمان بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: آيتان في كتاب الله لا أدري ما تأويلهما؟ فقال: (وما هما؟ قال: قلت: قوله تعالى: *(ادعوني أستجب لكم)*(1) ثم أدعو فلا أرى الإجابة! قال: فقال لي: أفترى الله تعالى أخلف وعده؟ قال: قلت: لا.
(هامش)
(1) سورة غافر: 40 / 60. (*)
ص 55
قال: فمه؟ قلت: لا أدري... فقال: لكني أخبرك إن شاء الله تعالى، أما إنكم لو أطعتموه فيما أمركم به ثم دعوتموه لأجابكم، ولكن تخالفونه وتعصونه فلا يجيبكم، ولو دعوتموه من جهة الدعاء لأجابكم. قال: قلت: وما جهة الدعاء؟ قال: إذا أديت الفريضة مجدت الله وعظمته وتمدحه بكل ما تقدر عليه، وتصلي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتجتهد في الصلاة عليه وتشهد له بتبليغ الرسالة، وتصلي على أئمة الهدي (عليهم السلام)، ثم تذكر بعد التحميد لله والثانية عليه والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أبلاك وأولاك، وتذكر نعمه عندك وعليك، وما صنع بك فتحمده وتشكره على ذلك، ثم تعترف بذنوبك ذنب ذنب وتقر بها أو بما ذكرت منها، وتجمل ما خفي عليك منها، فتتوب إلى الله من جميع معاصيك وأنت تنوي ألا تعود، وتستغفر الله منها بندامة وصدق نية وخوف ورجاء، ويكون من قولك: اللهم إني اعتذر إليك من ذنوبي، واستغفرك وأتوب إليك، فأعني على طاعتك، ووفقني لما أوجبت علي من كل ما يرضيك، فإني لم أر أحدا بلغ شيئا من طاعتك إلا بنعمتك عليه قبل طاعتك، فأنعم علي بنعمة أنال بها رضوانك والجنة ثم تسأل بعد ذلك حاجتك، فإني أرجو أن لا يخيبك إن شاء الله تعالى...) (1).
2 - فقدان موانع الإجابة: ومن الشروط المهمة التي يجب أن يراعيها الداعي، هو إزالة الحجب
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 320. (*)
ص 56
والموانع التي تحول دون صعود الدعاء، كاقتراف المعاصي وأكل الحرام والظلم وعقوق الوالدين وغيرها من الذنوب التي تحبس الدعاء، ولا يتهيأ للداعي معها الاقبال على ربه، والاقبال هو الشرط الأساس في استجابة الدعاء، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (خير الدعاء ما صدر عن صدر نقي وقلب تقي) (1). وفيما يلي أهم الموانع التي تحبس الدعاء:
أ - اقتراف الذنوب والمعاصي: قال الإمام أبو جعفر (عليه السلام): (إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب، أو إلى وقت بطئ، فيذنب العبد ذنبا فيقول الله تبارك تعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي، واستوجب الحرمان مني) (2). ومن دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام): (اللهم إني أعوذ بك من ذنب يحبط العمل، وأعوذ بك من ذنب يعجل النقم، وأعوذ بك من ذنب يمنع الدعاء) (3). وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (والذنوب التي ترد الدعاء: سوء النية، وخبث السريرة، والنفاق، وترك التصدق بالإجابة، وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها، وترك التقرب إلى الله عز وجل بالبر
(هامش)
(1) الكافي 2: 340 / 2. (2) الكافي 2: 208 / 14. (3) بحار الأنوار 94: 93 / 9. (*)
ص 57
والصدقة، واستعمال البذاء والفحش في القول) (1).
ب - أكل الحرام: ورد في الحديث القدسي: (فمنك الدعاء وعلي الإجابة، فلا تحجب عني دعوة إلا دعوة آكل الحرام) (2). وروي أنه قال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله أحب أن يستجاب دعائي، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (طهر مأكلك، ولا تدخل بطنك الحرام) (3). وعن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام): (من سره أن تستجاب له دعوته، فليطب مكسبه) (4).
ج - عقوق الوالدين وقطيعة الرحم: قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (والذنوب التي ترد الدعاء وتظلم الهواء عقوق الوالدين) (5). وعن الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: (لا تمل من الدعاء، فإنه من الله عز وجل بمكان، وعليك بالصبر وطلب الحلال وصلة الرحم) (6).
(هامش)
(1) معاني الأخبار: 271. (2) بحار الأنوار 93: 373. (3) عدة الداعي: 139. (4) الكافي 2: 353 / 9. (5) معاني الأخبار: 270. (6) الكافي 2: 354 / 1. وقرب الإسناد: 171. (*)
ص 58
3 - ترصد الأزمنة الخاصة: لا بد للداعي أن يراعي اختيار الأوقات التي هي مظنة الإجابة، فمن تأمل النصوص الإسلامية يلاحظ أن الأوقات ليست كلها سواء، فمنها ما تفتح فيها أبواب السماء ولا يحجب فيها الدعاء ومنها ما تستنزل فيها الرحمة أكثر من غيرها، وفيما يلي أهم الأوقات التي ترجى فيها الإجابة:
أ - جوف الليل: جعل الله تعالى لساعات النصف الثاني من الليل من البركة والرحمة ما لم يجعله في الساعات الأخرى من الليل والنهار، ففي هذا الوقت يستولي النوم على غالب الناس، فيتمكن أولياء الله تعالى من الاقبال عليه بالدعاء والذكر والانقطاع إليه بعيدا عن زحمة الحياة ومشاغلها، فهذا الوقت إذن هو وقت الخلوة وفراغ القلب للعبادة والدعاء، وهو يشتمل على مجاهدة النفس ومهاجرة الرقاد ومباعدة وثير المهاد والانقطاع إلى الواحد الأحد. عن نوف البكالي - في حديث - قال: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة وقد خرج من فراشه وقال لي: (يا نوف، إن داود (عليه السلام) قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له) (1). وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: (كان فيما ناجى به موسى بن عمران (عليه السلام) أن قال له: يا بن عمران، كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام عني، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه؟ ها أنا يا بن عمران مطلع على أحبائي
(هامش)
(1) نهج البلاغة، الحكمة (104). (*)
ص 59
إذا جنهم الليل حولت أبصارهم في قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور. يا بن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع، وادعني في ظلم الليل، فإنك تجدني قريبا مجيبا) (1). وعن عبدة السابوري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يروون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (إن في الليل لساعة لا يدعو فيها عبد مؤمن بدعوة إلا استجيب له؟ قال: نعم. قلت: متى هي؟ قال: ما بين نصف الليل إلى الثلث الباقي. قلت: ليلة من الليالي أو كل ليلة؟ فقال: كل ليلة) (2). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من قام من آخر الليل فتطهر وصلى ركعتين وحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه، إما أن يعطيه الذي يسأله بعينه، وإما أن يدخر له ما هو خير له منه) (3).
ب - زوال الشمس: عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند زوال الشمس، فإذا أراد ذلك قدم شيئا فتصدق به، وشم شيئا من طيب
(هامش)
(1) أمالي الصدوق: 292 / 1. (2) التهذيب 2: 118 / 444. وأمالي الطوسي 1: 148. (3) الكافي 3: 468 / 5. (*)
ص 60
وراح إلى المسجد، ودعا في حاجته بما شاء الله) (1). وعنه (عليه السلام) قال: (إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء، وأبواب الجنان، وقضيت الحوائج العظام، فقيل له (عليه السلام): من أي وقت؟ قال (عليه السلام): مقدار ما يصلي الرجل أربع ركعات مترسلا) (2).
ج - الوتر والسحر وما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس: روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (خير وقت دعوتم الله عز وجل فيه الأسحار، وتلا هذه الآية في قول يعقوب (عليه السلام): *(سوف أستغفر لكم ربي)*(3) قال: أخرهم إلى السحر) (4). وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): ى أجيبوا داعي الله، واطلبوا الرزق فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإنه أسرع في طلب الرزق من الضرب في الأرض، وهي الساعة التي يقسم فيها الرزق بين عباده... توكلوا على الله عند ركعتي الفجر إذا صليتموها، ففيها تعطوا الرغائب) (5). وقال الإمام أبو جعفر (عليه السلام): (إن الله عز وجل يحب من عباده المؤمنين كل دعاء، فعليكم بالدعاء في السحر إلى طلوع الشمس، فإنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وتقسم فيها الأرزاق، وتقضى فيها الحوائج العظام) (6).
(هامش)
(1) الكافي 2: 347 / 7. (2) عدة الداعي: 54. (3) سورة يوسف: 12 / 98. (4) الكافي 2: 346 / 6. (5) الخصال: 615. (6) الكافي 6: 347 / 9. (*)
ص 61
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (يستجاب الدعاء في أربعة مواطن: في الوتر، وبعد الفجر، وبعد الظهر، وبعد المغرب) (1).
د - قبل طلوع الشمس وقبل الغروب: عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: *(وظلالهم بالغدو والآصال)*(2)، قال: (هو الدعاء قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وهي ساعة إجابة (3)). وعن فضيل بن عثمان، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قلت له: أوصني. قال: (أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث... وإذا كان قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فعليك بالدعاء واجتهد، ولا يمنعك من شيء تطلبه من ربك، ولا تقل: هذا ما لا أعطاه، وادع فإن الله يفعل ما يشاء) (4).
ه - بعد الصلوات المكتوبة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أذى لله مكتوبة، فله في أثرها دعوة مستجابة) (5). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى فرض الصلوات في أفضل الساعات، فعليكم بالدعاء في أدبار الصلوات) (6).
(هامش)
(1) الكافي 3: 343 / 17. والتهذيب 2: 114 / 196. (2) سورة الرعد: 13 / 15. (3) الكافي 2: 379 / 1. (4) الزهد: 19 / 42. (5) أمالي الصدوق 1: 295. (6) تفسير القمي 1: 67. (*)
ص 62
وقال (عليه السلام): (عليكم بالدعاء في أدبار الصلوات فإنه مستجاب) (1). و- ليلة الجمعة ويومها: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن يوم الجمعة سيد الأيام، يضاعف الله عز وجل فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، ويرفع فيه الدرجات، ويستجيب فيه الدعوات) (2). وقال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (أول وقت الجمعة ساعة تزول الشمس إلى أن تمضي ساعة يحافظ عليها، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يسأل الله تعالى فيها عبد خيرا إلا أعطاه) (3). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة ما بين فراغ الإمام من الخطبة إلى أن تستوي الناس بالصفوف، وساعة أخرى من آخر النهار إلى غروب الشمس) (4).
ز - ليالي الإحياء: وتتضمن الدعوات والأوراد الخاصة في ليلة القدر، وهي غير محددة بين ليالي شهر رمضان، والأرجح أنها في ليالي الإفراد الثلاث: 19، 21، 23، وتأكدت في ليلة الجهني، وهي ليلة 23 من شهر رمضان (5). وتعتبر هذه الليلة المباركة من أكثر الليالي أهمية في استجابة الدعاء
(هامش)
(1) الخصال: 488 / 65. (2) بحار الأنوار 89: 274 / 20. (3) عدة الداعي: 47. (4) الكافي 3: 414 / 4. والتهذيب 3: 235 / 1. (5) عدة الداعي: 53. وبحار الأنوار 93: 353. (*)
ص 63
ونزول الرحمة والملائكة *(ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها)*(1) فعلى المؤمن أن يتحرى هذه الليلة ويحييها بالصلاة والدعاء، وكان الأئمة من عترة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) يهتمون بالقيام فيها وإحيائها بالعبادة والدعاء والاستغفار. ومن الليالي الأخرى التي تستحق الإحياء والعبادة والدعاء، وروي أنه تؤمل فيها الاستجابة: ليلة الفطر، وليلة الأضحى، وليلة النصف من شعبان، وأول ليلة من رجب، فقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنه قال: (كان علي (عليه السلام) يقول: يعجبني أن يفرغ الرجل نفسه في السنة أربع ليال...) (2) وعد الليالي المتقدمة. ومن الليالي التي يستجاب فيها الدعاء، ليلة العاشر من ذي القعدة، لما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (في ذي القعدة ليلة مباركة هي ليلة عشر، ينظر الله إلى عباده المؤمنين فيها بالرحمة) (3). ومن الليالي التي تؤمل فيها الإجابة ليلة مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويومه، وليلة مبعثه الشريف ويومه، ويوم عرفة وليلة عرفة، وخاصة إذا كان بالموقف أو عند مشهد الإمام الحسين (عليه السلام) وليلة عيد الغدير ويومه، وليلة النصف من رجب (4).
ح - وهناك مواقيت روي أنها تفتح فيها أبواب السماء، وتهبط فيها
(هامش)
(1) سورة القدر: 97 / 3 - 4. (2) وسائل الشيعة 8: 109 / 9. (3) بحار الأنوار 93: 349. (4) بحار الأنوار 93: 351. (*)
ص 64
الرحمة، ولا يحجب فيها الدعاء، وهي ساعة قراءة القرآن، وأوقات الأذان، وساعة نزول المطر، وساعة التقاء الصفين، ومصرع الشهداء، وساعة دعوة المظلوم، وعند ظهور أية معجزة لله في أرضه، وعند هبوب الريح. روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (اغتنموا الدعاء عند خمسة مواطن: عند قراءة القرآن، وعند الأذان، وعند نزول الغيث، وعند التقاء الصفين للشهادة، وعند دعوة المظلوم، فإنها ليس لها حجاب دون العرش) (1). وعنه (عليه السلام) أنه قال: (تفتح أبواب السماء عند نزول الغيث، وعند الزحف، وعند الأذان، وعند قراءة القرآن، ومع زوال الشمس، وعند طلوع الفجر) (2). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (اطلبوا الدعاء في أربع ساعات: عند هبوب الرياح، وزوال الأفياء، ونزول القطر، وأول قطرة من دم القتيل المؤمن، فإن أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء) (3).
4 - اختيار الأمكنة الخاصة: إن لله تعالى بقاعا أحب أن يعبد فيها وندب إلى أداء الأعمال الصالحة فيها، ومن هنا اكتسبت أهمية وفضلا على سواها، ومن ذلك الفضل استجابة الدعاء في أروقتها، ومن بين هذه البقاع أيضا ما عمد الأئمة
(هامش)
(1) أمالي الصدوق: 97 / 7، 218 / 3. (2) الخصال: 302 / 79. (3) الكافي 2: 346 / 1. (*)
ص 65
الهداة (عليهم السلام) إلى الدعاء فيها أو حثوا أصحابهم على زيارتها والدعاء فيها، وهي بقاع الحج والزيارة المعروفة لدى جميع المسلمين.
أ - مكة المكرمة: وهي البقعة التي اختارها الله تعالى من بين بقاع الأرض لتكون محلا لبيته الحرام ومكانا لعبادته ونيل رحمته، وفيها الكعبة المكرمة قبلة المسلمين وملجأ الهاربين، بها يأمن الخائف، وفيها تنزل الرحمة، وعندها يستجاب الدعاء. روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: (ما وقف أحد بتلك الجبال إلا استجيب له، فأما المؤمنون فيستجاب لهم في آخرتهم، وأما الكفار فيستجاب لهم في دنياهم) (1). وترجى إجابة الدعاء في عدة مواضع خلال مناسك الحج، منها: عند الميزاب، وعند المقام، وعند الحجر الأسود، وبين المقام والباب، وفي جوف الكعبة، وعند بئر زمزم، وعلى الصفا والمروة، وعند الجمرات الثلاث، وفي المزدلفة، وفي عرفة، وعند المشعر الحرام (2). قال الله تعالى: *(فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام)*(3). وروي (أن من الذنوب ما لا يغفر إلا بعرفة والمشعر الحرام) (4).
(هامش)
(1) عدة الداعي: 56. (2) بحار الأنوار 93: 349 و353. (3) سورة البقرة: 2 / 198. (4) عدة الداعي: 55. (*)
ص 66
ومنها: المستجار، والملتزم، والركن اليماني. قال الإمام علي بن الحسين (عليه السلام): (لما هبط آدم (عليه السلام) إلى الأرض طاف بالبيت، فلما كان عند المستجار، دنا من البيت فرفع يديه إلى السماء، فقال: يا رب اغفر لي، فنودي: أني قد غفرت لك، قال: يا رب، ولولدي، فنودي: يا آدم، من جاءني من ولدك فباء بذنبه بهذا المكان غفرت له (1)). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الله عز وجل وكل بالركن اليماني ملكا هجيرا يؤمن على دعائكم) (2). وقال عمار بن معاوية: إن الصادق (عليه السلام) كان إذا انتهى إلى الملتزم قال لمواليه: (أميطوا عني حتى أقر لربي بذنوبي في هذا المكان، فإن هذا مكان لم يقر عبد لربه بذنوبه، ثم استغفر الله إلا غفر الله له) (3).
ب - المساجد: المساجد عموما بيوت الله في الأرض، فمن أتاها عارفا بحقها، فإن الله تعالى أكرم من أن يخيب زائره وقاصده. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (عليكم بإتيان المساجد، فإنها بيوت الله في الأرض... فأكثروا فيها الصلاة والدعاء) (4). وأشرف المساجد مسجد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنورة
(هامش)
(1) تفسير العياشي 2: 241 / 12. (2) الكافي 4: 408 / 11. (3) الكافي 4: 410 / 4. (4) بحار الأنوار 83: 384 / 59. (*)
ص 67
الذي لا يضاهيه بالفضل والكرامة إلا المسجد الحرام. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فائت المنبر وسل حاجتك، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة، ومنبري على بركة من ترع الجنة..) (1). ومن المساجد التي ترجى فيها إجابة الدعاء، مسجد الكوفة الكبير، فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: (ما دعى فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج إلا أجابه الله، وفرج عنه كربته) (2). ومنها مسجد السهلة بالكوفة، ومما ورد في فضل التعبد فيه والدعاء ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (ما أتاه مكروب قط فصلى فيه ما بين العشاءين ودعا الله إلا فرج الله عنه) (3). وعنه (عليه السلام): (ما صلى فيه أحد فدعا الله بنية صادقة إلا صرفه الله بقضاء حاجته) (4).
ج - مشاهد الأئمة (عليهم السلام): مشاهد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الموزعة بين بقيع المدينة المنورة ونجف العراق وكربلاء وسامراء ومشهد الإمام الرضا في طوس، من البقاع المقدسة التي ندب الأئمة من عترة المصطفى (عليهم السلام) إلى زيارتها والصلاة فيها قربة إلى الله وأكدوا على استجابة الدعاء فيها، والحديث عن فضلها
(هامش)
(1) الكافي 4: 353. (2) بحار الأنوار 100: 404 / 59. (3) بحار الأنوار 100: 435 / 2. (4) بحار الأنوار 100: 436 / 7. (*)
ص 68
وشرفها جميعا مما تطول به صفحات هذه الرسالة، لذا نقتصر في بيان فضل تربة الإمام الحسين الشهيد (عليه السلام) في كربلاء، الذي ضحى بنفسه وعياله وأهل بيته وأصحابه من أجل الاصلاح في أمة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وإقامة مبادئ الدين القويم على أساس الكتاب الكريم وسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). قال الإمام أبو جعفر (عليه السلام): (إن الحسين صاحب كربلاء قتل مظلوما مكروبا عطشانا لهفان، فآلى الله على نفسه أن لا يأتيه لهفان ولا مكروب ولا مذنب ولا مغموم ولا عطشان ولا من به عاهة، ثم دعا عنده، وتقرب بالحسين بن علي (عليه السلام) إلى الله عز وجل إلا نفس كربته، وأعطاه مسألته، وغفر ذنبه، ومد في عمره، وبسط في رزقه) (1). وعن شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من أتى قبر الحسين (عليه السلام)، ما له من الثواب والأجر؟ قال (عليه السلام): (يا شعيب، ما صلى عنده أحد الصلاة إلا قبلها الله منه، ولا دعا عنده أحد دعوة إلا استجيب له عاجله وآجله) (2). وقال الإمام الهادي (عليه السلام): (إن لله تعالى مواضع يحب أن يدعى فيها، وحائر الحسين (عليه السلام) منها) (3). أما المشاهد الأخرى لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) فإن واقع الحال ينبئ عن استجابة الدعاء فيها، فضلا عن الروايات والأخبار الكثيرة الواردة في
(هامش)
(1) بحار الأنوار 101: 46 / 5. (2) بحار الأنوار 101: 83 / 9. (3) كامل الزيارات: 273، الباب (90). (*)
ص 69
فضل زيارتهم (عليهم السلام) والتوسل بهم من طرق الفريقين. روى الخطيب البغدادي في تاريخه بالإسناد عن أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، قال: سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول: ما همني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحب (1). وقال ابن حبان في ترجمة الإمام الرضا (عليه السلام): ما حلت بي شدة في وقت مقامي بطوس، فزرت قبر علي بن موسى الرضا (صلوات الله على جده وعليه) ودعوت الله بإزالتها عني إلا استجيب لي، وزالت عني تلك الشدة، وهذا شيء جربته مرارا، فوجدته كذلك، أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته صلى الله عليه وعليهم أجمعين (2).
5 - اختيار الأدعية التي هي مظنة الإجابة: من المسائل المهمة التي تواجه الداعي، هي مسألة اختيار الدعاء المناسب للحال التي يريدها، والظاهر من النصوص الواردة في هذا الشأن أنه يجوز للإنسان أن يدعو بما جرى على لسانه، فهو الذي يفصح عن حاله، وعما تكنه بواطن نفسه ويعبر عن حاجاته. روي عن زيارة أنه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) علمني دعاء، فقال (عليه السلام): (إن أفضل الدعاء ما جرى على لسانك) (3). على أن الدعاء الذي يجري على اللسان قد يكون عرضة للوهم
(هامش)
(1) تاريخ بغداد 1: 120. (2) الثقات 8: 456. (3) الكافي 1: 83 / 3. والتوحيد: 134 / 2. (*)
ص 70
والخطأ الذي لا يشعر به الإنسان حال اشتغاله بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه والخشوع والانقطاع، فلا يستحضر معانيه ودلالاته أو مدى موافقته لقوانين البلاغة واللغة والإعراب. روي عن الكاهلي أنه قال: كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) في دعاء: (الحمد لله منتهى علمه)، فكتب إلي: (لا تقولن منتهى علمه، ولكن قل منتهى رضاه) (1). وعن أبي علي القصاب، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت (الحمد لله منتهى علمه)، فقال: (لا تقل ذلك، فإنه ليس لعلمه منتهى) (2). وعن الإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام)، قال: سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) رجلا يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فقال (عليه السلام): (أراك تتعوذ من مالك وولدك، يقول الله عز وجل: *(إنما أموالكم وأولادكم فتنة)*(3) ولكن قل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن) (4). علاوة على ما تقدم فإن الإنسان قد يجهل ما ينفعه وما يضره، فيدعو بخلاف مصلحته وبما يعود عليه بالشر والخسران، ويستعجل في هذا الدعاء، وهو لا يشعر بعواقبه وما يؤول إليه، قال تعالى: *(ويدع الإنسان
(هامش)
(1) الكافي 1: 83 / 3. والتوحيد 134 / 2. (2) التوحيد: 134. (3) سورة الأنفال: 8 / 28. (4) أمالي الصدوق 2: 193. (*)
ص 71
بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا)*(1). والله تعالى لا يفعل خلاف مقتضى الحكمة والمصلحة، فلا يستجيب مثل هذا الدعاء، أو يؤخره حتى تكون فيه المصلحة والحكمة. مراعاة قواعد اللغة والإعراب: إن إعراب ألفاظ الدعاء ومجاراتها لقواعد اللغة والبلاغة ليست شرطا مهما في استجابة الدعاء والإثابة عليه، بل هي شرط في تمامية فضله وكمال منزلته وعلو مرتبته، إذ كثيرا ما نشاهد أن من أهل الصلاح والورع ممن يرجى إجابة دعائهم لا يعرفون شيئا من قواعد اللغة والإعراب، وعلى العكس من ذلك قد نرى من أهل اللغة والفصاحة والبلاغة من لا يستجاب دعاؤهم ولا تعرف قلوبهم نور الإيمان. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (تجد الرجل لا يخطئ بلام ولا واو، خطيبا مصقعا، ولقلبه أشد ظلمة من الليل المظلم) (2). فميزان التفاضل في قبول الطاعات ومنها الدعاء، هو إخلاص السريرة، وصفاء القلب، وإشراقه بنور الإيمان. وقد روي عن الإمام الجواد (عليه السلام) أنه قال: (إن الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عز وجل) (3) أي لا يصعد ملحونا، لأن اللحن المزري قد يحط من قيمة الدعاء بل ويغير معناه، لكن الله تعالى لا يجازي عليه جريا على
(هامش)
(1) سورة الإسراء: 17 / 11. (2) الكافي 2: 308 / 1. (3) عدة الداعي: 23. (*)
ص 72
لحنه المغير للمعنى، بل يجازي على قدر قصد الإنسان من دعائه ومواده ونيته. ويؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الرجل الأعجمي من أمتي ليقرأ القرآن بعجمته، فترفعه الملائكة على عربيته) (1). بقي أن نقول: إن الداعي إذا اختار الدعاء بالمأثور لا بد له أن يراعي الالتزام بلفظ الدعاء وبقواعد اللغة والإعراب بالشكل الذي يليق بشأن صاحب الدعاء. الدعاء بالمأثور: حصيلة ما تقدم أن الدعاء بالمأثور يجنب الإنسان من الوقوع باللحن، فهو أولى من غيره، وأفصح مما يؤلفه الإنسان، فقد روي عن عبد الرحيم القصير، أنه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقلت: جعلت فداك، إني اخترعت دعاء. فقال (عليه السلام): (دعني من اختراعك...) (2) وعلمه دعاء، ذلك لأن الدعاء بالمأثور يجنب الداعي الوقوع باللحن والخطأ، خصوصا إذا كان من أدعية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته المعصومين (عليهم السلام) معدن النبوة وأعلام الهدى وأهل البلاغة والفصاحة، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وإنا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه) (3). ويفضل اختيار الأدعية التي هي مظنة الإجابة، أو التي خصت بالفضل
(هامش)
(1) الكافي 2: 453 / 1. (2) الكافي 3: 476 / 1. (3) نهج البلاغة، الخطبة (233). (*)
ص 73
الكبير في قضاء الحاجات وغفران الذنوب، وهي كثيرة في تراث أهل البيت (عليهم السلام) (1). قال طاووس: إني لفي الحجر ليلة، إذ دخل علي بن الحسين (عليه السلام)، فقلت: رجل صالح من أهل بيت صالح، لأسمعن دعاءه، فسمعته يقول في أثناء دعائه: (عبدك بفنائك، سائلك بفنائك، مسكينك بفنائك) فما دعوت بهن في كرب إلا وفرج عني (2). ويفضل أيضا اختيار الأدعية التي تشتمل على اسم الله الأعظم لما فيها من الكرامة والقربى واستجابة الدعاء (3). وعلى الداعي أن يلتزم بلفظ الدعاء الوارد عن المعصوم دون تحريف أو زيادة أو نقصان، فقد روي عن إسماعيل بن الفضيل أنه قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تعالى: *(وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)*(4). فقال (عليه السلام): (فريضة على كل مسلم أن يقول قبل طلوع الشمس عشر مرات وقبل غروبها عشر مرات: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهي حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل
(هامش)
(1) راجع بحار الأنوار 86: 186 / 48 و225 / 45 و323 / 69 و330 / 71، 89: 323 / 30، 90: 44 / 9، 91: 275 / 24، 95: 190 / 19 و193 / 24 و391 / 31 و398 و445. (2) شرح ابن أبي الحديد 6: 192. (3) راجع بحار الأنوار 93: 223 - 232. (4) سورة طه: 20 / 130. (*)
ص 74
شيء قدير). قال: فقلت: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي.. فقال (عليه السلام): (يا هذا، لا شك في أن الله يحيي ويميت، ويميت ويحيي، ولكن قل كما أقول) (1). وعلى الداعي أن يختار من الأدعية المأثورة ما يناسب حاله وحاجته، فبعض الأدعية تناسب حالة الخوف، وبعضها حالة الرجاء، وبعضها للبلاء، وبعضها للرخاء، إلى غير ذلك من الأحوال المختلفة التي ترد على الإنسان، فعليه أن يقرأ في كل حالة ما يناسبها من الأدعية المأثورة مترسلا وكأنها من إنشائه، ويدعو بلسان الذلة والخشوع لا بلسان التشدق والاستعلاء مع التدبر في معانيها والتضرع فيها. 6 - اجتماع المؤمنين للدعاء: ومن الأسباب المؤدية لاستجابة الدعاء اجتماع المؤمنين بين يدي ربهم في دعائهم وتضرعهم إليه، فما اجتمع المؤمنون في موطن لله فيه رضا إلا لبى نداءهم، وأنزل رحمته عليهم، وشملهم بمغفرته ورضوانه. روي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى (عليه السلام): (يا عيسى، تقرب إلى المؤمنين، ومرهم أن يدعوني معك) (2). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (ما من رهط أربعين رجلا اجتمعوا فدعوا الله عز وجل في أمر إلا استجاب الله لهم، فإن لم يكونوا أربعين فأربعة يدعون
(هامش)
(1) الخصال: 452 / 58. (2) وسائل الشيعة 7: 104 / 3. (*)
ص 75
الله عز وجل عشر مرات إلا استجاب الله لهم، فإن لم يكونوا أربعة فواحد يدعو الله أربعين مرة، فيستجيب الله العزيز الجبار له) (1). وقال (عليه السلام): (ما اجتمع أربعة رهط قط على أمر واحد، فدعو الله عز وجل، إلا تفرقوا عن إجابة) (2).
7 - التأمين على الدعاء: وهو من الأسباب المؤدية لاستجابة الدعاء، وفيه فضل كبير وثواب جزيل للمؤمن والداعي على السواء، ويستحب أن يكون في حال اجتماع المؤمنين للدعاء. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعا موسى، وأمن هارون، وأمنت الملائكة، فقال الله تبارك وتعالى: *(قد أجيبت دعوتكما)*) (3). وقال (عليه السلام): (الداعي والمؤمن في الأجر شريكان) (4). وروي أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان إذا حزبه أمر (5) جمع النساء والصبيان، ثم دعا فأمنوا (6).
(هامش)
(1) الكافي 2: 353 / 1. (2) الكافي 2: 353 / 2. (3) الكافي 2: 370 / 8. والآية من سورة يونس: 10 / 89. (4) الكافي 2: 353 / 4. (5) حزبه الأمر: دهاه وأعياه علاجه. (6) بحار الأنوار 93: 394 / 6. (*)
8 - قراءة القرآن: روي عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه قال: (إذا خفت أمرا، فاقرأ مائة آية من القرآن من حيث شئت، ثم قل: اللهم اكشف عني البلاء، ثلاث مرات (1)). أسباب تأخر الإجابة: قد يقال: إننا نرى كثيرا من الناس يدعون الله تعالى فلا يستجاب لهم، وقد ورد في الحديث أيضا ما يدل على تأخر الإجابة لعشرين أو أربعين عاما. فعن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يستجاب للرجل الدعاء ثم يؤخر؟ قال: (نعم، عشرين سنة) (2). وعنه (عليه السلام): (كان بين قول الله عز وجل: *(قد أجيبت دعوتكما)* وبين أخذ فرعون أربعين عاما) (3). فهل يتنافى ذلك مع ما جاء في محكم الكتاب الكريم: *(أجيب دعوة الداع إذا دعان)*(4) وقوله سبحانه: *(ادعوني أستجب لكم)*(5)، وما جاء على لسان الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما فتح لأحد باب دعاء، إلا فتح الله له
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 176 / 1. (2) الكافي 2: 355 / 4. (3) الكافي 2: 355 / 5. والآية من سورة يونس: 10 / 89. (4) سورة البقرة: 2 / 186 (5) سورة غافر: 40 / 60. (*)
ص 77
فيه باب إجابته) (1)؟ نقول: إن الدعاء من أقوى الأسباب في تحقيق المطلوب ودفع المكروه، ولكنه قد يكون ضعيفا في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لكونه مخالفا لسنن التكوين والتشريع، أو لأن الداعي لم يراع شروط الدعاء ولم يتقيد بآدابه، أو لوجود الموانع التي تحجب الدعاء عن الصعود: كأكل الحرام، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الشهوة والهوى وحب الدنيا على النفس. فإذا قيل بعدم الاخلال في جميع ذلك، فيمكن حصر الأسباب المؤدية إلى تأخر الإجابة بما يلي:
1 - إن الداعي قد يرى في دعائه صلاحا ظاهرا، فيلح بالدعاء والمسألة، ولكن لو استجيب له، فإن الاستجابة قد تنطوي على مفسدة له أو لغيره لا يعلمها إلا الله تعالى، قال تعالى: *(وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)*(2). وفي زبور داود (عليه السلام): يقول الله تعالى: (يا بن آدم، تسألني فأمنعك، لعلمي بما ينفعك) (3). وعليه فإن إجابة الدعاء إن كانت مصلحة والمصلحة في تعجيلها، فإنه تعالى يعجلها، وإن اقتضت المصلحة تأخيرها إلى وقت معين أجلت، ويحصل للداعي الأجر والثواب لصبره في هذه المدة.
(هامش)
(1) أمالي الطوسي 1: 5. (2) سورة البقرة: 2 / 216. (3) بحار الأنوار 73: 365 / 98. (*)
ص 78
وإذا لم يترتب على الإجابة غير الشر والفساد، فإنه تعالى لا يستجيب الدعاء لسبق رحمته وجزيل نعمته، ولأنه تعالى لا يفعل خلاف مقتضى الحكمة والمصلحة: *(ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم)*(1) وفي هذه الحالة يثاب المؤمن على دعائه إما عاجلا بدفع السوء عنه، وإعطائه السكينة في نفسه، والانشراح في صدره، والصبر الذي يسهل معه احتمال البلاء الحاضر، أو آجلا في الآخرة كما يثاب على سائر الطاعات والصالحات من أعماله، وذلك أعظم درجة عند الله تعالى، لأن عطاء الآخرة دائم لا نفاد له، وعطاء الدنيا منقطع إلى نفاد. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من مؤمن دعا الله سبحانه دعوة، ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم، إلا أعطاه الله بها أحد خصال ثلاث: إما أن يعجل دعوته، وإما أن يدخر له، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها. قالوا: يا رسول الله، إذن نكثر؟ قال: اكثروا) (2). وعن أبي جعفر (عليه السلام)، أنه قال: (والله ما أخر الله عز وجل عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا خير لهم مما عجل لهم فيها، وأي شيء الدنيا! (3)). وورد في دعاء الافتتاح: (وأسألك مستأنسا لا خائفا ولا وجلا مدلا عليك فيما قصدت فيه إليك، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعل
(هامش)
(1) سورة يونس: 10 / 11. (2) وسائل الشيعة 7: 27 / 8. (3) الكافي 2: 354 / 1. وقرب الإسناد: 171. (*)
ص 79
الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور) (1).
2 - وقد تؤخر الإجابة عن العبد المؤمن لزيادة صلاحه وعظم منزلته عند الله عز وجل، فتؤخر إجابته لمحبة سماع صوته والاكثار من دعائه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الله ليتعهد عبده المؤمن بأنواع البلاء، كما يتعهد أهل البيت سيدهم بطرف الطعام، قال الله تعالى: وعزتي وجلالي وعظمتي وبهائي إني لأحمي وليي أن أعطيه في دار الدنيا شيئا يشغله عن ذكري حتى يدعوني فأسمع صوته، وإني لأعطي الكافر منيته حتى لا يدعوني فأسمع صوته بغضا له ) (2). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن المؤمن ليدعو الله عز وجل في حاجته، فيقول الله عز وجل: أخروا إجابته شوقا إلى صوته ودعائه، فإذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل: عبدي، دعوتني فأخرت إجابتك، وثوابك كذا وكذا، ودعوتني في كذا وكذا فأخرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، قال: فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا مما يرى من حسن الثواب) (3). وقال الإمام الرضا (عليه السلام): (إن الله يؤخر إجابة المؤمن شوقا إلى دعائه، ويقول: صوت أحب أن أسمعه...) (4). ومما تقدم يتبين أن الدعاء مستجاب إذا أخلص الداعي في إتيان أدبه
(هامش)
(1) مصباح المتهجد: 578. (2) بحار الأنوار 93: 371 / 10. (3) الكافي 2: 356 / 9. (4) بحار الأنوار 93: 370 / 7. (*)
ص 80
وشرطه، وتوجه بقلبه إلى الله تعالى منقطعا عن جميع الأسباب، والاستجابة إما عاجلة في دار الدنيا، أو آجلة في الآخرة، وإذا تأخرت الاستجابة فلمصالح لا يعلمها إلا عالم السر وأخفى، وتأخيرها يصب في صالح الداعي، فعليه أن لا يقنط من رحمة ربه، ولا يستبطئ الإجابة فيمل الدعاء. دعوات مستجابة: فيما يلي بعض الدعوات التي أكدت النصوص الإسلامية على استجابتها وتأثيرها في استجابة الدعاء:
أولا: الدعاء للمؤمنين: ويعتبر من أهم مطالب الدعاء، وذلك لأنه يعكس إيثار المؤمن وإخلاصه وعمق ارتباطه بإخوته المؤمنين على امتداد الزمان والمكان، وهو على نوعين:
1 - دعاء عام يشمل جميع المؤمنين الحاضرين منهم أو الذين سبقوا بالإيمان، وهو من أهم أنواع الدعاء، لأنه دعاء يحبه الله تعالى ويستجيب لصاحبه، لذلك وردت الروايات الكثيرة التي تشيد بفضله وعمق آثاره على الداعي والمدعو له. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما من مؤمن أو مؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آت إلى يوم القيامة إلا وهم شفعاء لمن يقول في دعائه: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وإن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة فيسحب، فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا ربنا، هذا الذين كان يدعو لنا فشفعنا فيه،
ص 81
فيشفعهم الله فينجو) (1). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من قال كل يوم خمسا وعشرين مرة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، كتب الله له بعدد كل مؤمن مضى، وبعدد كل مؤمن بقي إلى يقوم القيامة حسنة، ومحا عنه سيئة، ورفع له درجة) (2). وقال الإمام الرضا (عليه السلام): (ما من مؤمن يدعو للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إلا كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة منذ بعث الله آدم (عليه السلام) إلى أن تقوم الساعة) (3).
2 - دعاء خاص للأخ المؤمن بظهر الغيب أو لأربعين مؤمنا، وينبغي أن يكون الداعي لأخيه بظهر الغيب محبا له بباطنه، ومخلصا له في دعائه، متمنيا أن يرزقه الله تعالى بفضل دعائه، فإذا كان كذلك فإن الله تعالى يستجيب له فيه ويعوضه أضعافه، لأن حب المؤمن حسنة على انفراده، وإرادة الخير له حسنة أخرى، فيكون الدعاء له مشتملا على ثلاث حسنات: المحبة، وإرادة الخير، والدعاء. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليس شيء أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب) (4). وروي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، في قوله تعالى: *(ويستجيب
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 385 / 10. (2) بحار الأنوار 93: 384 / 5. (3) ثواب الأعمال: 161. (4) الكافي 2: 370 / 7. (*)
ص 82
الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله)*(1)، قال (عليه السلام): (هو المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب، فيقول له الملك: آمين، ويقول الله العزيز الجبار: ولك مثلا ما سألت، وقد أعطيت ما سألت بحبك إياه) (2) وعنه (عليه السلام) قال: (أوشك دعوة وأسرع إجابة، دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب) (3). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (الدعاء لأخيك بظهر الغيب يسوق إلى الداعي الرزق، ويصرف عنه البلاء، ويقول الملك: ولك مثل ذلك (4)). وروي أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى (عليه السلام): (يا موسى، ادعني على لسان لم تعصني به. فقال (عليه السلام): أنى لي بذلك؟ فقال: ادعني على لسان غيرك) (5). ويدخل في إطار الدعاء الخاص الدعاء لأربعين من المؤمنين قبل أن يدعو المؤمن لنفسه، وهو من الأدعية المستجابة أيضا. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (من قدم في دعائه أربعين من المؤمنين، ثم دعا لنفسه، استجيب له) (6). وقال (عليه السلام): (من قدم أربعين رجلا من إخوانه قبل أن يدعو لنفسه
(هامش)
(1) سورة الشورى: 42 / 26. (2) الكافي 2: 368 / 3. (3) الكافي 2: 367 / 1. (4) أمالي الطوسي 2: 290. (5) عدة الداعي: 183. وبحار الأنوار 93: 390. (6) أمالي الصدوق: 369 / 4. (*)
ص 83
استجيب له فيهم وفي نفسه) (1). ويتأكد هذا الدعاء بعد الفراغ من صلاة الليل بأن يقول وهو ساجد: (اللهم رب الفجر، والليالي العشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، ورب كل شيء، وإله كل شيء، ومليك كل شيء، صل على محمد وآله، وافعل بي وبفلان وبفلان... ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، يا أهل التقوى وأهل المغفرة) (2). إيثار المؤمنين بالدعاء: عن الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام)، قال: (رأيت أمي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عموم الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني، الجار ثم الدار) (3). وروي عن ابن ناتانه، عن علي، عن أبيه، قال: رأيت عبد الله بن جندب بالموقف، فلم أر موقفا أحسن من موقفه، ما زال مادا يديه إلى السماء، ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض، فلما صدر الناس قلت له: يا أبا محمد، ما رأيت موقفا أحسن من موقفك. قال: والله ما دعوت إلا لإخواني، وذلك أن أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) أخبرني أنه من دعا لأخيه بظهر الغيب نودي من العرش: ولك
(هامش)
(1) أمالي الطوسي 2: 38. وأمالي الصدوق: 310 / 8. (2) عدة الداعي: 182. (3) علل الشرائع: 181 / 1. (*)
ص 84
مائة ألف ضعف، فكرهت أن أدع مائة ألف ضعف مضمونة لواحدة لا أدري تستجاب أم لا (1). وعن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، قال: كان عيسى بن أعين إذا حج فصار إلى الموقف، أقبل على الدعاء لإخوانه حتى يفيض الناس، فقيل له: تنفق مالك وتتعب بدنك حتى إذا صرت إلى الموضع الذي تبث فيه الحوائج إلى الله، أقبلت على الدعاء لإخوانك، وتترك نفسك؟ فقال: إني على يقين من دعاء الملك لي، وفي شك من الدعاء لنفسي (2).
ثانيا: ومن الدعوات التي أكدت النصوص الإسلامية على استجابتها:
1 - دعاء الوالد الصالح لوده إذا بره، ودعاؤه عليه إذا عقه. 2 - دعاء الولد الصالح لوالده. 3 - دعاء المظلوم الذي لا يجد ناصرا إلا الله على من ظلمه، ودعاؤه لمن انتصر له. 4 - دعاء الإمام العادل لرعيته. 5 - دعاء المريض لعائده. 6 - دعاء الغازي في سبيل الله. 7 - دعاء الحاج أو المعتمر حتى يرجع. 8 - دعاء الصائم حتى يفطر.
(هامش)
(1) بحار الأنوار 93: 384 / 8. (2) بحار الأنوار 93: 391 / 25. (*)
ص 85
9 - دعاء الأطفال ما لم يقارفوا الذنوب. وفيما يلي نورد النصوص الدالة على استجابة هذه الدعوات: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (أربعة لا ترد لهم دعوة حتى تفتح لهم أبواب السماء أو تصير إلى العرش: الوالد لولده، والمظلوم على من ظلمه، والمعتمر حتى يرجع، والصائم حتى يفطر) (1). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إياكم ودعوة المظلوم، فإنها ترفع فوق السحاب حتى ينظر الله عز وجل إليها فيقول: ارفعوها حتى استجيب له، وإياكم ودعوة الوالد فإنها أحد من السيف) (2). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (دعاء أطفال أمتي مستجاب ما لم يقارفوا الذنوب) (3). وقال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (خمس دعوات لا يحجبن عن الرب تبارك وتعالى: دعوة الإمام المقسط، ودعوة المظلوم، يقول الله عز وجل: لانتقمن لك ولو بعد حين، ودعوة الولد الصالح لوالديه، ودعوة الوالد الصالح لولده، ودعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب، فيقول: ولك مثله (4)). وقال (عليه السلام): (اتقوا الظلم، فإن دعوة المظلوم تصعد إلى السماء) (5). وقال (عليه السلام): (ثلاث دعوات لا يحجبن عن الله: دعاء الوالد لولده إذا بره،
(هامش)
(1) الكافي 2: 370 / 6. والفقيه 2: 146 / 644. (2) الكافي 2: 369 / 3. (3) بحار الأنوار 93: 357 / 14. (4) الكافي 2: 369 / 2. (5) الكافي 2: 369 / 4. (*)
ص 86
ودعوته عليه إذا عقه، ودعاء المظلوم على من ظلمه، ودعاؤه لمن انتصر له منه) (1). وقال (عليه السلام): (ثلاثة دعوتهم مستجابة: الحاج فانظروا كيف تخلفونه، والغازي في سبيل الله فانظروا كيف تخلفونه، والمريض فلا تغيظوه ولا تضجروه) (2). دعوات لا تستجاب: من الدعوات التي أكدت النصوص الإسلامية على أنها لا تستجاب:
1 - الداعي الذي يطلب تغيير حالة ناتجة عن ارتكابه إثما، أو تقصيرا في واجب. ومثل هذا الداعي لا يمكن أن يترتب أثر على دعائه حتى يتوب مما ارتكب أو يزيل أسباب حصول تلك الحالة وعللها. مثال ذلك المظلوم الذي يدعو لإزالة مظلمته وهو متحمل لمظالم العباد وتبعات المخلوقين، فهذا هو الذي يدعو لتغيير الحالة الناتجة عن ارتكابه إثما. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة ظلمها، ولأحد عنده مثل تلك المظلمة (3)). وعنه (عليه السلام) أنه قال: (إذا ظلم الرجل فظل يدعو على صاحبه، قال الله
(هامش)
(1) أمالي الطوسي 1: 286. (2) الكافي 2: 369 / 1. (3) وسائل الشيعة 7: 146 / 1. (*)
ص 87
عز وجل: إن هاهنا آخر يدعو عليك، يزعم أنك ظلمته، فإن شئت أجبتك، وأجبت عليك، وإن شئت أخرتكما فيوسعكما عفوي) (1). ومثال طلب تغيير الحالة الناتجة عن التقصير في واجب، التواكل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك لأنهما واجبان وجوبا كفائيا لقوله تعالى: *(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)*(2) وإن صلاح المجتمع وفساده منوطان بالقيام بهذين الفرضين أو عدمه، فلو تواكل العباد فيهما وتركوهما، فستتاح الفرصة للأشرار والظلمة كي يتسلطوا على مقدرات الناس، وينزوا على مقاليد الحكم، وعليه فقد تجد أمة كاملة تدعو على ظالم واحد فلا يستجاب لها، إلا أن يتوبوا عما بدر منهم ويطيعوا الله فيما فرضه عليهم *(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)*(3). قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم) (4). وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من عذر ظالما بظلمه، سلط الله عليه من يظلمه، وإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره الله على ظلامته) (5).
(هامش)
(1) أمالي الصدوق: 261 / 3. (2) سورة آل عمران: 3 / 104. (3) سورة الرعد: 13 / 11. (4) نهج البلاغة، الرسالة (47). (5) بحار الأنوار 93: 319 / 26. (*)
ص 88
2 - الدعاء على خلاف سنن التكوين والتشريع: على الداعي أن يفهم سنن الله تعالى التكوينية والتشريعية، وأن يدعو ضمن دائرة هذه السنن، فليس من مهمة الدعاء أن يتجاوز هذه السنن التي تمثل إرادة الخالق التكوينية ورحمته ولطفه، قال تعالى: *(فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)*(1). روى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): (أن زيد بن صوحان قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): أي دعوة أضل؟ قال (عليه السلام): الداعي بما لا يكون (2)). أي لا يقع ضمن دائرة سنن التكوين. إن الدعاء طلب المقدرة والعون للوصول إلى أهداف مشروعة أقرتها الخليقة والتكوين أو الشرائع الإلهية للإنسان، وهو بهذه الصورة حاجة طبيعية لا يبخل الباري تعالى بلطفه ورحمته على الداعي بالعون حيثما وجدت الحاجة لذلك، وحيثما كان الداعي مراعيا للشروط والآداب، أما أن يطلب أشياء تخالف أهداف التكوين والتشريع فإن دعاءه لا يستجاب كمن يسأل الله تعالى إحياء الموتى، أو الخلود في دار الدنيا، أو غفران ذنوب الكفار، أو يدعو على أخيه المؤمن، أو في قطيعة رحم، أو يطلب شيئا محرما، وغير ذلك من الدعوات التي لا تكون مصداقا حقيقيا للدعاء. قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا صاحب الدعاء، لا تسأل ما لا يحل
(هامش)
(1) سورة فاطر: 35 / 43. (2) الفقيه 4: 274 / 729. أمالي الصدوق: 322 / 4. (*)
ص 89
ولا يكون) (1) وما لا يحل يعد خروجا عن سنن التشريع الإلهية، وما لا يكون يعد خروجا عن سنن التكوين. وقال (عليه السلام): (من سأل فوق قدره استحق الحرمان) (2) أي إذا تجاوز الحد في دعائه بحيث لا يكون طلبه واقعيا، كأن يسأل الخلود في دار الدنيا. وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم... ورجل يدعو في قطيعة رحم) (3)، ذلك لأن هذا الدعاء على خلاف سنن التشريع القاضية بصلة الرحم. وروي عن شعيب، عن 0 الإمام الصادق (عليه السلام) - في حديث - أنه قال له: أدع الله أن يغنيني عن خلقه. فقال (عليه السلام): (إن الله قسم رزق من شاء على يدي من شاء، ولكن سل الله أن يغنيك عن الحاجة التي تضطرك إلى لئام خلقه) (4). وذلك لأن حاجة الناس بعضهم إلى بعض في أمور دينهم ودنياهم من سنن الله تعالى في الخلق، فلا يجوز أن يدعو الإنسان ربه كي يغنيه عن الناس، لأنه دعاء على خلاف سنة الله تعالى وإرادته الحكيمة. ومن الأدعية المخالفة لسنن التشريع، دعاء المرء على نفسه في حالة الضجر، قال تعالى: *(ويدع الإنسان دعاءه بالخير وكان الإنسان
(هامش)
(1) الخصال: 365 حديث الأربعمائة. (2) عدة الداعي: 152. (3) وسائل الشيعة 17: 27 / 6. (4) الكافي 2: 205 / 1. (*)
ص 90
عجولا)*(1). قال ابن عباس وغيره: إن الإنسان ربما يدعو في حال الضجر والغضب على نفسه وأهله وماله بما لا يحب أن يستجاب له فيه، كما يدعو لنفسه بالخير، فلو أجاب الله دعاءه لأهلكه، لكنه لا يجيب بفضله ورحمته (2). ولا يتوقف الأمر عند حدود الأمثلة التي ذكرناها أو التي ذكرتها الروايات، بل يشمل جميع الدعوات المخالفة لسنن الله تعالى في الكون والطبيعة والمجتمع والتاريخ.
3 - الدعاء بلا عمل: الدعاء من مفاتيح الرحمة الإلهية التي جعلها الباري تعالى بأيدينا لنستفتح بها خزائن لطفه ورحمته، ونطلب بها مغفرته وفضله، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (... فأكثر من الدعاء، فإنه مفتاح كل رحمة، ونجاح كل حاجة، ولا ينال ما عند الله عز وجل إلا بالدعاء) (3). والعمل يقترن مع الدعاء في كونه أحد مفاتيح الرحمة الإلهية الواسعة، قال تعالى: *(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره)*(4). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن لله عبادا يعملون فيعطيهم، وآخرين يسألونه صادقين فيعطيهم، ثم يجمعهم في الجنة، فيقول الذين عملوا: ربنا عملنا فأعطيتنا، ففيما أعطيت هؤلاء؟ فيقول: هؤلاء عبادي، أعطيتكم
(هامش)
(1) سورة الإسراء: 17 / 11. (2) مجمع البيان 6: 618. (3) الكافي 2: 341 / 7. (4) سورة الزلزلة: 99 / 7. (*)
ص 91
أجوركم، ولم ألتكم من أعمالكم شيئا، وسألني هؤلاء فأعطيتهم وأغنيتهم، وهو فضلي أوتيه من أشاء) (1). وعلى الرغم من حالة الاقتران بين الدعاء والعمل، إلا أن الدعاء لا يغني عن العمل، ولا يصح الاكتفاء بالدعاء عن السعي والمثابرة والجد، الدعاء مظهر من مظاهر الحاجة الحقة، وإنما يدعو الإنسان عندما لا يكون مطلوبه ميسورا له أو في متناول يده، أو يكون عاجزا ضعيفا لا يمتلك القدرة على تحصيله، أما إذا خوله الله تعالى مفتاح الحاجة فتكاسل عن استعماله، والتجأ إلى الدعاء دون جد واجتهاد، فإن دعاءه لا يستجاب، مثال ذلك المذنب الذي يستغفر الله تعالى ويدعوه التوبة، ولكنه لا يثابر في تغيير ما في نفسه وتهذيبها باقتلاع عناصر الشر والفساد. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيته لأبي ذر (رضي الله عنه): (يا أبا ذر، مثل الذي يدعو بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر) (2). وقال الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (الداعي بلا عمل، كالرامي بلا وتر) (3). ولذلك ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) كثير من الأحاديث التي تخبرنا عن أصناف من الناس لا تستجاب لهم دعوة، لأنهم استغنوا بالدعاء عن السعي والجد والمثابرة.
(هامش)
(1) عدة الداعي: 42. (2) أمالي الطوسي 2: 147. (3) نهج البلاغة، الحكمة (337). (*)
ص 92
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟ ورجل كانت له امرأة فدعا عليها، فيقال له: ألم أجعل أمرها إليك، ورجل كان له مال فأفسده، فيقول: اللهم ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟ ألم آمرك بالاصلاح؟ ثم تلا قوله تعالى: *(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)* ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة، فيقال له: ألم آمرك بالشهادة؟) (1). وعن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل قال: لأقعدن في بيتي، ولأصلين ولأصومن، ولأعبدن ربي، فأما رزقي فسيأتيني، فقال (عليه السلام): (هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم) (2). ويضيف الإمام الصادق (عليه السلام) صنفا آخر ممن اتكل على الدعاء تاركا الجد والسعي، وهو الذي يدعو على جاره وقد جعل الله عز وجل له السبيل في الخلاص، يقول (عليه السلام) في حديث الثلاثة الذين لا تستجاب لهم دعوة: (ورجل يدعو على جاره وقد جعل الله عز وجل له السبيل إلى أن يتحول عن جواره ويبيع داره) (3). وهذا الأمر عام لا يقتصر على الأمثلة المذكورة في الأحاديث وحسب، وإنما هي أمثلة لجميع الأحوال التي يكون الإنسان فيها قادرا على حل مشكلته بالعمل والتدبر، ولكنه يتكاسل عن ذلك فيقيم الدعاء
(هامش)
(1) الكافي 2: 370 / 2. (2) مستطرفات السرائر: 139 / 11. (3) الكافي 2: 370 / 1. والفقيه 2: 39 / 173. والخصال: 160 / 208. (*)
ص 93
مقام العمل. والحق أن الدعاء مكمل للعمل ومتمم له، فإذا كان الله تعالى قد حبانا القدرة لتحقيق المطلوب، وهدانا إلى السبيل المؤدي إلى ما نصبو إليه، فلا بد من السعي المقترن بالدعاء، لتكون عاقبة السعي أكثر ثوابا وأجزل أجرا. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يدخل الجنة رجلان، كانا يعملان عملا واحدا، فيرى أحدهما صاحبه فوقه، فيقول: يا رب بما أعطيته وكان عملنا واحدا؟ فيقول الله تبارك وتعالى: سألني ولم تسألني، ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): اسألوا الله وأجزلوا، فإنه لا يتعاظمه شيء) (1).
(هامش)
(1) عدة الداعي: 42. (*)
ص 95
الفصل الرابع :
آثار الدعاء
لقد اهتم الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) بالدعاء اهتماما بالغا، ذلك لما يترتب عليه من آثار تعود لصالح الداعي في الدنيا والآخرة، فهو من أنجع الوسائل وأعمقها في تهذيب النفوس، وهو مفتاح الرحمة ونجاح الحاجة، وهو شفاء من كل داء، وبه يرد القضاء ويدفع البلاء، ولا يدرك ما عند الله تعالى إلا بالدعاء والابتهال. وقد حفلت كتب الدعاء الكثيرة بتراث غزير من أدعية أهل البيت (عليهم السلام)، التي تعتبر صفحة مشرقة من صفحات التراث الإنساني، وذخيرة فذة من ذخائر المسلمين، فهي من حيث الصياغة والبلاغة آية من آيات الأدب الرفيع، ومن حيث المضمون فقد أودع الأئمة (عليهم السلام) في أدعيتهم خلاصة المعارف الدينية، وهي من أرقى المناهل في الإلهيات والأخلاق، وهي وسيلة لنشر تعاليم القرآن وآداب الإسلام وبيان أدق أسرار التوحيد والنبوة والمعاد وغيرها من المضامين التي يترتب عليها آثار واضحة في تعليم الناس روحية الدين والزهد والأخلاق. وفيما يلي نبين بعض الآثار المترتبة على الدعاء في الدنيا والآخرة:
ص 96
أولا: الآثار العاجلة:
وهي الآثار التي تعود لصالح الداعي في دار الدنيا، ويمكن حصرها بما يلي:
1 - الدعاء مفتاح الحاجات: الدعاء باب مفتوح للعبد إلى ربه سبحانه، يطلب من خلاله كل ما يحتاجه في الدنيا من زيادة الأعمار وصحة الأبدان وسعة الأرزاق والخلاص من البلاء والغم، وذلك من أبرز القيم الرفيعة عند الأنبياء والأوصياء والصالحين، ومن أهم السنن المأثورة عنهم. فقد كان خليل الرحمن إبراهيم (عليه السلام) معروفا بالدعاء والمناجاة، وقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قول تعالى: *(إن إبراهيم لأواه حليم)*(1) أنه قال (عليه السلام): (الأواه هو الدعاء) (2). ومما جاء في الكتاب الكريم من دعاء الأنبياء، قال تعالى: *(وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين)*(3). وقال تعالى: *(وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين)*(4).
(هامش)
(1) سورة التوبة: 9 / 114. (2) الكافي 2: 338 / 1. (3) سورة الأنبياء: 21 / 83 - 84. (4) سورة الأنبياء: 21 / 89 - 90. (*)
ص 97
وجاء في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام): (واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض، قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه.. فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق، ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته) (1).
2 - الدعاء شفاء من الداء: الدعاء شفاء من كل داء، ومن أوكد الأسباب في إزالة الأمراض المستعصية خصوصا الأمراض النفسية الشائعة في زماننا هذا، وقد أكدت البحوث الطبية أن الطب الروحي من أهم الأسباب في تخفيف مثل هذه الأمراض وإزالتها، والدعاء يقف على رأس مفردات الطب الروحي والعلاج النفسي. على أن الدعاء وصفة طبية روحية مقرونة بالرحمة والشفاء للمؤمنين الموقنين، قال تعالى: *(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)*(2). عن العلاء بن كامل، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (عليك بالدعاء،
(هامش)
(1) نهج البلاغة، الرسالة (31). (2) سورة الإسراء: 17 / 82. (*)
ص 98
فإنه شفاء من كل دعاء) (1). وعن الحسين بن نعيم، قال: اشتكى بعض ولد أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: (يا بني، قل: اللهم اشفني بشفائك، وداوني بدوائك، وعافني من بلائك، فإني عبدك وابن عبدك) (2). والأدعية الخاصة بعلاج الأمراض المختلفة كثيرة، يمكن الوقوف على القدر الأكبر منها في بحار الأنوار للعلامة المجلسي (رضي الله عنه) (3).
3 - الدعاء ادخار وذخيرة: ومن آثار الدعاء إذا واظب عليه العبد في حال الرخاء أنه يكون له ذخيرة لاستخراج الحوائج في البلاء. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الدعاء في الرخاء يستخرج الحوائج في البلاء) (4).
4 - الدعاء يهذب النفس: الدعاء من أهم العوامل التي تسهم في بناء الإنسان المؤمن، لما فيه من العبودية المطلقة للواحد الحق، التي تكسب الداعي النقاء والصفاء وخشوع القلب ورقته، وتصنع منه ذاتا متواضعة لله تعالى، محبة للخير، ومصدرا للمعروف، وتبعا لفيض البركات، فيصل بتلك النفس إلى
(هامش)
(1) الكافي 2: 341 / 1. (2) الكافي 2: 411 / 3. (3) بحار الأنوار 95: 6 - 122. (4) الكافي 2: 343 / 3. (*)
ص 99
درجات المتقين والدعاء سلم المذنبين الذي يعرجون به إلى آفاق التوبة، حيث يخلون بربهم، ويبوءون بذنوبهم، وينزلونها عنده، ليخفف من غلواء نفوسهم المكبلة بالذنوب، فهو السبب الذي يوصلهم إلى درجات الطاعة والفضيلة، لينالوا درجة الإنسانية الكريمة، ويهذبوا نفوسهم، ويفلحوا بسعادة الدارين. قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (الدعاء مفاتيح النجاح، ومقاليد الفلاح) (1). وإذا تطلعنا في مفردات التراث الغزير الذي تركه لنا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في مجال الدعاء، ولا سيما فيما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في أدعية الصحيفة السجادية، فسنرى أنها تزخر بثروة كبيرة من النماذج التي تثير مفاهيم الحياة الفردية والاجتماعية على المستوى الأخلاقي وتحديد مكارم الأخلاق وخطوطها التفصيلية، وعلى المستوى التربوي في تحديد مفاهيم التربية الإسلامية وتهذيب النفس وصفائها، وتنمية نزعاتها الخيرة، وردعها عن غيها، وترويضها على طلب الخير. وخير مثال على ذلك هو دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال الذي جاء فيه: (اللهم صل على محمد وآل محمد، ومتعني بهدى صالح لا أستبدل به، وطريقة حق لا أزيغ عنها، ونية رشد لا أشك فيها... اللهم لا تدع خصلة تعاب مني إلا أصلحتها، ولا عائبة
(هامش)
(1) الكافي 2: 340 / 2. (*)
ص 100
أونب بها إلا حسنتها، ولا أكرومة في ناقصة إلا أتممتها..) (1).
5 - الدعاء سلاح المؤمن: الدعاء سلاح ذو حدين، فهو من جانب سلاح في مواجهة هوى النفس الأمارة ومطاردة شهواتها، ومواجهة الشيطان وغروره، وحب الدنيا وزخرفها، وهذا هو حد الانتصار على النفس، الذي يؤدي إلى تهذيبها والارتفاع بها إلى درجات الصالحين، ومن جانب آخر فإن الدعاء عدة المؤمن لمواجهة أعدائه، وهو السلاح الذي يشهره في وجه الظالمين. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السموات والأرض) (2). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم، ويدر أرزاقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء) (3). وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (الدعاء ترس المؤمن) (4). ولقد اتخذ الأنبياء والأوصياء والصالحون من الدعاء سلاحا يقيهم شرور أعدائهم من الكافرين والمتمردين.
(هامش)
(1) الصحيفة السجادية، الدعاء رقم (20). (2) الكافي 2: 339 / 1. وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 37 / 95. (3) الكافي 2: 240 / 3. (4) الكافي 2: 340 / 4. (*)
ص 101
قال الإمام الرضا (عليه السلام) لأصحابه: (عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: وما سلاح الأنبياء؟ قال (عليه السلام): الدعاء) (1). وفي الكتاب الكريم والسنة المطهرة أمثلة كثيرة لآثار الدعاء في رد كيد الأعداء والانتصار عليهم. قال تعالى: *(ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين)*(2). ولما اشتد الفزع بأصحاب طالوت لكثرة العدد والعدة في صف جالوت وجنوده، دعوا الله متضرعين، قال تعالى: *(ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم بإذن الله)*(3). وفي بدر حيث التقى الجمعان، دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه واستنصره متضرعا إليه حتى سقط رداؤه (4)، فأنجز له الله تعالى ما وعده، وأمده بألف من الملائكة مردفين، ولاحت بشائر الانتصار، قال تعالى: *(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين)*(5). وعندما دخل الإمام الصادق (عليه السلام) على المنصور العباسي، الذي توعده
(هامش)
(1) الكافي 2: 340 / 5. (2) سورة الأنبياء: 21 / 76 - 77. (3) سورة البقرة: 2 / 250 - 251. (4) راجع دلائل النبوة / البيهقي 3: 50 - 51. (5) سورة الأنفال: 8 / 9. (*)
ص 102
بالقتل، دعا الإمام (عليه السلام) ربه متوسلا إليه للخلاص من الشر والعدوان، قال (عليه السلام): (يا عدتي عند شدتي، ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام) (1). ولما عزم موسى الهادي بن المهدي العباسي على قتل الإمام الكاظم (عليه السلام) بعد مقتل الحسين بن علي بن الحسن صاحب فخ (رضي الله عنه)، دعا الإمام الكاظم (عليه السلام) ربه للخلاص من شره وظلمه، فمات الهادي بعد الدعاء بأيام (2). ولما تمادى المتوكل بالظلم والعدوان، دعا عليه الإمام الهادي (عليه السلام)، فقتل المتوكل بعد ثلاثة أيام على يد ابنه المنتصر وبغا ووصيف وجمع من الأتراك (3).
6 - الدعاء تلقين لأصول العقيدة: إذا تأملنا الأدعية المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) نجد أنها تمثل مدرسة لتعليم العقيدة الإسلامية والانفتاح على جميع مفرداتها، حيث يستحضر الداعي في وعيه توحيد الخالق وصفاته ومشيئته وإرادته وعلمه وقضاءه وقدره، ويتحدث عنها بطريقة ايحائية تحرك الأصل الأول من أصول العقيدة في الروح، وتعمق إحساسها بخالقها جل وعلا في حالة من التقاء الفكر والشعور، تحقق وضوح الرؤية وحصول اليقين، حينما يجد المؤمن ربه قريبا فيناجيه، ومحيطا به فيدعوه، ويجد نفسه محتاجا فيعطيه.
(هامش)
(1) عدة الداعي: 62. (2) راجع الدعاء في مهج الدعوات: 319. وأمالي الطوسي 2: 35. (3) راجع الدعاء في مهج الدعوات: 265. (*)
ص 103
ومن الأدعية التي تتضمن الأصل الأول من أصول العقيدة الإسلامية، دعا الإمام السجاد (عليه السلام) في الصحيفة السجادية، قال (عليه السلام): (الحمد لله الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين...) (1). والنبوة من مفردات المضمون العقيدي التي يجدها الإنسان ظاهرة في الدعاء، حيث الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومسؤوليته إزاء الرسالة، بشكل يعمق علاقة الداعي الروحية بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويعزز فهمه لأبعاد شخصيته ومكارم أخلاقه وإخلاصه لله، ودوره في تبليغ الرسالة وتجسيد معانيها، ووصيته بالإمامة لمن بعده، باعتبارها الامتداد الطبيعي للنبوة، وبيان مهمتها في إقامة مبادئ الدين والكتاب الكريم والحفاظ على السنة المباركة، وبيان صفات الإمام ومكارم أخلاقه وفضائله ودلائله. وكان من دعاء الإمام الكاظم (عليه السلام) المعروف بدعاء الاعتقاد: (... اللهم إني أقر وأشهد، واعترف ولا أجحد، وأسر وأظهر، وأعلن وأبطن، بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأن عليا أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، ووارث علم النبيين.. إمامي ومحجتي، ومن لا أثق بالأعمال وإن زكت، ولا أراها منجية لي وإن صلحت إلا بولايته والائتمام به والإقرار بفضائله.. اللهم وأقر بأوصيائه من أبنائه أئمة وحججا وأدلة وسرجا، وأعلاما ومنارا، وسادة وأبرار... اللهم فادعني يوم حشري وحين نشري بإمامتهم، واحشرني في
(هامش)
(1) الصحيفة السجادية: الدعاء رقم (1) في التحميد لله عز وجل والثناء عليه. (*)
ص 104
زمرتهم، واكتبني في أصحابهم، واجعلني من إخوانهم، وانقذني بهم يا مولاي من حر النيران...) (1). وأكثر ما يلاحظ الداعي في التراث العريق لأهل البيت (عليهم السلام) هو التذكير باليوم الآخر، واستحضار الموقف بين يدي الله تعالى عندما يقوم الناس لرب العالمين، حيث شمول الحساب ودقته لكل ما قام به الإنسان في حياته مع التذكير بالجنة ونعيمها الخالد الذي أعده الله تعالى للمؤمنين المتقين، وبالنار وعقابها المقيم الذي أعده الله للكافرين المتمردين. وجميع أدعيتهم (عليهم السلام) تلهج بنغمة توحي بالخوف من عقاب الله تعالى والرجاء في ثوابه، وأغلبها تصلح شواهد على ذلك، وقد جاءت بأساليب بليغة تبعث في قلب المتدبر الرعب والفزع من الإقدام على المعصية.
7 - الدعاء يرد القضاء ويدفع البلاء: الدعاء من أقوى الأسباب التي يستدفع بها البلاء ويكشف بها السوء والضر والكرب العظيم، قال تعالى: *(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)*(2). وقال تعالى: *(وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر)*(3).
(هامش)
(1) مهج الدعوات: 233. (2) سورة النمل: 27 / 62. (3) سورة الأنبياء: 21 / 83 - 84. (*)
ص 105
وقال تعالى: *(ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم)*(1). فبالدعاء يرد القضاء ويصرف البلاء المقدر، وبذلك وردت الأحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ادفعوا أبواب البلاء بالدعاء) (2). وروى زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: قال لي: (ألا أدلك على شيء لم يستثن فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قلت: بلى، قال: الدعاء يرد القضاء وقد أبرم إبراما) وضم أصابعه (3). وروى ميسر بن عبد العزيز، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال لي: (يا ميسر، ادع ولا تقل إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله عز وجل منزلة لا تنال إلا بمسألة) (4). وعنه (عليه السلام)، قال: (إن الدعاء يرد القضاء، ينقضه كما ينقض السلك وقد أبرم إبراما) (5). وقال الإمام أبو الحسن موسى الكاظم (عليه السلام): (عليكم بالدعاء، فإن الدعاء لله والطلب إلى الله يرد البلاء وقد قدر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا
(هامش)
(1) سورة الأنبياء: 21 / 76. (2) قرب الإسناد: 55. (3) الكافي 2: 341 / 6. (4) الكافي 2: 338 / 3. (5) الكافي 2: 340 / 1. وسائل الشيعة 7: 36 / 4. (*)
ص 106
إمضاؤه، فإذا دعي الله عز وجل وسئل صرف البلاء صرفه) (1). وأحاديث هذا الباب كثيرة، نكتفي بهذا القدر للدلالة على صحة دفع الضرر ورد القضاء والبلاء بالدعاء والتضرع والاقبال إلى الغفور الرحيم بقلب يملؤه الاخلاص ويعمره الإيمان. وإلى هذا الحد تنتهي الآثار المترتبة على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في دار الدنيا، وللدعاء مضامين كثيرة تترتب عليها آثار أخرى لا يمكن الإحاطة بها في هذه الرسالة، ويمكن مراجعتها في كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي (رضي الله عنه). وفيما يلي نتعرض للرد على الشبهة القائلة بمنافاة الدعاء مع الاعتقاد بالقضاء والقدر. الدعاء والقضاء والقدر: هناك تساؤلات كثيرة حول منافاة الدعاء مع الاعتقاد بالقضاء والقدر، وأول ما يتبادر إلى الذهن هو قول اليهود المعبر عنه في قوله تعالى: *(وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)*(2). قال اليهود: (إن الله لما خلق الأشياء وقدر التقادير، تم الأمر وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء، فلا نسخ ولا استجابة
(هامش)
(1) الكافي 2: 341 / 8. وسائل الشيعة 7: 36 / 1. (2) راجع بحار النوار 95: 124 - 347. (3) سورة المائدة: 5 / 64. (*)
ص 107
لدعاء، لأن الأمر مفروغ منه) (1). وقد تسرب هذا الاعتقاد في جملة ما تسرب من معتقدات اليهود والإسرائيليات إلى التراث الإسلامي العريق الذي ينبذ بوضوحه وإشراقه كل وافد غريب لا يمت إلى الدين القويم وشرعة الإسلام الحنيف بصلة. وكان من جملة الإثارات حول هذا الموضوع، أن قالوا: (إن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى، كان واجب الوقوع، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان غير معلوم الوقوع، كان ممتنع الوقوع، فلا حاجة أيضا إلى الدعاء) (2). وقالوا: (المدعو إن كان قدرا، لم يكن بد من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع، وإن لم يكن قدرا لم يقع سواء سأله العبد أم لم يسأله) (3). ومع وضوح الإجابة عن مثل هذه التساؤلات من خلال محكمات الكتاب الكريم والسنة المطهرة على ما سيأتي بيانه، إلا أن البعض ظن بصحتها، فتركوا الدعاء وسائر أعمال البر، لاعتقادهم بأن للإنسان مصيرا واحدا لا يمكن تغييره ولا تبديله، وأنه ينال ما قدر له من الخير أو الشر. ولا شك أن ذلك ناشئ عن فرط جهلهم بظنهم أن الدعاء أمر خارج عن نطاق القضاء والقدر ويعيد عن الحكمة الإلهية، والواقع أن الدعاء وإجابته من أجزاء القضاء والقدر، وأن المقدر معلق بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، ومتى أتى العبد بالسبب وقع المقدر، وإذا لم يأت بالسبب انتفى
(هامش)
(1) تفسير الميزان 2: 32. (2) تفسير الرازي 5: 98. (3) الجواب الكافي: 15. (*)
ص 108
المقدر، ويعتبر الدعاء من أقوى الأسباب، وليس شيء من الأسباب أنفع منه ولا أبلغ في حصول المطلوب، لما ورد في فضله من آيات الكتاب وصحيح الأثر، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء. وفيما يلي نجيب عن هذه الشبهة بشيء من التفصيل: علمه تعالى: قيل: إن تغيير مصير الإنسان بالدعاء وغيره من أعمال البر يقتضي التغيير فيما قدره الله تعالى في علمه الأزلي، وذلك يعني تغيير علمه تعالى، وهو محال. نقول: إن الله تعالى عالم بمصير الأشياء كلها غابرها وحاضرها ومستقبلها، وعلمه هذا أزلي قديم لا يتصور فيه الظهور بعد الخفاء ولا العلم بعد الجهل، قال تعالى: *(إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء)*(1). وقال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام): (لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء) (2). أم الكتاب ولوح المحو والإثبات: إن لعلمه تعالى مظاهر عبر عنها في الكتاب الكريم، منها أم الكتاب، وهذا المظهر يعبر عن علمه الأزلي المحيط بكل شيء، والذي هو عين
(هامش)
(1) سورة آل عمران: 3 / 5. (2) الكافي 1: 83 / 4. (*)
ص 109
ذاته، لا يتطرق إليه التغيير والتبديل، قال تعالى: *(وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)*(1)، وفي أم الكتاب التقدير القطعي الذي يشتمل على جميع السنن الثابتة الحاكمة على الكون والإنسان. والمظهر الآخر من علمه تعالى هو المعبر عنه بلوح المحو والإثبات، ولله تعالى فيه المشيئة يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء حسب ما تقتضيه حال العباد من حسن الأفعال أو قبحها التي تؤدي بالإنسان إلى السعادة أو الشقاء، قال تعالى: *(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)*(2). قال الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء) (3). وفي لوح المحو والإثبات يكتب التقدير الأول، ولكنه يعلق بتحقق شرطه أو زوال مانعه، أي إنه موقوف على أعمال العباد، فالدعاء والذكر والصدقة وصلة الأرحام وبر الوالدين واصطناع المعروف، تحول شقاء الإنسان إلى سعادة، بأن تنسئ في أجله وتقيه مصارع الهوان وتدفع عنه ميتة السوء وتزكي أعماله وتنمي أمواله، وما إلى ذلك من الآثار الكثيرة الحسنة الواردة في الكتاب الكريم والحديث الصحيح. وعلى العكس من ذلك فإن اقتراف الذنوب وارتكاب السيئات كقطيعة الرحم وعقوق الوالدين وسوء الخلق وغيرها تحول مصير الإنسان من
(هامش)
(1) سورة الزخرف: 43 / 4. (2) سورة الرعد: 13 / 39. (3) بحار الأنوار 4: 119 / 58. (*)
ص 110
السعادة إلى الشقاء، قال تعالى: *(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)*(1). والتغيير الذي في لوح المحو والإثبات لا يمس بكامل علم الله تعالى، فليس هو انتقال من عزيمة إلى عزيمة، وليس هو حصول للعلم بعد الجهل، وليس هو معارضا للتقدير الأول، بل إن الله تعالى عالم بما يؤول إليه مصير الإنسان في لوح المحو والإثبات، والظهور بعد الخفاء هو بالنسبة لنا، لا إلى علمه تعالى المحيط بكل شيء، وذلك كالنسخ في التشريع الذي لا يختلف عليه أهل العدل. قال الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: *(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)*: (فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلا وقد كان في علمه، إن الله لا يبدو له من جهل) (2). وقال (عليه السلام): (من زعم أن الله عز وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس، فأبرؤوا منه) (3). ومما تقدم تبين أن الإنسان لم يكن محكوما بمصير واحد مقدور غير قابل للتغير والتبديل، بل أنه يستطيع أن يغير مصيره لكي ينال سعادة الدارين بحسن أفعاله وصلاح أعماله، ومنها الدعاء والتضرع، وقد صح عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) أنه قال: لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله
(هامش)
(1) سورة الرعد: 13 / 11. (2) سورة الرعد: 13 / 39. (3) بحار الأنوار 4: 121 / 63. (3) بحار الأنوار 4: 111 / 30. (*)
ص 111
يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر (1). وهذا مما يبعث الرجاء في القلوب المظلمة كي تشرق بنور الإيمان، ويوقد النور في أفئدة المذنبين، فلا ييأسوا من روح الله، ويسعوا للخلاص بالدعاء والتضرع والذكر وسائر أعمال البر، فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وكل يوم هو في شأن، ويداه مبسوطتان بالرحمة والمغفرة. والقول بسيادة القدر على اختيار الإنسان في مجال الطاعة والمعصية قول بالجبر الباطل بمحكمات الكتاب والسنة والعقل، وهو يقضي إلى القول بتعطيل جميع الأسباب وإلغاء إرسال الرسل وإنزال الكتب، وإلى بعث اليأس والقنوط في النفوس، فيستمر الفاسق في فسقه والظالم في ظلمه والمذنب في ذنبه، وذلك خلاف مشيئة الله وحكمته القاضية بأثر الدعاء في رد البلاء، والتوبة في طلب المغفرة والرحمة، وصلة الأرحام في طول الأعمار، وهكذا إلى آخر أعمال البر وصنائع المعروف.
ثانيا: الآثار الآجلة:
بالدعاء ينال ما عند الله تعالى من الرحمة والمغفرة والنجاة من العذاب في الآخرة، وذلك من أبرز آثار الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه، لأن عطاء الآخرة دائم مقيم لا نفاد له. قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أكثروا من أن تدعوا الله، فإن الله يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعده عباده المؤمنين الاستجابة، والله مصير
(هامش)
(1) مستدرك الحاكم 2: 350. (*)
ص 112
دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهم في الجنة (1). وقال (عليه السلام): (عليكم بالدعاء، فإن المسلمين لم يدركوا نجاح الحوائج عند ربهم بأفضل من الدعاء والرغبة إليه والتضرع إلى الله والمسألة، فارغبوا فيما رغبكم الله فيه، وأجيبوا الله إلى ما دعاكم لتفلحوا وتنجوا من عذاب الله) (2). وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين
(هامش)
(1) الكافي 8: 7 / 1. (2) الكافي 8: 4 / 1. (*)